مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ...

ورد هذا المضمون ايضا في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).[1]

والبحث في هذه الآية من جهات:

الجهة الاولى: ما هو وجه التناسب بين هذه الآية والآيات السابقة وقد قيل في توجيه ذلك بوجوه ثلاثة:

الوجه الاول: أن الله تعالى كثيرا ما يجمع بين الانذار والتبشير لكي يبقى الانسان بين اليأس والرجاء وحيث إن الآيات السابقة اشتملت على الانذار الشديد لبني اسرائيل أتى بهذه البشارة لمن آمن منهم بالله وعمل الصالحات.

الوجه الثاني: أن الآيات السابقة اشتملت على التنديد ببني اسرائيل لكفرهم وعنادهم وهذه الآية تريد ان تستثني منهم المؤمنين الصالحين فالله تعالى اختارهم ليكونوا دعاة الى التوحيد والى دين الله تعالى لما فيهم من صلاحيات ذاتية فهم اولاد الانبياء العظام ابراهيم واسحاق ويعقوب عليهم السلام وخرج منهم كثير من الانبياء والاوصياء والمصلحين والدعاة فلا يمكن ان يحكم عليهم جميعا بالشر والفساد ولذلك اتت هذه الآية للاستثناء.

الوجه الثالث: أن اليهود كانوا وما زالوا يتبجحون أنهم هم شعب الله المختار وان الجنة لهم وانهم لا يدخلون النار الا اياما معدودات قال الله تعالى (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).[2]

وقال ايضا (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).[3]

وقال ايضا (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [4]

والله تعالى يرد عليهم في هذه المواضع وغيرها بمثل ما ورد هنا وهو أن الله تعالى لا يظلم احدا ولا يقرب ولا يبعد الا بالمقاييس فلا اعتبار لديه للانتماءات. والمقياس عند الله هو الايمان والعمل الصالح.

وربما يتصور بعض المسلمين نفس هذا التصور الخاطئ وكثيرا ما نجد في كلماتهم ما يفهم منه اختصاص هذه الامة بمثل ذلك ويسمون انفسهم الامة المرحومة ويتوهمون أنه لا يمكن لاحد من هذه الامة الخلود في النار.

والله تعالى يرد على ذلك ايضا بقوله (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا).[5]

الجهة الثانية: ما هو المراد بهذه الآية وهل مردّها الى أنه لا فرق بين الايمان برسالة الانبياء السابقين واللاحقين حتى في هذا العصر فلا يجب الايمان برسالة الرسول الجديد بل يكفي الايمان بالرسالات السابقة كما يعتقد بعض النصارى في عصرنا ويقولون انه لا فرق بين الايمان بعيسى عليه السلام والايمان بمحمد صلى الله عليه واله وسلم فكلاهما رسول من عند الله تعالى وكلاهما يحمل رسالة السماء ولكل منهما معجزات؟

ربما يتصور ذلك ولعل كثيرا من الناس يفسر الآية بذلك ابتداءا. وهذا ما يسمى في عصرنا بالتعددية الدينية او البلوراليزم.[6]

وهذا باطل قطعا ومخالف لآيات كثيرة في الكتاب العزيز وهو من الواضحات لا يحتاج الى دليل ولو كان كذلك لما طلب من اليهود والنصارى في عصر الرسول صلى الله عليه واله وسلم ان يؤمنوا بالرسالة الجديدة مع ان الرسول دعاهم والقرآن مشحون بدعوتهم بل يعتبرهم كفارا ان لم يؤمنوا بالرسالة الجديدة في آيات عديدة منها قوله تعالى (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ).[7]

واوضح اية في ذلك قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).[8]

والحاصل ان هذا الامر من الاصول الاساسية للدين ولا يمكن التشكيك فيه وهناك محاولات لتفسير الآية بحيث لا ينافي هذا الامر الواضح من الدين.

المحاولة الاولى: ما نسب الى ابن عباس من ان الآية منسوخة بقوله تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ..).[9] ومردّ هذا التوجيه أن الآية بظاهرها تدعو الى التعددية وقبول اي انتماء ديني ولكنه منسوخ بآيات اخرى.

ولكن النسخ لا معنى له في مثل هذه الآيات فهي لا تشتمل على حكم فرعي يمكن ان يكون محدودا بزمان والنسخ ليس في الواقع الا اعلاما لانتهاء امد الحكم والله تعالى لا يتبدل حكمه (ولن تجد لسنة الله تبديلا) وانما هذا اصل من الاصول لا يمكن فيه التغيير.

والاسلام دين الله في جميع الاعصار كما قال تعالى (ان الدين عند الله الاسلام)  ولا يمكن فيه التغيير وانما تتغير الشرايع في بعض فروعها لا في اصولها ولا في الاساس من الفروع كما قال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ..).[10]

المحاولة الثانية: أن المراد بالآية أن هؤلاء اذا تابوا وتركوا دينهم وآمنوا بالله واليوم الآخر تقبل توبتهم وهذا القول ارتضاه كثير من المفسرين القدماء بل يبدو انه محل اتفاقهم. ولكن الاشكال فيه من جهة أن قوله (الذين آمنوا) في اول الآية يشمل هؤلاء فلا بد من حمل اليهود والنصارى على من لم يؤمن منهم.

فأجاب بعضهم بأن قوله (من آمن بالله واليوم الآخر) لا يقيد الذين آمنوا وانما هو قيد لليهود والنصارى والصابئين.

وهو بعيد جدا لا يمكن حمل افصح الكلام عليه مضافا الى ما سيأتي في الجواب عن الوجه الثاني.

وأجاب في الكشاف عن هذا الاشكال بأن المراد بالذين آمنوا من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه وهم المنافقون فمعنى الآية أن المنافقين واليهود والنصارى وغيرهم اذا تابوا وآمنوا بالله واليوم الآخر فان الله تعالى يقبل توبتهم ويؤتيهم اجور اعمالهم فمحصل الآية فتح باب التوبة.

وهذا غير صحيح:

اولا لان الذين آمنوا في مصطلح القرآن يطلق على كل المسلمين في عصر الرسالة وهو يصدق بالاولوية على المؤمنين الصادقين وهم المتبادر من إطلاقه.

وثانيا لأن الامر بناءا على هذا لا يختص بمن ذكر وكان الاولى ان يذكر المشركين فان احتمال قبول توبتهم ابعد من غيرهم.

وثالثا لان ذلك امر واضح لا حاجة الى هذا التأكيد فالدين الجديد لم يأت الا لدعوة الناس جميعا سواء كانوا متدينين قبل ذلك بدين ام لا.

ورابعا ان المراد لو كان ما ذكر لكان اللازم اضافة الايمان بالرسول صلى الله عليه واله وسلم.

المحاولة الثالثة: أن المراد باليهود والنصارى من كان منهم قبل ارسال الشريعة المتاخرة فلا تشمل الآية من هم في عصر الرسالة المجيدة فضلا عمن كان في عصرنا.

ولكن لا دليل على تخصيص اليهود والنصارى بمن كانوا قبل ذلك ولا يناسب سياق الآيات التي تخاطب اليهود في عصر الرسالة فلو اريد بهذا العنوان ما لا يشملهم لزم الاتيان بقرينة واضحة.

