مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ...

الخطاب للرسول صلى الله عليه واله وسلم والمؤمنين من حوله وخصوصا الانصار من اهل المدينة فانهم كانوا يتعايشون مع اليهود قرونا ويسمعون منهم صفات الرسول الذي سيظهر في هذه البلاد وكان اليهود سكنوا هذه المنطقة وكل قبيلة منهم تطمع في ان يكون الرسول منها.

قال تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ..)[1]

وايضا كانوا يتباهون بان الرسول المنتظر سيدافع عنهم كما قال تعالى (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ).[2]

هذا واعتقاد العرب بعلم اهل الكتاب وصلاحهم وايمانهم بالله تعالى وبالرسل كل ذلك كان السبب في طمعهم في ايمان اليهود بالرسول الكريم صلى الله عليه واله وسلم بعد هجرته الى المدينة ولكنهم واجهوا تعصب اليهود وعدم تقبلهم للرسالة الجديدة فاستغربوا ذلك. ولعل بعض ضعفاء الايمان كان يشكك في صحة الرسالة لهذا السبب فبيّن الله تعالى لهم سبب عدم ايمانهم بالرغم من وجود الدواعي للايمان.

وليس المراد بالآية النهي عن دعوتهم للايمان فان الدعوة ليست دائما مع احتمال القبول بل في كثير من الموارد لإتمام الحجة وربما يكون لتقليل الشر ولو بالايمان الظاهري مضافا الى ان ايمان بعضهم محتمل ايضا وان كان مستبعدا.

هذا مضافا الى أن من المحتمل أن يكون الغرض من نفي الطمع منع المؤمنين من كثرة مجالسة اليهود حتى لو كان بقصد هدايتهم من وجهة نظر سياسية وعسكرية وهي تمكّن الاعداء من الوصول الى اغراض سياسية بسبب هذه العلاقات فان اليهود كانوا يعادون النبي صلى الله عليه واله وسلم ويتربّصون به وبالمؤمنين الدوائر.

ومن الغريب أن كثيرا من النصارى آمنوا بالرسالة ولكن اليهود قلّ من ادُّعي فيه الايمان وحتى من يُدّعى فيهم انهم آمنوا يحتمل في كثير منهم النفاق.

وهمزة الاستفهام للانكار التوبيخي اي لا ينبغي الطمع في ايمان هؤلاء او للتعجيب والاستبعاد اي كيف يمكن الطمع من هؤلاء؟! والطمع أقوى من الرجاء قال في معجم المقاييس (رجاء في القلب قويّ للشيء) ويظهر منه شدة اهتمام الرسول صلى الله عليه واله وسلم والمؤمنين بنشر الدعوة خصوصا بين اهل الكتاب لما كان لهم من مكانة لدى العرب.

ولكن العسكري في الفروق فرق بينهما بوجه اخر ايضا وهو أن الرجاء لا يكون الا لسبب يدعو اليه والطمع ما يكون من غير سبب يدعو اليه وانما هو مما يحدّث الانسان به نفسه.

ومن هنا يحتمل أن يكون وجه اختيار هذا التعبير في الآية الكريمة اعلام المؤمنين بأن هذا التوقع من اليهود لا موجب له فهم أبعد شيء عن الايمان بالرسالة كما قال تعالى (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى..).[3]

والفاء في قوله (أفتطمعون) للتفريع على ما مر من قسوة قلوبهم بالرغم من كثرة الآيات التي رأوها فاذا لم يؤمنوا بموسى عليه السلام وهو منهم وأظهر لهم من المعجزات ما لم يسبق ظهورها على ايدي الرسل قبله بل ولم يأت بعده ايضا من يظهر على يديه مثل تلك الآيات فكيف يؤمنون بالرسول العربي صلى الله عليه وآله وسلم؟!

