مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ...

هنا ايضا لا يخاطبهم الله تعالى مباشرة بل يامر الرسول صلى الله عليه واله وسلم بان يردّ عليهم استهانة بهم وتحقيرا لهم.

والرد هنا متوجه الى دعوى اخرى لم تذكر سابقا وان كان ربما يفهم من دعواهم ان النار لن تمسهم الا اياما معدودة وسياتي ذكر هذه الدعوى في قوله تعالى (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى..)[1] وبالطبع فان هذه دعوى مقسمة بين الفريقين فاليهود يدعون ان الجنة لهم والنصارى يدعونها لهم خاصة وانما ذكرت هكذا للاختصار.

ونتيجة هذه الدعوى ان الدار الاخرة لهم بمعنى ان الحياة والسعادة والنعمة في الدار الاخرة لهم والاخرون مخلدون في النار لانهم لم يتبعوا هذا الدين فمعنى كون الاخرة لهم ان الجنة لهم وهذا هو المستفاد من قوله (لكم) لان اللام تفيد النفع.

ويمكن ان يستفاد ايضا من قوله (عند الله) فان الذي عند الله هو النعمة والقرب والرضوان ويحتمل ان يكون معنى قوله عند الله ان هذا حكمه تعالى نظير قوله (فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)[2]

وقوله (خالصة) حال وهو بمعنى خاصة كما هو المعروف في تفسيره ونظيره قوله تعالى (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا)[3] وعليه فقوله (من دون الناس) تأكيد له. ومعناه ان سائر الناس لا تشملهم الرحمة الالهية مطلقا.

ويمكن ان يكون المراد خلوصه من كل ما ينقص قيمته او ينغص لذّته وذلك لانهم يدعون انهم لا اثم عليهم والمذنبون منهم لا تمسهم النار الا قليلا فيكون الاختصاص مفهوما من قوله (من دون الناس).

ويرد عليهم بانه لو كان الامر كذلك ولو كنتم صادقين في هذه الدعوى فتمنوا الموت لان المفروض ان تلك الحياة افضل لكم من هذه الحياة فلماذا تفضلون البقاء هنا فتمنوا على الله ان يسرع في موتكم لتنالوا السعادة الابدية في اسرع وقت. والمراد تبيين انهم لا يصدقون في ذلك بمعنى انهم لا يعتقدون به وانما يقوله الاحبار لأتباعهم خداعا وتزويرا.

ومثل هذه الاية قوله تعالى (قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[4]

وليس المراد ان يتمنوا ذلك بالقول كما ذكره بعضهم قال في الكشاف (فإن قلت: التمني من أعمال القلوب وهو سرّ لا يطّلع عليه أحد، فمن أين علمت أنهم لم يتمنوا؟ قلت: ليس التمني من أعمال القلوب، إنما هو قول الإنسان بلسانه: ليت لي كذا، فإذا قاله قالوا: تمنى و(ليت) كلمة التمني، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب ولو كان التمني بالقلوب وتمنوا لقالوا: قد تمنينا الموت في قلوبنا، ولم ينقل أنهم قالوا ذلك).

والصحيح ان التمني امر قلبي والله تعالى يخبر انهم لا يتمنونه في قلوبهم واما انه لا يظهر للناس فلا وجه له لانه يظهر من سيرة الانسان وعمله ولذلك سياتي قوله تعالى (ولتجدنهم احرص الناس على حياة) فهذا امر يتبين بالوجدان كما كان يتبين من افعال امير المؤمنين عليه السلام انه لا يبالي بالموت فيخوض الغمرات مستهينا بالحياة بخلاف غيره ممن كان لا يدخل في الحرب وانما يبقى في مؤخرة الجيش مدعيا انه يحافظ على الرسول صلى الله عليه واله وسلم ولم ينقل منه انه قتل او جرح احدا من الكفار.