المحاولة الرابعة: ماورد في تفسير المنار وملخصه (ان الايمان المرضي عند الله تعالى هو واقع التَّصْدِيق بالله واليوم الاخر وهو أَصْل لِتَهْذِيبِ الأَخْلَاقِ وَمَصْدَر لِلْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ. وَلِلْإِيمَانِ إِطْلَاقٌ آخَرُ وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِالدِّينِ فِي الْجُمْلَةِ وَيَدْخُلُ فِيهِ أَهْلُ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ مِنْ كُلِّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ وَهَذَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي رِضَا اللهِ وَلَا غَضَبِهِ وَهُوَ كَوْنُ الدِّينِ جِنْسِيَّةً لِمَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ... فَالْآيَةُ بَيَانٌ لِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي مُعَامَلَةِ الْأُمَمِ تَقَدَّمَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ... ولَا إِشْكَالَ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُعَامَلَةِ اللهِ تَعَالَى لِكُلِّ الْفِرَقِ أَوِ الْأُمَمِ الْمُؤْمِنَةِ بِنَبِيٍّ وَوَحْيٍ بِخُصُوصِهَا الظَّانَّةِ بفَوْزهَا فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهَا مُسْلِمَةٌ أَوْ يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ أَوْ صَابِئَةٌ مَثَلًا، فَاللهُ يَقُولُ: إِنَّ الْفَوْزَ لَا يَكُونُ بِالْجِنْسِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِإِيمَانٍ صَحِيحٍ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى النَّفْسِ، وَعَمَلٌ يَصْلُحُ بِهِ حَالُ النَّاسِ).[11]

ومثل ذلك في كلام جماعة من المفسرين ايضا منهم العلامة الطباطبائي رحمه الله حيث قال (محصل المعنى أن الأسماء والتسمي بها مثل المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين لا يوجب عند الله تعالى أجرا ولا أمنا من العذاب كقولهم لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وإنما ملاك الأمر وسبب الكرامة والسعادة حقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح..).[12]

ولكن هذا التوجيه لا ينفع في ردّ من يدّعي ان ظاهرها جواز التعددية في الدين وعدم الفرق بين الاديان وأنه لا وجه للاصرار على لزوم اعتناق الدين الاسلامي والعمل بشريعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل يكفي ان يؤمن اليهودي والمسيحي بالله واليوم الآخر ويعمل صالحا حسب دينه وشريعته ولا شك أن هذا غير صحيح ومخالف لكثير من آيات القرآن فغاية ما يفيد هذا الوجه هو أن الايمان بالله يجب ان يكون عن صدق وأنه لا يكفي الانتماء الى الدين.

ومن جهة اخرى لا يتصدى هذا التوجيه للسر في ذكر هذه الاديان الاربعة بالخصوص بل يظهر من بعض عباراتهم ان لا خصوصية لها كقول صاحب المنار (مُسْلِمَةٌ أَوْ يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ أَوْ صَابِئَةٌ مَثَلًا) فقوله (مثلا) كالتصريح بأنه لا خصوصية لهذه الاديان المذكورة في الاية الكريمة وكذلك في عبارة العلامة حيث قال (مثل المؤمنين واليهود والنصارى) فيبقى السؤال عن الوجه في ذكرها بالخصوص هنا وفي آية سورة المائدة التي مر ذكرها في اول البحث.

والظاهر أنه لا مانع من الاذعان بمضمون الآية على ما هو الظاهر منها فالمراد كل من اتّبع دين اليهود والنصارى والصابئة حتى من هم في عصرنا وأنهم اذا آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا العمل الصالح حسب شريعتهم وحسبما تهديهم اليه عقولهم فان الله تعالى لا يضيع اجرهم سواء من كان قبل البعثة ومن كان بعدها.

الا أن من تمّت عليه الحجة بان الله تعالى بعث رسولا يثبت بالاعجاز انه رسول من الله تعالى وانه الذي بشّر به موسى وعيسى عليهما السلام وجب عليه ان كان مؤمنا بالله واليوم الآخر ان يؤمن به ويتبع شريعته والا لم يكن عمله صالحا بل لم يؤمن باليوم الاخر لانها الشريعة الناسخة فان لم يتبعها بعد تمام الحجة فليس مؤمنا بالله واليوم الآخر ولا تشمله الآية الكريمة ولكنها تشمل من لم تتم عليه الحجة حتى المعاصرين وان كانت الحجة في زماننا هذا منتشرة في العالم.

وسيأتي البحث عن وجه ذكر الصابئة مع اليهود والنصارى.

الجهة الثالثة: في بيان معنى مفردات الآية الكريمة وقد تبين بما مر أن المراد بالذين آمنوا هم المسلمون وهذا العنوان يشمل كل من آمن ظاهرا بالله ورسوله وان كان منافقا وهذا من مصطلحات القرآن فالتعبير بالذين آمنوا في الكتاب العزيز يقصد به هذا المعنى وعليه فقوله تعالى (من آمن بالله واليوم الآخر) بدل منه وقيد له حتى لا يشمل الحكم المنافقين والذين لا يعملون العمل الصالح وان اظهروا الايمان بالله ورسوله واليوم الآخر.

واما الذين هادوا فالمراد بهم اليهود كما هو واضح وانما يبحث هنا عن وجه هذا التعبير. فيحتمل ان يكون من هاد يهود اي تاب قال تعالى نقلا عن سيدنا موسى عليه السلام (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ..)[13] ويحتمل ان يكون اسما ماخوذا من يهوذا وهو احد اولاد يعقوب عليه السلام الاثني عشر ولعل وجه التخصيص به لانه جد الانبياء عيسى وداود وسليمان على ما قيل.

والنصارى هم من يدّعون انهم اتباع المسيح عليه السلام ويسمون بذلك لان احد القاب المسيح (الناصري) لانه من الناصرة وهي بلدة في فلسطين ويقال انها وطن امه مريم عليها السلام واما المسيح فقد ولد في بيت لحم والله العالم. 

واما الصابئون فقد وقع بحث طويل عن المراد بهم في القرآن فقيل ان المراد بهم الحنفاء من العرب وهم الذين كانوا يعتقدون بالله تعالى ويوحدونه وما كانوا يعبدون الاصنام ولا يشربون الخمر ولا ياتون بالمنكرات ويدعون انهم على دين ابراهيم عليه السلام.

وقيل سموا بذلك لانهم تركوا دين الوثنية وهو دين آبائهم واجدادهم وكان العرب يعبرون عن كل من يدين بالاسلام ايضا بالصابئة. والاصل فيه الصبأ بالهمزة وهو الخروج اي خرج من دين الى دين يقال صبأ ناب البعير اي طلع حدّه كما في العين او الاصل فيه الصبو وهو الميل الى الشيء كما قال تعالى (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ..).[14]

ولكن هذا بعيد فان عطف الصابئة على اليهود والنصارى في ثلاث مواضع من القران الكريم يدل على ان المراد بهم اتباع بعض الاديان المشابهة والحنفاء لم يتبعوا دينا خاصا.

والظاهر ان المراد بهم الصابئون المندائيون ويقال انهم قوم يسكنون حاليا في العراق وبعض القرى العربية في ايران ويعبرون عنهم في العامية بالصُبّة ويقال للواحد منهم صُبّي. ودينهم غير واضح فيقال انهم في الاصل قوم من النصارى ولكن تخصصوا بطقوس خاصة بهم كما يتحقق ذلك في المذاهب المتشعبة من كل دين.

ويقال ان كلمة (مندائية) اتت من (مندا) وتعني في لغتهم العلم والمعرفة على اساس دعواهم بان لهم معرفة عميقة بالله تعالى. ويقال ايضا ان لهم عقائد خاصة وانهم يعتبرون انفسهم من اتباع سيدنا يحيى بن زكريا عليهما السلام وان التعبير عنهم بالصابئة لانهم يهتمون كثيرا بغسل التعميد وأن (صبا) في لغتهم بمعنى غطس في الماء.

وفي كتاب (فرهنگ دهخدا) وهو موسوعة علمية باللغة الفارسية أن الاصل في الكلمة (صبع) وهو في اللغة العبرية بمعنى غسل التعميد. وحكى ذلك ابن عاشور في التحرير والتنوير عن دائرة المعارف الاسلامية.

وهناك قوم اخر يدعون الصابئة الحرّانيون و(حرّان) مدينة قديمة كانت من اراضي الشام وبلاد بين النهرين وهي الآن تقع في تركيا وهؤلاء يعبدون الكواكب. ومن هؤلاء ابو اسحاق الصابي الاديب والشاعر المعروف الذي كان صديقا وفيا للشريف الرضي رحمه الله وبينهما مراودات كثيرة مشهورة وتبادل في المديح بالشعر والنثر.

ولكن الظاهر ان المراد بالصابئين في القرآن هم المندائيون واما الحرانيون فلا يعتبر دينهم من الاديان السماوية وان امكن ان يكون في الاصل سماويا ثم انحرف. ولا يبعد انهم سموا انفسهم صابئة ليستفيدوا من هذا الاسم حيث ورد في القرآن الكريم ذكره وقد ورد هذا الاحتمال في كتاب (فرهنگ دهخدا). 

