مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ...

هذه الآية ايضا تُذكّر بني اسرائيل بما انعم الله عليهم من الهدايات الالهية وانهم قابلوها بالكفر والطغيان فاول شيء مما نبه عليه ارسال موسى عليه السلام بالكتاب الذي فيه هدى ونور وهو التوراة وهذه النعمة أعظم ما أنعم الله به على البشر.

ثم ارسل عليهم رسلا من انفسهم متتابعين. والتقفية جعل شيء في قفا شيء اي بعده مباشرة في اشارة الى تتابع الرسل. والقفا مؤخر العنق.

ويستفاد من ذلك ان بني اسرائيل ليس لهم عذر في مخالفة ما لديهم من الشريعة وفي عدم ايمانهم بالرسالة الجديدة لان الله تعالى بعث فيهم ومن انفسهم رسلا بالتتابع بحيث لم تكن لهم فترة طويلة بين الرسل.  وعلى ما يبدو من الروايات والتاريخ ومن العهد القديم لم تكن في الامم امة تكثر فيهم الرسل وتتقارب عهودهم كما كان في بني اسرائيل ومع ذلك لم يقدّروا هذه النعمة بل قتلوا الانبياء او كذّبوهم.

ومن الواضح ان الفترة توجب وقوع كثير من الناس في بلاء وامتحان شديد كما قال تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) وبينّا في تفسيرها ان المراد بطول الامد الموجب لقسوة القلب امد الفترة في الرسالات فان الانسان بطبعه يقلّ تأثره بالمواعظ والايات بمرور الزمان.

ولذلك كان لا بد من تكرار الاذكار والآيات حتى لا تقسو القلوب فاذا مضت مدة طويلة ولم يجدوا رسولا ولا اماما ينسون ما ذُكّروا به من قبل ويضعف ايمانهم وتنتشر فيهم الاقاويل الفاسدة والله تعالى في هذه الاية يحذّر المسلمين من ان يقع فيهم نفس ما وقع في اهل الكتاب من القسوة حيث طال عليهم الامد

ومن الغريب ان المسلمين لم يبقوا طويلا بعد الرسول حتى ارتدوا على ادبارهم بل ارتدوا في عهده صلى الله عليه وآله وسلم وفي بعض الروايات تطبيق الاية الكريمة على عصر الغيبة فان طول الغيبة يوجب ضعف ايمان الناس بالامام المنتظر عجل الله فرجه وعليه السلام.

 

وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ...

ومن اوضح ما صدر منهم من سوء المعاملة مواجهتهم لعيسى عليه السلام وهو صاحب شريعة وهو من بني اسرائيل وقد اتاهم بمعجزات واضحة وهي المراد بالبينات فان البينة الامر الواضح وهذه المعجزات كانت واضحة انها من قبل الله تعالى اذ لا يمكن لبشر ان يحيي الموتى او يُبرئ الاكمه والابرص وجاءهم برحمة من الله تعالى حيث رفع عنهم بعض الاحكام المشددة التي ارسلها الله عليهم جزاءا لبغيهم كما قال تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)[1] وقال ايضا (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)[2]

وجاء عيسى عليه السلام برفع هذه الاحكام قال تعالى (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ..).[3] ولم يؤمنوا به بل اتهموه واتهموا والدته الكريمة السيدة مريم عليها السلام كما قال تعالى (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا)[4] ثم حاولوا قتله وهم حتى اليوم يدعون انهم قتلوه وقال تعالى (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ..).[5]

ومما أكرم الله به عيسى عليه السلام التأييد بروح القدس والتأييد التقوية ماخوذ من الأيد اي القوة كما ان اليد ايضا ماخوذة منها باعتبار ان اليد مظهر قوة الانسان وقد ذكر تاييده عليه السلام بروح القدس في ثلاث مواضع من الكتاب العزيز.

والروح: الموجود غير المرئي وهو كالريح فانه ايضا غير مرئي وتطلق الكلمة على امور مختلفة غير مرئية:

منها ما به الحياة في كل حيوان فانه امر مبهم الى يومنا هذا ونحن لا نجد فرقا ماديا بين الجسم حال حياته وبعد مماته قبل ان يحصل فيه التغيير فالروح فيه ليس امرا ماديا واضحا ولم تعلم حقيقتها حتى الان.