وقوله (ان يؤمنوا) مجرور بتقدير (في) لان الطمع يتعدى بها. والايمان يتعدى غالبا بالباء وقد يتعدى باللام كما هنا وكما في قوله تعالى (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)[4] وقوله (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ..).[5]

والظاهر ان الفرق هو بين تعلق الايمان باصل ثبوت الشيء فيتعدى بالباء وتعلقه بالوثوق باحد فيتعدى باللام ولذلك لا يتعدى الى الله تعالى الا بالباء لان المقصود الايمان باصل ثبوته تعالى فيترتب عليه كل الصفات المطلوبة ويتحقق الوثوق بالطبع وكذا الايمان بالرسالة.

واما اذا اريد بالايمان الاطمئنان بكلام احد او بصحة دعواه فيتعدى باللام ولذلك يتعدى الى الرسول بهما لان الايمان به قد يكون بمعنى ثبوت رسالته فيتعدى بالباء وقد يكون بمعنى التصديق لكلامه فيتعدى باللام ومنه ايمان لوط لابراهيم عليهما السلام وايمان الرسول صلى الله عليه واله وسلم للمؤمنين في الآيتين المذكورتين آنفا.

وقوله (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله..) جملة حالية اي كيف تطمعون في ايمان هؤلاء مع انهم كانوا يسمعون كلام الله ويحرفونه وهذا غاية الشقاء والضلالة؟!

والفريق فعيل من الفَرْق وهو الفصل بين شيئين او اكثر ويطلق على مجموعة متميزة من الناس وليس له مفرد كالطائفة والحزب. ومثله الفِرق بكسر الفاء وفي العين ان الجماعة في الفريق اكثر من الفِرق.

والظاهر أن المراد بهذا الفريق علماؤهم واحبارهم. والتحريف لا يكون الا ممن بيدهم الكتب لانهم ما كانوا ينشرون الكتب بين عامة الناس وانما كانوا يحتفظون بها فيما بينهم ويتداولونها كأسرار لا ينبغي ان يراها عامة الناس.

وهناك اختلاف في التفاسير في المراد بهذا الفريق هل هم أصحاب موسى عليه السلام الذين اخذهم معه الى ميقات ربه أم المراد بهم احبارهم في عصر نزول القرآن؟ رواهما الطبري من بعض قدماء المفسرين فمنهم من روى عنه انه قال (ليس قوله: (يسمعون كلام الله) يسمعون التوراة.. كلهم قد سمعها، ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها).

وفي الكشاف (وقيل كان قوم من السبعين المختارين سمعوا كلام اللَّه حين كلم موسى بالطور وما أمر به ونهى ثم قالوا سمعنا اللَّه يقول في آخره إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا فلا بأس).

ومن هنا يتبين ان الوجه في اسناد التحريف الى السابقين هو قوله تعالى (يسمعون كلام الله ثم يحرفونه) باعتبار أن المعاصرين لنزول القرآن ما كانوا يسمعون كلام الله بل يجدونه في كتبهم.

ولكن هذا لا يدل على ما قصدوه فان التعبير بالسماع باعتبار انه كلام منتسب الى الله فهو في الاصل يعود الى السماع من الرسول حتى لو وجد مكتوبا في كتاب او باعتبار انهم سمعوا كلام الله تعالى من مشايخهم وعلمائهم السابقين.

ومن المستبعد ان يراد بهذا الفريق الاقدمون منهم لان تحريفهم لكلام الله تعالى ليس سببا مناسبا لعدم توقع الايمان من ذريتهم بعد قرون. فالظاهر من عدم التوقع أن الفريق هم علماء عصر الرسالة حيث حرّفوا بعض ما في كتبهم من علامات النبوة ولم يعترفوا بان هذا الرسول هو الذي وردت البشارة به في التوراة.

وتؤيد ذلك الآية التالية (واذا لقوا الذين امنوا قالوا امنا) اذ لا شك في ان المراد بهم المعاصرون للقران خصوصا على القول بأن هذا ايضا مما يقطع الطمع بايمانهم فلا بد من حمل الجميع على ان المراد بها نفس القوم. 