وذكر الشهرستاني في الملل والنحل ان الحرنانيين (هكذا) جماعة من الصابئة ونسب اليهم عقائد منها ان الصانع واحد وكثير ومنها التناسخ وامور اخرى.[15]

الجهة الرابعة: في انه ما هو الوجه في تخصيص هذه الاديان الثلاثة بالذكر؟ فلو كان الحكم يتبع عدم تمامية الحجة فان الانسان معذور مطلقا وان تمت الحجة فلا عذر له ولا خصوصية لهذه الاديان الثلاثة.

وقد مر أن عبارة المنار والميزان تدلان على أن ذكر هذه الاديان من باب المثال فلا فرق بينها وبين أتباع سائر الاديان الفاسدة او المحرفة.

ولكنه بعيد جدا بملاحظة تكرار نفس المذكورين في الآية المشابهة وهي قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).[16]

ويلاحظ مضافا الى ذلك أن الآية لم تذكر كل الاديان السماوية المنحرفة ولكن ذكرت من بينها الصابئة وهناك اديان اخرى ايضا تشعبت من اصول سماوية ولكنها انحرفت كالمجوس فما هو الوجه في تخصيص الصابئة بالذكر؟

قال ابن عاشور في التحرير والتنوير (وَوَجْهُ الِاقْتِصَارِ فِي الْآيَةِ عَلَى ذِكْرِ هَذِهِ الْأَدْيَانِ الثَّلَاثَةِ مَعَ الْإِسْلَامِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ نَحْوِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالدَّهْرِيِّينَ وَالزَّنَادِقَةِ أَنَّ هَذَا مَقَامُ دَعْوَتِهِمْ لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْمَتَابِ عَنْ أَدْيَانِهِمُ الَّتِي أُبْطِلَتْ لِأَنَّهُمْ أَرْجَى لِقَبُولِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمَجُوسِ وَالدَّهْرِيِّينَ لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْإِلَهَ الْمُتَفَرِّدَ بِخَلْقِ الْعَالَمِ وَيَتَّبِعُونَ الْفَضَائِلَ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمْ تَقْرِيبًا لَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ..).

ولكن لم يظهر من سياق الآيات دعوة هؤلاء خاصة الى الاسلام بل ربما يستفاد من الآية التعددية كما مر ذكره.

مع أن هذه الآيات تخاطب اليهود وليس فيها خطاب للصابئة فالتعرض لذكرهم لا يمكن ان يعلل بذلك.

مضافا الى ان المجوس ايضا يعتقدون بالاله الخالق وان نزهوه عن خلق ما يتصورون انه شر ومثل هذا الاعتقاد ربما يكون موجودا في كثير من البشر حتى المسلمين.

وقال الآلوسي في روح المعاني (كما أن ذكر الصَّابِئِينَ للتنبيه على أنهم مع كونهم أبين المذكورين ضلالا يتاب عليهم إذا صح منهم الإيمان والعمل الصالح فغيرهم بالطريق الأولى).

ولكن هذا يبتني على تفسير الآية بان المراد من تاب من هؤلاء وآمن بالرسول صلى الله عليه واله وسلم وقد مر الكلام فيه مضافا الى أنه لم يظهر ما يدل على كونهم ابين ضلالا. هذا مع ان هذا الوجه لا يدل على السبب في الاقتصار على ذكرهم.

كما أن تخصيصهم بالذكر من جهة قرب مساكنهم للعرب والمسلمين غير وجيه ايضا لان المجوس قريبون منهم ايضا بل مختلطون بهم وهم أكثر عددا وتأثيرا.

والظاهر أن الحكم خاص بأهل الكتاب لان الآية لا تدل على معذوريتهم وعدم معاقبتهم فحسب بل تدل على أن من كان من أتباع هذه الاديان الثلاثة وآمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا حسب دينه ولم تتم عليه الحجة فلا يضيع اجره ويقبل عمله. 

ولا يبعد أن يكون الوجه في ذكر الصابئين خاصة ــ والمراد بهم المندائيين كما مر ــ أنهم اهل كتاب واقعا فإما أن يكونوا قسما من النصارى كما قيل او أن لهم كتابا خاصا بهم وانما اشتبه الامر على كثير من الباحثين والفقهاء في البحث عن احكامهم بسبب الصابئين الحرانيين ولعلهم كما قيل تعمدوا التسمي بذلك للتمتع بخصائص الصابئين في الاسلام.

واما المجوس فلا يتبعون كتابا حتى لو ثبت أنهم كان لهم رسول واتاهم بكتاب لكنهم قتلوه واحرقوا كتابه مع انه غير ثابت وانما اُلحقوا باهل الكتاب لما ورد فيهم من ان الرسول صلى الله عليه واله وسلم امر بذلك:

روى الشيخ الصدوق قدس سره بسنده عن الحسن بن علي الوشاء عن أحمد بن عمر قال (سألته عن قول الله عز وجل ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم قال اللذان منكم مسلمان واللذان من غيركم من أهل الكتاب فإن لم تجد من أهل الكتاب فمن المجوس لان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: سُنّوا بهم سنة أهل الكتاب..).[17]

وروى الكليني بسنده عن يونس بن عبد الرحمن عن يحيى بن محمد قال سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عز وجل "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحد كم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم" قال اللذان منكم مسلمان واللذان من غيركم من أهل الكتاب فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس لان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سن في المجوس سنة أهل الكتاب في الجزية..).[18]

والروايتان تدلان بوضوح على ان المجوس ليسوا من اهل الكتاب وان الحقوا بهم في بعض الاحكام كالجزية وان كان السند في الرواية الثانية ضعيف لان يحيى بن محمد لم يوثق والظاهر ان يونس يرويه عن علي بن سالم عن يحيى وعلي ايضا لم يوثق. 

و ربما يتوهم من بعض الروايات انهم اهل كتاب فقد روى الكليني ايضا بسنده عن أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا قال سئل أبو عبدالله عليه السلام عن المجوس أكان لهم نبي؟ فقال نعم أما بلغك كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إلى أهل مكة أن أسلموا وإلا نابذتكم بحرب فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن خذ منا الجزية ودعنا على عبادة الأوثان فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إني لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب فكتبوا إليه يريدون بذلك تكذيبه زعمت أنك لا تأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ثم أخذت الجزية من مجوس هجر فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن المجوس كان لهم نبي فقتلوه وكتاب أحرقوه أتاهم نبيهم بكتابهم في إثني عشر ألف جلد ثور).[19]

ولكن الرواية ضعيفة ومرسلة وفيها ما لا يمكن تصديقه من ان كتابهم كان مسجلا في اثني عشر الف جلد ثور مع ان المستفاد منها ليس انهم اتباع كتاب وانما جاءهم رسول واتاهم بكتاب فلم يتبعوه فلا يعتبرون اهل كتاب وان اُلحقوا بهم.

وفي روايات العامة ايضا ما يدل على ذلك منها ما في صحيح البخاري ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم اخذ الجزية من مجوس هجر. [20]

والحاصل ان هناك فرقا بين الصابئة والمجوس وان الصابئة المندائيين يعتبرون اهل كتاب واما المجوس فانما يلحقون بهم في بعض الاحكام فحسب ولا تشملهم هذه الآية.

الجهة الخامسة: أن قوله تعالى (من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا) يصح ان يكون مبتدأ وخبره (فلهم اجرهم..) والاتيان بالفاء في الخبر من جهة ان (من) تتضمن معنى الشرط والجملة خبر (إن) ويصح أن تكون (من آمن..) بدلا عن اسم (إن) وقوله (فلهم اجرهم) خبر إنّ والفاء ايضا بلحاظ تضمن معنى الشرط. وعلى كلا التقديرين لا بدّ من عائد في هذه الجملة وهو (منهم) اي من آمن منهم بالله...

وضمير العائد يعود الى كل من سبق ذكره حتى الذين آمنوا لان المراد بالايمان هناك الاسلام ظاهرا وهو لا ينافي الكفر باطنا كما هو الحال في المنافقين.

ولم يذكر الرسول هنا مع أن عدم الايمان به كفر بلا ريب لأنه لو ذكر لكان منصرفا الى رسولنا صلى الله عليه واله وسلم والمفروض أن الآية تريد الحكم بالتعميم فيكفي في غير المسلمين الايمان بالله واليوم الآخر وبرسولهم وهو مما يعلم من التزامهم بالعمل الصالح فان المراد به ما اتت به شريعتهم بواسطة الرسول.

