مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ...

حيث ذكر في اول السورة اوصاف المتقين المهتدين وأردفه بذكر الكافرين الذين لا أمل في هدايتهم استوجب ذلك تحيّرا في بعض من هم في عداد المؤمنين مع أنّه يظهر منهم الكفر بين الفينة والاخرى فأراد بهذه الآية التنبيه على أنّ هناك قسما ثالثا ظاهرهم أنّهم من القسم الاول اي المهتدين الصالحين وهم في الواقع من الكفار بل من اشرارهم وهم المنافقون.

والمشهور بين اهل اللغة أن الناس اصله اناس. وحكي ذلك عن سيبويه. فقيل هو جمع انسان وقيل انه اسم جمع لا مفرد له من لفظه. وقال العسكري في الفروق (وقيل الناس لغة مفردة فاشتقاقه من النوس وهو الحركة.. والاناس لغة اخرى ولو كان اصل الناس اناسا لقيل في التصغير انيس وانما يقال نويس).

والمتعارف في تركيب هذه الجملة ونظائرها أن يعتبر الجار والمجرور اي قوله (من الناس) خبرا مقدما وقوله (من يقول) مبتدأ مؤخرا وهناك بحث في أنه ما الفائدة في الاخبار عنهم بانهم من الناس اذ لا شك في ذلك.

وقد ذكرنا في مبحث المعنى الحرفي في الاصول أن (من) في هذه المواضع بمعنى (بعض) وهو مبتدأ واقعا ومسند اليه ومخبر عنه فلا حاجة الى تأويل. والدليل عليه أن مقصود القائل هو بذاته ما يفهم من الجملة على تقدير تبديل من الى بعض وأن من الواضح أن المقصود بهذه الجملة هو الاخبار عن حال هذا البعض لا إعلام أنّ هؤلاء من الناس. 

و الافراد في قوله (يقول) باعتبار لفظ اسم الموصول اي (من) والجمع في كلامهم المنقول (آمنا) باعتبار المصاديق. ولم يكتف بذكر الايمان بالله بل اضاف اليوم الآخر لان مشركي قريش كانوا يعترفون بوجود الله وبانه خالق الكون ولكنهم ينكرون الآخرة.

واليوم الآخر هو يوم القيامة والتعبير باليوم باعتبار كونه مرحلة من التكوين لا اليوم بمعنى النهار كما توهمه بعض المفسرين نظير قوله تعالى (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ..)[1] اذ لم يكن قبل خلق العالم ليل ونهار فيوم القيامة آخر مرحلة في تكوين هذا العالم وليس بعده الا الابدية واللانهاية على ما نستظهره من القرآن الكريم والله العالم.

و(الآخر) اسم فاعل من أَخَر اُخُرا وهو مجيء الشيء بعد الشيء فهو نقيض القُدُم. وهو امر نسبي فاذا اضيف الى غيره كان معناه انه بعده كما تقول آخر الرجلين واذا اتيت به مطلقا كما هنا كان معناه أنه المتأخر في الوجود بقول مطلق ولذلك يعبر عن يوم القيامة بالحياة الآخرة كما مر.

وقوله (وما هم بمؤمنين) يدل على عدم ايمانهم بالله ايضا فهم شرّ من الكفار حتى في معتقدهم ويدل ايضا على كذبهم وهو شيمة النفاق وربما يدل ايضا على انهم لا يؤمنون حتى في المستقبل وذلك للتأكيد المستفاد من زيادة الباء. ولذلك فهم مشمولون لما مر في توصيف الكفار بأنهم يتساوى في حقهم الانذار وعدمه وأنّهم ممن ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأنّ على ابصارهم غشاوة.

بل هؤلاء اقرب الى هذه الصفات ممن يكفر بصراحة لانهم كانوا يعيشون ضمن المجتمع الاسلامي ويشاهدون آيات الله ليلا ونهارا ويشاركونهم جماعتهم في الصلاة وغيرها ويخرجون مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الى الجهاد ومع ذلك لا يؤمنون فلا شك في ان ذلك بسبب الختم على قلوبهم كما قال تعالى في حقهم (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ).[2] وفي الآيات التالية ما يدل عليه ايضا.

والمراد بهؤلاء لا ينحصر فيمن عرفوا بالنفاق في المدينة بل هذا تقسيم للناس في جميع الازمنة فهناك قسم من الناس يظهرون الايمان لمصالح تترتب عليه وهم في الباطن غير مؤمنين بل يضمرون الشر للدين وللمسلمين جميعا.

كما أن النفاق في المدينة ايضا لا ينحصر في تلك الجماعة المعروفة بل الخطر العظيم كان فيمن لا يعرفه المسلمون منهم وقد ورد التصريح في القرآن بأنهم غير معروفين قال تعالى (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ..)[3] وقال ايضا (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ..).[4]

والامر الغريب الذي يغفل عنه كثير ممن يلاحظ تاريخ الاسلام أن المنافقين مع كل ما أخبر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم وعن خطرهم وحذّرا المسلمين منهم ومن كيدهم وأنهم أخطر من المشركين لم يبق لهم اي حركة او نشاط بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع أن المفروض أن يكونوا مترصدين لهذه الفرصة لتفعيل مكائدهم وخططهم الشيطانية!! فأين ذهبوا؟! وكأنّهم ذابوا ولم يبق منهم أثر ولا حركة!! يبدو أنهم بلغوا هدفهم المنشود فاستراحوا!!

والنفاق امر نسبي فربما يكون في كثير من المؤمنين درجة خفيفة من النفاق فاذا رأى الانسان من نفسه انه لا يقصد بكل ما يعمله من امور الدين وجه الله تعالى خالصا فهو على درجة من النفاق وقد ورد في الروايات علامات للمنافق ربما تنطبق على كثير من المؤمنين وبعضها ليس من النفاق مع الله بل مع المجتمع.