ولو فرض أن المراد بهم علماؤهم الاقدمون فلا بد من حمل السماع على سماعهم كلام الله تعالى من رسولهم موسى عليه السلام واما سماع الكلام الذي سمعه موسى فهو مستحيل عليهم بل هو خاص به عليه السلام لم يفز به حتى سائر الرسل صلوات الله عليهم.

والتحريف تفعيل من الحَرف وهو العدول عن الشيء فيقال انحرف عن الطريق. وحرّف الكلمة اي بدّلها الى ما يشابهها او بدّل معناها فهو ايضا نوع من التحريف وربما يصدق التحريف بتغيير مكان الكلمة حيث يؤثر في المعنى وربما يصدق بحذف بعض الكلمات من الجملة او الحروف من الكلمة بل حتى بتشديد وخلافه لان المعنى ربما يتغير.

وقوله (من بعد ما عقلوه) اي ادركوه وحفظوه والاصل فيه الحبس ومنه عقال البعير وانما يسمى العقل في الانسان عقلا لانه يحبسه ويمنعه من ارتكاب الجهالات. والمراد أن تحريفهم للكلام لم يكن عن عدم حفظ لاصله الذي وصل اليهم او لنسيانهم او لجهلهم بل عقلوه وحفظوه واثبتوه ثم بدّلوه ظلما وشقاءا. وقوله (وهم يعلمون) اي يعلمون أن ما يرتكبونه اثم عظيم وتجاوز على الحدود الالهية.

ثم إن الآية الكريمة تنفي احتمال الايمان في علمائهم لانهم حرّفوا الكتاب واشتروا به ثمنا قليلا واما عامتهم فسيأتي أنهم لا يعلمون الكتاب الا أمانيّ فنفي الطمع عن جميعهم مستند الى ما ورد في مجموع هذه الايات.

 

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ...

الظاهر ان هذه الآية عطف على قوله تعالى (وقد كان فريق منهم..) فيكون من موجبات عدم توقع الايمان منهم. وذلك باعتبار صفة النفاق او التزلزل فيهم فهم اذا لقوا المؤمنين يظهرون الايمان نفاقا او يؤمنون واقعا واذا خلا بعضهم الى بعض رجعوا الى كفرهم. كما ان الاية التالية ايضا معطوفة على قوله (وقد كان فريق منهم..) فيكون مجموع الآيات لبيان عدم توقع الايمان منهم فالاية الاولى تخص علماءهم والثالثة عامتهم وهذه الاية تشمل القسمين فالعامة منافقون او متزلزلون وعلماؤهم يرجعونهم الى كفرهم.

وعليه فالضمير في قوله (لقوا) يعود الى بني اسرائيل باعتبار أن بعضهم كان بهذه الصفة وكذلك الضمير في قوله (قالوا) فهو ايضا يعود اليهم جميعا باعتبار أن بعضهم كان كذلك وقد مر الكلام حول اسناد القول او الفعل الى القوم والقبيلة والدين والمذهب في تفسير قوله تعالى (واذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها).

وقلنا ان إسناد فعل الشخص اذا كان له اثر اجتماعي الى عشيرته وقومه واهل بلده ومذهبه امر متعارف في مختلف اللغات سواء من أنفسهم او من غيرهم فتجد اُناسا يتباهون باننا فعلنا كذا وكذا بينما كان ذلك من فعل آبائهم او من فعل اشخاص اخرين من قومهم او دينهم كما يُعيَّر اقوام بفعل فعله آباؤهم او اهل دينهم.

والمراد بالخلوة في قوله (واذا خلا بعضهم الى بعض) رجوعهم الى مجامعهم فلم يكونوا بمحضر المؤمنين. والخلوة تتعدى بالباء وبـ (الى) قال في الصحاح (خلوت اليه اذا اجتمعت معه في خلوة).

والضمير في قوله (قالوا) يعود الى بعض المجتمعين يقولون ذلك لبعض اخر منهم ومثله ورد في موارد من القران كقوله تعالى (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ..). فالضمير في (قالوا) في كل من الموردين لجمع منهم غير الاخر.