ومن هذا التقييد وخصوصا الايمان باليوم الآخر يظهر أن العمل الصالح ليس بمعنى ما يعتبر في العرف عملا انسانيا كما يتوهم فان ذلك لا يفيد يوم القيامة مهما كان الانسان مخلصا في عمله ومحبا للبشر ونافعا لهم ومساعدا للفقراء والايتام الى غير ذلك من الاعمال الصالحة في نظر العرف.

وهذا بالطبع ممّا لا تستسيغه الطباع البشرية في ثقافة اليوم ولكنه هو الحق المرّ والسر فيه أن من يخدم البشرية يحق له التوقع من المجتمع البشري ان يعرفوا قدره ومكانته اما ان يجازيه الله تعالى ويدخله جنته فليس من حقه لانه لم يقصد التقرب الى الله تعالى في عمله.

وقوله (وعمل صالحا) بتقديرالمفعول اي وعمل عملا صالحا والصلوح يختلف حسب موارد استعماله ولذلك يحمل في قوله تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ..)[21] على الصلاحية للزواج لا على ما يتبادر من الكلمة من التقوى والورع.

وقد يراد الصلوح لدخول الجنة فحسب كما في قوله تعالى (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ)[22] فان المراد هنا ان المؤمنين الموصوفين باوصاف خاصة في الآيات السابقة يدخلون جنات عدن ويلحق بهم وبشفاعتهم آباؤهم وازواجهم وذرياتهم اذا كانوا يصلحون لدخول الجنة وان لم يستحقوها باعمالهم بان لا يكونوا كفارا او منافقين او ممن يلحق بهم في العقيدة او العمل.

والمراد به هنا حسب القرينة الحالية صلاحية العمل لكسب رضا الله تعالى ونيل ثوابه ودخول جنته والمعروف أن هذا لا يعرف الا من جهة الشرع فلا ينطبق العمل الصالح الا على ما امر به الشارع وجوبا او ندبا.

ولكن ربما يخطر في البال سؤال في هذا المقام لم اجد من تعرض له وهو أن الله تعالى لم يذكر في هذه الموارد وهي كثيرة العمل باحكام الشرع او بما امر الله به ونحو ذلك بل كرر في كل الموارد التعبير بالعمل بالصالحات فما هو السر في اختيار هذا التعبير؟

لعل الوجه في ذلك أن الصلوح له معنى أعم مما ورد في الشرع فربما لا يهتدي الانسان الى الحكم الشرعي ويكون معذورا في ذلك ولكنه بفطرته وضميره الحيّ يهتدي الى ما هو الصالح في مقام العمل بمعنى انه مقرِّب الى الله تعالى ويقصد به القربة فان الآية تشمله وان لم يكن موافقا للشرع مع كونه معذورا. ونحن لا نعلم المقاييس التي بها يستحق الانسان النار والجنة ولعل الله تعالى يحاسب كثيرا من الناس يوم القيامة بما حكمت به ضمائرهم.

 ثم ان هذا التعبير بظاهره يشمل المؤمن حتى لو عمل عملا واحدا يصلح لكسب رضا الله تعالى ولا شك أنه غير مقصود كما أن ما ورد في كثير من الموارد من الجمع المحلى باللام المفيد للاستغراق اي (وعملوا الصالحات) غير مقصود بظاهره ايضا اذ لا يبقى له مصداق الا المعصومين عليهم السلام ولا يوجد في المؤمنين من لا يترك حتى عملا صالحا واحدا مما تتيح له الفرص الاتيان به.

فيقع السؤال هنا في جهتين:

الجهة الاولى في انه ما هو وجه التنكير في هذه الآية وامثالها مما يوهم كفاية عمل واحد؟

والجواب انه لعل الوجه في ذلك اختلاف درجات الصلوح حسب اختلاف درجات الايمان فما يتوقع من المعصوم الذي أنعم الله عليه بأعلى النعم لا يتوقع من غيره وهكذا ما يتوقع من العالم ليس كما يتوقع من الجاهل وهكذا في سائر الدرجات ولذلك قيل (حسنات الابرار سيئات المقربين).

والحاصل أنه ليس بالضرورة ان يعمل المؤمن ما هو الاصلح في كل مورد وانما يجزيه ان يعمل ما هو الصالح حسب وسعه قال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).[23]

ولكن لا يراد به عمل واحد قطعا بل حتى مجموعة اعمال ايضا وانما المطلوب أن يأتي في كل مورد بما هو الصالح. وخصوصا بملاحظة قوله تعالى (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[24] حيث يدل على انهم لا يستحقون الجنة بعملهم مع انهم عملوا صالحا بل ظاهره انهم عملوا بمجموعة من الصالحات ليصدق الخلط.

الجهة الثانية: أن العمل بالصالحات هل يراد به جميعها كما هو ظاهر الجمع المحلى بالالف واللام حتى لا يستحق الجنة الا من عمل بجميع الواجبات الشرعية ولم يأت بسيئة اطلاقا؟

لا شك أنه ليس هو المقصود من هذه العبارة خصوصا بملاحظة قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ..)[25] حيث يدل على ان العمل بالصالحات لا ينافي وجود بعض السيئات في صحيفة اعماله.

بل هناك ما يدل بصراحة على كفاية العمل ببعض الاعمال الصالحة قال تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)[26] فان (من) تبعيضية وتدل على أن من يعمل بعض الصالحات يدخل الجنة وقد التزم به كثير من المفسرين منهم الشيخ الطوسي من القدماء والعلامة الطباطبائي من المتاخرين. وذهب بعضهم كالطبرسي الى ان (من) زائدة وهو بعيد اذ ليس هذا من موارده.

والظاهر أن الابهام مقصود في الآيات بأجمعها وأن المناط في الاستحقاق هو ترك الكبائر والفواحش والاهتمام بالفرائض بمقدار الوسع والاستطاعة فيكون المراد بالعمل بالصالحات في جميع موارده هذا المعنى اي انه لا يعتبر العمل بالجميع ولا يكفي العمل بالبعض باطلاقه والنتيجة أن مناط الاستحقاق بدقة مما لا يعلمه الا الله تعالى.

وهكذا يبقى الانسان من حيث عمله بين الخوف والرجاء. وقد مر بعض التفصيل في بيان ذلك في تفسير الاية 25 من هذه السورة المباركة.   

واما قوله (فلهم اجرهم عند ربهم) فانه يفيد الضمان من الله تعالى لإيفائهم اجرهم وان ذلك لا يضيع عنده وذكر عنوان الرب يفيد ان ذلك مقتضى ربوبيته تعالى فهو رباهم الى ان بلغوا هذا المقام فلا بد من ترتب آثار هذه التربية الصالحة. والتعبير باجرهم ابهام يفيد معنى العظمة وانه اجر لا يعرف حدوده الا الله تعالى فلا يمكن ذكر تفاصيله.

واما الخوف والحزن فالخوف انما يكون مما سيحدث في المستقبل والانسان دائما يخاف مما يمكن ان يعرض له من حوادث في الدنيا كما يخاف من المستقبل المجهول بعد الموت حتى من لا يؤمن بالاخرة لانه لا يملك دليلا قاطعا على نفيها.

والحزن يكون دائما على ما فات الانسان من خير وسعادة والانسان بطبيعته يحزن في الدنيا على كل ما فاته من منافع مادية واهل العلم والمعرفة يحزنون على ما يفوتهم من منافع معنوية وهكذا كل انسان حسب فكره وثقافته.

واما في الآخرة فيحزن الانسان على ما ضيّعه من عمره في الدنيا فلم يعمل لاخرته قال تعالى (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)[27] ولذلك سمي يوم القيامة بيوم الحسرة قال تعالى (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ..).[28]

والظاهر أن الحسرة يوم القيامة تعم الصالحين ايضا فالذي لم يعمل لآخرته سيكون في غاية الحزن والكآبة والمؤمن ايضا يتحسر على عدم استكثاره من الخير. ولو كان يعلم بوضوح ما يكتسبه من الثواب بالعمل الصالح ما كان يعمل لدنياه الا بمقدار الضرورة واين هذا مما نحن فيه؟؟!!

ويلاحظ في هذا التعبير المتكرر في القرآن الكريم أنه لا ينفي منه الخوف بل هناك آيات تثبت الخوف لخواص المؤمنين كما في قوله تعالى (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا)[29]  والآية نازلة بشأن اهل البيت عليهم السلام بل تثبت الخوف للملائكة الكرام كقوله تعالى (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[30] وانما تنفي الآية الخوف عليه فهو في حالة لا يخاف عليه مما يحدث له في مستقبل الدنيا لان كل ما فيها زائل ولا تصيبه شيء الا باذن الله تعالى ولا من تبعات اعماله يوم القيامة لانه محفوف فيه برحمته تعالى.  