والمؤمن الواثق من رحمة ربه حتى لو لم يكن واثقا من عمله يتمنى لقاء ربه كما قال تعالى (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ..)[5] وفي دعاء ابي حمزة (اللهم حبب اليّ لقاءك وأحبب لقائي واجعل لي في لقائك الراحة والفرج والكرامة) وفي زيارة أمين الله (اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك... مشتاقة الى فرحة لقائك) وتمني لقاء الله تعالى غاية الكمال.

واما ما ورد من النهي عن تمني الموت فالظاهر ان المراد بها ما اذا كان تمني الموت تهربا من مصائب الدنيا ومصاعبها ولا ينبغي للمؤمن أن يتمنى الموت لذلك بل يكل امره الى ربه ويطلب منه ان يوفقه في حياته ويرسّخ في نفسه الايمان فتهون عنده مصائب الدنيا لانه يراها من الله تعالى وكل ما هو منه فهو جميل.

وفي دعاء الرسول صلى الله عليه واله وسلم (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك ومن طاعتنا ما تبلغ بنا رضوانك ومن اليقين ما يهون علينا به مصيبات الدنيا..)[6] فان الجزع من المصائب وتمني الموت بسببها لا يكون الا بسبب الشك واما من تيقن بان كل شيء من الله تعالى فلا يجزع.

وروي عن سيد الشهداء عليه السلام انه قال في بعض مواقفه يوم عاشوراء (هوّن علي ما نزل بي انه بعين الله).[7]

وقوله (ان كنتم صادقين) شرط جزاؤه محذوف يدل عليه الطلب السابق اي ان كنتم صادقين فيما تدعونه من ان نعيم الاخرة خاصة بكم فتمنوا الموت لتصلوا الى امنيتكم في اسرع وقت.

 

وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ...

الابد فسر في كتب اللغة بانه الدهر ويكنى به عن الدوام الى ما لا نهاية له فيمكن ان يكون المراد انهم لا يتمنون الموت الى اخر حياتهم حتى بعد الكبر والوصول الى ارذل العمر. او الى الابد بمعنى انهم يطمعون في الخلود فلو بقوا الى اخر الدهر لم يتمنوا الموت.

والسبب في فرارهم من الموت ما قدمت ايديهم اي ما ارتكبوه من آثام فان الاعمال تسبق الانسان وتسجّل عليه قبل الموت فكأنه قدّمها على نفسه ولا تختلف في ذلك السيئة والحسنة قال تعالى (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ).[8] وهذا تعبير كنائي عن كل الاعمال لا خصوص ما تستخدم فيه اليد وهو تعبير متعارف عن عمل الانسان والسر فيه ان الغالب من الاعمال تكون بتوسط اليد.

والحاصل أنهم لا يتمنون الموت خوفا من العذاب الذي ينتظرونه وينتظرهم. وهذا يدل على يأسهم من رحمة الله تعالى ووثوقهم بانها لا تشملهم وهو من أكبر الذنوب ولعلّه أكبرها بعد الشرك لانه يشتمل على سلب صفة الرحمة عنه تعالى مع ان رحمته سبقت غضبه ولولا رحمته لما كان لنا امل في الحياة في الدنيا ولا في النجاة في الاخرة.

قال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)[9] والكتابة بمعنى التسجيل لان الرحمة في الاخرة مسجلة على المتقين خاصة ولكن ربما تشمل غيرهم كما قال تعالى (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).[10]

كما ان هذا التخوف منهم يدل على شيوع الكبائر فيهم وبعدهم عن التقوى خصوصا في صفوف علمائهم واحبارهم والمفروض انهم ائمتهم وبهم يقتدون.

وقد ورد التنويه على ذلك في عدة من الآيات كقوله تعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ)[11] وقوله تعالى (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).[12] والغرض من ذلك الدلالة بوضوح على بعدهم عما يدّعونه من الايمان بما اُنزل عليهم وأنّهم يكذبون في دعواهم.

وقوله (والله عليم بالظالمين) تهديد وتحذير لهم اي لا ينفعهم تأخّر الموت فان الله تعالى عليم بما فعلوه من الظلم في حياتهم ومعذّبهم عليها عاجلا أم آجلا.

 

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ...