وكذلك هنا فالمراد ان بعضهم قال لبعض اخر وهم الذين قالوا آمنّا (أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم..) والمراد بالبعض القائل قد يكون أسيادهم او علماؤهم او بعض من كان معهم ولكنه كان متحفظا لم يبرز اسرار القوم.

والمراد بالبعض المخاطب الذين تحمّسوا للايمان بالرسالة الجديدة وأظهروا بعض ما يسرّونه فيما بينهم كالعلامات التي رأوها في كتبهم للرسول المنتظر او غير ذلك مما سمعوه من علمائهم ولم يكن معروفا عنهم. فالفريق الاول يعيّرون الفريق الثاني بما بدر منهم من الضعف في مواجهة المؤمنين ومن إفشاء الاسرار التي كتموها عنهم ومنها علامات الرسالة الواردة في كتبهم.

وبذلك يتبين ان الجملتين مرتبطتان وتحكيان عن قضية واحدة وهي أن بعض اليهود من عامّتهم كانوا اذا لقوا الذين امنوا يتأثرون ببعض ما يرونه او يسمعونه من المعجزات ومن الايات التي يتلونها عليهم من الكتاب العزيز او يجدون في الرسول صلى الله عليه واله وسلم من العلامات التي سمعوها للرسول المنتظر فيؤمنون ويعترفون بان ما جاء به الرسول صلى الله عليه واله وسلم هو الحق فاذا رجعوا الى قومهم عيّرهم جمع منهم بافشاء الاسرار.

هذا هو الظاهر من الآيتين وهو الوارد في التفاسير ولكن العلامة الطباطبائي رحمه الله انكر ذلك وقال (لا تقابل بين الشرطين وهما مدخولا إذا في الموضعين كما في قوله تعالى «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى‏ شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ» بل المراد بيان موضعين آخرين من مواضع جرائمهم وجهالتهم أحدهما أنهم ينافقون فيتظاهرون بالإيمان صونا لأنفسهم من الإيذاء والطعن والقتل. وثانيهما أنهم يريدون تعمية الأمر وإبهامه على الله سبحانه العالم بسرهم وعلانيتهم).

ومعنى ذلك ان الجملتين لا علاقة بينهما وانما اريد بهما ذكر صفتين من صفات القوم مما يدل على تخلفهم الموجب لعدم توقع الايمان منهم احداهما نفاق جمع منهم وهم الذين يظهرون الايمان امام المؤمنين والاخرى جهلهم بصفات الله تعالى.

ولكن الظاهر ارتباط الجملتين مع بعض وذلك لأن الجملة الاولى لو كانت مستقلة كما يقوله العلامة فلا تدل على النفاق فهم يظهرون الايمان بقولهم (آمنّا) في مواجهة المؤمنين ولكن ليس في الجملة ما يدل على أنهم يقولون خلاف ذلك في تجمعهم مع قومهم.

هذا اولا وثانيا تبقى الجملة الثانية ايضا من دون مدلول واضح اذ ليس فيها ما يدل على افشاء للاسرار من بعضهم ليصح هذا الاعتراض عليهم من بعض اخر منهم.

فالأقرب أن تكون الجملة الثانية قرينة على ان قولهم (آمنّا) لم يكن عن نفاق بل كان مع إظهار بعض الاسرار التي كانوا يسمعونها من علمائهم كصفات الرسول المنتظر مما ينطبق على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم او امور اخرى مما يستدعي ايمانهم ليكون ذلك حافزا على اعتراض بعض اخر منهم على هؤلاء بأنهم خانوا المجموعة.

ويبدو من الآية أن هذا الامر كان متكررا وانهم كلما لقوا الذين امنوا اظهروا الايمان ثم كفروا بعد رجوعهم الى قومهم. ومعنى قوله بما فتح الله عليكم اي بما اخبركم به من صفات الرسول صلى الله عليه واله وسلم فانهم كانوا يرونها اسرارا مغلقة لم يفتحها الله لعامة الناس وانما فتحها لهم حيث اخبر بها الانبياء السابقين وهم اخبروهم بها.

