مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ...

الظاهر ان مفاد هذه الآية تفصيل ما مر من اخذ الميثاق منهم في قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[1] ففي هذه الآية يبين بالتفصيل بنود الميثاق الالهي. وقوله (اذ) ظرف متعلق بمقدّر اي واذكروا اذ اخذنا او واذكر فيكون خطابا للرسول صلى الله عليه واله وسلم او لكل قارئ وسامع للاية.

والميثاق مصدر ميمي من الوثوق وهو الإحكام ويطلق على العهد نفسه ايضا فالمراد هنا ما عهده الله تعالى اليهم من اوامر واحكام واخذ منهم الميثاق ان يلتزموا بها.

وهذا التفصيل يوضح لهم ان هذه الشريعة التي يستنكفون من قبولها موافقة لشريعتهم في اصول الاحكام. وقد اشير الى هذا الامر في الكتاب العزيز في عدة موارد منها قوله تعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)[2] وان كانوا لاستكبارهم لا يعملون بشريعتهم ايضا.

ويمكن ان تكون هذه الاية وما تليها لبيان عدم استحقاقهم لما ادّعوه من الاختصاص بانهم لا تمسهم النار الا اياما معدودة بسبب جرائمهم وخصوصا ما سياتي من الفساد الاجتماعي بسبب القتل الذي اقترفوه بحق بعضهم.

وقوله تعالى (لاتعبدون) جملة خبرية ولكن يراد بها النهي ولا ريب في ان انشاء النهي بالجملة الخبرية آكد من النهي الصريح وذلك لأنّ من ينفي عن مخاطبه ما لا يرضاه كأنه يقول له انت لا تفعل ذلك من نفسك من دون ان اقول لك وفي مثل الخطاب الوارد هنا كأنّ المولى جل شأنه لا يتوقع من عبده ان يعبد غيره تعالى فلا يقول لا تعبد بل يقول انك لا تعبد غيري قطعا.

وهذا اقرب الوجوه في تفسير هذه الجملة وهناك اقوال اخرى لعل اقربها أن تكون هذه الجملة بيانا لاحد بنود الميثاق باعتبار انه اتفاق بين طرفين فمن الامور المتفق عليها بينهما ان لا يعبدوا الا الله تعالى.

ولكنه بعيد جدا فالميثاق بين الله تعالى وخلقه ليس كالمواثيق فيما بينهم بان يتفق الطرفان على عدة امور بل الميثاق هو اوامر من الله تعالى الى عبيده يجب ان يمتثلوها ويخضعوا لها. 

وقال بعض المفسرين لا بد من تقدير القول قبل الجملة الخبرية ليربطها بالميثاق فيجب ان يقدر قائلين او قلنا ونحوهما ولكن الظاهر انه لا حاجة اليه بل يصح ان تكون هذه الجملة تفسيرا للميثاق فانه مبهم في ذاته.

ثم ان صريح الميثاق هو نفي عبادة غيره تعالى لا الامر بعبادته فانه يفهم من الاستثناء مع انه امر مفروغ عنه وانما الاهتمام بالامر السلبي في مشروعية العبادة وهو نفي الشرك سواء ما كان من الشرك في اصل العبادة كعبادة الاصنام والعجل والكواكب ونحوها او اشراك غيره تعالى في عبادته والصلاة له بالرياء والسمعة فانه ايضا عبادة لغيره تعالى وهذه العبادة ليست باطلة وغير مقبولة فحسب بل تعتبر جريمة واثما كبيرا فترك مثل هذه الصلاة افضل.

والشرك ربما يكون خفيا فلا يوجب البطلان ولكنه يقلل من الاجر والكمال فيكون العمل ناقصا كما لو كان الانسان يعبد ربه للوصول الى بعض الاهداف الدنيوية ولو عن طريق تفضله تعالى فهو يطلب من الله الرزق والشفاء وطول العمر ويصلي من اجل ذلك.

ونسمع كثيرا من الناس انهم يدفعون الخمس والزكاة من اجل البركة وزيادة المال بل يعتقد بعضهم انه اذا لم يدفع فانه يخسر ماله وان كل ما يصيبه من التأخّر في كسب الارباح مستند الى ذلك.

ولذلك تجدهم يهتمون بدفع زكاة الفطرة اكثر من الخمس لانهم سمعوا من الخطباء انها تؤمّن بقاءهم الى سنة تالية مع انه كلام باطل لا اساس له وكل من يموت طول السنة من المؤمنين قد دفع فطرته ومع انهم يرون ايضا ان بعض من لا يدفع شيئا اكثر مالا منهم ومع ذلك تؤثر فيهم هذه الاقاويل الباطلة وتفسد اعمالهم او تقلل من اجرها بسبب افساد النية.

ولو كان الانسان يعبد من اجل الوصول الى هدف مادي باعتباره بدلا عن الصلاة وكانه يطلب اجرة عمله ففي صحة عمله اشكال بل حتى لو كان ذلك للاهداف الاخروية ايضا فاذا كان في توهمه انه يستحق تلك الاجرة بهذا العمل من باب المقابلة والمبادلة فالعمل قد يكون باطلا وانما يصح لو كان قصده التقرب الى الله تعالى بامتثال امره ويتوقع منه تعالى ان يشمله برحمته في الدنيا والاخرة ويتفضل عليه بالبركة وقضاء الحوائج.