روى الكليني قدس سره بسنده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ثلاث من كنّ فيه كان منافقا وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا ائتُمن خان وإذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف...الحديث).[5]

 

يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا...

جملة بدلية توضح غرضهم من هذا القول المخالف للواقع اي هم بقولهم (آمنا) مع انهم ليسوا مؤمنين يخادعون الله تعالى. والخداع معروف والاصل فيه على ما حكي عن الخليل الاخفاء. وفي الجمهرة (خدعت الرجل اذا اظهرت له خلاف ما تخفي). ومنه المُخدَع – بضم الميم وكسرها - بمعنى الخزانة وبمعنى البيت الصغير داخل البيت الكبير.

وباب المفاعلة يدل على المحاولة اي يحاولون ان يخدعوا الله تعالى والمؤمنين باظهارهم الايمان وهم كفار في الواقع ولا يقتضي ان يكون الخداع من الطرفين كما ورد في التفاسير. ومثله قوله تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ..)[6] وهذا مما يدل على كفرهم وجهلهم بالله تعالى فيظنون انه تعالى لا يعلم ما في قلوبهم وهذا ليس غريبا منهم ولا حاجة الى ما ذكره جمع من المفسرين لتأويل مخادعتهم لله تعالى.

 

وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ...

الشعور يستعمل تارة بمعنى إدراك الامور الدقيقة بدقة الشعر ولذلك سميت المعاني الدقيقة واللطيفة التي يصل اليها او يبتكرها الشاعر شعرا ويستعمل اخرى بمعنى الاحساس والادراك بالمشاعر والحواس ومن هنا يعتبر توصيف الانسان بعدم الشعور بمعنى البلادة وكونه أدون من الحيوان وأنه لا يدرك حتى ما يدركه الحيوان بالحس.

ونفي الشعور عن المنافقين هنا يمكن ان يكون بالمعنى الاول باعتبار أن خداع النفس امر دقيق لا ينتبه له الانسان عادة ويمكن ان يكون بالمعنى الثاني كما قاله الزمخشري فيكون تنديدا بتعقلهم وإدراكهم. ولعل الاول اولى.

وخداع النفس من أخطر ما يبتلى به الانسان في أيّ مجال كان فاذا كان يخدع نفسه بانه قويّ في جسمه وينظر في عِطفه فقد يواجه من يُذلّه ويُخزيه وليس ذلك الا بسبب هذا الخداع وهكذا في العلم والمال وأيّ مورد يتسابق فيه البشر.

ومن أخطر الموارد، الخداع في الدين فإنّه يرتبط بآخرته ولعل اكثر الناس يخدعون انفسهم بمعنى أنّهم لو تأمّلوا معتقداتهم وطقوسهم الدينية لعلموا أنّهم على خطأ ولكنهم يفضّلون عدم التغيير فيخدعون انفسهم بانهم على الحقّ والآخرون على الباطل.

ويجب علينا ايضا ان لا نغترّ بانفسنا وبعقولنا فربما نعتقد صحة بعض العادات والطقوس التي ورثناها ونصرّ عليها ونكفّر من يخالفها وهي في الواقع غير مبرّرة شرعا كما أنّنا ربما نقلّد من لا يجوز تقليده تبعا للاسرة والوالدين او لأيّ سبب اخر ولا يكون لنا عذر امام الله تعالى.

والنفاق من اوضح موارد خداع النفس لانه بسهولة يمكنه معرفة انه مخطئ في طريقه فالانسان بطبعه يرفض الكذب والتظاهر بخلاف الواقع حتى في ابسط الامور ومع ابسط الناس فكيف اذا كان ينافق في دينه ويخادع ربه؟! فقليل من التدبر والتفكر يكفي لمعرفة خطئه ورجوعه الى رشده ولكنه يفضّل البقاء على حاله لمصلحته في الدنيا.

وقوله (وما يشعرون) بمعنى أنهم لا يدركون خداعهم لانفسهم وهذا ايضا من طبيعة البشر فهو يخدع نفسه ويتصور أنّ ما يقنع به نفسه هو الحق. وقليل من الناس ينتبه الى أن ما يقنع به نفسه ليس الا لتقوية عزيمته في مسيره الخاطئ. وأكثر البشر في تعصّبهم وتشدّدهم على متابعة المسير الذي ابتدأوه يعتبرون انفسهم على بصيرة من أمرهم حتى إنّهم ربما يضحّون بانفسهم في هذا المسير الخاطئ او يقتلون الابرياء والاطفال ولا يشعرون بتأنيب الضمير.  

ولكن كل هذا لا يرفع عنهم التكليف كما قال تعالى (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)[7] وانما يحتاج الانسان لمعرفة خبايا ذاته وصفاته ان يخلو بنفسه ويُخْلِيها من التعصب لما كان يعتقده ويحاول معرفة الحق الصراح ليرى انه ليس على الصراط المستقيم.

واذا وصل الى الشك وعدم الاهتداء الى طريق واضح فعليه ان يحتاط لدينه ولا يتوغّل في الباطل ولذلك كان الاعتدال هو الاقرب الى النجاة كما قال امير المؤمنين عليه السلام (الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ مَضَلَّةٌ وَالطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ).

 

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا...

مرّ بنا ان المراد بالقلب قد يكون القوة المدركة في الانسان او الاحساس والشعور وهذه الآية تبين السبب في عدم شعورهم لخداعهم انفسهم وذلك لمرض في القلوب فيضعف عندهم الادراك والشعور وهذا المرض هو النفاق فالمنافق ليس انسانا طبيعيا لانه بطبيعته يحمل من الشجاعة ما يجعله يحدّد مساره في الحياة ويتبع من يناسبه ويطمئن له اما التظاهر بخلاف ما يعتقد به حفاظا على مصالح خاصة لا خوفا على نفسه فليس من طبيعة الانسان السليم.