والمحاجّة مفاعلة من الحُجّة وهي الدليل الذي يؤتى به امام الخصم للغلبة عليه وحيث ان كلا من المتخاصمين ياتي بحجته يقال لهذه المحاورة المحاجّة. والاصل فيها الحجّ وهو القصد إمّا من جهة أن كل من يأتي بالحجة يقصد الخصم للغلبة عليه وإمّا من جهة أن الحجة تكشف عن المحجة وهو الطريق الصحيح الى المقصد.

واللام في قوله (ليحاجّوكم) لام العاقبة وليس للتعليل اذ لا يقصده المخاطبون كما في كقوله تعالى (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)[6] وكقول الشاعر (لدوا للموت وابنوا للخراب).

قال الشيخ قدس سره (وقال السُدّي: هؤلاء ناس آمنوا من اليهود ثم نافقوا وكانوا يحدّثون المؤمنين من العرب بما عُذّبوا به فقال بعضهم لبعض: أتحدّثونهم بما فتح اللَّه عليكم من العذاب ليحاجّوكم به، ليقولوا نحن أحبّ الى اللّه منكم وأكرم عليه منكم؟).

ثم قال (ومثله روي عن أبي جعفر عليه السلام).

ويلاحظ ان السُدّي هو اسماعيل بن عبدالرحمن بن ابي كريمة وهو مفسر معروف اتهم عند الجماعة بالتشيع وقد عدّه الشيخ من اصحاب الائمة زين العابدين والباقر والصادق عليهم السلام فلا يبعد ان يكون هذا القول من السدي بروايته عن ابي جعفر عليه السلام. وبقوله هذا اخذ بعض المفسرين.

ولكنه بعيد اولا من جهة تفسيره ما فتحه الله عليهم بالعذاب ليكون من قبيل قوله تعالى (حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)[7] وهو بعيد من السياق والفتح لا يستلزم ذلك وان تعدى بـ(على) ولا يناسب المحاجة عند الرب.

وثانيا من جهة انه فسر المحاجة عند الرب بالمحاجة في الدنيا بان المؤمنين يرون انفسهم احب الى الله تعالى منهم حيث لم يعذبهم وهذا ليس من المحاجة عند الله وهي ظاهرة في المحاجة يوم القيامة.

ومثل هذه الآية قوله تعالى في حكاية كلامهم ايضا (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ..).[8]

وقال الشيخ ايضا (و روي عن أبي جعفر عليه السلام انه قال: كان قوم من اليهود ليسوا بالمعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه واله وسلم فنهاهم كبراؤهم عن ذلك وقالوا: لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه واله وسلم فيحاجوكم به عند ربكم، فنزلت الآية).

ومعنى اعتراضهم على هؤلاء أن اعترافكم هذا يستفيد منه المسلمون يوم القيامة امام الله تعالى ويحاجوكم بانكم كنتم تعلمون ان هذا الدين حق وان هذا الرسول جاء من عند الله تعالى فعدم ايمانكم به كفر بالله فالمراد بقوله (عند ربكم) اي يوم القيامة.

وهو امر غريب يدل على أنهم لم يؤمنوا بالله تعالى كما وصف به نفسه ووصفه الانبياء والرسل وانما تصوروا في انفسهم إلها لا يختلف عنهم في الشؤون المادية ولذلك نسبوا اليه الجهل والغفلة والعجز في مواضع من العهد القديم نذكر بعضها:

1- ما ورد في قصة ادم وحواء (وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار. فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة. فنادى الرب الإله آدم وقال له أين أنت. فقال سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت. فقال من
أعلمك أنك عريان. هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها. فقال آدم
المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت.... (الى ان يقول) وقال الرب الإله هوذا الانسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد).[9]

2- وفي قصة نوح عليه السلام (ورأى الرب أن شر الانسان قد كثر في الأرض وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم فحزن الرب أنه عمل الانسان في الأرض وتأسف في قلبه فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الانسان الذي خلقته الانسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء لأني حزنت أني عملتهم..).[10]