وربما يقال لماذا يجب ان نعبد احدا الا يمكن ان يترك الانسان اي عبادة كما هو الحال فيما يدعو اليه الفكر الالحادي؟

والجواب اولا ان الانسان يجب ان يعبد الله ليشكره على نعمائه وثانيا ان الانسان ليس كالحيوان يسير وفقا لغرائزه وهدايته التكوينية بل لا بد له من نظام في الحياة يتبعه فهو ياخذ هذا النظام من احد او من جهة وهو القانون الذي يحكم كل مجتمع بشري ولا يمكن في المجتمع ان يسلك كل احد سبيلا خاصا به والكلام في ان القانون الذي يجب ان يتبع ما هو؟ ومن يتحكم فينا؟ فهذا هو العبادة اي الاطاعة.

 

وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...

الوالدان اي الاب والام يطلق عليهما باعتبار ان ولادة الانسان منهما معا وهذا الاطلاق لا يشمل الجد والجدة وان اشتركا في بعض الاحكام.

ولا بد هنا من تقدير اي احسنوا بالوالدين احسانا او يقدر (وتحسنون) وهو اولى ليكون عطف جملة خبرية على نظيرتها وهي قوله تعالى (لاتعبدون الا الله) وقوله (احسانا) مفعول مطلق والمفعول المطلق يؤتى به للتاكيد على ان المراد بالفعل ليس امرا اخر قصد بنحو المجاز او الكناية بل يقصد به نفس الاحسان.

والاحسان كل فعل حسن بمعنى كونه مرغوبا فيه ويطلق على الإنعام على الغير والظاهر انه ينطبق على كل عمل يوجب سرور الغير.

وفي كلام امير المؤمنين عليه السلام خير تفسير له ففي نهج البلاغة:

(وَقَالَ عليه السلام فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الْعَدْلُ الْإِنْصَافُ وَالْإِحْسَانُ التَّفَضُّلُ).[3]

والانصاف يتحقق بدفع الحق الواجب عليك والتفضّل هو الزيادة وعليه فالمراد بالاحسان في الآية الكريمة الزيادة على ما يجب فبالنسبة للوالدين مع حاجتهما الى المال يجب الانفاق بالمقدار المتعارف فاذا زدت عليه فهو الاحسان. كما ان الواجب هو عدم ايذائهما بالمخالفة اذا كان الامر او النهي بسبب الشفقة عليك فاذا طلبت رضاهما وعدم مخالفتهما فيما لم يكن بسبب الشفقة فهو الاحسان.

ويلاحظ ان الله تعالى في جميع الشرايع أكّد على الاحسان بالوالدين وجعله بعد الامر بالعبادة مما يدل على اهميته البالغة بل اشركهما معه في الامر بالشكر في قوله (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).[4]

بل يلاحظ الاهتمام به في ما نحسّه من الاثار المترتبة تكوينا وقد رايت كثيرا من الموارد سرعة التاثير في الاحسان اليهما والاساءة فاذا احسن الانسان اليهما وادخل في قلبهما الفرح والسرور يرى اثره سريعا في حياته وكذلك العكس وخصوصا بالنسبة للام.

والسؤال هنا لماذا هذا الاهتمام بالاحسان الى الوالدين في التشريع مع ان الولد له حق ايضا عليهما وكثيرا ما يكون مغفولا عنه؟

والكلام طبعا في البشر المتعارف اما من كان وحشا في صورة انسان كما يلاحظ من بعض الوالدين وتعاملهم مع اولادهم فهو امر خارج عن البحث وربما يستحق بعضهم عقوبة القتل لما يقترفه.

الظاهر ان الوجه في هذا الاهتمام هو ان الشريعة لا تريد بناء مجتمع متفكك في علاقاته الاجتماعية يسير وفق قانون منظم كالآلة كما هو الحال في كثير من المجتمعات المعاصرة بل يريد مجتمعا مترابطا تتحكم فيه العلاقات الانسانية ولا يتم بناء المجتمع على هذا الاساس الا اذا كان متماسكا في نظامه الاسري ومحتفظا بالعلاقات العائلية فالاسرة اساس المجتمع.

وهذه العلاقة موجودة في قلوب الاباء والامهات بالنسبة للاطفال بصورة طبيعية فهناك امل في بقائهم والتلذذ من نشاطهم والاستعانة بهم. واما اذا كبر الوالدان فلا امل فيهما وانما يحافظ عليهما الولد شفقة عليهما. وكثيرا ما يبتعد عنهما وحتى من يقوم بامرهما يتمنى في قلبه ان تنتهي حياتهما وان كان يأول في نفسه انه يريد نهاية شقائهما بسبب التعب والمرض بخلاف الوالدين فانهما يضحّيان بانفسهما من اجل اولادهما حتى لو لم يكن امل في بقائهم.

ولذلك اراد الله تعالى ان يجعل في نفوس المؤمنين حافزا طبيعيا للعناية بهما وهو طلب رضا الله تعالى وثوابه. وهذا الامر يجعله يهتم بهما حتى لو لم يره احد ولم يترتب على عمله اي مدح او ثناء منهما او من الاخرين.