ومنها الوحي لان غير الرسول لا يشعر به فهو ينزل عليه بين الناس ولا يرون شيئا الا تغيرا في حالة الرسول في بعض الحالات كما قيل.  

ومنها النفس الانسانية فانها حقيقة اخرى غير الجسم وغير ما به الحياة والله تعالى عبر عنها بالنفس في قوله (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى..).[6] وعبر عنه بروحي في قوله (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) وذلك في موضعين.[7]

والقدس - بسكون الدال وضمها - الطهر والنزاهة. واضافة الروح الى الطهارة والنزاهة مبالغة في طهارة الروح فكأنها روح الطهارة لا الروح الطاهرة. 

واختلف في المراد بروح القدس فقيل هو الوحي وقيل هو روح عيسى عليه السلام وقيل هو الانجيل ويرده قوله تعالى (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ..)[8] فتدل الاية على ان روح القدس امر اخر غير الانجيل.

وقيل انه جبرئيل عليه السلام ويؤيد ذلك قوله تعالى (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ..).[9] بضميمة ما دل على أنه هو الذي أنزل القرآن كقوله تعالى (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّه ..).[10]

وقد مر في تفسير سورة الشورى البحث عن معنى الروح في قوله تعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا..)[11] وذكرنا ان هناك روايات في تفسير الروح بمعنى اخر وانه موجود غيبي اخر ليس من الملائكة بل هو اعظم منها وليس المراد به جبرئيل عليه السلام وناقشنا في ما يستفاد منها بتفصيل.

وربما يبدو من بعض الآيات أنّ التاييد بروح القدس خاص بعيسى عليه السلام منها هذه الاية ومنها قوله تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)[12] ومنها الآية المذكورة آنفا (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا).

ولم يرد هذا التعبير في غيره من الرسل وان ورد التعبير بالتاييد بالروح للمؤمنين جميعا في قوله تعالى (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)[13] فيمكن القول بانه عليه السلام كان مؤيدا بعامل غيبي من الله تعالى عبر عنه بروح القدس او أن جبرئيل عليه السلام كان مرافقا له دائما.

 

أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ...

وهذا هو المقصود بهذا التنبيه وقد ذكرنا سابقا في تفسير قوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ...)[14] أنّ قتل بعض الانبياء السابقين وارد في كتبهم وورد في بعض رواياتنا اتهامهم بقتل كثير من الانبياء. والاستفهام انكار توبيخي والفاء لعطف الجملة على سابقتها او للتفريع.

ومن لطيف البيان في الاية انه تعالى لم يذكر اولا انهم قتلوا الانبياء ثم يوبخهم بل وبخهم ابتداءا وبنفس التوبيخ اخبر بجريمتهم وهذا من الاختصار البليغ. وظاهر قوله (كلما) ان هذا كان دأبهم وديدنهم فالانبياء كانوا يواجَهون دائما إمّا بالقتل وإمّا بالتكذيب.

وفي الاية بيان للسبب في هذا القتل وهو ان بعض ما كانوا يذكرونه لهم من الاحكام ما كانت توافق اهواءهم ومن الطبيعي ان البشر لا يحب ان يؤمر بشيء او ينهى خصوصا اذا كان من الطغاة المتسلطين فكانوا يقتلون النبي استكبارا على مواجهتهم ببيان الحق ومن ذلك يظهر ان القتلة كانوا ملوكا وطواغيت كما يظهر من العهد القديم ايضا.

ومن لا يقتل منهم ايضا كان يواجه بالتكذيب وهو هتك لحرمة الرسول ويظهر من الاية انهم ما كانوا مجرد انبياء بل كانوا رسلا وليس المراد بالرسول صاحب شريعة كما توهمه بعض المفسرين بل الفرق بينهما ان النبي توصيف له باعتبار ابلاغه خبر السماء وهو لا يستلزم ارساله الى امة وتحمله مسؤولية الابلاغ اليهم وهدايتهم ولا تتوقف الرسالة على كونه صاحب شريعة اذ لا شك في ان لوط عليه السلام كان رسولا وكان يتبع شريعة ابراهيم عليه السلام.

وقوله (تقتلون) بالفعل المضارع لاستحضار تلك الافعال فكأنها واقعة في هذا الزمان ومستمر فيهم ومثله كثير في الاستعمال المتعارف.