وهذا المرض يحصل للانسان باختياره وليس مما يعرض عليه بسبب خارجي وهو كسائر الامراض النفسية يزيد اذا لم يعالج وحيث انهم لا يحاولون العلاج بل لا يعتبرونه مرضا فانه يزداد بطبعه الى ان ينتهي الى الختم والطبع على القلب فلا يدركون شيئا ولا يعقلون. فازدياد هذا المرض امر طبيعي مستند الى عملهم وانما يسند الى الله لان كل ما هو من شؤون الطبيعة فهو مستند اليه تعالى.

ويمكن أن يكون الاسناد الى الله تعالى باعتبار أنه أنزل القرآن وهدايات السماء وأبلغهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فحيث إنهم لم يؤمنوا به فزادهم ذلك رجسا الى رجسهم كما قال تعالى (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ)[8] فزيادة الرجس بسبب تكذيبهم ولكنه يسند الى السورة لانها السبب في ذلك.

ومن جهة اخرى حيث تتم الحجة عليهم فيكون اصرارهم على الكفر موجبا لكونه رجسا أعظم من ذي قبل حيث لم تنزل الحجج والهدايات. ومن هنا لم يكن القرآن ينفعهم بل يزيدهم خسرانا كما قال تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا).[9]

ومن جهة ثالثة فالانسان اذا لم يهتد الى الطريق الصحيح وظلّ مصرّا على الانحراف عن الحق فانه كلما توغّل في السير زاد بعدا عن الجادة والصراط السويّ.

ومن جهة رابعة يزيدون مرضا بسبب ايجاد القرآن حسدا في نفوسهم لما كانوا يرون في ذلك من عظمة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في اعين الناس فهم وان كانوا مرضى بسبب كفرهم وعنادهم الا ان القرآن زادهم مرضا بسبب ايجاد الحسد في قلوبهم ويزيدون مرضا ايضا لكبرهم وترفعهم من الخضوع للرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وهكذا الامراض النفسية تستتبع بعضها بعضا.

وهكذا رسالات السماء ومواعظ المصلحين تزيد في قلوب الحاسدين والكبراء أمراضا نفسية وبعدا عن الحق كما قال تعالى عن لسان نوح عليه السلام (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا)[10] فهم كانوا يفرّون من الاستماع الى كلام رسولهم ولكن إصراره لإبلاغ الرسالة اليهم زادهم فرارا بدلا من جذبهم ليلتفّوا حوله.

وقيل إن التعبير بالمرض من باب التجوز وهذا القائل يتصور أن المرض يختص بما يصيب الجسم ويضعفه مع أن الامراض الروحية امراض واقعية وربما تقتل ايضا او يصيب الانسان بسببها ما هو اخطر من الموت فيفقد عقله او يضله عن الطريق الصحيح.

والغالب في الامراض الروحية أن الانسان لا يعلم بها ولا يشعر بشيء بل حتى لو نبّه عليها ربما ينكر ويرى نفسه سليما لانه لا يشعر بألم. وأخطر الامراض ما لا ألم له فان الألم الذي يحصل بسبب المرض من نعم الله تعالى لانه يبعث الانسان الى محاولة العلاج اما اذا لم يكن للمرض ألم فلا يعلم به الانسان ولا يشعر الا بعد ان يفتك به. 

و(زاد) من الافعال التي تأتي لازمة فلا مفعول لها وتأتي متعدية الى مفعول والى مفعولين كما هو الحال في هذه الجملة (فزادهم الله مرضا) فالضمير مفعوله الاول والمرض مفعوله الثاني.

 

وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ...

وهذا نتيجة عملهم في الآخرة بعد ان تبين نتيجة نفاقهم في الدنيا وهو تضاعف المرض كما اصيب الذين كفروا بالختم نتيجة لعنادهم. وعذابهم في الآخرة بسبب كذبهم فان المنافق كذاب حتى لو لم يتكلم فانه بفعله وريائه يكذب على الناس ويريهم نفسه على غير ما هو عليه.

وفي الآية تنبيه على قبح الكذب وحرمته بذاته بحيث يستلزم العذاب الاليم اذ لم تذكر في الآية خصوصية في كذبهم بل ظاهرها أن العذاب الاليم بسبب نفس الكذب مهما كان وفي أيّ مجال الا ما يفهم من قوله (كانوا يكذبون) حيث يدل على استمرارهم في الكذب فلم يكن الكذب امرا طارئا عليهم لحاجة او لمصلحة على الاقل بل اصبح الكذب عادتهم كما نجده عند بعض الناس بحيث لا يصدق الا لضرورة. والمنافق لا يمكنه ان يتخلى عن الكذب لانه بكل افعاله وتعامله مع الاخرين في المجتمع يظهر خلاف الواقع.

ولكن بعض المفسرين حاول تأويل الآية لاستغرابه أن يعذّب المنافق لكذبه مع أن كفره أعظم فقال بعضهم إن المراد بكذبهم قولهم (آمنا بالله وباليوم الآخر) والكذب فيه بمعنى الكفر فهم يعذّبون على كفرهم ولعله لذلك قرأ بعضهم بالتشديد اي (بما كانوا يكذّبون) فتكون (ما) مصدرية اي بتكذيبهم للرسالة.

ولكن الصحيح أنه لا حاجة الى التأويل لأن الكفار مكلفون بالفروع كما هم مكلفون بالاصول ومعاقبون ايضا على الاصول والفروع ولذلك قال تعالى بشأن قوم نوح عليه السلام (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا..)[11] فالعذاب الدنيوي نزل عليهم بسبب خطيئاتهم. کما أن قوم لوط علیه السلام نزل عليهم العذاب لعملهم الشنيع.

