مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا...

اي واذكروا اذ قلتم.. في هذه الآية لا يذكرهم بنعمة من نعمه تعالى على اسلافهم بل يعدّ عليهم موقفا اخر من مواقفهم المخزية في تلك المرحلة من حياتهم فبعد ان انعم الله عليهم بتظليل الغمام وسقيهم باعجاز وانزال المن والسلوى عليهم في وادي التيه أظهروا مللهم من تكرر الطعام وهو المن والسلوى وطلبوا من موسى عليه السلام ان يدعو الله ليخرج لهم انواعا من النبات.

وربما يتصور أن هذا الملل امر طبيعي فالانسان يحب تذوق انواع الطعام ويملّ من نوع واحد متكرر يوميا مهما كان نوعه بل ربما يحتاج الى الانواع المختلفة بحسب طبيعة الجسم فلا يمكن ان يعتبر هذا الطلب بذاته امرا مستنكرا.

والجواب اولا انه لم يتبين من الآية انهم ذكروا مللهم بعد طول الزمان وتكرر الطعام الواحد كثيرا فلعلهم أبدوا استياءهم من الطعام الواحد في اوائل الامر.

وثانيا انهم في تلك البَرّيّة المقفرة لم يمكنهم ان يحصلوا على المحاصيل الزراعية لعدم وجود الماء وغير ذلك من مستلزمات الزراعة فكان لا بدّ لهم من النزول في مكان تتوفر فيه تلك المستلزمات وبالطبع لا يمكنهم ذلك في تلك المنطقة الا بمزاحمة اناس اخرين قد استولوا على الارض والماء قبلهم ولا يمكن ذلك عادة الا بالحرب وهي ما فرّوا منه وانما وقعوا في التيه نتيجة رفضهم للحرب.

ولذلك فان هذا الطلب لم يكن الا لتعجيز موسى عليه السلام ومن هنا كان تعبيرهم مفعما بالعناد والوقاحة. فهم لم يطلبوا حاجتهم بتواضع يناسب مقام الرسالة وانما قالوا للرسول لن نصبر على طعام واحد بالنفي المؤكد.. بل لم يتواضعوا لربهم الذي هو المسؤول واقعا بل قالوا ادع لنا ربك وكأنّهم لا يعترفون بكونه ربّا لهم مما يدل على خبث سريرتهم.

كما أنهم كثيرا ما كانوا يعترضون على موسى عليه السلام بانه خدعهم واخرجهم من مصر حيث كانوا يحصلون فيه على انواع من الطعام بيسر وسهولة فألقاهم في هذه البرّيّة التي لا ماء فيها ولا كلاء بل كانوا بذلك يعترضون على ربهم فانه عليه السلام أخرجهم من مصر بامره تعالى.

وقد حكى الله تعالى عنهم الانزجار منه عليه السلام حتى قبل خروجهم من مصر كما قال تعالى (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).[1]

وقد ورد في التوراة الحالية كلام كثير عنهم في هذا المجال ومنها ما حكيناه عنها فيما سبق وهو يرتبط بهذه القصة بالذات حيث ورد فيها:

(فعاد بنو إسرائيل أيضا وبكوا وقالوا من يطعمنا لحما قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانا والقثّاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم والآن قد يبست أنفسنا ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن..)[2]

ويلاحظ دناءة طباعهم في هذه الجملة حيث تتوق انفسهم الى ما اعتادوه من الاكل بالمجان في مصر مع انه كان باغلى القيم حيث كانوا يستعبدون في مقابل هذه النعم ويتحملون منهم اشد العذاب والذل والتحقير كما قال تعالى (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)[3] 

وفي موضع اخر (ثم ارتحلوا من إيليم وأتى كل جماعة بني إسرائيل إلى برّيّة سين التي بين إيليم وسيناء في اليوم الخامس عشر من الشهر الثاني بعد خروجهم من أرض مصر فتذمر كل جماعة بني إسرائيل على موسى وهارون في البرية وقال لهما بنو إسرائيل
ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزا للشبع فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع..)[4]

ويلاحظ في هذه القطعة قوله (فتذمر كل جماعة بني اسرائيل على موسى وهارون..) مما يدل على أن الامر لم يقتصر على جمع منهم وان كان مما لا شك فيه ان جمعا منهم كانوا في غاية التقوى والزهد.

وفي قصة استسقائهم ورد هكذا (ثم ارتحل كل جماعة بني إسرائيل من برية سين بحسب مراحلهم على موجب أمر الرب ونزلوا في رفيديم ولم يكن ماء ليشرب الشعب فخاصم الشعب موسى وقالوا أعطونا ماء لنشرب فقال لهم موسى لماذا تخاصمونني لماذا تجربون الرب وعطش هناك الشعب إلى الماء وتذمر الشعب على موسى وقالوا لماذا أصعدتنا
من مصر لتميتنا وأولادنا ومواشينا بالعطش فصرخ موسى إلى الرب قائلا ماذا
أفعل بهذا الشعب بعد قليل يرجمونني...)[5]

ويلاحظ أن القوم خرجوا من مصر بقيادة نبيهم موسى عليه السلام ليحملوا الى البشرية راية الايمان بالله ويكونوا دعاة للحق وهداة للمجتمع الانساني على وجه الارض ولذلك سمّوا انفسهم شعب الله المختار وهم بالفعل فعلوا ذلك فكان منهم الانبياء والمرسلون الذين ملأوا الكون نورا وهداية وحملوا مشعل التوحيد ولكن الله تعالى يريد بذكر هذه المواقف تنبيه اليهود في عصر الرسالة الجديدة على ما كان من اكثرهم طيلة التاريخ من المخازي لئلا يشمخوا بانوفهم ويستعلوا على الدعوة الالهية التي جاء بها الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم فان هذا هو احد اسباب استنكافهم عن الايمان بالرسالة.