ولعل الانسان يتوهم ان النظام الحالي في الدول افضل حيث يحتفظ بالاباء والامهات في دور الرعاية كما يحتفظ بالاولاد الذين لا يراعي الابوان واجبهم تجاهه في مراكز خاصة ولعله صحيح من الناحية الاقتصادية او سائر الجهات المتعلقة بالحياة المادية ولكن الدين يهتم بتربية الانسان وتزكية نفسه وتحلّيه بالخلق الرفيع والصبر وتحمل الاذى ليؤهله للتقرب الى الله تعالى كما قال عزّ من قائل (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ..).[5]    

 ويلاحظ ان الدين حتى في نظامه العسكري لا يريد جيشا منظما كما هو المتعارف في هذا العصر حيث لا يعتبر الجيش الا آلة عسكرية يطيع فيها الجندي من فوقه اطاعة عمياء والدين لا يريد ذلك بل يريد جيشا يطيع ربه واذا اطاع قائده فانما هو من خلال اطاعة الرب ولذلك لا يطيعه اذا امر بما يخالف امر الله تعالى ومثل هذا الجيش يحفظ العلاقات الاجتماعية فيما بينها وفي هذا النظام الاجتماعي يندفع الناس لاجابة الدعوة الى الجهاد باخلاص وليس باجبار نظامي.

ولعل الانسان يتوهم ان ما يتعارف في الدول افضل والجيش يكون بهذا النظام اقوى وهذا صحيح الا ان الدين لم يات لتثبيت السلطة وليس نظاما سياسيا وانما هو وسيلة لهداية الانسان وتربيته فالذي يهتم به الدين هو التربية والاطاعة بالاختيار لا السلطة واجبار الناس على الطاعة.

وهناك روايات كثيرة في هذا الباب لدى الفريقين نكتفي بثلاثة تيمنا:

في الكافي الشريف حديث صحيح عن أبي ولّاد الحناط قال: (سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عزوجل "وبالوالدين إحسانا" ما هذا الاحسان؟ فقال: الاحسان أن تحسن صحبتهما وأن لاتكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين أليس يقول الله عزوجل "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" قال: ثم قال أبو عبدالله عليه السلام وأما قول الله عزوجل "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما" قال: إن أضجراك فلاتقل لهما: اف، ولا تنهرهما إن ضرباك قال "وقل لهما قولا كريما" قال: إن ضرباك فقل لهما: غفر الله لكما، فذلك منك قول كريم، قال "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة" قال: لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلا برحمة ورقة ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولايدك فوق أيديهما ولا تقدّم قُدّامهما).[6]

وفي حديث اخر عن منصور بن حازم عن أبي عبدالله عليه السلام قال: (قلت: أي الاعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها وبر الوالدين والجهاد في سبيل الله عزوجل).[7]

وبسند صحيح عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله عليه السلام قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يارسول الله من أبرّ؟ قال: امك، قال: ثم من؟ قال: امك، قال: ثم من؟ قال: امك، قال: ثم من؟ قال: أباك).[8]

 

وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ...

عطف على الوالدين ومعناه أن من الميثاق الاحسان اليهم والمراد بذي القربى من يكون بينك وبينه قرابة نسبية وهم الارحام وانما يعبر عنهم بالارحام لاشتراكهم في رحم الام او الجدة. والاحسان الى ذوي القربى ايضا مما اهتمت به الشرائع السماوية ولعل السر فيه ايضا هو ما ذكرناه ولعله لهذا السبب قدم ذكرهم على اليتامى والمساكين.

والروايات في هذا الباب ايضا كثيرة جدا نذكر بعضها تيمنا:

في الكافي الشريف بسند معتبر عن إسحاق بن عمار قال: (بلغني عن أبي عبدالله عليه السلام أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أهل بيتي أبوا إلا توثبا علي وقطيعة لي وشتيمة فأرفضهم؟ قال: إذا يرفضكم الله جميعا قال: فكيف أصنع؟ قال: تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك، فإنك إذا فعلت ذلك كان لك من الله عليهم ظهير).[9]

وعن محمد بن عبيد الله قال: قال أبوالحسن الرضا عليه السلام: (يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيرها الله ثلاثين سنة ويفعل الله ما يشاء).[10]

و عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليه السلام: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أعجل الخير ثوابا صلة الرحم). [11] والظاهر ان المراد ثواب الدنيا لقوله (اعجل الخير).

واليتامى جمع يتيم وهو من فقد اباه وهو صغير فاذا بلغ مبلغ الرجال فلا يعتبر يتيما. والاصل في اليتم الانفراد ولذلك يقال لكل شيء عز نظيره انه يتيم كالدرة اليتيمة ويقال للرملة المنفردة: اليتيمة. قال ابن دريد في الجمهرة (اليتيم: الفرد وبه سمي الذي يموت احد والديه يتيما كأنه افرد).

وحكى ابن سيدة في المحكم عن ابن السكيت قوله (اليتم في الناس من قبل الاب وفي البهائم من قبل الام ولا يقال لمن فقد الام من الناس يتيم ولكن مُقْطَع). وهذا ايضا من الانفراد لان صغار الحيوانات تتبع امهاتها بخلاف البشر في المجتمع العربي.

والظاهر ان المراد باليتامى ليس خصوص فقرائهم لانهم يدخلون تحت عنوان المساكين بل المراد مطلق اليتيم حتى لو كان ذا مال لانه يحتاج الى عناية وتربية واكرام وتعويض عما افتقده من حنان الاب وحضانته ولذلك امر تعالى باكرام اليتيم في قوله (كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ).