واما في الآخرة فكل عمل يحاسب عليه الانسان كما قال تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[12] فالمنافق كما يعذّب لكفره يعذّب ايضا لكذبه ونفاقه ولعل هذا هو السبب في كونهم أشد عذابا من الكفار كما قال تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ..).[13]

وقد مر الوجه في تنكير العذاب. والأليم فعيل بمعنى مُفعِل كما قيل بمعنى أنه عذاب مؤلم او بمعنى أنه ذو ألم من باب المبالغة فان العذاب سبب لتألم الانسان وليس هو بنفسه اليما نظير قولهم جدّ جِدُّه مع انه فعل الجادّ لا الجدّ.

 

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ...

الفساد ضد الصلاح وهو بقاء كل شيء على حالته الطبيعية ليُنتفع به كما اراده الله تعالى فكل تغيير في الوضع الطبيعي بحيث يستلزم عدم استقامة الشيء للانتفاع به فساد فيه.

والمراد بالفساد في الارض نشر هذه الحالة اي تخريب ما وضعه الله تعالى لمصلحة الناس كما قال تعالى (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ).[14]

وهذه الآية وتاليتها يحتمل فيهما العطف على قوله (كانوا يكذبون) في الاية السابقة فيكون المعنى أنهم يعذبون عذابا اليما لكذبهم ولانهم كانوا يفسدون في الارض ويرون انفسهم مصلحين وأنهم لا يؤمنون ويعتبرون المؤمنين سفهاء.

ويحتمل العطف على قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) فتكون كل منهما لبيان صفة اخرى من صفات المنافقين فالاولى أنهم يظهرون الايمان وما هم بمؤمنين والثانية أنهم يفسدون في الارض ويظهرون أنفسهم بأنهم مصلحون.

وهذا هو بنفسه نفاق عظيم وخطير وهو في نفس الوقت منتشر في المجتمع بكثرة فاذا لاحظنا الاوضاع الاجتماعية نجد أنّها تسير الى الفساد بسرعة ومع ذلك نجد كبراء الناس في كل مكان يتبجّحون بأنّهم من دعاة الاصلاح وأنّهم لا يهمهم شيء الا الاصلاح مع ان الفساد لم يأت الا منهم.

كما قال تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).[15] وهم لا يكتفون بذلك بل يتهمون الانبياء والرسل والمصلحين بأنهم هم المفسدون كما قال تعالى (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)[16] وهذا ما نجده في كل الاعصار والامصار.

والقرآن تعرّض لمفاسدهم في مواضع كثيرة:

منها مخالفتهم لاوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ..).[17]

ومنها أنهم كانوا يستهزءون بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويؤذونه وهو ايضا مذكور في موارد في القرآن كما في قوله تعالى (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).[18] 

ومنها أنهم كانوا يرتبطون بأعداء الاسلام من المشركين واليهود ويتجسسون لهم ويبعثون لهم الاخبار الخاصة ولذلك نزل فيهم قوله تعالى (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)[19] وايضا قوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ).[20] وكذلك قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).[21]

ومن ذلك قصة حاطب ابن ابي بلتعة الذي نزل في شأنه قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ..).[22]

ومنها أنهم كانوا يضعّفون عزائم المسلمين في الحرب مع الاعداء وهو امر خطير جدا وقد ورد التنبيه على ذلك في عدة موارد كقوله تعالى (وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ).[23] وكقوله تعالى (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا..)[24] وكقوله تعالى (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ..).[25]

ومنها أنهم كانوا يستهزءون بالمؤمنين الضعفاء ليردّوهم عن دينهم كما قال تعالى (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).[26] بل كانوا يامرون بالمنكر بصراحة كما قال تعالى (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ..).[27]

ومنها أنهم كانوا يشيعون المخاوف في المجتمع الاسلامي لتضعيف المؤمنين وهو الذي عبر عنه في القرآن بالارجاف كما قال تعالى (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا).[28]

بل اتخذوا لذلك مجمعا لهم وبنوا مسجدا كما في قوله تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).[29]

وغير ذلك مما ورد في مواضع مختلفة من الكتاب العزيز خصوصا في سورة التوبة والاحزاب والمنافقون.

وقد روى ابن جرير بسنده عن سَلْمان رضوان الله عليه (أنه قال في هذه الآية "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ" قال: ما جاء هؤلاء بعدُ).[30]

ولعل مراده ان من تنطبق عليهم الآية في هذه الامة بوضوح لم يأتوا بعد ولا يبعد ذلك وان حاول المفسرون ومنهم ابن جرير تأويل كلامه الا ان الواقع هو أن الفساد في الارض ممن يدّعون الاصلاح كثر وانتشر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو منتشر الى يومنا هذا فلعله رضوان الله عليه اراد ان يحذّر الامة من أن المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم زرعوا بذرة الفساد في المجتمع وسترون ثمراته في المستقبل.

والآية الكريمة تبيّن حالتهم بطريقة ملفتة فلا تنقل دعواهم الاصلاح ابتداءا وانما بعد ظهور إفسادهم في الارض بحيث يعترض عليهم الناس وينهونهم عن الافساد فيدّعون أنهم لا يريدون الا الاصلاح وتعبير جوابهم يدل على حصر هدفهم وغايتهم في الاصلاح.

وهناك بحث في تحديد من يخاطبهم بهذا القول وهذا مما لا طائل تحته فالغرض ليس هو بيان من يقول بل الاسناد الى المجهول مقصود بالذات اذ ليس هناك قائل محدّد بل هذا هو لسان حال المجتمع لوضوح انتشار الفساد من قبلهم.

 

أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ...

تردّ عليهم الآية بوضوح. وكلمة (ألا) للتنبيه و(إنّ) للتاكيد و(هم المفسدون) يفيد الحصر اي لا مفسد غيرهم فالفساد المنتشر في الارض اي في المجتمع الاسلامي ليس الا من قبلهم ولكنهم لا يشعرون بفساد عملهم. وقد مر الكلام في معنى الشعور في تفسير الآية 9 وهنا ايضا يأتي الاحتمالان.

وعدم الشعور هنا من طبيعة الانسان فالذي يرتكب افظع الجرائم لو سألته عن غايته وهدفه لرأيته يحاول تبرير موقفه كما كان فرعون يدّعي ذلك ويظهر للناس خوفه من موسى عليه السلام ان ينشر الفساد.