ومما برز منهم في هذه القصة هو دناءة نفوسهم وانحطاط نظرتهم الى المهمة التاريخية التي اُلقيت على عواتقهم واعتُبروا اهلا لحملها ومن الطبيعي ان هذه المهمة تستدعي من الانسان تحمل المشاق وسعة الصدر فالذي يرمي بنظره الى الافق البعيد لا يهتم بما هو حوله من المشاكل بل يستصغر كل عظيمة في سبيل الوصول الى الهدف السامي. واين هذه النظرة العميقة الثاقبة مما بدر منهم من الاهتمام بالبصل والعدس؟! فلو كانوا لا يلقون في ذلك البر الا الاعشاب البرية لكان الافضل لهم الاكتفاء بها والاهتمام بالوصول الى القمّة التي تنتظرهم.

وكان لهم في رسولهم موسى عليه السلام اسوة حسنة حيث خرج من مصر الى مدين ليستعدّ لقيادة الثورة وابلاغ رسالة السماء فكان وحده يجوب الصحاري والبراري ويصبر على الجوع والعطش والتعب ليكوّن شخصية قوية صلبة لا تؤثر فيها الحوادث وهكذا كان ولم ينقل ان الله تعالى اطعمه او سقاه او ظلل عليه باعجاز لان الهدف الذي يجب ان يصل اليه يتطلب صلابة وعزيمة.

قال امير المؤمنين عليه السلام على ما في نهج البلاغة (وَإِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسَى كَلِيمِ اللَّهِ (عليه السلام) حَيْثُ يَقُولُ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وَاللَّهِ مَا سَأَلَهُ إِلَّا خُبْزاً يَأْكُلُهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الْأَرْضِ وَلَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ لِهُزَالِهِ وَتَشَذُّبِ لَحْمِهِ).

ولكن القوم لم يرضوا حتى بهذا الطعام اللذيذ الذي منّ الله به عليهم مع ان نفس كونه معجزة كان كافيا لكي يشعروا بالفخر ويبتهجوا بهذه المنة العظيمة التي منّ الله بها عليهم.

والحاصل أن طريقة طلبهم يدل على انهم كانوا يعاندون رسولهم عليه السلام ولم يكن طلبهم لهذه الاطعمة طبيعيا ومع أن المطلوب منهم هو الصبر على الشدائد ليصلوا الى الهدف المنشود لكنهم صرحوا في طلبهم انهم لن يصبروا على طعام واحد. والتعبير بالطعام الواحد مع انه مركب من امرين المن والسلوى تعبير صحيح وواضح وذلك لان المجموع يعتبر طعاما واحدا.

ويبدو أن طلبهم اخراج النبات في تلك البرّيّة انما كان على وجه الاعجاز لعلمهم بعدم تيسّر ذلك بصورة طبيعية ولانهم لم يريدوا البقاء هناك والعمل على الارض ولذلك لم يطلبوا الماء ومستلزمات الزراعة بل طلبوا من موسى عليه السلام ان يدعو ربه ليخرج لهم هذه النباتات من الارض فلا يكون ذلك الا بطريق الاعجاز.

والجزم في قوله تعالى (يخرج لنا) يدل على أنه أمر معلوم الترتب على دعائه عليه السلام فلم يطلبوا الدعاء بالاخراج مع توقع الاستجابة والا لقالوا (ليخرج) بل طلبوا الدعاء ورتّبوا عليه الاخراج فان الجزم يدل على شرطية مقدرة اي ان تدع ربك يخرج لنا.

وانما قالوا ذلك لعلمهم بان الاخراج يترتب عليه قطعا لما رأوا منه في مواقف سابقة في مصر وبعد خروجهم منها ولكن الجواب لم يأت بالموافقة. ومع ذلك فهم يسيئون الادب ولا يقولون ادع ربنا بل ادع ربك كانه ليس ربهم بل يظهر منه انهم كانوا في شك.

ومن الغريب انهم لم يطلبوا الانواع الراقية من النبات وانما طلبوا انواعا متدنية ياكلها عامة الناس بما فيهم الفقراء وهذا يدل على تمكّن عادة العبيد في نفوسهم حتى في الاكل.

والبقل ــ على ما في العين ــ (ما ليس بشجر دِقٍّ ولا جِلٍّ وفرق ما بين البقل ودق الشجر ان البقل اذا رعي لم يبق له ساق والشجر تبقى له سوق وان دقّت). وينطبق هذا التعريف على العشب الذي ترعاه البهائم وعلى الخضار التي ياكلها الانسان. والقثّاء ــ بكسر القاف وضمها ــ الخيار على ما في العين وغيره من كتب اللغة.

