مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ...

الواو لعطف الجملة على الجملة وسياق الآيات مستمر في خطاب بني اسرائيل. و(اذ) ظرف لفعل مقدر اي واذكروا اذ قال.. وهو عطف على مثيلاتها السابقة مما يذكّرهم الله تعالى بها من نعمه التي انعمها عليهم فكفروا بها.

وهذه الآيات تذكر قصة بقرة بني اسرائيل التي من اجلها سميت هذه السورة بسورة البقرة. والقصة لم تذكر بترتيب الحوادث كما هو الحال في كثير مما ورد في القران وانما قدم ذكر موضوع متعلق بالقصة في المقدمة ثم اُشير الى اصل القصة.

وقد وردت بشأن هذه الآيات رواية معتبرة نذكرها فيما يلي:  

روى الصدوق قدس سره بسند معتبر عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي قال سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول إن رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ثم اخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثم جاء يطلب بدمه فقالوا لموسى عليه السلام ان سبط آل فلان قتلوا فلانا فأخبرنا من قتله قال ائتوني ببقره (قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله ان أكون من الجاهلين) ولو أنهم عمدوا إلى اي بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر) يعنى لا صغيرة ولا كبيرة (عوان بين ذلك) ولو أنهم عمدوا إلى اي بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) ولو أنهم عمدوا إلى اي بقرة لأجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ان البقر تشابه علينا وانا ان شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لاشية فيها قالوا الآن جئت بالحق) فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل فقال لا أبيعها إلا بملء مسكها ذهبا فجاءوا إلى موسى عليه السلام فقالوا له ذلك فقال اشتروها فاشتروها وجاءوا بها فأمر بذبحها ثم أمر ان يضرب الميت بذنبها فلما فعلوا ذلك حيي المقتول وقال يا رسول الله ان ابن عمي قتلني دون من يدعى عليه قتلي فعلموا بذلك قاتله فقال رسول الله موسى بن عمران عليه السلام لبعض أصحابه ان هذه البقرة لها نبأ فقال وما هو قال إن فتى من بني إسرائيل كان بارا بأبيه وانه اشترى تبيعا[1] فجاء إلى أبيه ورأى أن المقاليد تحت رأسه فكره ان يوقظه فترك ذلك البيع فاستيقظ أبوه فأخبره فقال له أحسنت خذ هذه البقرة فهي لك عوضا لما فاتك قال فقال له رسول الله موسى بن عمران عليه السلام انظروا إلى البر ما بلغ باهله).[2]  

ويتبين من هذه الرواية بوضوح أن الاصل في هذه القصة ما دلت عليه قوله تعالى (واذ قتلتم نفسا..) وأنّ قصة البقرة انما كانت من اجل الكشف عن القاتل في قصة القتل ويمكن ان يكون الوجه في تقديم الحديث عن البقرة احد امرين:

الاول: تقديم ما يوجب تطلّع القارئ او السامع الى اصل الحادث حيث إن ذكر قصة البقرة يتطلب من القارئ ان يبحث عن السبب في هذا الطلب الغريب اي ذبح البقرة. وهذا هو ما يقصده كُتّاب القصص والروايات في عصرنا حيث يقدّمون على القصة جزءا من وسطها ليكون حافزا للقارئ في الاستمرار.

الثاني - وهو الاولى - أن القرآن لا يقصد بذكر القصص الا الاعتبار بها وفي قصة البقرة الاعتبار بكيفية تلقي بني اسرائيل لاوامر الرسول بل لاوامر الله تعالى وعدم احترامهم وتوقيرهم للرسول وسوء ادبهم في محادثته وهو امر مهم جدا ومحاولة التهرب عن الاطاعة بكثرة السؤال وغير ذلك من الملاحظات على القوم في هذه القصة.

ويتبين من الحديث ايضا ان قضية القتل المذكورة كانت لها آثار جانبية اجتماعية ولم تكن مجرد قتل انسان ظلما والا لحكم موسى عليه السلام بينهم بالبينة واليمين وسائر ما يستخدم في القضاء لمعرفة المجرم حسب شريعته وما كان الامر بذاته يتطلب اعجازا لمعرفة القاتل ومن الطبيعي أن مجتمعا قبليا كبني اسرائيل تكثر فيه هذه الحوادث ولا يمكن ان يلجأ الرسول في كل ذلك الى الاعجاز.  

ويستفاد منه ايضا أن تكرر السؤال من بني اسرائيل حول البقرة التي اُمروا بذبحها امر مذموم شرعا قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ).[3]

والمراد بقوله تعالى (تسؤكم) انكم تضيقون على انفسكم بكثرة السؤال واذا كان الله تعالى يريد التضييق والتقييد لقال في الامر الاول وقد روى القوم عن النبي صلى الله عليه واله وسلم (انه نهى عن القيل والقال وعن كثرة السؤال وعن اضاعة المال)[4] ولم اجد له مصدرا معتمدا في كتبنا.