3- وفي قصة نبوة يعقوب عليه السلام (فبقي يعقوب وحده، وصارعه انسان حتى طلوع الفجر. ولما راى انه لا يقدر عليه، ضرب حُقّ فخذه[11] فانخلع حُقّ فخذ يعقوب في مصارعته معه. وقال: «اطلقني لانه قد طلع الفجر» فقال «لا اطلقك ان لم تباركني» فقال له «ما اسمك؟» فقال «يعقوب» فقال: «لا يدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل اسرائيل، لانك جاهدت مع الله والناس وقدرت» وسال يعقوب وقال «اخبرني باسمك» فقال «لماذا تسال عن اسمي؟» وباركه هناك. فدعا يعقوب اسم المكان «فنيئيل» قائلا «لاني نظرت الله وجها لوجه ونجيت نفسي).[12]  

وغير ذلك وهو كثير.

وهذا التصور الساذج عن الله تبارك وتعالى ليس بعيدا عن ثقافة بني اسرائيل حيث ان الذي وصل اليهم من كتب السماء كان محرفا وموافقا للفكر البشري المتخلف وانما يستغرب مثل ذلك اذا صدر عن المسلمين مع ما لديهم من ثقافة غنية وعميقة حول صفاته تعالى لا يشبه شيئا مما يتصوره البشر الساذج حتى بعد تكاملهم في العلوم المادية ولذلك نجد أن من يدعون بالعلماء في هذا العصر يتكلمون عن مبدأ تكوّن الكون بطريقة متخلفة وان كانوا يبحثون عن خبايا الطبيعة بالفيزياء الرياضية بطريقة قوية متكاملة.

نعم القران معجز عظيم من هذه الجهة حيث يشتمل على توصيف للاله لا يصل اليه البشر العادي في عصر العلم فكيف بعصر الجاهلية؟! ولذلك لو نقرأ كتابا للبشر قبل قرون حول المعارف الالهية نجد السذاجة واضحة فيه ولكن القران عميق في ذكر اوصافه تعالى لا يمكن لاحد ان يناقش في ما يذكره.

فاذا راينا في روايات المسلمين وهم اتباع القران حسب الفرض ما لا يقبله العقل ولا الدين من صفات الله تعالى او افعاله فهو العجب العجاب.

وقد ذكرنا سابقا ما ورد في صحاح القوم من ان الله تعالى يضع رجله في جهنم يوم القيامة فتقول قط قط وانه تعالى يُرى يوم القيامة كالقمر ليلة البدر ليس دونه سحاب وانه تعالى يضحك يوم القيامة من كلام بعض الناس وان المؤمنين يعرفون ربهم بساقه وغير ذلك من الاباطيل واغرب من ذلك ان بعض علمائهم يكفّر كل من ينكر ذلك.

 

أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ...

هذا ردّ على تصورهم الساذج عن علمه تعالى حيث يظنون انهم اذا لم يظهروا للمؤمنين ما رأوه في كتبهم من علامات النبوة فانهم لا يمكنهم المحاجّة امام الله تعالى يوم القيامة وكأنّ المحاكمة هناك كالمحاكمات في الدنيا تتوقف على ما يعلمه الخصمان!!

والاستفهام في الآية لاستنكار جهلهم بهذه الحقيقة الواضحة التي لا يجوز ان يجهلها من يتبع شريعة من شرائع السماء. والله تعالى لا تختلف عنده الاسرار والمعلنات ولا يمكن لاحد ان يخفي عنه شيئا.

 

 


[1] الاعراف : 157

[2] البقرة : 89

[3] المائدة : 82

[4] التوبة : 61

[5] العنكبوت : 26

[6] القصص : 8

[7] المؤمنون : 77

[8] ال عمران : 73

[9] العهد القديم سفر التكوين الاصحاح 3

[10] العهد القديم سفر التكوين الاصحاح السادس

[11] الحق بضم الحاء اصل الورك الذي فيه عظم راس الفخذ كما في الجمهرة

[12] العهد القديم سفر التكوين الاصحاح 32