واختلف في الفوم ففي اكثر كتب اللغة انه الحنطة وفي بعضها انه الخبز واستدل على ذلك بعضهم بان طلبهم يخلو من الخبز ولا يمكن ان يكون الطعام خاليا منه. وقال بعضهم انه الثوم وقيل انه في قراءة عبد الله بن مسعود وثومها وفي التهذيب انه من تبديل الثاء بالفاء وان العرب يقولون جدف بدلا عن جدث. ويؤيد هذا الاحتمال ورود الكلمة في التوراة بالثاء كما مر في قولهم (والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم).

 

قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ...

اي قال لهم موسى عليه السلام والاستفهام للانكار التوبيخي. والاستبدال طلب شيء بدلا عن شيء وحيث انهم طلبوا الأخسّ من الطعام فاستنكر منهم طلب الأخسّ بدلا عما هو خير منه وهو المنّ والسلوى.

ويبدو من جواب موسى عليه السلام أنه لا يمكن الجمع بين ما يأتيهم بطريق الاعجاز وبين تحصيل الطعام بطريق طبيعي فإمّا أن يكتفوا بالمنّ والسلوى او يطلبوا الاطعمة المختلفة بصورة طبيعية وذلك لانهم لم يطلبوا الاستبدال بل اشتكوا وحدة الطعام فطلبوا مزيدا من انواعه وهذا لا يعني الاستبدال فالتعبير به في خطاب موسى عليه السلام لا يصحّ الا بضميمة هذا الامر وأنهم بمجرد طلبهم انواع الاطعمة بصورة طبيعية يفقدون هذا الطعام الذي ينزل عليهم من السماء.  

والواقع أن الانسان يطلب دائما التغيير ويملّ الحالة المستمرة وهذا شعور طبيعي لا باس به بل لعله احد أسباب تكامل الانسان حضاريّا ولولاه لبقي الانسان على عاداته القديمة ولكن الخطأ ان يغير الطريق الصحيح المستمر بطريق جديد خاطئ يذهب به الى دار البوار وهذه هي النقطة التي تنبّه عليها الآية.

ومثل هؤلاء في طلب ما هو الادون ما ورد في الكتاب العزيز من دعاء قوم سبأ قال تعالى (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[6]

واستغرب المفسرون هذا الطلب وحاولوا توجيه سبب له وقلنا في تفسير الاية ان الظاهر استخفافهم بنعمة الامان فلم يعتبروها نعمة وطلبوا أن تكون اسفارهم متباعدة وان كانت فاقدة للامان كسائر اسفار الناس. وهكذا الانسان يستخف بالنعمة اذا احيط بها. وكم هناك من نعم يستصغرها الانسان حتى اذا فقدها تنبّه وأنّى له الذكرى؟!

ومن الموارد التي يطلب الانسان فيها التغيير ويخطئ ما نجده في كثير من المجتمعات البشرية من اعتناق المذاهب السخيفة والانصياع لدعوة كل ناعق وان كان الداعي احمق فتجد اناسا مثقفين يركضون وراء عامي بسيط جاهل يدعي أنه نائب صاحب الزمان عليه السلام مثلا ويؤسس مذهبا يتبعه الآلاف الذين سئموا الافكار المتوارثة من مذهبهم. ولا شك ان الاصل في هذا صحيح وهو أن الانسان لا يبقى متمسكا بافكار الآباء والاجداد حتى وان اخطأوا ولكن لا يصح ان يترك تلك المعتقدات ويتشبث بما هو ابعد منه عن الطريق الصحيح.

والقرآن يحث الانسان على ترك الافكار الجاهلية الموروثة في آيات كثيرة كما هو دأب الرسل بأجمعهم مع أقوامهم ولكن لا بمعنى ترك ما هو الصحيح من الافكار. قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)[7] فقوله تعالى (أولو كان آباؤهم..) استفهام انكاري ومعناه هل تتبعونهم ولو كانوا لا يعقلون؟! وهذا يدل على أن اصل المتابعة لا بأس بها ولكن يجب التأكد من صحة الفكر والطريقة فاذا كان الآباء يتبعون افكارا خاطئة لا يجوز البقاء عليها ولا بد من التغيير.

وهكذا ايات اخرى في هذا الموضوع كقوله تعالى (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ..)[8] ففي هذه الآية يعتبر المناط في لزوم ترك الافكار الموروثة ان يكون الفكر الجديد أهدى منه واقرب الى الحق.

ومن الخطأ الفادح ان نتصور أن هذا الامر يختص باتباع الجاهلية ونحن منزهون عن ذلك فالانسان اذا احسن الظن بنفسه هلك من حيث لا يعلم!

ها نحن الان نجد في مجتمعنا وفي اتباع مذهبنا من يصر على تقليد من قلده ابوه او اسرته ونسمع من بعضهم التعبير بان عشيرتنا او قبيلتنا او اسرتنا يتبعون فلانا فنحن ايضا نتبعه بل ربما لا يتبعون نفسه وانما يتبعون من ورث مقامه فالمرجعية ايضا اصبحت عندنا بالوراثة وهذا كله باطل في باطل والانسان ليس له عذر وحجة امام الله اذا قلد احدا لا صلاحية له او يوجد من هو اعلم منه فضلا عن ان يتبع مذهبا لا دليل على صحته او يوجد ما هو اهدى منه كما في الاية الكريمة.