ويمكن ان يشير بذلك الى ان الامر باق فيهم وان لم يقتلوا في هذا العصر نبيا الا ان الدواعي متوفرة والنفوس - كما كانت - مستكبرة او ان فيهم من يؤيد تلك الجرائم فكأن القتل بنفسه باق فيهم.

ومثل هذا ما نجده ونسمعه من بعض شيوخ الضلال في عصرنا انه لو كان في عهد الامام الحسين عليه السلام لكان من جملة قتلته لان ذلك مقتضى ما بلغه من الاحاديث المكذوبة على الرسول صلى الله عليه واله وسلم من وجوب تاييد كل متسلط يدعي امامة الامة وقتل من يشق عصا المسلمين ويخالف الامام الباطل.

 

وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ...

الغلف جمع اغلف وهو الشيء الذي يكون في غلاف وهذا من اعذار اليهود في عدم ايمانهم بالرسالة الجديدة فقالوا اننا نرفض ما تقول لان كلامك لا يدخل في قلوبنا ومثل هذا يقال في المتعارف من الناس ان فلانا كلامه لا يدخل في القلب او ان فلانا يطمئن الانسان لكلامه ومعنى ذلك ان الانسان مع انه لا يستند في الرفض او القبول الى دليل وبينة ولكن بعض الكلام او كلام بعض الناس لا تطمئن له القلوب لسبب مجهول او العكس.

ومثل هذا وارد في كلام المشركين في اكثر من مورد منها قوله تعالى (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ).[15]

وقوله (بل لعنهم) ردّ لما يدّعونه وتكذيب لدعواهم وهو انه ليست قلوبهم مغلفة ولكنهم كفروا عن علم وعمد لغرض في نفوسهم وهو الحسد والحقد كما سيأتي في الآيات التالية وبذلك لعنهم الله وابعدهم عن رحمته. واللعن في اللغة الابعاد والطرد. فهذا جزاء من الله تعالى بسبب كفرهم.

والفاء في قوله (فقليلا) للترتب يعني يترتب على لعنه تعالى انهم لا يؤمنون الا قليلا و(ما) زائدة تؤكد القلة. والزيادة لا تعني عدم جدوى لها بل لانها لا تعمل عملا في الاعراب.

وقد اختلف المفسرون في توجيه قوله (فقليلا) من جهة ان ظاهره ان ايمانهم قليل مع انهم لم يؤمنوا اساسا ومضافا الى ان التعبير عن ضعف الايمان بالقلة غير مناسب فقيل ان المراد انهم يؤمنون بقليل من حقائق الدين ويرفضون كثيرا منها او المراد من القلة العدم وقالوا انه وارد في الاستعمال العرفي.

ويمكن ان يحمل على قلة من آمن منهم واسناده الى الجماعة لا الى الافراد فيقال ان هذا الجمع ايمانهم قليل وهذا كما يصدق مع ضعف ايمانهم او ضعف ايمان الغالب منهم يصدق ايضا مع ندرة وجود المؤمن بينهم. وعليه يمكن ان يقال ان اللعن لم يكن للافراد بل للمجتمع.

ولم يقل فقليلا ما امنوا بل قليلا ما يؤمنون ليدل على ان هذه صفتهم المستمرة وليس امرا حادثا وعابرا.   

   

وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ...

هذه الآية تشير الى قصة نزول اليهود في هذه المنطقة وانتظارهم للرسول المبعوث فيها فقد روى العياشي في تفسيره حديثا مرسلا في ذلك:

روى عن أبي بصير عن أبي عبد الله ع في قوله: «وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» فقال: كانت اليهود تجد في كتبها أن مهاجر محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما بين عير وأحد فخرجوا يطلبون الموضع فمروا بجبل يسمى حدادا فقالوا حداد وأحد سواء فتفرقوا عنده، فنزل بعضهم بفدك وبعضهم بخيبر وبعضهم بتيماء فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم فمرّ بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه وقال لهم: أمرّ بكم ما بين عير وأحد فقالوا له: إذا مررت بهما فأرناهما فلما توسط بهم أرض المدينة قال لهم: ذاك عير وهذا أحد، فنزلوا عن ظهر إبله فقالوا له: قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة لنا في إبلك، فاذهب حيث شئت وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا فكتبوا إليهم أنا قد استقرت بنا الدار واتخذنا الأموال وما أقربنا منكم وإذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم فاتخذوا بأرض المدينة الأموال فلما كثرت أموالهم بلغ تبّع فغزاهم فتحصّنوا منه فحاصرهم، فكانوا يرقون لضعفاء أصحاب تبع، فيلقون إليهم بالليل التمر والشعير، فبلغ ذلك تبع فرقّ لهم وآمنهم فنزلوا إليه فقال لهم: إني قد استطبت بلادكم ولا أرى (نفسي) إلا مقيما فيكم، فقالوا له: إنه ليس ذلك لك إنها مهاجر نبي وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك، فقال لهم: فإني مخلف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره، فخلف فيهم حيين الأوس والخزرج فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم: أما لو بعث محمد لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود، وهو قول الله «وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» إلى «فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ».