ولا يحزن ايضا على ما مضى من شؤون الدنيا لا في الدنيا لانه يعلم انها زائلة بكل ما فيها من ضراء وسراء فلا يهمه منها شيء ولا في الآخرة لانه عمل في الدنيا بما استوجب سعادته الابدية. ولذلك قال تعالى (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).[31]

 

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ...

يعود السياق في هذه الآية الى تنبيه بني اسرائيل بما كان منهم في العهود السابقة. وهذه القصة مذكورة في عدة مواضع من الكتاب العزيز.

قال تعالى في نفس هذه السورة (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).[32]

وقال في سورة النساء ضمن مجموعة من مخالفاتهم (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا).[33]

وفي سورة الاعراف ضمن ايات مشابهة (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).[34]

انما الكلام في المراد بهذا الميثاق وهناك آيات عديدة ورد فيها ذكر اخذ الميثاق من بني اسرائيل في امور متعددة منها في نفس هذه السورة قال تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ)[35] وغيرها من الايات.

وفي بعض التفاسير ان المراد بالميثاق في هذه الآية هو نفس هذه المواثيق المذكورة في سائر الايات وأن رفع الجبل انما كان بعد قبولهم الميثاق قال في المنار (فَرَفْعُ الطُّورِ وَظَنُّهُمْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي رَأَوْهَا بَعْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ..).

وكذا في تفاسير اخرى حيث فسروا الميثاق بسائر ما ورد من المواثيق فكأنه تعالى أراد ان يريهم آية ويطلب منهم ان يتمسكوا بتلك المواثيق السابقة.

ولكن يبدو أن هذا الميثاق يختلف عن سائر المواثيق بل هو مرتبط برفع الطور فوقهم ويظهر ذلك بوضوح من قوله تعالى في سورة النساء (ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم) اي بسبب ميثاقهم ومن اجله. وفي المجمع اي بسبب نقضهم لميثاقهم. وهو بعيد.

والظاهر أن المراد بهذا الميثاق هو قوله تعالى (خذوا ما آتيناكم بقوة) ولذلك لم ترد هذه الجملة مسبوقة بالقول بان يقول مثلا (وقلنا خذوا..) مما يدل على أنه هو نفس الميثاق المأخوذ منهم وهو نفس ما هدّدهم الله تعالى عليه.

والطور إما هو اسم للجبل الخاص اي طور سيناء الذي نزل عنده الوحي على سيدنا موسى عليه السلام او بمعنى الجبل بوجه عام فما ورد في هذه الآية غير معلوم بشخصه ولا يهم ذلك في الغرض من الآية.

انما الكلام في معنى رفع الجبل فوقهم فالظاهر منه أنه تهديد بعذاب ينزل عليهم ولذلك قال في سورة الاعراف (وظنوا أنه واقع بهم) وفسرت هذه الجملة بانهم ظنوا سقوطه عليهم والتهديد واضح من رفعه عليهم كأنه ظلة اي كأنه سحابة او سقف يظللهم.

فالظاهر صحة ما ورد في عدة من التفاسير القديمة ومنها تفسير القمي وتبيان الشيخ الطوسي.

قال الشيخ قدس سره (وكان سبب رفع الجبل عليهم ان موسى عليه السلام لما أتاهم بالتوراة ووقفوا على ما فيها من الأحكام والحدود والتشديد في العبادة أبوا أن يقبلوا ذلك وان يتمسكوا به وان يعملوا بما فيه. وقالوا: إن ذلك يغلظ علينا، فرفع اللَّه الجبل كالظلة عليهم وعرفهم موسى انهم إن لم يقبلوا التوراة ولم يعملوا بما فيها وقع عليهم فأخذوا بالتوراة وقبلوا ما فيها وصرف اللَّه نزول الجبل عليهم..).

ولكن هناك محاولات من بعض المفسرين لتأويل الآيات بامور طبيعية كما قال في المنار (وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ بِضَرْبٍ مِنَ الزِّلْزَالِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِالنَّتْقِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الزَّعْزَعَةِ وَالنَّفْضِ).

وقال ايضا (وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) لَيْسَ نَصًّا أَيْضًا فِي كَوْنِ الْجَبَلِ رُفِعَ فِي الْهَوَاءِ. فَأَصْلُ النَّتْقِ فِي اللُّغَةِ: الزَّعْزَعَةُ وَالزَّلْزَلَةُ.. (الى ان قال) فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا بِجَانِبِ الطُّورِ رَأَوْهُ مَنْتُوقًا أَيْ مُرْتَفِعًا مُزَعْزَعًا فَظَنُّوا أَنْ سَيَقَعُ بِهِمْ، وَيَنْقَضُّ عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَثَرِ زِلْزَالٍ تَزَعْزَعَ لَهُ الْجَبَلُ، وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِ كَوْنِ ذَلِكَ إِرْهَابًا لِلْإِكْرَاهِ عَلَى قَبُولِ التَّوْرَاةِ، وَإِذَا صَحَّ هَذَا التَّأْوِيلُ، لَا يَكُونُ مُنْكِرُ ارْتِفَاعِ الْجَبَلِ فِي الْهَوَاءِ مُكَذِّبًا لِلْقُرْآنِ).

ومن الغريب انه نسي ما قاله هنا في تفسير سورة الاعراف فاعترف بانه رفع فوقهم فقال (أَيْ رَفَعْنَاهُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ زَلْزَلْنَاهُ وَهُوَ مَرْفُوعٌ فَوْقَهُمْ مُظَلِّلٌ لَهُمْ كَمَا يُقَالُ نَتَقَ السِّقَاءُ إِذَا هَزَّهُ وَنَفَضَهُ لِيُخْرِجَ مِنْهُ الزُّبْدَةَ. قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ اقْتَلَعَهُ وَجَعَلَهُ فَوْقَهُمْ). ولم ينف هنا هذا الاحتمال بل دافع عنه.

وأغرب منه ما ورد في التحرير والتنوير في المقامين حيث قال هنا (انَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَعْمَلُوا بِالشَّرِيعَةِ وَذَلِكَ حِينَمَا تَجَلَّى اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الطُّورِ تَجَلِّيًا خَاصًّا لِلْجَبَلِ فَتَزَعْزَعَ الْجَبَلُ وَتَزَلْزَلَ وَارْتَجَفَ وَأَحَاطَ بِهِ دُخانٌ وَضَبَابٌ وَرُعُودٌ وَبَرْقٌ... فَلَعَلَّ الْجَبَلَ مِنْ شدَّة الزلازل وَمَا ظَهَرَ حَوْلَهُ مِنَ الْأَسْحِبَةِ وَالدُّخَانِ وَالرُّعُودِ صَارَ يَلُوحُ كَأَنَّهُ سَحَابَةٌ (الى ان قال) وَلَيْسَ فِي كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَلَعَ الطُّورَ مِنْ مَوْضِعِهِ وَرَفَعَهُ فَوْقَهُمْ وَإِنَّمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي أَخْبَارٍ ضِعَافٍ فَلِذَلِكَ لَمْ نَعْتَمِدْهُ فِي التَّفْسِيرِ).

وقال في تفسير سورة الاعراف (وَالنَّتْقُ: الْفَصْلُ وَالْقَلْعُ. وَالْجَبَلُ الطُّورُ. وَهَذِهِ آيَةٌ أَظْهَرَهَا اللَّهُ لَهُمْ تَخْوِيفًا لَهُمْ، لِتَكُونَ مُذَكِّرَةً لَهُمْ، فَيَعْقُبُ ذَلِكَ أَخْذُ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ بِعَزِيمَةِ الْعَمَلِ بِالتَّوْرَاةِ، فَكَانَ رَفْعُ الطُّورِ مُعْجِزَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَصْدِيقًا لَهُ فِيمَا سَيُبَلِّغُهُمْ عَنِ اللَّهِ..).

وربما يناقش في هذا التفسير بأنه يستلزم اكراههم على قبول الميثاق والايمان بما نزل عليهم في التوراة وهو ينافي قوله تعالى (لا اكراه في الدين) ونحوه.