والحاصل أن محاولة التغيير في حد ذاته امر مطلوب بل ربما يكون واجبا ويكون البقاء على ثقافة الآباء تخلفا وغباءا ولكن تجب المحاسبة والدقة حتى لا نطلب ما هو الأسوأ او الأدنى كما طلبه بنو اسرائيل وقوم سبأ.

ولا يبعد ان يقال ان محاولة التغيير ان كان من نفسك وبصورة طبيعية فلا اشكال فيه مهما كان واما الدعاء والطلب من الله ان يغيّر ما بنا فلا يجوز ان كان يستبطن كفرانا لما لدينا من النعمة او استخفافا بها ولعل هذا هو الذي استوجب الغضب على قوم سبأ ولعل هذا ايضا هو الوجه في ان موسى عليه السلام امرهم ان يهبطوا ايّ مصر فيطلبوا هذه الامور بصورة طبيعية ولا يطلبوا من الله تعالى التغيير لانه كفران بالنعمة.

والأدنى افعل تفضيل من الدنوّ. وهناك بحث في اللغة في أن الدنوّ بمعنى القرب هل يختلف عن الدناءة بمعنى الخسّة والرذالة ففي معجم المقاييس والمفردات انهما من باب واحد والوجه فيه ان الانسان يرى ما هو اعلى درجة انه بعيد منه لعلوه ورفعته فيكون ما هو الادنى قريبا منه او من جهة ان الاخسّ قريب المنال يصل اليه اكثر الناس واما الاعلى درجة فلا يناله الا الخواص فهو بعيد عن متناول الايدي.

ويظهر ذلك من بعض اخر من اللغويين ايضا حيث لم يذكروا الا بابا واحدا كما في العين والجمهرة ولكن بعضهم كالازهري في التهذيب والجوهري في الصحاح صرحوا بالفرق بين الكلمتين لفظا ومعنى.

وقوله (اهبطوا مصرا) اي ادخلوا.. والهبوط في الاصل الانحدار من فوق ويطلق على النزول في ارض او بلد ولا يستفاد منه الهبوط الى سفل معنوي كما توهمه بعض المفسرين[9] بل يطلق على دخول البلد مطلقا وان كان باعتزاز.

ولعل الوجه في هذا التعبير ان الانسان غالبا يدخل البلد راكبا فينزل من مركوبه ليستقرّ وقد فرق العسكري في الفروق بين الهبوط والنزول بان الاول يدل على الاستقرار والبقاء دون الثاني فانه يقال حتى للنزول الموقت.

ويحتمل ان يكون المراد بمصر اي بلد لا البلد المعروف بقرينة التنوين ولم ترد في القرآن ذكر مصر البلد الا غير منصرف كما قال تعالى (وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)[10] والاصل في الكلمة الحد والحاجز ولعل التعبير عن البلد به هو التحديد بالسور في قبال بيوت الاعراب واهل البوادي حيث يعيشون في البرّ بلا تحديد.

وعليه فالمراد بقوله اهبطوا مصرا اي انزلوا ايّ بلد فستجدون بغيتكم إمّا للاشارة الى انه امر ميسور وموجود في كل بلد فلا وجه للاهتمام به ولا حاجة الى إعجاز. وإمّا للاشارة الى أن الله تعالى لا يستجيب هذا الدعاء لانهم كما اشرنا اليه طلبوا ذلك على وجه الاعجاز فهذا الجواب ردّ على طلبهم بأن ذلك غير ممكن فان اردتم الوصول الى هذا الطلب فعليكم الهبوط في أيّ مصر لتجدوا بغيتكم بصورة طبيعية وهو بالطبع يستوجب القتال كما مرّ وهم كانوا يهربون منه.

ويحتمل ايضا ان يكون المراد به البلد المعروف باعتبار صحة الصرف كما قالوا بتأويل البلد او المكان فلا تكون الكلمة اسما لمؤنث وعلى هذا فالامر بالنزول في مصر فيه تهديد وإنذار بأنّ إصرارهم على إيذاء الرسول سيعيدهم الى ما كانوا عليه من الاستعباد والذل والى انواع العذاب والبلاء. والاحتمال الاول اقرب.

 

وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ...

من هنا ينتقل السياق بمناسبة إصرار القوم على ما يستوجب ذُلّهم وكفرانهم لما أنعم الله تعالى عليهم من العزّة والاستقلال الى ما تعقّب القوم من أنواع المذلّة طيلة تاريخهم بعد موسى عليه السلام وتشير الآية الى السبب في ذلك ايضا.

والقصد منه كما اشرنا اليه سابقا هو التنديد بتقاعس المعاصرين منهم عن الايمان بخاتم الرسالات بتوهم ما كان من أسلافهم من المجد والعظمة فالآيات الكريمة تذكّرهم بسوابقهم المشينة الموجبة للذلة والمسكنة لئلا يغترّوا بأسلافهم.

والضرب من الكلمات التي تستعمل في موارد مختلفة والاصل فيها واضح وتستعمل في سائر المعاني بالمناسبة فمنها ضرب الخيمة ولعل التعبير عن نصبها بالضرب لاستعمال المطرقة ونحوها في ضرب اوتادها. ويحتمل ان يكون التعبير بضرب الذلة والمسكنة على بني اسرائيل من هذا الباب كأن الذلة خيمة أحاطت بهم ويستفاد منه أن الذلة شاملة لجميعهم لا خصوص من ذكرتهم الاية بانهم كفروا بآيات الله وقتلوا النبيين.