واما الاحسان الى المساكين فهو من أوضح مصاديق العمل الصالح في المجتمع البشري. والمسكين من السكون ويطلق على الفقير الذي أسكنه الفقر الى الارض فلا يجد حيلة ولذلك يقال انه أسوأ حالا من الفقير.

 

وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا...

الحسن مصدر والمراد به بقرينة الامر بالقول الكلام الحسن وانما عبر عنه بالمصدر مبالغة فكأنه الحسن بنفسه. وقيل الحُسْن لغة في الحَسَن كالرُشد والرَشَد.

وقد امر به في مواجهة جميع الناس من دون تخصيص بالمؤمن او الاقارب وهذا ايضا من اصول الشرايع عموما فالكلام الجميل الحسن مظهر الاخلاق الحسنة وخير وسيلة للتحبب الى الناس وكسب مودتهم ودفع شرهم ان كانوا اشرارا.

وقال بعضهم ان المراد بهذا القول الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لا المجاملات بين الناس ولكن الظاهر ان المراد هو تداول الكلام الحسن بين الناس كما قال تعالى (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا)[12] ولم يخص الحكم في هذه الاية ايضا بالذين آمنوا بل نصح به جميع العباد فانه تعالى رؤوف بعباده لا يريد ان تكون بينهم العداوة والشحناء.

ويلاحظ الاهتمام بهذا الامر اي القول الحسن في العشرة وكثيرا ما يحدث ان بعض الاصدقاء او الاقرباء يتكلمون بما يسيء الى الاخر ويؤذيه ويخجله من باب المزاح ولاجل اضحاك الاخرين وهذا امر محظور شرعا وقبيح وموجب للضغينة حتى لو تحمله السامع وسكت فان ذلك لا يدل على رضاه وانما يتحمله حتى لا يتهم بانه غُلب من قبل خصمه والخصم هنا صديقه وربما يكون اخاه.

بل امر تعالى مواجهة الكلام السيء او العمل السيء بالاحسن في قوله (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).[13]

 

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ...

هذه الجملة تفسير للعبادة التي امر بها في اول الآية فانها تشمل الصلاة والزكاة اما شمولها للصلاة فواضح واما الزكاة فلان القصد منها ليس التبرع بالمال فحسب بل حثّ الانسان على دفع المال في سبيل الله ومن اجل تحصيل رضا الله تعالى فان هدف الدين - كما مرّ - هو تربية الانسان وايصاله الى كماله والله تعالى غنيّ عن عباده.

ودفع رذيلة الشح وان كان من شروط الكمال ايضا الا ان الغاية في تربية الانسان من وجهة نظر الشريعة هو ترسيخ صفة العبودية فيه من كل جهة سواء في علاقته الخاصة بربه او في علائقه الاجتماعية بل في كل حب وبغض فلا يحب الا لله ولا يبغض الا من اجله.

والصلاة وظيفة مرتبة ومنظمة في كل الشرائع تحفظ علاقة الانسان بربه والاتصال به والخشوع لديه باستمرار بحيث لا يشعر الانسان بابتعاده عنه بسبب انشغاله بشؤون الدنيا فلو ابتعد قليلا يعود اليه تعالى في صلاة اخرى.

 واقامة الصلاة جعلها قائمة بمعنى ثبوتها ودوامها فالقيام في اللغة بمعنى الاعتدال والانتصاب ويمكن ان يراد بإقامة الصلاة المحافظة على أوقاتها والاهتمام بها وجعلها من أهمّ الأولويات فهناك من الناس من لا يذكرها الا بعد الانتهاء من كلّ ما يهمّه من شؤون الدنيا، واذا نودي للصلاة اعتذر بانه مشغول وكأنّ الصلاة فرضت لملء أوقات الفراغ مع أنّها أهمّ من كل الامور وعلى المؤمن أن يفرغ نفسه لها بل يفرغ باله لها ايضا.

واذا نسبت اقامة الصلاة الى المجتمع كهذه الآية فيمكن ان يراد بها اهتمام الجميع بأن يبذل كل فرد همّه وجهده في ترويجها والحثّ عليها بحيث يتبين بوضوح أنّ هذا مجتمع متعوّد على الصلاة ومهتمّ بها، فالمساهمة في إيجاد هذه الحالة في المجتمع هي من إقامة الصلاة. ومن هذا الباب بناء المساجد والاهتمام بها.

ولا يبعد أن يكون معنى الصلاة في أصل اللغة هو هذه العبادة الخاصة على اختلاف مصاديقها في الشرايع فان الصلاة من أعرق المفاهيم البشرية، وكانت مع الإنسان منذ بدء خلقته فلا حاجة للكشف عن معنى لغوي يكون هو الأصل في هذه الكلمة.

و(آتوا) فعل امر من الايتاء بمعنى الاعطاء. والزكاة ايضا من المفاهيم القديمة في كل الشرائع ويقال ان في التوراة الحالية ايضا احكام خاصة بها.

ولا يقصد بها في الاوامر المتوجهة الينا خصوص الزكاة الواجبة في شريعتنا فانها مصطلح خاص بل المراد كل انفاق للمال في سبيل الله تعالى فيشمل الانفاق على الفقراء وعلى الجهاد والدفاع عن كيان الامة وعلى المصالح الاجتماعية التي هي من ضرورات الحياة لكل من يعيش في اي مجتمع بشري فلا يجوز للانسان أن يكون آخذا ومستفيدا من الحياة المدنية في ظل مجتمع متكاتف من دون عطاء.