وحاول الرازي الجواب بأنه لا يوجب الالجاء وغايته الخوف من السقوط وهو يزول بعد مدة حيث يرون انه لم يسقط كما ان السماء لم تسقط على الارض.

وهذا كلام سخيف اذ لا شك أن هذا اكراه ليس فوقه إكراه وكأنه توهم أن الاشكال هو لزوم الجبر وهو غير لازم لانهم بعد التخيير بين الهلاك باسقاط الجبل او قبول الميثاق اختاروا الميثاق فكانوا مختارين وهو صحيح ولكنه اختيار باكراه.

وقيل على ما في روح المعاني (كأنه حصل لهم بعد هذا الإلجاء قبول اختياري، أو كان يكفي في الأمم السالفة مثل هذا الإيمان).

وهو ايضا باطل كما قلنا لان الاختيار بالاكراه اكراه في النهاية واما حديث كفاية مثل هذا الايمان في الامم السالفة فمردّه الى القول بالنسخ في مثل هذه الامور الاساسية التي لا يمكن فيها النسخ وليس من قبيل الاحكام الفرعية التي تتغير بتغير الظروف.

وبذلك يتبين ضعف ما اختاره الالوسي بنفسه حيث قال (ان هذا كالمحاربة مع الكفار وأما قوله: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256] وقوله سبحانه: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99] فقد كان قبل الأمر بالقتال ثم نسخ به..).

والصحيح ان قوله تعالى لا اكراه في الدين وما يشبهه موضوعه العقيدة والايمان القلبي وهو مما لا يمكن الاكراه عليه والذي يحصل بمحاربة الكفار وبالتهديد بالعذاب كما حدث لبني اسرائيل انما هو التسليم للقانون النازل من السماء وان لم يؤمن الانسان بقلبه كما كان حال المنافقين في عصر الرسالة.

وهذا هو الجواب ايضا لمن يعترض على ما ورد من الامر بالقتل في بعض حالات الارتداد حيث يقال انه ينافي ما ورد من نفي الاكراه في الدين.

واما قوله تعالى (خذوا ما آتيناكم بقوة) فالمراد بالقوّة الجد والاجتهاد. ومثل هذا التعبير ورد في خطابه تعالى لسيدنا يحيى عليه السلام (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ).[36]

 والغرض منه تنبيههم على ان الهدف لا يحصل بمجرد الخلاص من الاسر والعبودية والخروج من مصر وانما انيطت بكم مسؤولية عظيمة وهي حمل الرسالة الالهية الى البشرية باجمعهم فلا بد من ان يبعث من بينكم رسل ينيرون الدرب للاجيال الاتية وهذا الامر لا يتم بالتسامح والتساهل والاشتغال بالملاهي والتمتع بملذات الحياة الدنيا بل لا بد من تشمير السواعد وترك المضاجع والمخادع والتمسك بما امر به الله تعالى بقوة وبذل الجهد لنشر احكام الشريعة والتضحية في سبيله وهذا ما فعله الصالحون منهم كما فعله الصالحون منا.

وروى العياشي في تفسيره مرسلا عن إسحاق بن عمار قال (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» أقوة في الأبدان أم قوة في القلوب قال فيهما جميعا).

والمعنى واضح فلا بد من العمل بقوة وبذل النفس والنفيس وفي نفس الوقت يجب ان يكون العمل خالصا لله وبعزم وتصميم مؤكد. وقوله (واذكروا ما فيه) الضمير في قوله (فيه) يعود الى (ما آتيناكم) والمراد به التوراة. فهذا امر بالذكر القلبي واللفظي لكتاب الله المنزل لان الذكر يشملهما.

والنتيجة ان الواجب على الانسان ان يكون متذكرا لميثاقه تعالى بصورة دائمة وباستمرار في كل حالاته لان ميثاقه تعالى لا يختص بحال دون حال بل يشمل جميع جوانب الحياة وكل ما يصدر من الانسان من فعل او ترك او قصد او حب او بغض اوغيرها.

ومن جهة اخرى تجب تلاوة الكتاب الالهي وحفظه بل ادمان تلاوته لتكون الالفاظ ثابتة في القلوب ويتبعها كل جوارح الانسان وجوانحه ولكي يبقى اللفظ في ذاكرة الامة والاجيال الاتية يتدارسونه ويتداولونه فيكون رمزا وأساسا لوحدتهم وتذللهم لله تعالى وشموخهم امام الثقافات البشرية البائسة. وكل هذا مقدمة لتحصيل التقوى من الله.

ولا شك أن ترتب التقوى على هذه الامور والوصايا ليس حتميا وانما هو امر مرجو ولذلك قال تعالى (لعلكم تتقون). وقد ذكرنا في موارد عديدة أن (لعل) لا تفيد معنى الرجاء حتى لا يصح اسناده الى الله تعالى بل معناه ان الارضية تصلح لتحقق التقوى.

قال الازهري في تهذيب اللغة (واُثبت عن الانباري انه قال لعل يكون ترجيا ويكون بمعنى كي ويكون ظنا..)[37] فالظاهر انها هنا بمعنى (كي).

 

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ...

التولي تفعل من ولي يلي والاصل فيه القرب يقال: الشيء يلي الشيء اي يأتي بعده مباشرة ولذلك استعير للمتابعة كأن التابع في الدين والعقيدة يمشي خلف متبوعه مباشرة كما في قوله تعالى (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)[38] ولكنه هنا يفيد العكس اي الاعراض بتقدير (عن) فالتولي اذا تعلق بالشيء بنفسه يفيد المتابعة اما اذا تعلق بتوسط (عن) او تقديره كما هنا فانه يفيد الاعراض والتباعد.

والمراد أنهم بعد أخذ هذا الميثاق الغليظ منهم مشفوعا بهذه الآية والتهديد أعرضوا عن الميثاق ولم يتبعوه. وهو غريب جدا. والظاهر أنه اشارة الى كل ما كان منهم من مخالفة الاوامر والنواهي التي تاتيهم من قبل رسولهم موسى عليه السلام واعظم شيء صدر منهم عبادتهم للعجل. 

ومع ذلك فانه تعالى بعد توبتهم منّ عليهم بفضله ورحمته وقبل توبتهم. والفضل هو الزيادة فاذا دفع الانسان لأجيره زيادة على ما يستحقه من اجرة فهو فضل وكل ما ينعم الله به على خلقه فضل اذ لا يستحق عليه احد شيئا.

والرحمة كما مر في تفسير سورة الفاتحة هي الاحسان والعطف وليست بمعنى رقة القلب كما ورد في كلمات بعضهم لنحتاج الى التأويل في اسناده الى الله تعالى. ولا شك انه لولا ما ادركهم من فضله تعالى ورحمته لكانوا خاسرين بسبب تعنتهم وعبادتهم للعجل وايذائهم للرسول. والخسران النقص ويستعار به لما يرد على الانسان بكفره وضلاله من غضب الله تعالى وعذابه في الدنيا والاخرة.

 

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ...

وهذا تذكير لهم وتمثيل للخسران الوارد على بعضهم حيث ان قوما منهم أصابهم العذاب بمخالفتهم لحكمه تعالى في يوم السبت وهذه قصة معروفة منهم ذكرها الله تعالى في عدة مواضع من الكتاب العزيز وبتفصيل اكثر في سورة الاعراف.

قال تعالى (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).[39]

وقد عدّ الله تعالى قصة السبت ومنعهم من الاعتداء فيه ضمن المواثيق المهمة التي اخذت منهم فخالفوها كما في قوله تعالى (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا).[40]

والظاهر أن الوجه في قوله (ولقد علمتم) الاشارة الى انها قضية معروفة عندهم وان لم تكن مذكورة في كتبهم ولذلك لم يعترض احد منهم على الرسول صلى الله عليه واله وسلم ولم يكذّب هذه القصة ويبدو أنهم كانوا يحاولون التغافل عنها ونسيانها ولذلك لم ترد في كتبهم.

ولذلك ايضا اظهروا تألّمهم لما خاطبهم الرسول صلى الله عليه واله وسلم في محاصرة بني قريظة (يا إخوة القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ فقالوا يا أبا القاسم ما كنت جهولا).[41]

وهذا من اعجاز القرآن الكريم فانهم ما كانوا يظهرون ذلك ولا ورد في كتبهم فمن اين علمه الرسول صلى الله عليه واله وسلم ان لم يكن وحيا منزلا؟!.