وفي نهج البلاغة (إن الله افترض عليكم الفرائض فلا تضيعوها وحدد لكم حدودا فلا تعتدوها ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها). [5]

وقال في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ):

(وقيل خطب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقال إن الله كتب عليكم الحج فقام عكاشة بن محصن وقيل سراقة بن مالك فقال أفي كل عام يا رسول الله فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا فقال رسول الله ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم والله لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني كما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشي‏ء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شي‏ء فاجتنبوه).

وهذه الرواية مروية في كتب العامة رواها مسلم عن ابي هريرة[6] ولم ترد عن طرقنا.

ومهما كان فالمنع عن كثرة السؤال يختص بما اذا كان الاستفسار عن اصل التشريع ولذلك يختص بالسؤال عن الرسل واما السؤال عن حدود الحكم بعد تشريعه سواء من الرسول صلى الله عليه واله وسلم ام من الائمة عليهم السلام ام من اهل العلم فهو واجب بمقدار ما يحفظ المكلف من مخالفة التكليف المنجّز فان الجهل بالحكم ليس عذرا بذاته.

ويلاحظ ان القضية لم ترد في كتب اليهود وانما ورد امر مشابه والظاهر انه تحريف من الاصل فالقران هنا لا يكتفي بالتذكير بل يصحح الحديث فقد ورد في سفر التثنية ما هذا نصه:

(إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل فالمدينة القربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالنير وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه ولم يزرع ويكسرون عنق العجلة في الوادي ثم يتقدم الكهنة بنو لاوي لأنه إياهم اختار الرب إلهك ليخدموه ويباركوا باسم الرب وحسب قولهم تكون كل خصومة وكل ضربة ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي ويصرحون ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب ولا تجعل دم بري في وسط شعبك إسرائيل فيغفر لهم الدم فتنزع الدم البري من وسطك إذا عملت الصالح في عيني الرب).[7]

ومن الواضح ان القضية تختلف ولكن وجود التشابه بينهما ربما يكشف عن اصل هذه القضية ويتبين انها محرفة من الاصل الذي ورد في القران وهو مهيمن على كتبهم ويبين لهم اكثر الذي هم فيه يختلفون.

قال تعالى (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).[8] وقال ايضا (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ..).[9]

ويلاحظ انه عليه السلام لم يأمرهم بنفسه بل أخبرهم بأمره تعالى وهم يعلمون انه رسول الله ولا يكذب عليه ولكنهم لمرض في قلوبهم قالوا (اتتخذنا هزوا) والاتخاذ هو الجعل اعتبارا. والهزو بضمتين وضم وسكون مع الواو او الهمزة - كما هو الحال في كفوا - بمعنى السخرية وهو مصدر يراد به اسم المفعول اي اتجعلنا موردا للسخرية فقد اعتبروا رسالته عليه السلام استهزاءا بهم.

والسبب في هذا التوهم أن هذا الامر ورد في تعيين القاتل في قضية القتل الآتي ذكره. ولذلك ردّ عليهم بأن ذلك لا يكون من رسول يلجأ الى الله تعالى فقال (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) ومعنى هذه الاستعاذة انه ليس جاهلا بفضل الله تعالى وهو بذلك يعرّض ايضا بهم بأنهم جاهلون وهم الذين يسخرون ويستهزءون وهذا من الجهل. والرسول معصوم عنه بتوفيق من الله تعالى.

والجهل هنا ليس في مقابل العلم بل في مقابل العقل ومعناه السفاهة والعمل من دون رويّة وحكمة فان العقل ومعناه المنع يمنع الانسان الحكيم من ان يتّبع هواه وميوله الشخصية ولا يلاحظ سائر الشؤون والجاهل السفيه لا يعتني بشيء.

 

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ...

وهذه جهالة اخرى منهم في مواجهة الرسول وكان المفروض ان يذبحوا اي بقرة ولعلهم اختلقوا هذه الاسئلة بتوهم انه سوف ينحصر في عنوان لا يوجد له مصداق وبذلك يتركون الواجب من دون مؤاخذة.

ويحتمل ايضا ان يكون الغرض التهرب من كشف الحقيقة حيث علموا ان الغرض من ذبح البقرة كشف القاتل فلعل بعضهم كان يحاول التهرب من ذلك ولذلك ورد في اخر القصة قوله تعالى (وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).

ومن قلة أدبهم او ضعف ايمانهم لم يقولوا ادع ربنا بل قالوا ادع لنا ربك كأنهم يشكّون فيه او في ربوبيته لهم وانما هو الرب الذي تدعيه انت. ومثل هذا صدر عنهم في موارد اخرى ايضا كقولهم (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا..).[10] والله تعالى لا ينقل عنهم من توابع الكلام الا ما يترتب عليه أثر ويترتب على هذا ضعف الايمان بالله تعالى وبالرسول.

وليس غريبا عنهم وانما الغريب ان تقوله احدى امهات المؤمنين للرسول صلى الله عليه واله وسلم حيث قالت (ارى ربك يسارع في هواك)!!!