ويحتمل ايضا ان يكون بمعنى الالصاق والطبع عليهم نظير ما يقال في ضرب السكة فانه من الختم والطبع. والمراد حينئذ ان المذلّة عاقبة حتمية لهم لا مناص لهم عنها.

والذُّلّ والذِّلّ: في الاصل بمعنى اللين في مقابل الصلابة والشدة ولذلك قوبل الذُلّ بالعِزّ وهو من العَزاز اي الارض الصلبة. والمراد بها هنا الخضوع للجبابرة بقهرهم وغلبتهم فان الذل ليس دائما مكروها ومذموما فانه قد يكون طبيعيا كقوله تعالى خطابا تكوينيا للنحل (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا..)[11] وكل شيء ذليل لامره تعالى تكوينا.

وقد يكون الشيء ذليلا للانسان تكوينا وبامر الله كما قال تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا).[12] وقد يكون تذللا من الانسان نفسه بحق او بباطل كما في قوله تعالى (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ..).[13] ومن الباطل تذلل الناس للملوك والرؤساء الطغاة. وقد تكون الذلة بقهر قاهر كما في بني اسرائيل حسب هذه الآية وغيرها وكما في قوله تعالى (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً..)[14]

والمسكنة مصدر ميمي من المسكين وقد فسر في كتب اللغة بالفقير واختلفوا في كونه اسوأ حالا من الفقير او العكس او أنهما واحد وذكروا لكل من ذلك وجوها. والظاهر انه اسوأ حالا من الفقير لان الاصل في الكلمة على ما يبدو هو السكون كما قال الزمخشري[15] وغيره وعليه فاطلاق المسكين عليه بلحاظ ان الفقر أقعده وأسكنه الارض فلم يبق له حول ولا قوة.

وهذا اولى من تعليل الزمخشري بانه يسكن الى من يتصدق عليه وذلك لان المسكنة تطلق على الخضوع والتذلل ايضا كما في الحديث النبوي (الصلاة مثنى مثنى تشهّد في كل ركعتين وتضرّع وتخشّع وتمسكن..).[16]

والظاهر ان منه قوله تعالى (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)[17] فالاستكانة بمعنى التذلل والخضوع وهو ايضا على ما يبدو ماخوذ من المسكنة.

وضرب الذلة والمسكنة عليهم لم يكن في عهد موسى عليه السلام لان السبب الوارد في الآية بانهم قتلوا النبيين لم يكن في ذلك العهد ولا في عهد قريب منه بل في عهود متاخرة جدا كما ورد في التاريخ والروايات.

فهذه الجملة ليست من تتمة كلام موسى عليه السلام ولا تعقيبا له وانما ورد ذكرها في هذا المقام بمناسبة ان هذه الاية لا تتعرض للنعم التي منّ الله بها عليهم كسائر ما تقدم من الايات بل هي تتعرض لكفرانهم بنعمه تعالى وجحودهم وايذائهم للرسول عليه السلام فناسب ذلك التعقيب بما تعرضوا له طيلة التاريخ من الذل والهوان لاسباب وردت في الايات ومبدؤها ذلك اليوم.

ولعل المراد بذلّتهم ما أصابهم من القتل والاسر على ايدي جيوش نبوخذ نصر على ما ورد في العهد القديم وكتب التاريخ والظاهر انه المراد بما ورد في قوله تعالى (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا).[18]

وبقوا في الاسر سنين كثيرة الى ان قام الملك كوروش الفارسي بغزو البابليين وأنقذ بني اسرائيل فعادوا الى بلادهم ولذلك فهم يعظمون كوروش ثم حاربهم مرة اخرى ملوك الروم وقتلوا اكثرهم ولم يبق منهم الا شرذمة تفرقوا في البلاد وبقوا مشردين الى ان قام الغربيون بجمع شملهم على ارض فلسطين المغتصبة.

والظاهر ان هذه الابادة التي وقعت على ايدي ملوك الروم هو المشار اليه في قوله تعالى (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا).[19] ويحتمل غير ذلك والله العالم.

والبَوء والبَواء: الرجوع. وقوله (وباءوا بغضب من الله) كناية عن ان غضب الله هو نتيجة اعمالهم نظير ما يقال في المثل (رجع بخفي حنين) فهم كمن ذهب بعيدا عن اهله ليكسب مالا فرجع بخسران وهذا القوم ركبوا الاهوال وتحمّلوا الشدائد ليكونوا دعاة الحق وحملة التوحيد فلم يحصلوا الا غضبا من الله تعالى.

والتنكير في الغضب لعله للتعظيم اي باءوا بغضب عظيم من الله تعالى. والغضب في الانسان حالة نفسية تقتضي الانتقام والعقاب والهجوم على المغضوب عليه وربما يكظم الانسان غيظه فلا يصدر منه شيء لمصلحة او لخوف.

والسؤال انه كيف يمكن اسناد الغضب الى الله تعالى وهو منزّه من طروّ الحالات والعوارض؟ وكذلك اسناد الرضا والحب والبغض ونحوها.

اكثر المفسرين وغيرهم أوّلوا ذلك بأن المراد اسناد نتيجة الغضب وهو العقاب اليه تعالى وقالوا بمثل ذلك في سائر ما ينسب اليه تعالى من الحالات.

