وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ...
يستمر السياق في بيان ما يختلقونه من اعذار لعدم ايمانهم بالرسالة الجديدة. ومن الملفت ان الدعوة هنا ليس الى الايمان بما اُنزل على الرسول صلى الله عليه واله وسلم بل الايمان بما أَنزل الله تعالى. ولم يذكر القائل لانه لا خصوصية له كما لا خصوصية لمن اُنزل عليه فالمطلوب هو الايمان بما انزله الله تعالى وهو ربنا وربكم. فتبقى عليهم المطالبة بما يثبت انه مما انزل الله تعالى ولكنهم يعلمون ان ذلك ميسر فلا يطالبون به بل يقولون نحن نؤمن بما أنزل الله علينا فهذا ايضا مما انزل الله ونحن نؤمن به.
وهذا هو ما يقوله بعض النصارى في عصرنا ايضا فهناك منهم من لا ينكر الرسالة المحمدية صلى الله عليه واله وسلم ولكنه يرى كفاية الايمان بأيّ كتاب سماوي فيقول نؤمن بما انزل علينا ونلتزم به ولا فرق بين الاديان فهي كلها من الله.
وهذا ينشأ من التعصب لدين الآباء والاجداد ان لم يكن لدواع اخرى خبيثة وهذا التعصب يهدم الدين ويُضلّ الانسان ولا يختلف في ذلك المسلم وغيره فالمسلم ايضا يتعصب لمذهب آبائه واجداده وغاية ما يعترف به في النهاية انه لا فرق بين المذاهب وبأيّ منها يتمسك المسلم يصح عمله. وهو خطأ واضح. والفرق كبير.
والجواب عن قول اليهود (نؤمن بما اُنزل علينا) ان هذا الدين ناسخ للاديان السابقة وان اللازم على من يؤمن بالله تعالى ان يستسلم امام اخر شريعة بعثها كما قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).[1]
وجملة (ويكفرون بما وراءه) ليست تكملة لكلامهم كما هو واضح بل هي جملة حالية تدل على كذبهم في الايمان بما انزل عليهم ايضا. وذلك لانهم يقولون نؤمن بما انزل علينا مع انهم يكفرون بما وراءه مما انزله الله تعالى وهذا كفر برسالة السماء فهم لا يؤمنون بما انزل الله تعالى والا لكانوا يؤمنون بكل ما انزل اذ لا فرق بينهما من حيث مناط وجوب التسليم.
والوراء يطلق على الخلف والقدام وذلك لان الاصل فيه الستر ومنه المواراة فيطلق على كل ما يستر الشيء من اي جهة ويعبر به ايضا عن الغير وهو المراد هنا.
وقوله (وهو الحق..) جملة حالية ايضا اي يكفرون بما وراءه مع انه هو الحق والاتيان بالجملة الحالية يدل على سبقه على كفرهم به اي انهم كفروا به مع انه كان هو الحق مسبقا ولعله يستبطن ايضا اعترافهم في الباطن بانه الحق فهم لا يتهمونه بالكذب بل يكفرون به مع انه الحق وفقا لما عندهم من المعرفة بعلامات النبوة.
ولم يقل مع انه حق بل هو الحق اي لا حق غيره في هذا الظرف فما انزل اليهم من الكتاب وان كان حقا ايضا الا ان ما بايديهم ليس حقا بتمامه بل فيه ما حُرّف وغُيّر فالحق حاليا منحصر في ما يكفرون به. ومضافا الى ذلك فان هذا الحق يصدّق ما معهم في اصول الشريعة وحقائق الكون فكفرهم به يستلزم كفرهم بما معهم ايضا لان الحقائق المنزلة فيهما واحدة.
قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ...
وهذا هو الدليل على انهم يكفرون بما عندهم ايضا فاذا كفروا بما انزل على الرسول صلى الله عليه واله وسلم مع انه هو الحق فليس مستغربا لانهم يكذبون في دعوى ايمانهم بما اُنزل عليهم اذ لو كانوا يؤمنون به لَما قتلوا الانبياء وهذه شيمتهم القديمة قتلوا انبياء الله ولم يستنكروا ذلك من القتلة الطغاة.