وحيث سألوا عن حقيقة الشيء بقولهم (ما هي) مع انهم علموا انها بقرة فيعلم من ذلك ان المراد السؤال عن اوصافها. فأجابهم موسى عليه السلام (انه يقول انها بقرة لا فارض ولا بكر) فأكّد بقوله (انه يقول) أن التفاصيل كلها من الله تعالى وليس منه.

وجاء الجواب من عنده تعالى انها لا فارض ولا بكر. وفي هذا ايضا تأكيد باستخدام (إنّ) ولعل الوجه في التأكيد وجوب الفحص عن مثل ذلك مع أنه لم يكن واجبا بذاته ولكن حيث سألتم بهذه الطريقة الخاطئة فقد ثبت عليكم التكليف عقوبة. 

وهناك اختلاف في تحديد الاصل في معنى الفارض قال الازهري في تهذيب اللغة أن الاصمعي قال (الفارض الضخم من كل شيء الذكر والانثى فيه سواء ولا يقال فارضة) وعن الفراء (الفارض: الهرمة والبكر الشابة). واكثر المفسرين واللغويين فسّروا الفارض بالمسنّة كما قال الفرّاء وهو المناسب لمقابلته بالبكر وهي - كما في العين - الفتية التي لم تحمل. والعوان: البقرة النَّصْف في سنها كما في العين ايضا.

وكلمة (لا) هنا بمعنى غير لان قوله (لا فارض) وصف للبقرة وكذلك (ولا بكر) و(عوان). وقيل يمكن ان يكون (فارض) خبرا تقديره (لا هي فارض ولا هي بكر).

وقوله (بين ذلك) اي بين ما ذكر من الكبر والصغر ومن هنا صحّ التعبير بالبينية مع انها لا تصدق الا مع الاضافة الى متعدد. واسم الاشارة وان كان للمفرد الا انه يشير الى امرين الفارض والبكر فهنا تعدد في المعنى. وانما أتى باسم الاشارة الخاص بالمذكر المفرد مع ان المشار اليه مؤنثان بتأويل شيء واحد مذكر ولذلك قدرنا ان يشير الى (ما ذكر).

وقوله (فافعلوا ما تؤمرون) يحتمل ان يكون من الله تعالى وأن يكون تعقيبا من موسى عليه السلام. والمراد به المنع من الاسترسال في السؤال عن خصائص اخرى وليكون تصريحا بكفاية ما ذكر من القيود. ولكنهم لم يطيعوا بل أصرّوا على السؤال عن اوصاف اخرى.

 

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ...

يلاحظ هنا ايضا تكرار كل ما ورد في السؤال السابق حيث طلبوا ان يدعو ربه ولم يغيروا تعبيرهم وهو ايضا أكد كلامه بحرف التأكيد (إنّ) في إسناد الحكم الى الله تعالى وفي بيان اصل الحكم.

والفاقع بمعنى الخالص كما في كثير من كتب اللغة وقال بعضهم انه بمعنى شديد الصفرة. ولعلهما واحد في المآل. وقوله (لونها) فاعل فاقع ولذلك جاء بالوصف مذكرا. وقوله تسرّ الناظرين صفة اخرى للبقرة اما باعتبار لونها اي انها بصفرتها الناصعة تسر الناظرين او انها تسر الناظرين بجمالها وجسمها فليست هزيلة ولا معيبة.

 

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ...

ومرة اخرى سألوا عن صفاتها وعللوا طلبهم بأن البقر تشابه عليهم ومعنى ذلك أن الاوصاف المذكورة موجودة في كثير من البقر ونريد ان نحدّد البقرة التي تفيدنا في معرفة القاتل مع أنه تعالى لم يحدد لهم بقرة خاصة والاثر لا يترتب على ذبح البقرة بصورة طبيعية وانما يتبع ذلك ارادة الله تعالى.

وقولهم وانا ان شاء الله لمهتدون يقصدون به انه مهما تضيّق المطلوب وجعل له قيود فانا ان شاء الله تعالى نهتدي اليه ونحصل عليه.

 

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا...

الذلول فعول من الذُّلّ وهو اللين والانقياد والصيغة للمبالغة يقال دابّة ذلول اي بيّنة الانقياد. وهذه الصفة تحصل للبقرة التي تعمل في مجال الحرث او السقي ونحوهما وحيث ان هذه صغيرة السن فلم تبلغ مبلغ البقرة العاملة.

وقوله تثير الارض صفة (ذلول) فيدخل عليها النفي اي ليست ذلولا تثير الارض. وإثارة الارض قلب ترابها مقدمة للزراعة. ولو قال وتسقي الحرث كان صحيحا ايضا لعطفه على تثير الارض ولكنه اعاد النفي للتاكيد على انها ليست عاملة مطلقا فلا تثير الارض ولا تسقي الحرث حيث كانوا يستقون من الآبار بالدوابّ.

والمسلمة اي لا عيب فيها. وهي من السلامة. والفرق بينها وبين السالمة أن هذه الصفة تدل على سلامة منحها الله تعالى لا بمعنى انها سالمة بعناية من مالكها. ولعل المراد انها بطبيعتها قوية تقاوم الامراض فهي سليمة بذاتها.