وهكذا كان فراعنة المسلمين.. يقتلون اهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذين هم ائمة المسلمين بنص منه صلى الله عليه وآله وسلم ويدّعون انهم يصلحون بذلك شأن المجتمع. وأبعد منهم عن الشعور بحقيقة الامر الذين صفّقوا لهم وحاربوا تحت رايتهم وملأوا الصحف والكتب قديما وحديثا والى يومنا هذا من الاراجيف التي نشرها صنّاع الحديث في تلك العصور السوداء لتبرير مواقف الطغاة.

 

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ...

موقف آخر من مواقف المنافقين يبيّن لنا حقيقة أمرهم وهو استعلاؤهم على عامّة الناس وتبجّحهم بالثقافة والفهم وهذا ايضا مستمرّ الى يومنا هذا.

والظاهر أنّ هذا القول الذي يقال لهم (آمنوا كما آمن الناس) انما كان يحدث بعد بروز بعض الترديد منهم في اتّخاذ الموقف في الأيّام العصيبة التي كانت تمرّ على المسلمين في عهد الرسالة فإنّ المنافقين كانوا يعيشون حالة التردّد في كلّ هذه المواضع ولا يعلمون ما هو الأصلح لهم.

ومن هذه الموارد ما ذكره تعالى بقوله (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ).[31] فهذا احد المواقف الصعبة حيث كان الجيش الاسلامي يتأهّب للخروج بأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لحرب لا بدّ منها في بلد بعيد وهي غزوة تبوك وهم يستأذنون في البقاء ووصفهم بنفس ما وصفهم هنا (لايؤمنون بالله واليوم الآخر) وبأنهم مرتابون مترددون.

ووصفهم في موضع اخر بقوله تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ..).[32]

فالترديد والشك والتذبذب والاضطراب كانت الصفات البادية عليهم في كل المواقف فلعل بعض المؤمنين نصحهم او كان ذلك لسان الحال فالمجتمع كان يطالبهم بترك هذه الحالة والدخول فيما دخل فيه الناس والايمان بنفس المستوى الذي عليه سائر الناس.

والمراد بقولهم (كما آمن الناس) ليس اصل الايمان بالله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لانهم كانوا يدّعون الايمان ولكن النصيحة ان يكون ايمانهم بنفس الدرجة التي يؤمن الناس بها بحيث لا يبدو منهم أيّ تردّد في التسليم والقبول لما يأمر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وقولهم في الجواب (أنؤمن كما آمن السفهاء) قد يكون نقلا لصريح كلامهم او التلفظ بما يفيد نفس المضمون وقد يكون المراد أنه هو ما يتبين من أعمالهم ومن خلال دعاويهم وان لم يصرّحوا به. ومعنى كلامهم ان عامّة الناس سفهاء يغلب عليهم الحمق والسذاجة ونحن الاعلون ولا يمكن ان نتّبعهم في ما يفعلون.

والسفاهة في الاصل بمعنى الخفة وتطلق على من يكون خفيف العقل إمّا لطيش الشباب فيرتكب ما لا يناسب العقلاء والحلماء او لقلة فهمه وغبائه وهذا هو المقصود هنا فالمنافقون حيث إنّهم لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يعترفون بعقلانية هذه الحركة يعتبرون كل نشاط وتضحية في هذا السبيل غاية في الحمق.

وهذا ما نسمعه من كثير من اعداء الدين فانهم يعتبرون أقدس ما نقوم به وهو الصلاة امرا سخيفا كما قال تعالى بشأن اليهود (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ).[33]

وبصورة عامة وفي جميع الازمنة والمجامع البشرية نجد أنّ النخبة المثقّفة او اصحاب الثراء والجاه يبتعدون عن الدين وشعائره ويستنكفون من حضور المجامع الدينية بحجة أنها لا تناسبهم وانما تناسب الفقراء واصحاب المهن السافلة وقديما اعتذر قوم نوح عليه السلام من الايمان به بهذه الحجة كما قال تعالى (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ..)[34] وقال ايضا (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ).[35]

واذا حضروا لمصلحة تخصهم فانهم يستنكفون من مجالسة الفقراء والقرب منهم سواء في صفوف الجماعة او في حضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويعبسون ويقطبون وجوههم من حضورهم عندهم استكبارا ومن ذلك قوله تعالى (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى)[36] والعابس رجل من بني امية كما في رواياتنا.  

وربما يستغرب من المنافقين هذا الكلام مع انهم أظهروا الايمان بقولهم (آمنّا بالله وباليوم الآخر) ولكن لا غرابة فيه فهم كانوا يظهرون في كل موقف بوجه. وعبدالله بن ابيّ كان يصلي مع المسلمين ويقاتل في صفوفهم ويظهر الايمان بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذلك هو الذي قال (لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا)[37] ونحو ذلك.

 

أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ...

والجواب مؤكّد ايضا بنفس أدوات التاكيد التي مرّت في الآية السابقة لحصر السفهاء فيهم والمراد من الحصر بالاضافة الى المجتمع الاسلامي او يراد من الحصر كل من على شاكلتهم من عدم الايمان بالله واليوم الاخر.

والسر في ذلك أنهم يبيعون آخرتهم بالدنيا فاذا حُشروا يوم القيامة سيعلمون أنّهم هم السفهاء وأنّهم هم الخاسرون. ولكنهم لا يعلمون في هذه الحياة لانهم طُبع على قلوبهم نتيجة نفاقهم فهم لا يفقهون.

 

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ...  

ومن مستلزمات نفاقهم أنهم يعترفون فيما بينهم بأنهم يستهزئون بالمجتمع الاسلامي والاستهزاء كان قديما وحديثا من وسائل الازدراء بالاصلاح وبالرسالات وإبعاد الناس عنها لانه لا يمكن ان يعارض بمثله فالرسول لا يستهزئ ولا يقابل الباطل بمثله.