الخطاب للرسول صلى الله عليه واله وسلم او لكل قارئ وسامع فالمراد ان حرصهم على الحياة امر واضح من تصرفاتهم يجدها كل احد كما هو واضح اليوم ايضا. واللام للقسم وتدل على قسم مقدر والنون للتاكيد كل ذلك لبيان انه امر واضح للجميع.

والتعبير بانهم احرص الناس يدل على انه لا يوجد من البشر من يكون بهذه المثابة وهذا قد يكون على حقيقته فانه صادر من علام الغيوب وقد يكون من باب المبالغة او من باب انهم في القمّة وان كان هناك من يشابههم في ذلك.

واتى بالحياة نكرة ليدل على ان الاهتمام عندهم باصل الحياة لا بكيفيتها فلو كانوا يعيشون حياة الذل والحقارة كانوا يرجّحونها على الموت يقول ابن عاشور في تفسيره: وَتَقُولُ يَهُودُ تُونُسَ مَا مَعْنَاهُ «الْحَيَاةُ وَكَفَى».

وهذا بخلاف سيرة الاحرار من الناس حيث يأبون الذل ويرجحون الموت على الحياة بمذلة كما اشتهر عن الامام الحسين سلام الله عليه (اني لا ارى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين الا برما)[13] فهو عليه السلام يأبى أن يبقى حيا مع وجود الظالمين حوله حتى لو لم يكن تحت ظلمهم.

وقوله (ومن الذين..) عطف على الناس بحسب المعنى اي هم احرص من سائر الناس ومن الذين اشركوا فيكون من ذكر الخاص بعد العام فلا بد من ان يكون المراد بالناس سائر الناس غير اليهود لا جميع الناس اذ لا يصح تقدير (من) حينئذ فانهم من الناس ايضا.

وذكر المشركين بوجه خاص من جهة ان المشرك لا يعتقد بالاخرة فحرصه على الحياة امر طبيعي اذ يرى الموت فناءا مطلقا ولا يرجو خيرا بعده ولا يخاف شرا ومع ذلك فان هؤلاء احرص على الحياة منهم مع انهم حسب دينهم يجب ان يعتقدوا بالاخرة.

والظاهر ان الضمير في (احدهم) يعود الى بني اسرائيل بناءا على ما مر من توجيه عطف الذين اشركوا على الناس وهناك من يرجعه الى الذين اشركوا بناءا على ان قوله (ومن الذين اشركوا) بداية الجملة.

وهو بعيد اذ ليس الكلام حول من هو حريص على الحياة بل على حرص اليهود عليها خاصة وانهم احرص حتى من المشركين فهذه جملة مستقلة تبين غاية حرصهم.

وقوله (يود) اي يحب ويرجو. والمراد بقوله (احدهم) اي كل واحد منهم وهو على سبيل الغلبة لوجود النادر منهم ممن لا يبالي بالموت. و(لو) في قوله (لو يعمر) مصدرية وتفيد معنى التمني ايضا والمصدر المأول مفعول (يود) اي يتمنى احدهم ان يعمر الف سنة. والالف لا يقصد به التحديد وانما اختاره لانه اكبر رقم بسيط في اللغة العربية وبعد ذلك تأتي الارقام مركبة فالمليون يعبر عنه بالف الف فالمقصود انهم يتمنون ان يبقوا الى الابد ولا حدّ للعمر الذي يتمنونه.

 

وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ...

(ما) نافية والضمير اسمها ولا عائد له لانه مبهم يفسره قوله (ان يعمر) و(بمزحزحه) خبرها. والزحزحة تكرار للزحّ وهو الابعاد وحيث ان الابعاد كثيرا ما يتحقق تدريجا لا فجأة استعملت الكلمة بتكرار الزحّ. والمعنى ان العمر الطويل مهما كان لا يبعده عن عذاب الاخرة فهو ميّت في نهاية المطاف لا محالة والعذاب يتبع عمله.   