 

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ...

(ثم) ليس لمجرد الترتيب بل للاشارة الى استبعاد ما حدث اي اخذنا منكم الميثاق والالتزام باحكام الشريعة ومع ذلك توليتم فالذي ترتب على اخذ الميثاق هو التولي لا الالتزام به.

والتولي تفعل من الولاء والاصل فيه القرب تقول هذا يلي هذا اي ياتي بعده مباشرة ولذلك يعبر به عن المتابعة ولكن اذا تعلق بـ (عن) لفظا او تقديرا فمعناه الابتعاد ولذلك يعبر به ايضا عن تولية الظهر للشيء كأنه جعل اقرب شيء منه لهذا ظهره ومعناه الادبار. ولكن حيث ان الادبار قد يكون مع قصد الرجوع الى الشيء جاء بالجملة الحالية (وانتم معرضون) اي لم يكن توليكم مع قصد الرجوع الى هذا العهد والالتزام بل مع الاعراض عنه.

والخطاب لا شك انه للحاضرين في عصر الرسالة ولكن يمكن ان يكون باعتبار ان اسلافهم اعرضوا عن العهد الالهي ويمكن ان يكون باعتبار ان الاخلاف اعرضوا.

والظاهر ان المراد اعراض اكثرهم من الاولين والاخرين بقرينة قوله تعالى (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[14] فان الاية تتعرض لاحوال السابقين حيث شملهم فضله تعالى ورحمته والاية وردت بعد اية اخذ الميثاق ورفع الطور فاذا ضمّ اليه كون الخطاب للحاضرين تبيّن أنّ التولي كان منهم قديما وحديثا.   

والاستثناء المعترض حقه التاخير ولكنه تقدم لمراعاة اواخر الايات ومعناه ان قسما قليلا منهم التزم بعهده ولا شك في وجود قليل من العباد الصالحين في كل زمان وكان في هذا القوم رسل وانبياء واوصياء وصالحون.

ولا بد من الاعتراف بان هذه الامة المرحومة كانت ابعد في الوفاء بالعهد منهم فما لبثوا بعد الرسول صلى الله عليه واله وسلم الا قليلا حتى نقضوا العهد ونكثوا البيعة باقبح وجه بل نقضوا العهد في حياته صلى الله عليه وآله وسلم ومنعوه من كتابة الوصية واستمروا في نقض العهود حتى قاتلوا امامهم المنصوب من قبله بامر الله تعالى وقتلوا ذريته.

 

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ...

تغير الخطاب واختص بالموجودين منهم في عصر الرسالة وان كان الميثاق ماخوذا من الاقدمين منهم الا انه يشمل المتاخرين ايضا والسر في تغيير الخطاب ان الاعتراض هنا خاص بالموجودين في عصر الرسالة ولا يشمل المتقدمين كما يتبين من السياق.

وقوله (واذ) متعلق بمقدر اي واذكروا اذ اخذنا ميثاقكم.. ومنه يظهر ان هذا الامر كان من ضمن الميثاق العام الذي اخذ من اسلافهم وان النهي عن القتل والابعاد وارد في العهد القديم ويقال ان في التوراة الحالية من الوصايا والمواثيق هذه الجملة (لَا تَقْتُلْ، لَا تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ). ولعل الثاني اشارة الى حرمة اخراج احد من داره للتسلط عليها.

والكلام في قوله (لا تسفكون) و(لا تخرجون) كالكلام في (لا تعبدون) فهو جملة خبرية تفيد النهي وعدم الاتيان بحرف العطف يدلّ على أن عدم سفك الدماء هو المراد بالميثاق. والسفك يتعلق بالدم والدمع بمعنى الصبّ.

والمراد بقوله (دماءكم) اي دماء من يشارككم في الدين او الانتماء فليس المراد الانتحار وقتل النفس وكذلك (لا تخرجون انفسكم) فالانسان لا يخرج نفسه ولكنه تعالى اعتبر قتل الغير واخراجه قتلا للنفس واخراجا لها لانكم تشكلون مجتمعا واحدا بل قوما واحدا واتباع دين واحد. وحتى الديار اضافه الى المخاطبين ولم يقل من ديارهم. ويستخدم هذا التعبير لتنفير طبع الانسان من ارتكابه فهناك فرق بين ان يقال للانسان لا تقتل اخاك وان يقال لا تقتل نفسك.

وهذا التذكير مقدمة للاشارة الى قصة حدثت في عصر قريب من عصر نزول الاية حيث قاتل اليهود بعضهم بعضا تبعا لحلفهم مع المشركين العرب في المنطقة. وكل هذه الايات - كما قلنا - في مقام الرد على توهم انهم لا تمسهم النار الا قليلا. وهنا يذكّرهم بانهم حتى في الميثاق الذي يخصّ مجتمعهم وينفعهم لم يلتزموا به.

 

ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ...

في المراد بهذه الجملة احتمالات ثلاثة:

الاول: ان الميثاق لم يكن مجرد حكم سابق في العهد الالهي ومغفولا عنه بل كنتم تقرّون وتعترفون به حين ارتكابكم للجريمة ومعنى (وانتم تشهدون) اي تعلنون الاقرار به فلم يكن امرا مخفيا يدور فيما بينكم. ومن معاني الشهادة الاعلام. ويشير بذلك الى ما سيأتي من قصتهم حيث اعترض العرب عليهم بقتلهم اتباع دينهم فاعترفوا بان الحكم بالتحريم وارد في كتبهم.