قال العلامة الطباطبائي رحمه الله (وأما رضاه تعالى فإنما هو من أوصافه الفعلية دون الذاتية فإنه تعالى لا يوصف لذاته بما يصير معه معرضا للتغيير والتبدل كأن يعرضه حال السخط إذا عصاه ثم الرضى إذا تاب إليه وإنما يرضى ويسخط بمعنى انه يعامل عبده معاملة الراضي من إنزال الرحمة وإيتاء النعمة أو معاملة الساخط من منع الرحمة وتسليط النقمة والعقوبة..).[20]

ويقول اتباع السلف بأن التأويل غير جائز وأن المراد به شأن من شؤونه تعالى يستوجب العقوبة والانتقام.[21]

ولا شك أن الغضب بالمعنى الموجود فينا لا يمكن ان ينسب الى الله تعالى ولكن تفسيره بانزال العقوبة بعيد جدا فالايات تدل على أن هناك امرا آخر وراء العقوبات كما في قوله تعالى (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).[22] حيث ورد ذكر الغضب والعقاب معا.

واوضح منه قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[23] حيث تبين هذه الآية وجهين من اظهار سخطه تعالى عليهم اي عدم مكالمتهم وعدم النظر اليهم وهو غير العذاب الاليم الذي اُعدّ لهم.

ولذلك قال امير المؤمنين عليه السلام في دعاء كميل (فَلَئِنْ صَيَّرْتَني لِلْعُقُوباتِ مَعَ اَعْدائِكَ وَجَمَعْتَ بَيْني وَبَيْنَ اَهْلِ بَلائِكَ وَفَرَّقْتَ بَيْني وَبَيْنَ اَحِبّائِكَ وَاَوْليائِكَ فَهَبْني يا اِلـهي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ وَهَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ اِلى كَرامَتِكَ). فالعقوبة بالفراق وعدم المكالمة والهجر وعدم النظر بعناية اكبر بكثير من عذاب النار.

وهكذا رضوانه تعالى امر آخر وراء المثوبات وهو اعظم منها بل لا يقاس بها قال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[24] فاذا أحسّ الانسان بعناية خاصة من الله له يشعر بسعادة لا مثيل لها فيكون في الجنة وهو في الدنيا حتى لو كان اسيرا في سجن ومعذّبا وتقطع اعضاؤه اربا اربا ولذلك ورد أن اصحاب الامام الحسين عليه السلام ما كانوا يتألمون مما يصيبهم من الضرب والطعن.

وعليه فالغضب امر آخر وراء العقوبات ولكنه في نفس الوقت فعل من افعال الله تعالى وليس من الصفات الذاتية ليستلزم التحول والتغيير. ومن هنا يتبين أن الغضب نزل عليهم في الدنيا ولا يصح ما قيل من (أَنَّ كُفْرَهُمْ وَمَا مَعَهُ كَانَ سَبَبًا لِعِقَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَفِي الْآخِرَةِ بِغَضَبِ اللَّهِ)[25] وانما يقال ذلك لتأويلهم غضب الله بعقابه.

 

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ...

(ذلك) اشارة الى الامرين المتقدمين اي ضرب الذلة والمسكنة عليهم وبوئهم بغضب من الله. والباء للسببية اي ان السبب في ذلك هو كفرهم المستمر بآيات الله تعالى. ويستفاد الاستمرار من قوله تعالى (كانوا). وكفرهم المستمر يتبين من انهم شاهدوا معجزات متوالية من رسولهم موسى عليه السلام في مصر وبعد خروجهم منها وما كانوا يؤمنون ويستسلمون بل يعاندون الرسول كما يلاحظ من الآيات السابقة واستمر هذا الكفر في أعقابهم.

والسبب الآخر لمذلّتهم وغضب الله عليهم قتلهم للانبياء وهو امر فظيع جدا فالانبياء ما كانوا يعتدون على أحد ولم تكن لهم سلطة ظاهرية كالملوك والامراء وما كانوا يجمعون الاموال بل كانوا زهادا في الدنيا وما كانوا مفسدين بل كانوا مصلحين وانما قتلوهم لانهم كانوا يامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويدافعون عن الفقراء والضعفاء وذلك تسبب في غضب الكبراء والامراء والاثرياء.

وهناك مجموعة من الانبياء يقال انهم قتلوا على ايدي اليهود قال ابن عاشور (وَقَدْ قَتَلَ الْيَهُودُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَشْعِيَاءَ بْنَ أَمْوَصَ الَّذِي كَانَ حَيًّا فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّامِنِ قَبْلَ الْمَسِيحِ، قَتَلَهُ الْمَلِكُ مَنَسِّي مَلِكُ الْيَهُودِ سَنَةَ 700 قَبْلَ الْمَسِيحِ نُشِرَ نَشْرًا عَلَى جِذْعِ شَجَرَةٍ. وَأَرْمِيَاءَ النَّبِيءَ الَّذِي كَانَ حَيًّا فِي أَوَاسِطِ الْقَرْنِ السَّابِعِ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَكْثَرَ التَّوْبِيخَاتِ وَالنَّصَائِحَ لِلْيَهُودِ فَرَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلُوهُ وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ. وَزَكَرِيَّاءَ الْأَخِيرَ أَبَا يَحْيَى قَتله هيرودس العبراني ملك الْيَهُود من قبل الرومان لِأَن زَكَرِيَّاء حاول تَخْلِيص ابْنه يحيى من الْقَتْل وَذَلِكَ فِي مُدَّة نبوءة عِيسَى، وَيحيى بن زَكَرِيَّاء قَتله هيرودس لغضب ابْنة أُخْتِ هِيرُودُسَ عَلَى يَحْيَى).[26]