والتهديد واضح في الجملة الاخيرة. وفيها اشارة الى ان عملهم يستتبع العقاب لا محالة. والوجه في توصيفه تعالى بالبصير دون العليم مع انهما واحد في صفاته تعالى أنّ الابصار أشدّ تحذيرا للانسان ليكون منتبها أنّ اعماله تحت السيطرة التامة والابصار الدائم من الله تعالى الذي لا يفوته شيء فهناك فرق بين أن تعلم بأن الله عليم بما تفعل وأن تحسّ به معك ويراك في جميع احوالك وافعالك.

 

قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ...

ومن الاعذار التي كان اليهود يتشبثون بها لعدم ايمانهم بالقران ان من اتى به من الملائكة هو جبرئيل وهو عدوّ لهم.

روى في المجمع رواية طويلة فيها (ان ابن صوريا من يهود فدك قال للرسول صلى الله عليه واله وسلم خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك واتبعتك: أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك؟ قال فقال جبريل قال ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب وميكائيل ينزل باليسر والرخاء فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنّا بك).

فنزلت هذه الاية وتاليتها ردّا عليهم من خمس جهات وامر الرسول صلى الله عليه واله وسلم ان يقول لهم ذلك. والعدوّ من العدوان وهو التجاوز يطلق على من يعادي احدا اذا لم يراع حقوقه فهؤلاء حيث ابدوا عداءهم لجبرئيل عليه السلام ردّ عليهم اولا بان من كان عدوا لجبريل فانه نزله على قلبك باذن الله اي لم يكن من قبله وانما هو رسول اتى بالوحي من قبله تعالى. والعداء للرسول لا يبرر ردّ كلام الله تعالى فهو لا يحمل شيئا من نفسه. 

والضمير في قوله (نزّله على قلبك) يعود الى القرآن وان لم يذكر لان السياق يدل عليه. والتنزيل على القلب لا يدل على ان النازل هو المعاني فقط كما يتوهمه بعض الناس بل النازل من السماء هو الالفاظ كاملة ولكن لم يكن الوحي مكتوبا على ورقة ولا صوتا يسمع وانما كان الوحي ينتقل بين الملك والرسول صلى الله عليه واله وسلم بطريقة لا نعلمها وهذا ما يعبّر عنه الله تعالى بانه يوصله الى قلبه الشريف.

و(جبريل) لغة في اسم سيد الملائكة. ويقال ان ايل في العبرية بمعنى (الله) وجبر بمعنى القوة وهو في العربية ايضا بمعنى يناسب القوة لان اللغتين متقاربتان وجبرئيل عليه السلام مظهر القوة والقدرة كما قال تعالى في شانه (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ).[14]

والقلب لا يراد به هذا العضو المعروف بل النفس البشرية وهذه النفس مرتبطة بالجسم ارتباطا وثيقا لا يكاد يلاحظ انفصال بينهما وانما تنفصل النفس بالموت وفي النوم ايضا حسبما ورد في قوله تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا..).[15]

ولكن بعض البشر يتمكن من الفصل بينهما وهو امر ممكن فالملك ياتي بالوحي مباشرة الى نفس الرسول صلى الله عليه واله وسلم وتلقي النفس لمثل ذلك اقوى نوع من التلقي لا يشبه ما يتلقاه الانسان بحواسه فالانسان يرى ويسمع بحواسه وينتقل الى نفسه وقد تخطئ الحواس واما اذا ارتبط النفس مباشرة بالشيء فانه يدركه مباشرة لا تتوسط فيه الحواس ولا يمكن فيه الخطأ.

والتنزيل ليس بمعنى تنزيل شيء محسوس من مكان مرتفع الى مكان منخفض كما يتصور بل هو تنزيل للوحي من قبله تعالى ومن عالم الغيب وما وراء الطبيعة الى عالم الدنيا فهذا نوع من التكييف في الامر بمعنى ان هذا الامر يتحول من امر غيبي وغير طبيعي الى امر طبيعي يمكن للانسان العادي ان يسمعه ويفهمه.