الثاني: ان المراد بها الاشارة الى اقرار اسلافهم حين اخذ الميثاق منهم بأنهم اعترفوا به وأقرّوا حال كونهم يشهدون اي حين اخذ الميثاق.

الثالث: أن تكون الشهادة بمعنى الاقرار فتكون الجملة للتاكيد نظير قوله تعالى (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)[15] بناءا على أنّ العثوّ هو الفساد.

 

ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ...

(ثم) للترتيب بالمعنى المذكور في قوله (ثم توليتم) ومعناها انكم مع هذا الاقرار والاعلام تقتلون انفسكم. وقوله (انتم هؤلاء) مبتدأ وخبر اي انتم هؤلاء الحاضرون الذين هذه صفتكم تقتلون انفسكم.. ويمكن ان يكون اسم الاشارة منادى اي انتم يا هؤلاء تقتلون انفسكم وانما جيء به للتاكيد على ان مورد الكلام هم الحاضرون لا الاقدمون منهم. وهناك وجوه اخرى مذكورة في التفاسير.

والفريق من الفَرْق اي الفصل بين شيئين او اكثر ويطلق على مجموعة متميزة من الناس وليس له مفرد.

ويشير بهذا الخطاب الى ما حدث بينهم في الحروب القائمة بين الأوس والخزرجِ قبل الهجرة بخمس سنين وهما قبيلتان يسكنان المدينة قديما والاوس والخزرج اخوان. وَيقال لمّا تقاتل الأوس والخزرج اعتزلهما اليهود زمنا طويلا وكان الأوس اضعف الفريقين فحالفوا بني قُريظَة وَبني النَّضِير وهما طائفتان من اليهود وقريظة والنضير اخوان ايضا. وحالف الخَزرج بني قَيْنُقَاع من اليهود وبذلك نشأ قتال بين فرق اليهود نتيجة التحالف مع العرب. وقيل غير ذلك في حوادث هذه القصة.

وقوله (تظاهرون) في الاصل (تتظاهرون) حذفت احدى التاءين. والتظاهر من الظهر والمراد به التعاون وذلك باعتبار ان المتعاونين في الحرب يحفظ كل منهم ظهر صاحبه والمراد انكم تتعاونون مع المشركين العرب ضد بني جلدتكم يريد بذلك تعييرهم وتفسيقهم بما هو واضح من دينهم وبما تأباه ضمائرهم ليكون الامر واضحا ويتبين لهم فداحة خطأهم في ان النار لا تمسهم مع هذه الجريمة الواضحة.

والاثم: الذنب. والاصل فيه كما في معجم المقاييس التأخّر وانما سمي به لانه يؤخر الوصول الى الثواب كما قيل او يؤخر الانسان عن وصوله الى الكمال المطلوب. ولعل المراد بالاثم هنا قتل النفس. وبالعدوان الاخراج لانه بمعنى التجاوز عن الحق والمفروض ان الله تعالى منعهم من اخراج احد منهم من داره فاخراجهم يعتبر عدوانا.

 

وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ...

روى الطبري عن ابن عباس أنهم كانوا فريقين: طائفة منهم من بني قينقاع حلفاء الخزرج، والنضير وقريظة حلفاء الأوس. فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى يتسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة يعرفون منها ما عليهم وما لهم. والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقا لما في التوراة وأخذا به، بعضهم من بعض. يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلّون[16] ما أصابوا من الدماء وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم مظاهرة لأهل الشرك عليهم.

وروى عن السدي أنهم كانوا يقتتلون في حرب سُمير فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفاءها. وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها فيغلبونهم فيخربون بيوتهم ويخرجونهم منها. فإذا أسر الرجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه، فتعيّرهم العرب بذلك ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتالهم. قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحيي أن تستذل حلفاؤنا.

ويقال انه ورد في التوراة الحكم بوجوب افتداء الاسرى بهذا التعبير (إنك لا تجد مملوكاً من بني إسرائيل إلا أخذته فأعتقته).

وقوله (ياتوكم اسارى) بمعنى عرض الاسرى عليهم ولا يتوقف على مجيء الاسير بنفسه وان كان ممكنا ايضا ويظهر من بعض قصص العرب انهم كانوا ياتون بالاسارى الى شيوخ القبائل ليفدوهم.

واسارى جمع اسير او جمع اسرى وهو جمع اسير فيكون جمع الجمع. والاسر: القِدّ الذي يربط به الاسير ويوثق وبكثرة الاستعمال اطلق لفظ الاسير على كل محبوس وان لم يوثق بشيء.

قوله (وهو محرم) الضمير ضمير الشان والجملة حالية و(محرم) خبر مقدم والمبتدأ (إخراجهم). والتنديد ليس بنفس الافتداء طبعا بل بالجمع بينه وبين الاخراج المحرم من دون اظهار للندم عما حدث. والمفاداة والافتداء والفداء واحد. وهو ان يُجعل شيء مكان شيء لحمايته وحفظه.

 

أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ...

الاستفهام للتوبيخ. وليس في الآية تأييد لما كان لديهم من الكتاب كما يتوهم وانما هو توبيخ واعتراض عليهم حسب معتقدهم والغرض تعييرهم بانهم خالفوا كتابهم الذي يقرون بانه من الله تعالى وكل هذا يدل على انهم لا يستحقون ان لا تمسهم النار الا قليلا كما مر.