والتنكير في قوله (كتاب) للتعظيم وهو القرآن اي ولما جاءهم كتاب لا يمكن توصيفه لعظمته وهو من عند الله تعالى وهذا سرّ عظمته. ويدل على كونه من عند الله الاعجاز في بيانه وفي اخباره عن الغيب وفي كونه من انسان اُميّ وفي عدم اختلافه وغير ذلك. وفي نفس الوقت هو مصدق لما معهم من التوراة ومن المعارف الالهية والاحكام لان اصول الشرائع واحدة وان اختلفت الطقوس ولان المعارف لا تتغير.

ولم يرد جواب قوله (لما) فقيل ان جوابه الجملة الاتية (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) وقيل يقدر له جواب مشابه والظاهر انه لا حاجة الى ذلك وان الجواب هو قوله (كفروا به) وانما اعاد الشرط لطول الجملة ومثله كثير ومنه قوله تعالى (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ..).[16]

وقوله (وكانوا يستفتحون) جملة حالية. والاستفتاح: طلب الفتح والنصرة. وذلك قبل نزول القرآن حيث كانوا في حروبهم على الذين كفروا يطلبون النصر بالرسول الجديد الذي يبعث في هذه المنطقة كما ورد في كتبهم وكانوا يتوهمون ان الرسول لا يكون الا منهم. ولم يذكر مورد الاستفتاح وهو معلوم لدى المخاطبين وغيرهم في ذلك المجتمع كما ورد في الحديث المذكور آنفا.

واللام في قوله (على الكافرين) اما للعهد الذكري اي لعنة الله على هؤلاء الكفرة او على الكافرين جميعا ويقصد تطبيقه على هؤلاء ولم يات بالضمير للاشارة الى سبب اللعن وهو الكفر.

والحاصل أن هؤلاء لما جاءهم الرسول الذي عرفوه حسبما ورد في كتبهم وراوا فيه العلامات وجاءهم الكتاب المذكور المصدق لما معهم كفروا به. وهذا يدل على أن كفرهم لم يكن عن جهل وعن عدم تبين الحق لهم بل كانوا يعرفون الحق ويكفرون به.

وقد ورد في حديث عن الامام الصادق عليه السلام في تبيين وجوه الكفر وتقسيمه الى خمسة اقسام الاستشهاد بهذه الآية على ان الجحود قد يجتمع مع المعرفة قال عليه السلام على ما في الحديث (وأما الوجه الآخر من الجحود على معرفة وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنه حق قد استقر عنده وقد قال الله عز وجل "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا" وقال الله عز وجل "وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين".. الحديث).[17]

والسؤال هنا انه كيف يمكن ان يعلم الانسان بشيء ولا يؤمن به؟

والذي يتبين من القرآن الكريم انه لا تلازم بين العلم والايمان قال تعالى بشأن فرعون وقومه في مواجهة الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا..)[18] وقال ايضا نقلا عن موسى عليه السلام (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا).[19]

وهذا صريح في ان فرعون كان يعلم ان موسى عليه السلام رسول من الله تعالى وأن كل ما اتى به حق وكان هذا واضحا من الآيات البينات التي أتى بها ومع ذلك لم يؤمن به. ويلاحظ من تعامله معه عليه السلام انه مع كل سطوته وجبروته كان يخاف منه.

والجحود وان فسّر في كتب اللغة والتفسير بالانكار باللسان مع العلم بالخلاف الا ان الكلام في ان اليقين والعلم حسبما يفهم من الايتين وغيرهما لا يلازم الايمان. ومعنى ذلك انهم ينكرون الرسالة قلبا ايضا وان علموا بها.