وهذا التنزيل من شؤون الخلق ولا يتحقق بصورة طبيعية وانما يتحقق باذن خاص من الله تعالى فقوله باذن الله للاشارة الى هذا الاذن الخاص وان كان كل شيء لا يتحول ولا يتحرك الا باذنه تعالى الا ان هناك اذنا عاما للحركات الطبيعية واما مثل هذا التكييف فلا يمكن الا باذن خاص.

 

مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ...

وهذا هو الجواب الثاني ومعناه ان هذا الكتاب الذي نزل به جبرئيل عليه السلام مصدق لما قبله من كتب السماء وليست رسالة منفصلة عن سائر الرسالات قال تعالى (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ..)[16] فهو رسول كسائر الرسل ورسالته كسائر الرسالات وشريعته كسائر الشرائع فانها كلها من الله تعالى ولا يمكن فيها التغيير والاختلاف لان الله تعالى لا يتحول ولا يتغير قال تعالى (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا).[17] فالتشكيك في هذه الرسالة تشكيك في جميع الرسالات ولا يؤثر في ذلك كون الملك الذي اتى به جبرئيل او ميكائيل عليهما السلام.

 

وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ...

وهذا هو الجواب الثالث والرابع فالقران هداية لجميع البشر وبشرى لمن آمن به فمن لا يؤمن به يخسر الهداية التي بعثها الله ولا يستحق البشرى والمراد انكم بعدم ايمانكم تضرون انفسكم ولا تضرون من تعادونه وهو جبرئيل عليه السلام.

ويمكن ان يكون (للمؤمنين) متعلقا بالاثنين فهو هدى للمؤمنين فقط كما قال تعالى (هدى للمتقين) وذلك بلحاظ ان الذي يهتدي به ويصل الى ما يمكنه ان يصل اليه من مدارج الكمال هم المؤمنون المتقون فقط وان كان الهدف منه هداية الجميع.

 

مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ...

وفي هذه الاية الكريمة يعلن الله تعالى بعظمته حربا عليهم دفاعا عن سيد الملائكة وهو الجواب الخامس.

و(من) موصولة او شرطية. وهو في هذا الاعلان يبين ان معاداة احد من الملائكة معاداة لله تعالى وجميع الملائكة والرسل ولا يمكن التفريق بينهم.

والانسان لجهله بحقائق الكون ولمقارنته بين نظام الربوبية والانظمة المادية التي يراها يقع في خطأ عظيم فهو يتصور ان الله تعالى كانه ملك متسلط على عرش وحوله شرطه وحراسه وهم الملائكة فكما يمكن ان يعادي الانسان شرطيا من شرط الحكومة من دون ان يعادي الملك فكذلك يمكن ان يعادي ملكا او رسولا من ملائكة الله ورسله من دون ان يعادي الاخرين.

وهذا خطأ فادح فالنظام الربوبي لا ينفك بعضه عن بعض خصوصا الملائكة فان الملك لا يمكن ان يعصي ربه وهو معصوم ذاتا لم يخلقه الله الا في اطار خاص لا يمكن ان يتجاوز عنه او لا داعي له للتجاوز من شهوة او غضب او حقد ونحو ذلك قال تعالى (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).[18]

والرسل من البشر ايضا لا يمكن ان يعادي الانسان منهم احدا الا بمعاداة جميع النظام الربوبي قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا).[19]  

ومن هنا ورد في هذه الاية ان هؤلاء اعداء لله تعالى ولكل الملائكة والرسل ولجبريل وميكال فحتى من يقبلونه من الملائكة وهو ميكائيل يُعتبرون عدوا له لان هذا النظام لا يمكن ان ينفك بعضه عن بعض. ومن كان كذلك فان الله عدو له ولم يذكر الضمير بل قال عدو للكافرين اي بما انهم كافرون وهذا ايضا منهم ومن كان الله تعالى عدوا له فان ذلك يكفيه عقابا.

والله تعالى لا يمكن ان يعاديه احد بمعنى التجاوز عليه فالعدو بالمعنى الحقيقي لا يتصور في حقه وانما هو نوع من التنزيل فكما انه تعالى اعتبر ايذاء الرسول صلى الله عليه واله وسلم ايذاءا له وبيعته بيعة له كذلك اعتبر العدوان عليه عدوانا على نفسه.