ويمكن ان يكون المراد بالكتاب ما كتبه الله من احكام في الشرع. والكتابة جمع شيء الى شيء فتنطبق على نفس الاحكام التي شرعها الله وابلغها لعباده لا نفس الكتاب المنزل.

وفيه تعريض اخر ايضا بهم من جهة انهم يكفرون بالايات التي وردت في صفات الرسول صلى الله عليه واله وسلم فالخطاب يعيّرهم بذلك وبأنّ كفرهم لا يختص بهذه الايات بل هم يكفرون حتى بالآيات التي نزلت لحفظ كيانهم ولسعادة مجتمعهم.

وهذا الامر مما يكثر الابتلاء به فكثير من الناس يختارون من بين الاحكام الشرعية ما يناسبهم ويهتمون به فتجد بعض الناس يهتم بالصلاة ولا يترك النوافل ايضا ولا اقول انه يرائي بل ربما يكون مخلصا في عمله ولكنه لا يعمل بالامر بالزكاة او الخمس او اي انفاق مالي كما ان اكثر الناس اذا بلغ الامر الى التضحية بالنفس لا يلتزمون بالدين بل يشكّون في اصله.

قال تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا).[17]

وروي عن سيد الشهداء عليه السلام انه قال في بعض خطبه (ان الناس عبيد الدنيا والدين لعق على السنتهم فاذا مُحِّصوا بالبلاء قَلّ الديّانون).[18]

والتعبير بالكفر عن عدم الالتزام في مقام العمل ورد في موارد اخرى ايضا كقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[19] وورد في الحديث الصحيح ( ان تارك الصلاة كافر).[20]

والسر فيه انه يحكي عن ضعف الايمان والايمان لا يكون ضعيفا الا لوجود مرحلة من الشك في قلبه وهو معنى الكفر فالانسان حتى لو آمن بالله وبالرسالة لا يخلو قلبه من شيء من الكفر وان حكم بحسب الظاهر بكونه مسلما ولعل الله تعالى يقبل منه هذا المقدار من الايمان الا ان الكفر يظهر منه في العمل فمن يبخل بماله لا يبخل الا لانه يعتبر ذلك خسارة فلو كان يؤمن بما في الكتاب من الثواب على الانفاق في سبيل الله لم يعتبره خسارة في النهاية.

وهذا يختص بما يرتكبه الانسان بصورة منظمة وباصرار وتدبير ومحاسبة ولا يطلق الكفر على من يرتكب اثما بصورة عابرة تحت تاثير العوامل التي تضغط على النفس وهو رافض في دخيلة نفسه ويندم على فعله بعد ذلك مباشرة.

فالذي يترك الحج استخفافا به او بخلا بماله او يمتنع عن دفع الخمس او الزكاة لا يفعل ذلك الا بعد المحاسبة وملاحظة المنافع والمضار المترتبة ونحن دائما في اعمالنا لا نتوقع الربح المستعجل بل نقدم على التعب والسهر ودفع المال ونحو ذلك برجاء الربح في المستقبل مع ان الوصول اليه ليس قطعيا ايضا.

فلو كان املنا في الوصول الى الثواب الجزيل الذي وعد الله به بهذا المقدار الموجود لدى التجار لَكُنّا نقدم بكل وثوق وراحة على الانفاق بكثرة بل ننفق المال في سبيل الله اضعاف ما ننفقه في سبيل راحتنا وراحة اسرنا مع ان هذا ليس من سيرتنا كما هو واضح.

واقوى الايمان ما يبعث للشهادة في سبيل الله ان لم يكن له حافز اخر من الدفاع عن الاهل او الوطن او كسب مال كثير على فرض السلامة او اي جهة اخرى فالذي يبذل نفسه في سبيل الله هو المؤمن حقا ولعله لذلك يسمى شهيدا فهناك وجوه تذكر في وجه التسمية ولكن لا يبعد ان يكون الوجه فيه انه يشهد بفعله شهادة واضحة على ان الدين حق وما وعده الله حق والشهادة: الاعلام كما مر قريبا.

ولذلك ايضا يعبر عنه بانه استشهد كأنه يطلب منه ان يشهد على الحق فيقدم على التضحية وهو بذلك يلبي الدعوة.

والحاصل ان الكفر ببعض الكتاب في الباطن ليس امرا شاذّا بل هو الغالب في الناس وفي المؤمنين ولذلك قال تعالى (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).[21]    

 

فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...

يحتمل ان تكون الاشارة في قوله (يفعل ذلك) الى الايمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه وهو النفاق. ويحتمل ان تكون اشارة الى القتل والاخراج او الى نقض الميثاق الالهي بوجه عام. والاول اقرب لانه اقرب الى اسم الاشارة ولما سياتي ذيلا.

والخزي في الاصل بمعنى الذل والهوان او الفضيحة والعار او بمعنى الابعاد والمقت وهذا العذاب يناسب الاحتمال الاول خصوصا بملاحظة قوله (منكم) باعتبار كونهم من اهل الكتاب وما يدّعونه لانفسهم من الميزات فمن يكون منهم يكفر ببعض الكتاب يلحقه الخزي والعار في الدنيا اي في اعين الناس ولذلك عبر بالنفي والاستثناء مما يفيد الحصر اي لا يترتب عليه الا ذلك.  