بل ورد في بعض الروايات انهم قتلوا سبعين نبيا في يوم واحد كما في رواية في الكافي قال (وكانت بنو إسرائيل تقتل نبيا واثنان قائمان ويقتلون اثنين وأربعة قيام حتى أنه كان ربما قتلوا في اليوم الواحد سبعين نبيا..).[27]

واستشكل في الآية بان الله تعالى وعد بنصرة الرسل فكيف لم ينصرهم وتركهم يقتلون؟! وذلك في مواضع عديدة كقوله تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).[28] وغيرها من الايات.

واجيب عنه بان هؤلاء لم يكونوا رسلا وانما كانوا انبياء وهذا يفتح بابا للبحث عن الفرق بين الانبياء والرسل في مصطلح القران.

اما من حيث اللغة فالرسول من الرَّسل بفتح الراء وهو الانبعاث السهل ويطلق الرسول على الرسالة وعلى حاملها والظاهر انه في القرآن ايضا بنفس المعنى اي الحامل لرسالة من الله تعالى الى قوم.

واما النبيّ فالظاهر انه من النبأ فالاصل فيه النبيء لا من النبو اي الرفعة كما قيل والفعيل هنا يمكن ان يكون بمعنى الفاعل لانه يخبر عن الله ويمكن ان يكون بمعنى المفعول لان الاخبار تأتيه من الله تعالى والنبأ الخبر او الخبر الهام او ذو فائدة عظيمة كما في مفردات الراغب.

وعليه فالظاهر ان الفرق بين الرسول والنبي بحسب الاصطلاح ان الرسول مامور بتبليغ رسالة والنبي يخبر عن الله خبرا سواء كان مامورا بتبليغه ام لم يكن فهو اعم من الرسول. ويظهر من الآيات ايضا ان هناك فرقا بينهما كقوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ..)[29] فان الواضح من هذا التعبير الفرق بينهما.

ولكن الاشكال المذكور بحاله لانه تعالى يقول خطابا لبني اسرائيل (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)[30] ومنه يظهر أن بعض هؤلاء المقتولين كانوا رسلا ايضا.

ولا يصح ما قيل من ان الرسل هم اصحاب الشرائع فان لوطا عليه السلام كان رسولا ولكنه يبلغ شريعة ابراهيم عليه السلام وكذلك غيره من الرسل المذكورين في القران فان اصحاب الشرائع خمسة فقط.

فالجواب الصحيح عن الاشكال ان الله تعالى سيفي بما وعد وينصر رسله بهيمنة رسالتهم على جميع الاديان والثقافات البشرية حينما يظهر المهدي المنتظر عجل الله فرجه.     ويظهر ذلك من قوله تعالى (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)[31] فان من الواضح ان هذا لم يكن في جميع الاعصار فالمراد به انه سيكون في المستقبل.

واوضح منه قوله تعالى (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ).[32] حيث يدل على ان النهاية تكون لهم.

ووقع الاشكال ايضا عند بعض المفسرين في التقييد بكون القتل بغير الحق من جهة ان قتل النبي لا يمكن ان يكون بحق.

واجيب بان المراد انه لم يكن هناك ما يستوجب القتل حتى في عرفهم وعقيدتهم لانهم لم يقتلوا احدا ولم يفسدوا ولم يعتدوا على مال احد ولم يوجد اي مبرّر لقتلهم في ايّ عرف وقانون فليس هذا القيد للاحتراز عن قتل نبي بحق.

ولكن هذا الجواب لا يصح لان النبي قد يكون مستحقا للقتل في عرفهم وقانونهم ولكنه غير جائز. ولا اعتبار للعرف والقانون فالنبي الذي يتهجم على الملك لظلمه وعدوانه على الناس قد يستحق القتل حسب القانون العرفي او الحكومي ولكن ذلك لا يبرر القتل قطعا.

ولو صح ما قيل لصح احتجاج يزيد واتباعه واشياعه الى يومنا هذا بان قتل سيد الشهداء عليه السلام كان بسيف جده لانه شق عصا المسلمين وخالف ولي امرهم.

ويمكن ان يقال ان هذا التوصيف لبيان ان القتل كان فجيعا من جهتين من جهة انه قتل نبي ومن جهة انه لم يكن بحق حتى لو لم يكن نبيا فانه لم يفعل شيئا يبرر القتل الا انه امر بالمعروف ونهى عن المنكر ودعا الى الصلاح والاصلاح.