والاستفهام التوبيخي يخاطب الموجودين في عصر الرسالة ولا يقول لم قتلتم بل لم تقتلون مع ان الانبياء لم يكونوا في ذلك العصر ولذلك قيده بقوله من قبل لئلا يقال نحن لم نقتل فمع ان الانبياء كانوا قبل هذا العصر ولكن القتل مستند الى كل المجموعة حتى الحاضرين بل هو مستمر فيكم طيلة القرون.
وهذا كما اسلفنا اما ان يكون باعتبار انهم باقون على نفس المبادئ فلا مانع لديهم من ارتكاب القتل في هذا العصر ايضا او لانهم راضون بما حدث.
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ...
وهذا دليل واضح اخر على عدم ايمانهم بما اُنزل عليهم فقد جاءهم موسى عليه السلام بالمعجزات الواضحة وهي البينات ومع ذلك عبدوا العجل واتخذوه الها وهو من اغرب ما يمكن ان يقع من مؤمن بالله وبرسالة السماء.
وقوله (وانتم ظالمون) جملة حالية اي عبدتم العجل ظلما فلم يكن ذلك عن جهل ومتابعة لتقاليد الآباء والاجداد كما يشاهد من عبّاد البقر حاليا بل عن ظلم منكم لأنفسكم او لا يتعلق الظلم باحد فان الظلم بمعنى وضع الشيء في غير محله فهو ظلم على الحق وعلى الانسانية وعلى العدل والانصاف.
وقوله (ثم) ليس للتراخي بل للاستغراب اي مع انه اتاكم بالمعجزات الواضحة لم تؤمنوا بل اتخذتم العجل وفي التقدير اي اتخذتم العجل الها. والضمير في قوله من بعده لا يعود الى موسى عليه السلام اذ كان ذلك في حياته بل الى مجيئه بالبينات.
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ...
اي واذكروا يوم اخذنا ميثاقكم وهذا اشارة الى قصة سابقة وردت في قوله تعالى(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[2] وليس هذا تكرارا فهناك كان الكلام في عدّ النعم التي انعم الله بها عليهم ومقابلتهم لها بالكفر ولكنه ورد هنا للرد على دعواهم بانهم يؤمنون بما اُنزل عليهم فيُذكّرهم الله تعالى بما كان منهم من الكفر بما اُنزل عليهم.
ومنها يوم اخذ الميثاق وقلنا فيما سبق ان المراد بهذا الميثاق هو قوله تعالى (خذوا ما آتيناكم بقوة) والدليل على ذلك هو هذه الاية حيث لم يقل وقلنا خذوا ما اتيناكم.. بل جاء بعد ذكر اخذ الميثاق ورفع الطور مباشرة مما يدل على انه هو الميثاق ومن اجله رُفع الطور.
وهو نفس ما هددهم الله عليه برفع الطور فوقهم كأنه ظُلّة اي كأنه سحابة او سقف يظللهم فكان ذلك تهديدا لهم بوقوعه عليهم ان لم يلتزموا بالميثاق ولذلك قال في سورة الاعراف (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ)[3] حيث أبوا ان يقبلوا العمل بما ورد في التوراة.
وقلنا ايضا ان ذلك لا ينافي عدم الاكراه في الدين لان مورد عدم الاكراه العقيدة والايمان القلبي وهو مما لا يمكن الاكراه عليه والذي حدث لبني اسرائيل التهديد بالعذاب اذا رفضوا التسليم للقانون النازل من السماء فهذا هو الغرض من التهديد حتى لو لم يؤمنوا بقلوبهم كما كان حال المنافقين في عصر الرسالة.
واما قوله تعالى (خذوا ما آتيناكم بقوة) فالمراد بالقوّة الجد والاجتهاد. ومثل هذا التعبير ورد في خطابه تعالى لسيدنا يحيى عليه السلام (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ).[4]
والغرض منه تنبيههم على انهم يتحملون مسؤولية حمل الرسالة الالهية الى البشرية فلا بدّ من ان يبعث من بينكم رسل يهدون الناس وهذا الامر لا يتم بالتسامح والتساهل والاشتغال بالملاهي والتمتع بملذات الحياة الدنيا بل لا بدّ من تشمير السواعد وترك الاسرة والمخادع والتمسك بما امر به الله تعالى بقوة وبذل الجهد لنشر احكام الشريعة والتضحية في سبيله. وهذا ما فعله الصالحون منهم كما فعله الصالحون منا.