وكان شياطين الانس يتمكنون بذلك من الغلبة على الرسالة في حشد الناس لان الغالب فيهم هو الجهل والسذاجة فيحتقرون الرسل والمصلحين بسبب الاستهزاء وهذه ليست مواجهة بدليل ليقابل بدليل.

وفي القرآن آيات كثيرة في بيان استهزاء أعداء الرسالات منها كما كان كفار مكة يدعون سفهاءهم الى الصياح حين قراءة القرآن لئلا يسمع صوت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).[38]

ويظهر من استهزاء المنافقين بوضوح أنّهم ما كانوا يؤمنون بالرسالة وكثيرا مّا كان هذا يظهر منهم وعلى فلتات لسانهم ومواقفهم امام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

ولا يغرّنّك ما تجده في طيّات الكتب من تحديد مصاديق النفاق بفرقة خاصة تجمّعوا حول عبدالله بن اُبيّ فإنّهم أخفّ المنافقين ضررا على المسلمين وانّما الذي اغتال الاسلام وسرق منه أغلى شيء فيه هم الذين استخْفَوا تحت عناوين خلّابة وهم ايضا كانت تظهر على فلتات لسانهم الكفر ورفض ما يقوله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وتبيّن ذلك منهم بوضوح بعد وفاته حيث كشروا عن أنيابهم وأبدوا بغضهم للرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم من خلال إبادة اهل بيته عليهم السلام.

وقولهم (آمنّا) في لقاء المؤمنين قد لا يكون قولا باللفظ ولكنهم كانوا يظهرون الايمان بافعالهم بل وباقوالهم المعسولة كما قال تعالى (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ..)[39] وقال ايضا (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ).[40]

و(خلوا الى شياطينهم) اي اجتمعوا بهم في خلوة وكلمة (خلا) لا تتعدى بـ (الى) وانما تعدت هنا لتضمينها معنى الانتهاء وقيل (الى) هنا بمعنى (مع). وقيل اي مضوا الى شياطينهم فلا يراد بقوله (خلوا) الاختلاء بهم وهو بعيد.

واختلف في المراد بالشياطين فقيل هم كبراؤهم سواء كانوا من منافقي العرب ام اهل الكتاب. والشيطان لا يختص بابليس وذريته كما قال تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ..)[41] وقيل المراد بهم كل من كان منهم مصرّا على النفاق ويوسوس في قلوب الآخرين سواء الكبراء ام غيرهم ولا دليل على الخصوصية ولا يبعد ذلك.

والشيطان مأخوذ من شطن اي بعُد واطلق على المارد من الجن والانس لبعده عن رحمة الله او تباعده عن الطاعة. وقيل انه ماخوذ من شاط يشيط اذا هلك واحترق وهو بعيد.

 

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ...

فُسّر الهُزْء والاستهزاء بالسخرية والضحك على الشخص وحيث اعترفوا في كلامهم بأنهم يضحكون من المؤمنين كما قال تعالى في موضع آخر (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ)[42] فالله تعالى يردّ عليهم انه هو الذي يستهزئ بهم ويسخر منهم.

وتقديم اسم الجلالة للتنبيه على ان الاستهزاء في الحقيقة ليس منهم بل هو منه تعالى وواقع عليهم. ولم يأت بحرف العطف لأن هذه جملة مستقلة يردّ بها على تبجّحهم بالاستهزاء. وفعل المضارع يدل على أنه أمر مستمر.

والكلام هنا في معنى الاستهزاء الذي نسب الى الله تعالى فانه تعالى لا يستهزئ بأحد ومثله قوله تعالى (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ..).[43]

وفي توجيه ذلك وجوه:

الاول : انه من باب المشاكلة حيث قالوا انا مستهزءون وحيث إنّ الله تعالى يعذّبهم على ذلك فسمّى عذابه استهزاءا بهم نظير قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ..)[44] مع أن مقابلة الاعتداء ليس اعتداءا وانما عبّر به للمشاكلة.

ولعل هذا هو المراد بما ورد في الحديث عن الامام الرضا عليه السلام حيث روى الصدوق رحمه الله بسنده عن علي بن الحسن بن فضال عن ابيه في حديث قال (وسألته عن قوله تعالى (سخر الله منهم) وعن قوله (الله يستهزئ بهم) وعن قوله (ومكروا ومكر الله) وعن قوله ( يخادعون الله وهو خادعهم) فقال إن الله لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع ولكنه تعالى يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا).[45]

الثاني: أن هذا التعبير يراد به احتقارهم وإذلالهم وان كان المراد به ما يستحقونه من العذاب على كفرهم ونفاقهم.

الثالث: أن المراد به إمهالهم واستدراجهم بالانعام عليهم وزيادة النعم كلما زادوا كفرا ونفاقا وهذا ما يلاحظ أنه سنة الله تعالى في مقابل الطغاة والمستكبرين فهو استهزاء عملي وذلك لان هذا الاستمرار في النعم بل الزيادة فيها يوهم بظاهره انه إكرام للانسان ويخيل اليه ايضا أن له على الله كرامة وحتى لو كان كافرا ومنكرا لله تعالى فهو يتصور أنه يستحق هذه النعم وأنه انما حصل عليها لمزيّة ذاتية فيه.

قال تعالى في قصة الرجلين في سورة الكهف عن لسان الرجل الكافر (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا)[46] وقال ايضا (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى)[47] وقال (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ)[48] ولا يقول ربي أنعم عليّ بل يعتبره إكراما من الله. ولو لم يؤمن بالله لكان يقول كما قال قارون حسبما ورد في قوله تعالى (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي).[49]

والحاصل أن هذا الاملاء والامهال بحسب الظاهر يعتبر اكراما للانسان ولكنه في الواقع استدراج له الى ما يوجب هلاكه قال تعالى (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ).[50] فهذا استهزاء بهم في مرحلة العمل والنتيجة وليس استهزاءا قوليا والآيات في هذا المعنى كثيرة.