ولا يبعد ان تكون هذه الآيات نزلت لتنبيه المسلمين على خطر عظيم يهدد كيان دينهم ايضا وبالفعل حدث بعد الرسو ل صلى الله عليه وآله وسلم أن اعتدى المتسلطون على الائمة عليهم السلام وهم بمنزلة انبياء بني اسرائيل بل افضل منهم وقتلوا وسجنوا وشرّدوا والله تعالى يندد بقتل الدعاة مطلقا كما قال (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).[33]

وهناك ايات كثيرة تحذر الامة من حدوث التفرق بينهم كما حدث في الامم السالفة:

منها قوله تعالى (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[34]

ومنها قوله تعالى (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[35]

وقوله تعالى (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ..)[36]

وغير ذلك من الايات وهي كثيرة وقد ذكرنا بعض الكلام حول ذلك في تفسير قوله تعالى (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)[37] وقلنا في تفسير الاية ان المراد بالذين اُورثوا الكتاب الجيل المتأخر عن عهد الرسالة حيث ورثوا الكتاب من الجيل الاول وهم في شكّ منه اي من الكتاب. والشك المريب اي المصاحب للاتّهام. والرَّيب: التهمة.

وهذا نتيجة تفرّقهم واختلافهم في العهد الاوّل، فان الاجيال المتأخّرة توارثت الكتاب مع الشكّ، إمّا في أصله من احتمال التحريف في الالفاظ كما وقع في الكتب السابقة وإمّا في معناه من احتمال التحريف في التفسير فان كل فرقة تحاول تفسير النص ليوافق أهواءها كما نلاحظه في مذاهب ديننا بالنسبة الى الكتاب والسنة. 

وهذا هو الحاصل في الامم السابقة وانما تفرّقوا بعد ما جاءهم العلم عن طريق الرسول فلم يكونوا معذورين بالجهل. وكان السبب في تفرّقهم هو البغي بينهم. اي اعتداء بعضهم على بعض، وتطاولهم وطلب بعضهم ما ليس له. وهذا بالطبع يتعلّق بما ورثته الامّة من رسولها كالخلافة.  

والآية الكريمة تحذّر الامة الاسلامية من الوقوع في نفس الخطأ. وهي فعلا قد وقعت فيه فاختلفوا بعد عهد الرسالة بل بدأت بوادره في محضر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واستمرّ الاختلاف وأثّر حتى في الطقوس الدينية التي تتكرر في اليوم مرات كالصلاة والوضوء بل حتى الذي يعلن في المآذن فإنّ الاختلاف وقع في الأذان حتى في أتباع المذهب الواحد ناهيك عن الاحكام المهمّة السياسية كالاختلاف في تعيين الحاكم عن طريق الشورى او النصب الالهي، وغير ذلك.

 

ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ...

يحتمل ان تكون الاشارة في قوله (ذلك) الى نفس المشار اليه الاول اي ضرب الذلة والمسكنة عليهم فيكون تعليلا اخر له ونظيره في تكرار اسم الاشارة من دون عطف قوله تعالى (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).[38]

ويحتمل ان تكون الاشارة الى السبب السابق بنفسه فان الاستمرار في الكفر بايات الله تعالى مع كثرة ما شاهدوه من الايات ومع انهم من اولاد الانبياء عليهم السلام ومع وجود عدد كبير من الانبياء بينهم امر غريب مستبعد وأغرب منه قتلهم الانبياء وهم من صلحاء قومهم ولم يجدوا فيهم ما يبرّر القتل فاقتضى ذلك تعليل هذه الصفة المستنكرة فيهم.

والسبب فيه امران:

الاول: العصيان وهو الاباء عن الاطاعة وليس مجرد المخالفة للاوامر والنواهي بل هو نوع من التمنّع.

والثاني: الاعتداء وهو تجاوز الحدود وفعل (كانوا) يدل على استمرارهم في ذلك. والمراد به إمّا تجاوز الحدود الالهية او الاعتداء على الضعفاء منهم.

وكثرة المعصية تجرّ الانسان الى الكفر والسرّ فيه أن الانسان المؤمن بالله يستعظم الكفر ويتجنبه ولكنه اذا ابتلي بالمعاصي واستصغر الكبائر ومارسها وافرط في البعد عن التقوى يقسو قلبه يوما فيوما الى ان يبلغ من القساوة بحيث لا يخشع لله تعالى ولا يخافه فيرى ان انكار الرب والكفر بآيات الله اقرب طريق الى التوغّل في الشهوات ثم يتطوّر في كفره وقساوته فيستسهل قتل المصلحين والانبياء.

 


[1] الاعراف : 129

[2] العهد القديم سفر العدد الاصحاح 11

[3] البقرة : 49

[4] العهد القديم سفر الخروج الاصحاح 16

[5] العهد القديم سفر الخروج الاصحاح 17

[6] سبأ: 18 - 19

[7] البقرة: 170

[8] الزخرف: 23 - 24

[9] تسنيم في تفسير هذه الآية

[10] يوسف : 99

[11] النحل: 69

[12] الملك: 15

[13] الاسراء: 24

[14] النمل: 34

[15] الفائق ج1 ص63

[16] مسند احمد ج1 ص211

[17] المؤمنون: 76

[18] الاسراء: 4 - 5

[19] الاسراء: 7

[20] الميزان ج9 ص376

[21] المنار ج1 ص57

[22] الانفال: 16

[23] ال عمران: 77

[24] التوبة: 72

[25] التحرير والتنوير ج1 ص 529

[26] التحرير والتنوير ج1 ص 530

[27] الكافي ج8 ص 116

[28] غافر: 51

[29] الحج: 52

[30] البقرة: 87

[31] الصافات: 171 - 173

[32] الانبياء: 105

[33] ال عمران: 21

[34] البقرة: 213

[35] ال عمران: 105

[36] آل عمران: 19

[37] الشورى: 14

[38] البقرة: 232