وفي رواية العياشي عن إسحاق بن عمار قال (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» أقوة في الأبدان أم قوة في القلوب قال فيهما جميعا). اي يجب العمل بقوة وبتحمل الشدائد مع كونه خالصا لله وبعزم وتصميم مؤكد.
وقوله (واسمعوا) بمعنى اطيعوا لا مجرد سماع الصوت وهذا تعبير متعارف حيث يعبر عن الاستجابة بالسماع.
اما قولهم (سمعنا وعصينا) فالظاهر انهم اعلنوا عن سماعهم واستجابتهم تحت وطأة التهديد بسقوط الجبل عليهم. واما اعلان العصيان وفي جواب الامر بالسمع والطاعة ومع وجود التهديد فهو مستبعد فالظاهر ان المراد به العصيان في العمل. وهذا من التعبير المتعارف ان يعبر عن العصيان بانه اعلن عن عصيانه وان لم يكن قد اعلن لان الفعل اوضح دلالة على ما يضمره الانسان.
ومثل ذلك وارد في موارد اخرى في القران وغيره كقوله تعالى (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[5] مع انه ليس هناك خطاب ولا مخاطب وانما هو تعبير عن الفعل وورد في الشعر حتى عن لسان الحيوان والجماد كقول الشاعر (قالت جناحاه لرجليه الحقي).
فالظاهر ان هذا حكاية عمّا اخفوه في ضمائرهم اذ كان الطور فوقهم وهم يخافون ان يسقط عليهم فلم يكن بامكانهم اعلان العصيان آنذاك ولكن المنافقين وهم اكثرهم عزموا على العصيان فعبر الله تعالى عن عزمهم بالاعلان عنه. والغرض تنبيههم على انهم منافقون يظهرون الايمان ويبطنون الكفر وان هذه شيمة قديمة فيهم والخلف باقون على شيمة السلف كما هو الحال فينا والقرآن تذكرة للجميع.
والاشراب افعال من الشرب وهو معروف ويعبر به كناية عن اختلاط الشيء بالشيء لان الماء اسرع شيء سريانا في الاجسام ومنه قولهم (اُشرِب الابيض حمرة( اي اختلط اللونان. والظاهر ان التقدير حبّ العجل فكأن حبه اختلط بقلوبهم اختلاطا لا يمكنهم التخلص منه وهذا ايضا من التعبير المتعارف يقال اُشرب فلان حب فلان ولكن اسناد الخلط الى نفس العجل مبالغة في ولعهم به فكأنّ العجل بنفسه دخل في قلوبهم وتمكن منها.
والاتيان بالفعل المبني للمجهول يشير الى أن هذا الاختلاط حاصل ومفروض عليهم والفاعل هو الله تعالى ولكنه بسبب كفرهم واصرارهم عليه عنادا مع أن هارون عليه السلام كان ينهاهم ويحذرهم فهذه الحالة حصلت لهم نتيجة هذا الاصرار بصورة طبيعية وكل ما هو نتيجة طبيعية للعمل او لأيّ شيء اخر مستند الى الله تعالى.
وهذا البيان العجيب في القرآن يبيّن بُعدهم السحيق عن الايمان بما انزل من الله تعالى وبذلك يردّ على ما يدّعونه من الايمان بما انزل عليهم.
قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ...
اي بئس الشيء الذي يدعوكم اليه هذا الايمان المزعوم وهكذا يامر الله تعالى رسوله صلى الله عليه واله وسلم ان يبلّغهم هذا التهكم والاستهزاء بهم في مقابل دعواهم الايمان بما انزل عليهم من الله انكم لو صدقتم في هذا الايمان فانه يامركم بعبادة العجل اي يدعوكم اليه ويبعثكم عليه وهل يمكن ان يدعو الايمان بالله وبما انزله عليكم الى عبادة العجل؟!
وترك مخاطبتهم استهانة بهم وانما امر بذلك نبيه صلى الله عليه واله وسلم وهم لا يستحقون مخاطبته ايضا ولكنه مبتلى بمواجهتهم.
[1] ال عمران : 81
[2] البقرة : 63
[3] الاعراف : 171
[4] مريم : 12
[5] يس : 82<