الرابع: أن الله تعالى يحكم عليهم في الظاهر بأنهم مسلمون وتجري عليهم احكام الاسلام من الطهارة واحترام المال والتزاوج بل ربما كان بعضهم يتقرب الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وينال اكرامه واحترامه لما اوتي من سعة الصدر والخلق العظيم فيتوهم بذلك أنه مع كفره في الباطن ومع كل ما أخفى في نفسه من المكيدة والحقد للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين قد نال كل ما امتاز به المؤمنون في الدنيا والآخرة وان كان لا يعتقد بالآخرة الا انه يحتمل ذلك. وهذا هو بنفسه اعظم مكيدة اخفاها الله لهم وهو استهزاء بهم في مرحلة العمل ايضا.

الخامس: يمكن أن يقال إن الاستهزاء ليس بمعنى الضحك والمزاح والخفّة كما يقال لئلا يصح إسناده الى الله تعالى بل ينطبق على كل ما يوجب فضح امر الانسان وإذلاله بحيث يكون موضع السخرية والاستهزاء من الآخرين وهذا هو ما يحصل لكل انسان يقاوم ارادة الله تعالى ويعمل بخلاف ما امر به فالمراد بالاستهزاء أنه يقع نتيجة هذا الامهال موردا لاستهزاء الناس بهم يوم القيامة.

والجملة التالية بيان لكيفية ايقاعهم في ما يوجب الضحك عليهم والاستهزاء بهم وهو انه تعالى يمدّهم في طغيانهم.

والمدّ - كما في العين - الجذب. وفي معجم المقاييس جرّ شيء في طول. ورجل مديد الجسم اي طويل فالمدّ والامداد ايصال ما به يبقى الشيء على حاله من خير وشر كما قال تعالى (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ)[51] ومنه إمداد الجيش اي إرسال المدد اليهم من جند وسلاح وعتاد.

والطغيان بمعنى تجاوز الحدّ في العصيان مأخوذ من تجاوز السيل فان الماء له حدّ في المسيل فاذا ارتفع الماء اكثر من هذا الحدّ يقال انه طغى قال تعالى (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ)[52] يشير الى ما أصاب قوم نوح عليه السلام.

والعصيان ليس له حدّ مجاز فكل صغيرة وكبيرة سيئة ولكن الانسان بطبعه يبتلى بالمعاصي والله تعالى يعذره كما قال (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)[53] فالمراد بالطغيان الافراط في المعصية.

ووقع الكلام هنا في المراد بهذا المد فقال بعضهم ان الله تعالى يمدّ لهم في النعم لكي يؤمنوا ويعبدوا ربهم ولكنهم يطغون وليس المراد انه تعالى يمدّهم في طغيانهم لانه تعالى لا يساعد على المعصية.

ولكنه خلاف الظاهر لا يصار اليه الا بدليل.

وقيل ان المراد خذلانهم وعدم توفيقهم للايمان فسمي ذلك مددا في الطغيان واسند اليه تعالى مجازا وان الذي كان منه تعالى مجرد الترك وربما يؤيد ذلك قوله تعالى (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)[54] اي نتركهم.

وهو ايضا تاويل مخالف لظاهر الاية ويلاحظ ان الوارد في سورة الانعام قبل هذه الجملة (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فالذي يفعله الله تعالى بهم هو تقليب الافئدة والابصار ويترتب عليه تركهم يعمهون.

وقيل ان الفعل من الشيطان واقعا بقرينة قوله تعالى (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ)[55] واسناده الى الله تعالى من جهة انه مكّن الشياطين من رقابهم وسلطهم عليهم.

وهذا ايضا كما سبق مخالف لظاهر الاية.

ويلاحظ انه لا موجب لهذه التأويلات ولا مانع من اسناد المدّ في الطغيان والاضلال الى الله تعالى فقد ورد التصريح بذلك اليه تعالى في موارد متعددة من القران وورد ايضا توجيهه بما لا يوجب اشكالا كما قال تعالى (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ).[56]

فالمراد هنا انه تعالى يمدّ لهم فيما يوجب طغيانهم من مال وجاه واولاد وسلطة ونحو ذلك لكي يبقوا على طغيانهم على الله تعالى ولا يهتدوا الى الحق الى ان يفتضح امرهم يوم القيامة ويضحك منهم المؤمنون كما قال تعالى (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ).[57]

وهذه فتنة من الله تعالى لهم ولغيرهم ايضا كما قال موسى عليه السلام على ما في قوله تعالى(وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ)[58] والوجه في ذلك أن الناس تبهرهم زينة الطغاة وربما يتوهمون انهم يستحقونها فيفتنون كما افتتن قوم قارون بزينته على ما في سورة القصص.

والايات في الاشارة الى هذه الفتنة كثيرة منها قوله تعالى (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا..)[59] جاء المدّ هنا بصيغة الامر للدلالة على انه امر واجب وثابت لان الدنيا دار فتنة وبلاء.

ومنها قوله تعالى (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ).[60]

ومثل المدّ والامداد، الاملاء كما في قوله تعالى (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)[61] قال في المفردات (الاملاء: الامداد ومنه قيل للمدة الطويلة ملاوة من الدهر وملي من الدهر).

وقوله (يعمهون) جملة حالية. والعمه: التردّد والحيرة وهو كالعمى الا انه في البصر وهذا في البصيرة. وهذه الحالة انما حصلت لهم من طغيانهم على الله تعالى الذي استوجب نفاقهم وتردّدهم فاذا استمر السبب وهو الطغيان استمر العمه والتحيّر.

وهذه الآية ايضا مما يدل على مجازاة نفاقهم واصرارهم وعنادهم بالطبع والختم بل بالامداد ليستمرّوا في طغيانهم وعمههم كما قال تعالى (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ).[62]

 

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ...