والشية من الوشي كالعدة من الوعد. والاصل فيه التزيين كما في معجم المقاييس وحيث ان التزيين باللون يتم دائما بلون اخر يخالف لون الارضية فالمراد بنفي الشية انها صفراء خالص الصفرة ليس على جسمها لون غيرها.

    

قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ...

وهذا ايضا من خبثهم وقلة ادبهم حيث يدل هذا الكلام على انه لم يقل الحق حتى الآن مع انهم هم الذين ابتعدوا عن الحق ورفضوا قبوله والا لكان ذبح اي بقرة كافيا في المقصود. وقوله فذبحوها فيه تقدير اي فبحثوا عنها وبعد العثور عليها اشتروها وذبحوها.

وقوله (وما كادوا يفعلون) اي كادوا ان لا يفعلوا وذلك من جهة كثرة اسئلتهم التي ضيّقت عليهم المطلوب فكاد الامر ان يصل الى ان لا يجدوا لهذه الصفات مصداقا او كان قصدهم من هذه الاسئلة التهرب او ان المراد انهم كادوا ان لا يفعلوا لغلاء الثمن.

 

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ...

اي واذكروا اذ قتلتم نفسا.. وهذه الآية - كما مرّ - وردت حول قصة وقعت قبل الامر بالذبح والغرض من الامر بذبح البقرة إحياء هذا المقتول ليتبين القاتل بتصريحه كما ورد في الرواية المعتبرة المذكورة سابقا وفي روايات اخرى عن الفريقين.

وخطاب الجمع بالقتل من باب اسناد فعل الفرد الى قومه كما يقال قتلت بنو فلان وانما قتله واحد منهم او باعتبار محاولتهم الكتمان عليه كما ورد في ذيل هذه الآية مما يدل على رضا اكثرهم به او تواطئهم عليه.

وبصورة عامة إسناد فعل الشخص الى عشيرته وقومه واهل بلده ومذهبه ودينه امر متعارف في مختلف اللغات سواء من نفسهم او من غيرهم فتجد اناسا يتباهون باننا فعلنا كذا وكذا بينما كان ذلك من فعل آبائهم او من فعل اشخاص اخرين من قومهم او دينهم كما يُعيَّر اقوام بفعل فعله آباؤهم او اهل دينهم.

ولكن هذا لا يتم في امور شخصية بل فيما له اثر اجتماعي ولا شك ان للمجتمع احكامه الخاصة حتى ان لكل قوم في يوم القيامة كتاب خاص كما ان لكل شخص كتابه الخاص مما يدل على ان هناك مسؤوليات اجتماعية متميزة عن المسؤوليات الفردية. كما قال تعالى (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).[11]  

وقوله (ادّارأتم) في الاصل تدارأتم اُبدلت التاء دالا واضيفت قبلها الهمزة لعدم امكان البدء بالسكون وهو تفاعل من الدرأ اي الدفع. ومنه ما اشتهر من القول بأن الحدود تُدرأ بالشبهات اي تدفع.

والتدافع بمعنى أن كل واحد منهم يدفع عن نفسه تهمة القتل او كل قبيلة تدفع عن نفسها التهمة فينتهي الامر الى التنازع في تعيين القاتل حيث إن كل واحد منهم يتبرأ من قتله ويتهم غيره او القبائل تتنازع في ذلك. والضمير المؤنث في قوله (فيها) يعود الى النفس بلحاظ القتل او الى القتل باعتبار ان المصادر تذكر وتؤنث او بتأويل الحادثة والواقعة. 

والجملة الاخيرة تدل على تواطئهم على كتمان القضية وأن الله تعالى بالطريقة التالية سيظهر الواقع وهو المراد بالاخراج اي يخرجه من حالة الكتمان فيكون معلوما. والتعبير بقوله (مخرج) يدل على الاستقبال اي سيخرج مع انه امر قد مضى الا ان الاستقبال بلحاظ حال الخطاب.

 

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ...

اي اضربوا المقتول ببعض البقرة المذبوحة والباقي مقدر تدل عليه الجملة التالية وهو أنهم ضربوه ببعض أجزاء البقرة المذبوحة فقام المقتول واخبر عن قاتله كما ورد في الرواية المذكورة وسائر الروايات.

وقوله (كذلك يحيي الله الموتى) تعقيب مناسب للقصة والمراد أنه تعالى يحيي الموتى يوم القيامة بمجرد إرادة كما أنه أحيا هذا القتيل بإرادته تعالى وليس بسبب طبيعي اذ لا يمكن أن يكون الضرب بجزء من البقرة المذبوحة سببا طبيعيا للاحياء ولو كانت البقرة حية لامكن ان يقول فيها الجهلة انه من معجزات هذا الحيوان.

وهذا التعقيب متكرر في القرآن الكريم للتأكيد على أن إحياء الموتى هيّن على الله تعالى لان البشر يستبعد هذا الامر ويستنكره بشدّة وعرب الجاهلية مع اعترافهم بخالقيته تعالى كانوا ينكرون اليوم الآخر.