والمراد باعتدائهم في السبت أنهم كانوا يصطادون السمك فيه وكما يبدو من سورة الاعراف كانت هناك قرية اي منطقة تجمع انساني على شاطئ البحر فكان صيد السمك مهنة عامة فيهم ويقال انها أيلة وأن القصة وقعت في عهد داود عليه السلام ولا دليل على شيء من ذلك.

ويبدو من الآيات أن الصيد كان محرّما عليهم او على الجميع يوم السبت ويمكن ان يكون التحريم بسبب بعض اعمالهم كما ورد في قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ..).[42]  وكذلك في قوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا).[43]

ويحتمل ان المحرم كان كل عمل للدنيا يوم السبت وعلى جميع بني اسرائيل باعتبار انه يوم عطلة ويوم عبادة. والسبت في الاصل بمعنى الراحة او الانقطاع ومنه قوله تعالى (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا)[44] اي راحة او انقطاعا عن العمل واطلق على يوم من الاسبوع لأنه كان يوم عطلة اليهود كالجمعة للمسلمين والاحد للنصارى.

ولكن اليهود كانوا يعتقدون أن الله تعالى خلق السماوات والارض في ستة أيام واستراح يوم السبت او انقطع فيه عن الخلق وانه لذلك اصبح يوم عطلة.

ومن الواضح أن الايام لم توجد يوم خلق الله الكون فانها وليدة دوران الارض ولم توجد الارض ولا سائر النجوم والكواكب في تلك المرحلة مع ان تقسيم الايام الى اسابيع اعتبار بشري وليس امرا حقيقيا.

ومن المؤسف أن كثيرا من مصنفي المسلمين تبعوهم في كتبهم وصنعوا على هذا الاساس أحاديث بل قال بعضهم إن اهل العلم اتفقوا على ذلك!!! وكأنه أمر شرعي يستدل عليه بالاجماع!

وهذه الاحاديث اصلها مما يدعى بالاسرائيليات التي انتشرت بين المسلمين عن طريق بعض اليهود الذين أظهروا الاسلام وهم لم ينسبوها الى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وانما نشروها كمعلومات مستوحاة من الكتب التي لديهم ولكن الرواة تلقوها كأحاديث ولعل ذلك باعتبارهم صحابة!!

والقرآن يردّ على دعوى اليهود قال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ).[45] واللغوب: التعب. فالله تعالى لا يتعب من شيء ولا يؤثر عليه شيء ولا يحتاج الى راحة.

ولعل ما ورد في كتبهم في الاصل هو خلق السماوات والارض في ستة ايام كما ورد في القرآن الكريم ففسروها بعقولهم كما توهم المفسرون المسلمون ايضا ذلك ومن الواضح أن المراد بالايام هنا ستة مراحل من الخلق لا الايام حسبما نعرفها.

ومن الغريب ما ادعاه بعض المستشرقين من أن كاتب القرآن كان فهمه ساذجا حتى في ابسط عمليات الجمع وذلك لقوله تعالى (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) الى ان يقول (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ)[46] ويقول (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ)[47] فمجموع الايام ثمانية وليست ستة كما ورد في عدة موارد.

ولم ينتبه المسكين الى معنى اليوم ولا الى انه لايمكن ان يقال بشأن خالق هذا الكتاب العظيم الذي دانت له اعناق العلماء طيلة القرون المتمادية انه يجهل جمعا كهذا.

ومهما كان فان اصحاب هذه القرية كانوا يخالفون الحكم الشرعي ويصيدون السمك يوم السبت والله تعالى ابتلاهم بأن جعل السمك في متناول ايديهم يوم السبت بكثرة وفي غيره من الايام لا يجدون منه شيئا ولعلهم كانوا يجدون القليل منه كما ورد في سورة الاعراف وهذا الابتلاء ايضا كان جزاءا لبغيهم كما قال تعالى (كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).

ولكن بعض المفسرين كعادتهم يحاولون تأويل النصوص قال في المنار في تفسير سورة الاعراف (قِيلَ: إِنَّهَا اعْتَادَتْ أَلَّا يَتَعَرَّضَ أَحَدٌ لِصَيْدِهَا يَوْمَ السَّبْتِ، فَأَمِنَتْ وَصَارَتْ تَظْهَرُ فِيهِ، وَتَخْفَى فِي الْأَيَّامِ الَّتِي لَا يَسْبِتُونَ فِيهَا لَمَّا اعْتَادَتْ مِنِ اصْطِيَادِهَا فِيهَا، فَلَمَّا رَأَوْا ظُهُورَهَا وَكَثْرَتَهَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ أَغْرَاهُمْ ذَلِكَ بِالِاحْتِيَالِ عَلَى صَيْدِهَا فَفَعَلُوا). وهذا كلام غريب وكأنّ السمك تعرف الايام.

وقال ابن عاشور في تفسير هذه الاية (لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تَرَ سُفُنَ الصَّيَّادِينَ وَشِبَاكَهُمْ أَمِنَتْ فَتَقَدَّمَتْ إِلَى الشَّاطِئِ تَفْتَحُ أَفْوَاهَهَا فِي الْمَاءِ لِابْتِلَاعِ مَا يَكُونُ عَلَى الشَّوَاطِئِ مِنْ آثَارِ الطَّعَامِ وَمِنْ صَغِيرِ الْحِيتَانِ وَغَيْرِهَا فَقَالُوا لَوْ حَفَرْنَا لَهَا حِيَاضًا وَشَرَعْنَا إِلَيْهَا جَدَاوِلَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَتُمْسِكُ الْحِيَاضُ الْحُوتَ إِلَى يَوْمِ الْأَحَدِ فَنَصْطَادُهَا وَفَعَلُوا ذَلِكَ فَغَضِبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ).

ولكن الظاهر من الاية كما بينا انه ابتلاء من الله تعالى وكأنّ بعض الناس يستبعد أن يكون الحيوان او الجماد يمتثل أوامر الله التكوينية!! وقد ورد مثل هذا الابتلاء في المسلمين ايضا قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ..).[48]

ونزل العذاب من الله تعالى على أهل تلك القرية على أثر ذلك فمسخوا قردة. فقوله تعالى (فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) أمر تكويني يستتبع المأمور به قطعا فتحولوا قردة. وخاسئ بمعنى المطرود والمبعد يقال خسأت الكلب اي طردته. وهو يأتي متعديا ولازما تقول (خسأت الكلب فخسأ وهو خاسئ) ومعنى طردهم بعد المسخ أنه تعالى لا يقبل منهم تضرعا وتوبة. وقوله (خاسئين) خبر ثان اي كونوا قردة وكونوا خاسئين.

وورد التعبير عن هذا المعنى اي الخسوء والطرد في موضع اخر باللعن حيث قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)[49] فاللعن في هذه الآية بمعنى الطرد والخسوء. والخطاب في هذه الآية لبني اسرائيل في عهد الرسول صلى الله عليه واله وسلم.

وهنا ايضا حاول بعضهم التأويل فحكي عن مجاهد أنه قال (لَمْ يُمْسَخُوا قِرَدَةً وَلَكِنَّهُ كَقَوْلِهِ "كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا" [50] وروى الطبري عنه بسنده انه قال (مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا).[51]

وردّ عليه الطبري بانه مخالف لظاهر القرآن ولقوله تعالى (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ..).[52]

ولكن صاحب المنار أيّده في جميع المواضع وقال هنا (وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ صُوَرَهُمْ مُسِخَتْ فَكَانُوا قِرَدَةً حَقِيقِيِّينَ وَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِيهِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا النَّقْلُ وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِي الْآيَةِ عِبْرَةٌ وَلَا مَوْعِظَةٌ لِلْعُصَاةِ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ بِالْمُشَاهَدَةِ أَنَّ اللهَ لَا يَمْسَخُ كُلَّ عَاصٍ فَيُخْرِجُهُ عَنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ).

ويقصد بذلك الاشارة الى الاية التالية حيث تدل على ان العذاب نكال وعبرة للاخرين فيقول لو كان العذاب هو المسخ لم يكن فيه عبرة وموعظة لان الناس يعلمون ان الله تعالى لا يمسخ كل عاص.