وقد ذكرنا في تفسير الاية 3 من هذه السورة أن الايمان ليس امرا انفعاليا وليس نوعا من العلم بل هو فعل اختياري من الانسان حيث يوجِد في نفسه الطمأنينة لانه إفعال من الامن وهو الطمأنينة ولذلك يؤمر به كما يلاحظ في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ..).[20] فالايمان الاول الذي جعل صلة في هذه الاية يراد به الدخول في حوزة المؤمنين والايمان الثاني المأمور به هو تحقيق الطمأنينة والوثوق في القلب.

ويلاحظ ما ورد بهذا الشأن في سورة الحديد من الامر بالايمان بل اللوم على عدمه قال تعالى (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[21] واضطر بعض المفسرين ان يعتبر الخطاب موجها الى الكفار وهو باطل قطعا كما يظهر من الآيات بوضوح.

فالصحيح أن الانسان يمكنه ان يحقق الوثوق في نفسه بالنسبة الى شيء ويُقنع نفسه فالايمان امر اختياري وهو قابل للشدة والضعف فمن اراد ان يقوّي ايمانه ينظر في آيات الله الكونية والكتابية ويفتح قلبه لكل ما يوجب الوثوق منها فيحصل على اقوى مراتب اليقين ويرى ما لا يراه الناس كما حدث في عهد الرسول صلى الله عليه واله وسلم لبعض الصحابة. وقد مر ذكر حديثه هناك فراجع ان شئت.

وأما من لا يهتم بالدين ولا يفتح قلبه للايمان فانه يحاول التشكيك في كل شيء وبأيّ عذر حتى انه قد يتشبث بما رآه من عدم التزام بعض رجال الدين ليشكك في اصل الدين وتراه دائما في ريبة من امر دينه لا يستقر على قرار كما قال تعالى (وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ).[22] حتى لو شاهد معجزة واضحة يشك فيها كما قال تعالى (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)[23] وربما يؤمن بسبب معجزة او كرامة ثم يعود الى شكه لمجرد إلقاء شبهة ضعيفة من اعداء الدين.

والمطالعة والبحث لا يكفيان لتحقيق الايمان القوي الذي يقاوم ما يسمعه الانسان في حياته من تشكيك المشككين بل نجد بعض المؤمنين الاوائل وكذلك رجال الدين في عصرنا يتزلزل ايمانهم في المواقف الصعبة ولو كان الايمان قويا لم يتزلزل. بل لا بد من التوجه الى الله تعالى وطلب المعونة والتاييد منه ولا بد من التخلّي عمّا يوجب زعزعة الايمان من التوغّل في الاهواء والإخلاد الى الدنيا ومن الصفات الذميمة في النفس كالحسد والكبر.

والحاصل أن عدم الايمان يجتمع مع العلم بالشيء وهكذا كان فرعون وقومه وكذلك بعض المشركين من كفار قريش وبعض اليهود في عصر الرسالة والسبب في عدم الايمان انه يحاول التهرب منه لانه لا يوافق هواه ولا يراه من مصلحته. وكيف يمكن لفرعون ان ينزل من عرشه ويتواضع امام من رباه في صغره وهو الان لا يملك الا عصاه وفرعون يملك مصر والانهار تجري من تحته كما قال؟! وهكذا فراعنة قريش واحبار اليهود وغيرهم.

 

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ...

(بئس) كلمة ذمّ ينشأ بها ذمّ ما بعدها. وفاعلها (ما) وهي موصولة او نكرة موصوفة اي بئس الامر الذي اشتروا به انفسهم. والاشتراء مطاوعة الشراء وهو البيع فالاشتراء على حقيقته وهو المعنى المعروف وكثيرا ما يعبّر به فيمن يترك شيئا ليحافظ على نفسه فيقول اشتريت به نفسي او راحتي فكأنّهم حافظوا على انفسهم في مقابل كفرهم بما انزل الله تعالى من الرسالة والكتاب والشريعة وذلك باعتبار انه لو كان يؤمن بالرسالة فكان ملزما بالعمل بما يطلب منه فقد اراح نفسه من العمل بالشريعة وفي المقابل دخل في سلك الكفرة.

وهذا نظير ما مر من اشتراء الحياة الدنيا بالاخرة فهو يحصل على ملذات الدنيا ويترك الاخرة لا انه يدفع لهم الاخرة في مقابل الدنيا.