والله تعالى يؤكّد عليه في موارد عديدة منها نزول المطر وإحياء الارض الميتة كما في قوله تعالى (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ)[12] وفي قوله (فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) [13] ونحوهما ومنها في إحياء الطير لابراهيم عليه السلام حيث قال (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى..)[14] وقصة عزير او غيره قال تعالى (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ..).[15] وفي قصة اصحاب الكهف حيث قال تعالى (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا..).[16]

وقوله (ويريكم آياته..) خطاب لبني اسرائيل لانهم هم الذين رأوا الآية وأتى بالجمع باعتبار إراءتهم آيات كثيرة طيلة رسالة موسى عليه السلام. ويمكن ان يكون خطابا للرسول صلى الله عليه واله وسلم وكل قارئ وسامع باعتبار ان القضية تفيد الجميع ولو من جهة النقل فتكون الإراءة بمعنى الاعلام.

وقوله (لعلكم تعقلون) اي ان هذا الخبر او هذه الآية تهيّء الانسان لتعقّل الامور الخارجة عن احساسه ومشاعره ومنها قدرته تعالى على إحياء الموتى فيؤمن بها.

ولكن ورد في المنار تعليق على التفسير المشهور حيث قال (وَالظَّاهِرُ مِمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ كَانَ وَسِيلَةً عِنْدَهُمْ لِلْفَصْلِ فِي الدِّمَاءِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي الْقَاتِلِ إِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ قُرْبَ بَلَدٍ وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ لِيُعْرَفَ الْجَانِي مِنْ غَيْرِهِ فَمَنْ غَسَلَ يَدَهُ وَفَعَلَ مَا رُسِمَ لِذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ بَرِئَ مِنَ الدَّمِ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْجِنَايَةُ. وَمَعْنَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى - عَلَى هَذَا - حِفْظُ الدِّمَاءِ الَّتِي كَانَتْ عُرْضَةً لِأَنْ تُسْفَكَ بِسَبَبِ الْخِلَافِ فِي قَتْلِ تِلْكَ النَّفْسِ أَيْ يُحْيِيهَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَهَذَا الْإِحْيَاءِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) وَقَوْلِهِ: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) فَالْإِحْيَاءُ هُنَا مَعْنَاهُ الِاسْتِبْقَاءُ كَمَا هُوَ الْمَعْنَى فِي الْآيَتَيْنِ).

والجواب عنه اولا أن الروايات كثيرة في هذا الباب لا يمكن ردها.

وثانيا قوله تعالى (والله مخرج ما كنتم تكتمون) يدل على أن هذه العملية لكشف الواقع لا لتبرئة الناس.

وثالثا انه قال اضربوه اي القتيل ببعضها اي البقرة واين هذا من العملية المذكورة في التوراة لتبرئة المتهمين؟!

ورابعا التعقيب هنا منه تعالى انه بهذا النحو يحيي الموتى لا أن في ذلك ابقاء لحياة الناس ليقاس بقوله تعالى ولكم في القصاص حياة!! وانما قال ذلك تأثرا بما ورد في كتب اليهود وترجيحا له على الروايات وحتى ظاهر الآية.

 

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً...

(ثم) للتراخي في الرتبة اي مع كل هذه الآيات التي ينبغي ان تؤثر في قلوبكم فتلين وتطيع ربها الا انها قست بعد كل ذلك. ويمكن ان تكون للتراخي في الزمان باعتبار أن الاجيال المتأخرة قست قلوبهم لبعدهم عن عصر الرسالة ونزول الآيات ومشاهدة المعجزات.

والقسوة: الصلابة. والمراد بالقلب الروح والنفس الانسانية بل خصوص مركز العواطف والاحاسيس والضمير الانساني فيه. والانسان يتبع احاسيسه وقلبه اكثر من متابعته لعقله وادراكه ويتأثر بما يحرك عاطفته اكثر مما يتاثر بالمنطق والدليل. والقرآن ايضا يهتم بالتأثير في القلب والوجدان البشري أكثر من العقل والادراك ولذلك قال تعالى (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا..).[17]

وصلابة القلب اشبه شيء بصلابة الحجر. وليس ذلك بالطبع صلابة طبيعية كما في الحجر بل من جهة أن القلب يقسو بالمعصية وارتكاب الآثام والجرائم بمعنى انه لا يتاثر بالمواعظ فهذا تشبيه للقساوة المعنوية بالقساوة الجسمية بعناية أدبية هي أنه كما أن الحجر صلب لا يؤثر فيه شيء بمقارنته بالتراب ونحوه فكذلك قلب الانسان المجرم فان المتوقع من الانسان أن يتأثر بمواعظ الله تعالى ولكنه لكثرة جرائمه أصبح قلبه قاسيا لا يؤثر فيه ما يؤثر في سائر القلوب.