ولو صح هذا الاحتجاج لم يكن في عذاب اي قوم من السابقين عبرة لانا لم نجد غيرهم ممن ارتكب نفس الاثام ان ينزل عليهم مثل ذلك العذاب فعمل قوم لوط متداول في مجتمعات كثيرة ولم ينزل عليهم العذاب.

مضافا الى أن مسخ القلوب او كما قال (فَكَانُوا بِحَسبِ سُنَّةِ اللهِ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ وَأَخْلَاقِهِ كَالْقِردَةِ الْمُسْتَذَلَّةِ الْمَطْرُودَةِ مِنْ حَضْرَةِ النَّاسِ) ليس مما يعتبر به الناس ولا يتبين لاحد أنه عذاب من الله تعالى بل لا يشعر به احد.

ويدل على كون المسخ حقيقيا تكرر هذا التعبير بالنسبة لهم في سورة الاعراف ايضا وعبر عنه فيها انه عذاب بئيس ومسخ القلوب لا يعتبر في العرف بهذه المثابة.

ويقول ابن عاشور مع انه لا يردّ المسخ ان القول الاخر اقرب للتاريخ (إِذْ لَمْ يُنْقَلْ مَسْخٌ فِي كُتُبِ تَارِيخِ الْعِبْرَانِيِّينَ).

والجواب أن كتبهم لا تنقل اصل القصة أساسا فلا اعتبار بنقلها ولا بعدمه وقد مرّ الكلام حول كراهة اليهود ذكر هذه القصة ومحاولتهم نسيانها.

ومسخهم قردة ليس بمعنى تحول حقائقهم الى الحيوان والا لكان ذلك خيرا لهم فانهم لا يحاسبون يوم القيامة ولا شك أن الكافر بل كل من يستحق النار يوم القيامة يتمنى لو كان الله تعالى يمسخه حيوانا لئلا يعذب. بل معناه أنهم أصبحوا في الظاهر قردة وهم في الواقع بشر في أنفسهم.

والانسان حقيقته بروحه ونفسه البشرية لا بجسمه ولذلك لا تتبدل شخصيته مهما تبدل جسمه ومن المعلوم ان هذا الجسم تتبدل خلاياه بل يتبدل ظاهره ايضا ومع ذلك فالانسان هو الانسان حتى لو فرض تبديل كل اعضاء جسمه بجسم انسان اخر تدريجا فانه يبقى نفس الانسان وعليه نفس المسؤوليات وله نفس الدرجات.

وقد ورد في الروايات ان المسوخ كانوا يموتون بعد ثلاثة ايام وهناك روايات كثيرة في كتب الفريقين حول انواع الحيوانات التي هي من المسوخ بمعنى ان بعض البشر مسخوا على شكلها ولا يعني ذلك ان ما نراه من هذا الحيوان ممسوخ بل الحيوان سابق على المسخ وانما كان المسخ يتحقق على شكل الحيوان في الظاهر.

ولم اجد في الروايات التي من طرقنا ما يعتمد عليه في عدّ المسوخ وقد ورد في بعضها أنها ثلاثة عشر منها ما رواه الصدوق قدس سره عن جعفر بن محمد عليهما السلام - في حديث - أنه قال (المسوخ ثلاثة عشر: الفيل والدب والأرنب والعقرب والضب والعنكبوت والدعموص والجرّي والوطواط والقرد والخنزير والزهرة وسهيل...).[53]

والدعموص بضم الدال على ما في الجمهرة (دودة سوداء تكون في الماء الآجن). والجرّي على وزن ذمّي نوع من السمك يعيش في المياه العذبة وهو محرّم عندنا لانه ليس مما له فلس. والوطواط: الخفاش. وقيل انه يطلق على نوع من الخطاف ايضا.

واما الزهرة وسهيل فالظاهر منهما هو النجمان المعروفان وهو امر غريب جدا ان يتحول الانسان نجما كعقوبة ولكن الشيخ الصدوق رحمه الله له كلام حولهما:

قال رحمه الله في الخصال (الناس يغلطون في الزهرة وسهيل فيقولون إنهما نجمان وليسا كما يقولون ولكنهما دابتان من دواب البحر سميتا باسمي نجمين في السماء كما سميت بروج في السماء بأسماء حيوان في الأرض مثل الحمل والثور والجوزاء والسرطان والعقرب والحوت والجدي وكذلك الزهرة وسهيل وإنما غلط الناس فيهما دون غيرهما لتعذر مشاهدتهما والنظر إليهما لأنهما دابتان في البحر المطيف بالدنيا بحيث لا تبلغه سفينة ولا تعمل فيه حيلة وما كان الله عز وجل ليمسخ العصاة أنوارا مضيئة يهتدى بها في البر والبحر ثم يبقيهما ما بقيت السماء والأرض والمسوخ لم تبق أكثر من ثلاثة أيام حتى ماتت ولم تتوالد). ثم قال (حكيت لي هذه الحكاية عن أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي رضي الله عنه). [54]

والاسدي هذا من الثقات الاجلاء ومن وكلاء محمد بن عثمان العمري النائب الثاني لصاحب الزمان عليه السلام وعجل الله فرجه. ولكن لم اجد في كتب اللغة ما يؤيد هذا الاحتمال مضافا الى ان الدواب التي لا يعرفها الناس كيف جعلوا لها اسما؟!

 

فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ...

اي فجعلنا القرية المذكورة نكالا وعبرة لسائر الناس الذين كانوا في ذلك العصر وهو المراد بما بين يديها لان هذا التعبير يرد فيما يكون امام الانسان والمراد بمن خلفها الذين يأتون بعدهم من الناس.

والنكال اسم مصدر بمعنى التنكيل وهو في الاصل بمعنى القيد واللَّجْم ومنه النِّكْل بكسر النون وهو لجام الدابة ومنه ايضا النُكول بمعنى الامتناع ويعبّر به عن العذاب الذي يمنع الانسان من تكرار جريمته ويمنع غيره ايضا من نفس العمل.

وكون هذه العاقبة موعظة للمتقين باعتبار انهم هم الذين يتأثرون بها أما غيرهم فلا يعتبرون بالعبر. فالمتقون هم الذين يعتبرون بهذه المواعظ ويزيدون تقوى وخشية من الله وابتعادا عن المحرمات والشبهات. والموعظة مصدر ميمي من الوعظ وهو - كما في كتاب العين - التذكير بالخير في ما يرقّ له القلب. وهو ايضا تحذير عن الشر بطريقة مؤثرة من الترغيب والترهيب.

 


[1] المائدة : 69

[2] البقرة: 111 - 112

[3] البقرة: 80 - 81

[4] ال عمران: 75

[5] النساء: 123 - 124

[6] pluralism

[7] البينة: 1

[8] ال عمران : 81 - 82

[9] ال عمران: 85

[10] الشورى: 13

[11] المنار ج1 ص 277

[12] الميزان ج 1 ص 192

[13] الاعراف: 156

[14] يوسف: 33

[15] الملل والنحل ج2 ص 54

[16] المائدة: 69

[17] الفقيه ج3 ص 47

[18] الكافي ج 7 ص 4 باب الاشهاد على الوصية

[19] الكافي ج3 ص 568 باب صدقة اهل الجزية

[20] صحيح البخاري ج4 ص 62 باب دعاء النبي صلى الله عليه واله وسلم الى الاسلام

[21] النور : 32

[22] الرعد: 23

[23] الاعراف: 42

[24] التوبة: 102

[25] العنكبوت: 7

[26] النساء: 124

[27] الفجر : 23 - 24

[28] مريم : 39

[29] الانسان : 10

[30] النحل : 50

[31] يونس : 62 - 64

[32] البقرة: 93

[33] النساء: 154

[34] الاعراف: 171

[35] البقرة: 83

[36] مريم : 12

[37] تهذيب اللغة ج 1 ص 79 في علل

[38] المائدة: 56

[39] الاعراف : 163 - 166

[40] النساء : 154

[41] بحار الانوار ج 20 ص 210

[42] الانعام : 146

[43] النساء : 160

[44] النبأ : 9

[45] ق: 38

[46] فصلت : 9 - 10

[47] فصلت : 12

[48] المائدة : 94

[49] النساء : 47

[50] تفسير مجاهد ج1 ص 205 على ما في المكتبة الشاملة

[51] جامع البيان ج 2 ص 173

[52] المائدة : 60

[53] علل الشرايع ج 2 ص 486

[54] الخصال ص 495