وقيل ان الاشتراء هنا بمعنى البيع لانهم باعوا انفسهم وحصلوا على الكفر والتعبير ببيع النفس باعتبار انه يخسرها يوم القيامة كما قال تعالى (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).[24]

وهذا ايضا لا باس به ومثله قوله تعالى (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[25] فقد عبر هنا عن نفس المبادلة بالشراء اي البيع.

وكذلك قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)[26] فهنا ايضا مبادلة للنفس وبيع لها ولكن في مقابل مرضاة الله وذلك باعتبار ان الذي يطلب رضاه يستهين بنفسه في التضحية بها.

فيتبين منه ان هذه المبادلة يمكن ان يعتبر بيعا للنفس في مقابل ملذات الدنيا او في مقابل مرضاة الله كما يمكن ان يعتبر اشتراءا لها وتحصيلا.

وقوله (ان يكفروا) يأوّل الى المصدر وهو خبر مبتدأ محذوف - على ما قالوا - اي بئس ما حصلوا عليه في مقابل انفسهم وهو كفرهم بما انزل الله ولم يعبر عنه بالرسالة او بالرسول او بكتاب الله او بالقران للاشارة الى وجه التنديد بفعلهم فهم يعلمون بمقتضى ما بلغهم من صفات الرسول صلى الله عليه واله وسلم ان ما ياتيهم به انما هو من الله تعالى. وهذا غاية السفاهة ان يكفر الانسان بما انزل الله تعالى.

 

بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ...

وهذا بيان لسبب الكفر وفيه ما يوجب مزيدا من التنديد واللعن. والبغي ياتي بمعنى الطلب ولعله الاصل فيه - كما قيل - وبمعنى الظلم والحسد والفساد. والمراد به هنا الحسد وهو مفعول لاجله اي كفروا بسبب الحسد. وقوله (أن ينزّل) مجرور بتقدير (على) اي حسدا منهم على هذه الميزة التي اعطاها الله لغيرهم وهو الرسول صلى الله عليه واله وسلم.

والتعبير بما ورد في الاية يبين فداحة بغيهم وعدوانهم فهذا الامر الذي يحسدون الرسول صلى الله عليه واله وسلم عليه ليس امرا اعطاه الناس وانما هو فضل من الله تعالى انزله على عبد من عباده شاء الله ان ينزل عليه. والله لا يشاء امرا الا لحكمة وهم يؤمنون بحكمته تعالى. والفضل بمعنى الزيادة فاذا زدت العامل في اجرته على ما يستحقه فهو فضل منك وكل ما يؤتيه الله احدا فهو فضل لانه تعالى لا يستحق عليه احد شيئا.

 

فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ...

الفاء للترتب ومن الطبيعي ان يترتب على مثل هذا العدوان غضب من الله تعالى فهم بذلك يعتدون على من اختاره الله تعالى ولا يراعون حرمة ربهم ولا يرجون له وقارا.

والبوء: الرجوع. ويعبر به عن ما يحصل عليه الانسان في كسبه وبذله للجهد في سبيل تحصيل رزق ونحوه لانه يرجع به الى اهله. والمراد ان ما يحصلون عليه بهذا العمل غضب مضاعف. او انهم كانوا يستحقون الغضب بما مر من كفرهم وقتلهم الانبياء وغير ذلك فاستحقوا اليوم غضبا اخر.  

والمراد بالكافرين هم اليهود في عصر الرسالة لانهم كفروا بها ولم يذكرهم بالضمير بل بالاسم الظاهر وبوصف الكفر للاشارة الى السبب. والعذاب المهين اي ما يوجب تحقيرهم وإذلالهم.

 


[1] الانعام : 146

[2] النساء : 160

[3] ال عمران : 50

[4] النساء : 156

[5] النساء : 157

[6] الزمر : 42

[7] الحجر : 29 و ص : 72

[8] المائدة : 110

[9] النحل: 102

[10] البقرة: 97

[11] الشورى : 52

[12] البقرة : 253

[13] المجادلة : 22

[14] البقرة : 61

[15] فصلت : 5

[16] ال عمران : 188

[17] الكافي ج2 ص 289 باب وجوه الكفر

[18] النمل : 14

[19] الاسراء : 102

[20] النساء: 136

[21] الحديد : 7 - 8

[22] التوبة: 45

[23] الحجر: 14- 15

[24] الزمر : 25

[25] البقرة : 102

[26] البقرة : 207