وقوله (فهي كالحجارة) تشبيه للجمع بالجمع فلم يقل قلوبكم كالحجر ولعل الوجه فيه اختلاف القلوب في القساوة فليست كلها في مستوى واحد منها. وقوله (او اشد قسوة) أبلغ من افعل التفضيل من القساوة بان يقال (اقسى).

و(او) ليس للترديد ولا الاضراب فالله تعالى لا يتردد في شيء ولا يضرب عن قول وانما هو تدرج في البيان يفيد تأكيدا على كونها اشد قسوة فهو ابلغ من ان يقال ابتداءا فهي اشد قسوة من الحجارة.

والوجه في ذلك ان القول بان قلوبهم اشد قسوة من الحجارة ربما يحمل على المبالغة اما اذا تدرج في التشبيه يتبين انها حقا كالحجارة بل اشد قسوة فكأن السامع حينما يقال له انها كالحجارة يستغرب ذلك ويستبعده فيقال له للتاكيد لا بل هي اشد قسوة.

ومثله قوله تعالى (ان هم الا كالانعام بل هم اضل) فانهم في الواقع اضل من الانعام بل الانعام ليس فيها ضلال فهي تسير حسب هدايتها التكوينية وانما ينسب اليها الضلال لعدم هدايتها الى ما يهتدي اليه الانسان وذلك لعدم قابليتها ذاتا لا لضلال فيها فهم في الواقع اضل من الانعام ولكن التدرج في البيان ابلغ. 

ويحتمل أن تكون (او) للتنويع بلحاظ اختلاف الافراد فمنهم من بلغت قساوة قلبه قساوة الحجارة ومنهم من تجاوزها وهذا البيان ايضا يقتضي عدم المبالغة. وكذلك التشبيه بالانعام ثم الحكم بانهم أضل فانهم في ذلك مختلفون ايضا.

والسر فيه ان الانسان كما يتكامل ويتطور الى الاعلى تدريجا اذا اهتدى بهدايات السماء كذلك يتنزل تدريجا اذا تولى وأدبر فلا تجد انسانا يتحول فجأة الى سبع ضار او بهيمة همها علفها لا تعقل شيئا وانما يتحول تدريجا الى ان يصل الى مرحلة يختم على قلبه فلا يتأثر بشيء ولا يدرك شيئا.

والله تعالى يقول (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[18] فاذا اقفل قلبه لا تدخله مواعظ القرآن فكيف له ان يتدبّر فيه. ويقول ايضا (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ..)[19] والآيات في هذا الباب كثيرة.

وهذا لا يحصل الا بعد تراكم المعاصي ونحن نجد أن الانسان اذا ابتلي بمعصية من نوع جديد لم يسبق له مثلها فان ارتكابها يثقل على قلبه ولا يقدم عليها فاذا تكرر ارتكابها اعتادها واستخف بها وهكذا يتطور الى ان يبلغ من القساوة حدا لا تؤثر فيه اي موعظة ولو كانت من الله تعالى ولا يدرك هو من نفسه اي حزازة في ارتكابها حتى لو كانت مما يأباه الضمير الانساني كقتل الاطفال او الاخيار من الناس حتى المعصومين ولا يشعر بوخز الضمير وهذا لا يحصل في يوم وليلة بل بالتنزّل التدريجي شيئا فشيئا.   

ومن هنا يتبين أن قساوة قلوب بني اسرائيل انما كانت بسبب عصيانهم المتكرر لاوامر ربهم مع كثرة المعجزات والآيات قال تعالى (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً..).[20] وهذا لا يختص بهم فكل قلب يقسى بكثرة المعصية ونقض الميثاق ولا حل له الا التوبة والرجوع الى الله تعالى فبيده مفاتيح القلوب ومفاتيح كل شيء قال تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ).[21]  

 

وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ...

هذا بيان لكون قلوبهم اشد قساوة من الحجارة حيث يقارن بينها وبين قلوبهم فهناك من الحجارة ما يتفجر من خلالها الانهار ومعناه أن الحجر على صلابته يتأثر من الماء مع لطافته ولينه ويسمح له بالعبور منه واما قلوبكم فلا تتفتح لشيء.

والتفجر تفعل من الفجر وهو الشق الواسع ومنه الفجر الذي يشق الظلام على حافة الافق ويتسع شيئا فشيئا ومنه ايضا الفجور بمعنى التفتح في المعاصي والاكثار منها فلا يقال لمن يرتكب معصية واحدة انه فاجر الا اذا كانت اثما كبيرا جدا يصدق معه انه شق ستر الديانة شقا واسعا.

والحاصل أن المراد بهذه الحجارة ما يخرج منه الماء الكثير وهو ما يسمى بالنهر والنهر ايضا في الاصل بمعنى التفتح والسعة ومنبع الانهار الكبيرة الجبال وهي غالبا من حجر.

 

وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ...

وهناك من الحجارة ما يؤثر فيه الماء ويشقّه وهذا طبعا بتأثير طبيعي فهناك من الحجارة ما تؤثر فيه بعض المواد التي يشتمل عليها الماء وتفتّته او تفتّت بعض اجزائه فيتشقق فيخرج منه الماء ببطء. واما قلوبكم فلا يؤثر فيها شيء.