وهذا قانون عام لا يختص ببني اسرائيل فأي مجتمع يظهر الايمان ويبطن الكفر وهو معنى النفاق وكان ذلك صبغتهم العامة كما كان في بني اسرائيل فان مصيرهم في المجتمع البشري بوجه عام هو الخزي والذل والعار لان المجتمع اذا كان معلنا كفره فلا يتوقع منه غير الكفر اما اذا اعلن الايمان وهو غير مؤمن فان ذلك يعتبر كذبا وخداعا فهو عار عليهم يعيّرهم به العالم البشري ويبقى في التاريخ علامة ذل ودناءة لهم.

 

وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ...

التعبير بالرد باعتبار ان وجود الانسان وكل شيء في الكون تحقق بإرادة الله تعالى فهو المبدأ واليه المعاد ومثله التعبير بالرجوع الى الله وبالمعاد عن يوم القيامة.

والظاهر أن المقارنة في العذاب وتوصيفه بأنه أشدّ لوحظ فيه عذاب سائر الخلق هناك لا عذاب الدنيا فانه لا مقارنة بينهما ولا يقاس ما هناك بما هنا. ولو كان المراد كونه اشد من عذاب الدنيا لقال الى عذاب اشد.

ولعل الوجه في كونهم اشد عذابا من غيرهم أن هذه الصفة اي التبعيض في الايمان من النفاق لان التبعيض يستلزم ان يكون مطّلعا على احكام الله تعالى ومؤمنا ببعضها مما يناسب هواه فيكون كفره بالبعض الاخر عن علم بالتفاصيل ومستندا الى متابعة الهوى.

ولذلك كان المنافق اسوأ حالا من الكافر كما قال تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ..).[22] وهذا ايضا يدل على ان الاشارة الى التبعيض في الايمان.

ويمكن أن يكون المراد أنه أشدّ عذاب يتصوّر فالانسان لا يمكنه هنا مع ملاحظة شؤون الدنيا ان يتصور حقيقة ذلك العذاب ولا حقيقة تلك النعم والقرآن بهذه التعابير يقرّب الى الافهام تلك المفاهيم غير المأنوسة للانسان.

 

وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ...

تنبيه على امر مهم جدا يغفل عنه الانسان وهو أن الله تعالى محيط بكل شيء لا يعزب عن علمه ذرة في السماء ولا في الارض ولا يخفى عليه ما في زوايا القلوب وخباياها من اهداف ونوايا خبيثة غير ما يظهره الانسان ولا ما في الضمائر الخفية ومرتكزات النفوس مما يغفل عنها الانسان بنفسه او يخدع نفسه.

وقد كان بنو اسرائيل يتوهمون أن الله تعالى لا يعلم ما في قلوبهم كما تبين من قولهم في الاية 76 (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ).

وهكذا الحال في كثير من البشر كما قال تعالى (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ).[23]

 

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ...

في هذه الاية تحليل نفسي للوصول الى السبب الذي يدعو الى هذا النفاق والتبعيض في الايمان وهو ترجيح مصلحة الدنيا الفانية على مصلحة الاخرة الباقية. والاشتراء مطاوعة البيع وهنا لا يوجد بيع وشراء ولكنه اخذ شيء وترك اخر فالمنافق ياخذ الدنيا ويترك الاخرة.

والآية تدل على أن الاخلاد الى الدنيا لا يجتمع مع نيل السعادة في الآخرة ولا يقصد به أنه لا يمكن الجمع بالتمتع في الدارين بل المراد أن من يرجح جانب الدنيا في موارد التزاحم بين الجهتين فهو ممن باع الحياة الآخرة وتركها واكتفى بملذات الدنيا كما قال تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).[24]

وقوله (فلا يخفف عنهم العذاب..) رد صريح على دعواهم عدم مسّ النار لهم الا قليلا فالذي ياخذ الدنيا ويترك الاخرة ليس له في الاخرة شيء الا العذاب وهو خالد فيه بل لا يخفف عنه العذاب ولا يوجد من ينصره اذ لا ناصر له في مقابل غضب الله تعالى.

وكل هذا التشديد بسبب النفاق وبسبب ان كفرهم ببعض الكتاب لم ينشأ عن جهل ولا عن ضغط من الشهوة والغضب والطمع في لحظة عابرة كما يحصل لكثير من الناس بل هو طريقة يتخذها الانسان في حياته عن محاسبة ودراية وتدبير للعاقبة ولكنه يرجح منافعه الدنيوية المستعجلة على المصالح الاخروية الدائمة بسبب ضعف ايمانه بها.

 


[1] البقرة : 63

[2] ال عمران : 64

[3] نهج البلاغة ص 509 الحكمة 231

[4] لقمان : 14

[5] الانفال : 67

[6] الكافي ج2 ص 158 باب البر بالوالدين ح1

[7] نفس المصدر ح4

[8] نفس المصدر ح9

[9] الكافي ج2 ص 150 باب صلة الرحم ح 2

[10] نفس المصدر ح3

[11] نفس المصدر ح 15

[12] الاسراء : 53

[13] فصلت : 34

[14] البقرة : 64

[15] البقرة : 60

[16] الطلّ : ابطال الدية كما في العين

[17] النساء : 77

[18] تحف العقول ص245

[19] ال عمران : 97

[20] الكافي ج2 ص 279 باب الكبائر

[21] يوسف : 106

[22] النساء : 145

[23] فصلت : 22 - 23

[24] هود : 15 - 16<