ويمكن ان يعتبر عداءا على وجه الحقيقة باعتبار ان الانسان ربما يتجاوز عما له تعالى من الحق عليه كما قال تعالى (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) وقال ايضا (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا).[20]

 

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ...

يتحول السياق من هنا الى ذكر مساوئهم ويتحول ايضا من مخاطبتهم الى توجيه الخطاب الى الرسول صلى الله عليه واله وسلم. ويبدأ هذه المجموعة بالتنديد بكفرهم بالقران الكريم مع وضوح كونه معجزا من الله وقد مر قوله تعالى (ويكفرون بما وراءه) ويقصد به القران.

وقيل ان هذا ايضا جواب عن بعض ما اختلقوه من الاعذار وهو أنك لم تأتنا ببينة اي بمعجزة واضحة وهذا الاعتراض منقول عن المشركين في القران مكررا والجواب هو الجواب في جميع الموارد. قال تعالى (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى)[21] وقال ايضا (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ..).[22]

والجواب هنا ايضا ان ما انزله الله تعالى عليك من القران آيات بينات والبينة كل ما هو واضح والمراد ان كونها آية ومعجزة من الله تعالى امر واضح لا يشك فيها انسان يتبع عقله وضميره اما من كان يحاول التشكيك لكي يصل الى غرضه فبامكانه ان يشكك في اوضح الايات قال تعالى (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ).[23]

وقد اشرنا مرارا الى وجوه الاعجاز في القران فلو كان في بعضها خفاء لعامة الناس ففيها ما هو واضح للجميع كاعجازه في البلاغة وفي ان من اتى به رجل امي كان في قومه اربعين سنة لم يقل شعرا وفي انه يشتمل على حقائق من معرفة الله تعالى وفلسفة الكون وعلى سنن متناسقة من الاحكام لا يمكن ان يصدر من رجل امي في ذلك المجتمع المتخلف. وغير ذلك من الوجوه.

والفسق في الاصل هو الخروج يقال فسقت الفارة اي خرجت من جحرها وانفسقت الرطبة اذا خرجت من قشرتها. وقال العسكري في الفروق اللغوية ان الفسق خروج مكروه فمنه خروج الفأرة وكذلك خروج الرطبة لانه يوجب فسادها.

وقد استعمل في القرآن في الخروج من طاعة الله كما قال تعالى (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ..)[24] اي خرج عنه فلم يطع امر الله تعالى وهذا الاستعمال محدث احدثه القران الكريم فلم يسبق استعمال هذه الكلمة في الاثام وحكي عن ابن الاعرابي انه قال (لم يسمع قطّ في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق قال وهذا عجب وهو كلام عربي).

واستغرب بعضهم هذا التعبير في الاية لان المفروض ان هذا كافر والفاسق يطلق على من يعصي ربه حتى لو كان مؤمنا ولذلك حمله بعضهم على من تجاوز الحد في الكفر فهو ايضا نوع من الخروج.

والاولى ان يقال ان الذي يطلق على المعصية حتى من المؤمن مصطلح اسلامي والمراد هنا الخروج بالمعنى اللغوي فهو خروج عن الفطرة السليمة في مواجهة آيات القران فالانسان السليم اذا لاحظها بفطرته وضميره يعترف بكونها آيات بيّنات أنزلها الله تعالى.

ويمكن ان يستدل على ذلك بانه تعالى اعتبر الكفر بعد وضوح معالم الدين هو الفسق الواضح بحيث حصر الفسق فيه كما قال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).[25]

ومعنى البينة انها واضحة لا تحتاج الى ما يبينها والانسان في بحثه عن الحقيقة لا بد من ان يصل الى امر بيّن لا يحتاج الى توضيح والا فلا يتوقف البحث ولا ينتهي والاستدلال لا يوصله الى الحقيقة فكل قانون يجعل جزءا من الاستدلال يحتاج اثباته الى استدلال اخر الا اذا وصلت السلسلة الى امر واضح لا يحتاج الى دليل وآيات القران بيّنة واضحة تدلّ بذاتها على أنّها نزلت من عند الله تعالى وأنّها لا يمكن ان يصدر من انسان عالم بل جمع من العلماء فضلا عن رجل امي.