وهذا كله يحدث بصورة طبيعية ولا ينافي قساوتها ولكن التعبير الادبي يصوّر ذلك وكأنه صفة اختيارية تدل على لطافتها الطبيعية ليترتب عليه كون قلوبهم أقسى من الحجارة وكما أن التشبيه كان بعناية أدبية كذلك هذا الاختلاف الذي يقتضي شدة القساوة.

والعناية هنا من جهة أن الحجر كسائر أجزاء الكون يستجيب لقوانين الطبيعة ولا يمكنه التخلف وذلك لانه لا يملك ما يمنعه في داخل ذاته من الاستجابة ويدعوه الى العصيان فهو مطيع بصورة طبيعية والانسان ايضا كذلك في مواجهة القانون التكويني مهما عصى وتجبّر.

ولكن الأوامر الموجّهة الى الانسان لا تختص بالأوامر التكوينية كالحجر بل توجّه اليه أوامر تشريعية من ربّه وهو يملك في دخيلة ذاته ما يمنعه من الاستجابة ويدعوه الى العصيان من الشهوة والتكبر والحسد وغيرها الا أن الله تعالى يحذّره من الاستجابة لتلك الدواعي فاذا استجاب لها وتكررت الاستجابة قسا قلبه بمعنى أنه يستخفّ بامر الله تعالى وتسهل عليه المخالفة فلا يتأثر في النهاية من أوامر ربّه أصلا وحينئذ يكون قلبه أقسى من الحجر لأنه يستجيب للأوامر التكوينية طوعا ولا يوجّه اليه غيرها كما يوجّه الى الانسان.

وهناك من المفسرين من يقول ان الآية تشير الى ما رأوه من تأثر الحجارة فقد رأوا أن الحجر تفجرت منه اثنتا عشرة عينا ورأوا أن الله تجلّى للجبل فجعله دكا.

وهذا استنتاج لطيف الا انه بعيد عن مغزى الآية لان الغرض منها بيان قساوة قلوبهم وانها اقسى من الحجارة الطبيعية لا الحجارة التي يخرج منها الماء او تهبط وتتفتت باعجاز.

وهنا سؤال آخر وهو أنه ما هو وجه التدرج بين هذه الامور مع ان الاولى ان يتدرج من الاخف الى الاشد فالهبوط من اعالي الجبال وان كان أشدّ من التشقّق الا أنّ تفجر الانهار اشد منه ايضا فكان الاولى ان يبتدأ بالتشقق ثم تفجر الانهار ثم الهبوط؟

قال بعضهم ان التدرج بلحاظ ان الاول له منفعة عظيمة والثاني منفعة قليلة والثالث لا نفع له ولكن هذا لا علاقة له بما استوجب ذكر هذه الحالات.

والوجه الصحيح ان المثال الاول للحجارة التي تتأثر بالماء الكثير فيجري منها النهر والثاني للحجارة التي تتأثر حتى بالماء القليل والثالث للحجارة التي تتأثر بالحوادث العظيمة والمراد أن قلوبكم لا تتأثر بالمواعظ الكثيرة والايات التي نزلت من الله تعالى على رسولكم ولا تتاثر بموعظة الافراد ولا تتاثر بالآيات الكونية والمعجزات العظيمة التي شاهدتموها طيلة حياة موسى عليه السلام بينكم.

وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ...

ومن الحجارة ما يهبط من الجبال بفعل الصواعق او الزلازل او السيول او كرات الثلج المتدحرجة ونحوها.

والكلام هنا في أنه ما هو المراد من هبوط الحجارة من خشية الله تعالى مع أنه - حسبما نرى - سقوط يحدث نتيجة جاذبية الارض تحت تأثير عوامل تزعزع الحجر من مكانه واما الهبوط فهو فعل اختياري والخشية هي الخوف وهو يختص بمن له نوع من الادراك فهل للحجر وغيره من الجمادات والنباتات وكل أجزاء الكون ادراك مجهول لنا؟

ربما يكون كذلك كما قد يستفاد من قوله تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..)[22] فان التسبيح التكويني يفقهه الانسان الا من هو غافل عن حقائق الكون.

وكذلك قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبيحَه..)[23] فان اسناد العلم بالصلاة الى الطير يستدعي أن يكون لها نوع من الادراك. وقوله (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ)[24] وقوله (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ..)[25] وقوله (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ).[26] وغير ذلك وهو كثير.

ومع ذلك فلا يمكن الجزم به لاحتمال التأويل في كل ذلك.

وسواء ثبت ذلك ام لم يثبت فان في التعبير عن السقوط الطبيعي بالهبوط عن خشية عناية أدبية سواء قلنا أنه تعبير أدبي عن الاستجابة للأوامر الالهية التكوينية أم قلنا انه تعبير عن الاطاعة والامتثال عن ادراك.