الاشارة بقوله (اولئك) الى المنافقين. وهذا التعبير يفيد الحصر كأنه ليس غيرهم من اشترى الضلالة بالهدى. وهذا يدل على أن المراد بالمنافقين في هذه الآيات ليس خصوص مجموعة منهم بل يشمل كل من اشترى الضلالة بالهدى. وهذا عنوان ينطبق على كثير ممن يظهر منهم الاسلام والايمان.

والاشتراء مطاوعة الشراء وهو البيع فالمعنى أنهم أخذوا الضلالة ودفعوا الهدى ثمنا لها وهذا الامر خاص بالمنافقين ومن يحذو حذوهم ممن يتخلّى عن دينه وعن الهداية التي منحه الله تعالى إيّاها ووفّقه لها ويستبدلها بالضلال.

وهذا هو السر في التعبير بالاشتراء دون الاستبدال فهم كانوا يملكون هداية من الله تعالى حيث أنزل القرآن وبعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم ولكنهم تركوا الهداية وعادوا الى ضلالتهم.

ولكن ليست هنا مبادلة بين الثمن والمثمن فان الهداية التي تركوها لم يأخذها من قدّم لهم الضلالة وانما شبّه عملهم هذا بالاشتراء من جهة الاستبدال بعد حصولهم على نعمة الهداية فتركوها واخذوا الضلال. والتشبيه دائما ليس في كل الجهات التي يشتمل عليها المشبه به فاذا شبّه الشجاع بالاسد فانما هو في الشجاعة لا في كل خصائصه.

وإسناد الربح وعدمه الى التجارة إسناد مجازي فالرابح والخاسر هو التاجر لا التجارة. وعدم الربح هنا امر طبيعي فالذي يدفع أغلى الاشياء اي هدايات الله تعالى ويقتنع بما يحصل عليه من متاع الدنيا فانه في غاية الخسران ولكنه طُبع على قلبه فلا يدرك ولا يشعر.

ومصداق هذا العنوان كثير في مجتمعنا فكل من يخالف اوامر الله تعالى ونواهيه لمصلحة مادية ينطبق عليه ذلك الا ان الخسارة قد تكون كبيرة تشمل كل ما لديه فلا يبقى له راس مال اصلا وقد تكون في جزء من راس المال. والمنافق اذا استمر على نفاقه لا يبقى له شيء لانه يبيع اصل دينه.

وربما يقال ان هذا التعبير غير واف لان عدم الربح في التجارة لا يستلزم خسارة راس المال مع انهم في الواقع خسروا كل شيء فلعل التعبير الانسب ان يقال فخسرت تجارتهم كما عبر به في موارد كثيرة من القرآن بل ذكر انهم يخسرون الدنيا والآخرة.

والجواب أن التجارة هنا ليست كسائر التجارات تكون رابحة او خاسرة او لا تكون فيها ربح ولا خسارة بل التجارة هنا اما رابحة وإمّا خاسرة والخسارة شديدة جدا مما لا يمكن جبرانه لان الذي يخسره هنا هو نفسه وهي أعز ما عنده بل ليس له شيء غيرها فاذا خسرها فهو الخاسر لا غيره ولذلك قال تعالى (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).[63]  

ولا شكّ في أنّهم بعد التخلّي عن الهداية الالهية والتمسك بالضلال ليسوا مهتدين ولكن قوله تعالى (وما كانوا مهتدين) ليس تكرارا لنفي الهداية في هذه المعاملة بل المراد أنّهم لم يهتدوا الى طريق صحيح في التجارة والتعامل بما اكتسبوه وهذا امر مهمّ ينبغي ان يلتفت الانسان اليه في كل نشاطه الاجتماعي والفردي ويلاحظ انه ماذا يحصل عليه وبأيّ ثمن؟ ماذا يدفع وماذا يكسب؟

ولذلك يحثّ القرآن على تجارة رابحة بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).[64]

 


[1] الاعراف : 54

[2] المنافقون: 3

[3] التوبة : 101

[4] محمد : 29 - 30

[5] الكافي ج 2 ص 291 باب اصول الكفر

[6] النساء: 142

[7] القيامة : 14 - 15

[8] التوبة : 124 - 125

[9] الاسراء : 82

[10] نوح : 5 - 6

[11] نوح : 25

[12] الزلزلة : 7 - 8

[13] النساء : 145

[14] البقرة: 205

[15] القصص: 4

[16] غافر: 26

[17] النساء : 81

[18] التوبة : 61

[19] النساء : 139

[20] محمد : 26

[21] المجادلة : 14

[22] الممتحنة : 1

[23] التوبة : 81

[24] الاحزاب : 13 - 14

[25] التوبة : 45 - 47

[26] التوبة : 79

[27] التوبة : 67

[28] الاحزاب : 60

[29] التوبة : 107

[30] تفسير الطبري ج1 ص287 على ما في الموسوعة الشاملة

[31] التوبة: 45

[32] النساء: 142- 143

[33] المائدة: 58

[34] هود : 27

[35] الشعراء : 111

[36] عبس : 1 - 2

[37] المنافقون : 7

[38] فصلت: 26

[39] المنافقون: 4

[40] البقرة: 204

[41] الانعام: 112

[42] المطففين: 29

[43] التوبة: 79

[44] البقرة : 194

[45] عيون اخبار الرضا ج1 ص 115

[46] الكهف : 36

[47] فصلت : 50

[48] الفجر : 15

[49] القصص : 78

[50] ال عمران : 178

[51] لقمان: 27

[52] الحاقة : 11

[53] النجم : 32

[54]  الانعام : 110

[55] الاعراف : 202

[56] البقرة : 26

[57] المطففين: 34

[58] يونس : 88

[59] مريم : 75

[60] الزخرف: 33 - 35

[61] ال عمران : 178

[62] المؤمنون: 54- 56

[63] الزمر : 15

[64] الصف: 10- 13