وذلك لأنه لا يختلف سقوط الحجر من الاعلى عن صموده وعدم سقوطه بل عن اندفاعه الى الاعلى بفعل البراكين مثلا فكل ذلك استجابة لقانون الطبيعة وبالتالي امتثال تكويني لامر الله تعالى فاختصاص التعبير عن السقوط بالهبوط ليس الا لعناية ادبية ‏باعتبار أن الحالة الخاصة تشبه حالة الهبوط الاختياري عن خشية وخوف فكأنها سقطت خوفا ومهابة من الله تعالى.

ومثل هذا التعبير والعناية الادبية التعبير بالسجود عن تحرك الظل على الارض او تمايل الشجر كما في قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ)[27] ومن الواضح أن الظل ليس الا أمرا عدميا ينشأ من اشراق الضوء على جسم كثيف يمنع من اشراقه على جزء من الارض ونحوها وهو بالطبع يتحرك بتحرك مصدر الضوء وهو الشمس فيذهب يمينا وشمالا. والتفيؤ هو الرجوع.

ولكن الله تعالى يعبّر عن هذا التحرك بالسجود لله تعالى لا لأنه خضوع تكويني فحسب فانه لا يختص به بل لأن وضعه وهيئته كهيئة الساجد على الارض فهو بذاته تعبير عن السجود له تعالى بنحو من العناية الرمزية.

ومثل هذه الآية قوله تعالى (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).[28] وقوله تعالى في سجود النبات والشجر (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ)[29] والمراد بالنجم النبات الذي ليس له ساق.

والسجود غاية التذلل وكل شيء خاضع لله تعالى تكوينا كما قال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ...)[30] وعليه فالسجود والتذلل - بمعنى الانصياع للقانون التكويني الحاكم على الكون بأمر الله تعالى - عام شامل لجميع ذرات الكون.

ولكن سجود النبات والشجر قد يكون اشارة الى حالة طبيعية فيهما وهوالتمايل المشهود فيهما الى الارض بفعل الريح وغيرها فهذا التمايل والسقوط يشبه حالة السجود وهذا ليس تمثيلا وتخييلا بل هو اشارة بالكناية والرمز الى امر حقيقي هو انصياع الكون لارادة الله تعالى ضمن استجابته لقوانين الطبيعة وهذا هو الذي يعبر عنه بالخشية.

ومن هذا القبيل ايضا قوله تعالى (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ..)[31]  فان الرعد ليس اسما لشيء له صوت بل هو نفس الصوت وظاهر الآية ان نفس هذا الصوت تسبيح لله تعالى وحمد لا أنه شيء له تسبيح. ولا شك أن هذا الصوت استجابة طبيعية لعوامل تكوينية توجب الانفجار المدوّي وكل استجابة طبيعية في الكون خضوع لامره تعالى بل تسبيح له تكوينا حيث انها تدل على عظمة الخالق وتنزهه عن الجهل والعجز وكل نقص.

ولكن الكلام هنا في أن الصوت بذاته اعتبر تسبيحا لله تعالى مصاحبا لحمده وهذا لا يكون الا بعناية أدبية باعتبار أن هذا الصوت حيث كان يحكي عن تلك الاستجابة الطبيعية لأوامر الله التكوينية فكأنه هو صوت التسبيح والا فالاستجابة لا تختص بالصوت.

وبعبارة اخرى الصوت بما أنه انفعال طبيعي لعوامل اخرى في الطبيعة فهو امتثال لأمر الله تعالى التكويني وليس ذلك من جهة كونه صوتا وحيث إن التعبير هنا يعتبر الصوت كأنه صوت تسبيح فهذا لا يكون الا بعناية رمزية أدبية.

 

وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ...

خطاب لهؤلاء الذين قست قلوبهم بالعصيان وتحذير لما يستقبلهم من عاقبة اعمالهم والتحذير هنا أشدّ وأبلغ من التحذير بالحساب والعذاب فان كونه تعالى ليس غافلا عن اعمالهم تحذير مبهم وعدم الغفلة عن اعمالهم كناية عن محاسبتهم على كل كبيرة وصغيرة بما لا يعلمه الا الله. ومثل ذلك قوله تعالى (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ).[32]

 


[1] التبيع ولد البقر في اول سنة

[2] عيون اخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 17

[3] المائدة : 101 - 102

[4] مسند احمد ج4 ص 255

[5] نهج البلاغة باب الحكم الحكمة: 105

[6] صحيح مسلم ج 4 ص 102

[7] سفر التثنية الاصحاح 21

[8] النمل : 76

[9] المائدة : 48

[10] المائدة : 24

[11] الجاثية : 28 - 29

[12] الزخرف : 11

[13] فاطر : 9

[14] البقرة: 260

[15] البقرة : 259

[16] الكهف : 21

[17] الاعراف : 179

[18] محمد : 24

[19] البقرة : 7

[20] المائدة : 13

[21] الانفال : 24

 الاسراء: 44[22]

 النور: 41[23]

[24] الرعد : 13

[25] الاحزاب : 72

[26] فصلت : 11

 النحل: 48[27]

 الرعد: 15[28]

[29] الرحمن : 6

 الحج: 18[30]

[31]  الرعد : 13

[32] الزمر : 47