 

أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ... 

الاستفهام للاستنكار والتوبيخ. والواو لعطف الجملة على الجملة فلعلها لعطف نقضهم للعهد على فسقهم بسبب الكفر بالبينات. و(كلما) ظرف زمان تفيد معنى الشرط والجواب قوله (نبذه فريق منهم).

والاية تبيّن شيمتهم في نقض العهد وأنّ هذا مما توارثوه فهم نقضوا ميثاقهم مع الله تعالى كما مر في الايات السابقة ونقضوا العهد مع نبيهم موسى عليه السلام ونقضوا العهد مع الرسول صلى الله عليه واله وسلم حينما نزل بين ظهرانيهم حيث تعهّدوا بان لا يتعاونوا مع المشركين ويتعايشوا مع المسلمين تعايشا سلميا، وسرعان ما تواطأوا مع المشركين وحاربوا الرسول صلى الله عليه واله وسلم فأمكنه الله تعالى منهم فقتل من قتل وأخرج الباقين من جزيرة العرب.

والنبذ بمعنى الالقاء وهو اقوى دلالة على المقصود من النقض لانه يدل على التحقير وأنّهم يلقونه كانه من النفايات فضلا عن عدم العمل به. ولم ينسب النبذ اليهم جميعا لوجود المؤمنين الصالحين بينهم ولكن نسبه الى فريق منهم ثم ترقّى في التنديد بهم بان هذا الفريق هم الاكثر بينهم وأنّ أكثرهم لا يؤمنون والتدرّج في التنديد بالخصم من لطيف التعبير في مقام الاحتجاج. و(بل) للاضراب كأنه يقول لم يكتفوا بنقض العهد بل لا يؤمنون.

ولم ينسب الى الاكثر نبذ العهد بينهم وبين الناس بل نسب اليهم عدم الايمان فيمكن أن يراد به عدم الايمان بوجوب الوفاء بالعهد فلا يفون باي عهد مع سائر الناس او مع العرب خاصة لعدم ايمانهم بوجوب الوفاء كما يظهر من قوله تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ..).[26]

ويمكن ان يراد به عدم ايمانهم بالله وهو مخالف للعهد الازلي الذي اخذه الله تعالى على البشر حسب فطرته كما في قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى..)[27] فاذا لم يحفظوا عهد الله فمن السهل ان لا يلتزموا بأيّ عهد اخر مع غيره تعالى.  

ويمكن ان يراد عدم تحقق الايمان والاطمئنان في قلوبهم مطلقا فهم دائما في شك من أمرهم ولذلك لا يهتمّون بالعهد سواء كان بينهم وبين الله او بينهم وبين الرسل او بينهم وبين الناس.

وعلى كل تقدير فإنّ نفي الايمان عن اكثرهم بصيغة المضارع يوجب يأس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من ايمان هذا القوم حتى في المستقبل ويبيّن لهم بوضوح خطر الارتباط بهم والاعتماد عليهم ويحثّهم على طردهم من المنطقة وبذلك تحقّق الآية الكريمة هدفا سياسيا ايضا لحماية المجتمع الاسلامي.

 

وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ...

هذا ايضا عطف على ما سبق من مساوئهم وفي عطف هذه الجملة على نقض العهد تسلية ايضا للرسول صلى الله عليه واله وسلم حيث يظهر ان عدم ايمانهم بالرسالة ليس جديدا منهم فالمألوف منهم نقض العهد وعدم الايمان حتى بكتابهم ومع رسولهم وعدم إيمانهم بعهود الله تعالى.

و(لمّا) ظرف ايضا واتى بذكر الرسول نكرة لان المناط هو توصيفه بأنّه من عند الله فلا عبرة بشخصه فاذا كان من عند الله لا يجوز لمؤمن ان يرفض التسليم له. وكونه من عند الله يثبت بملاحظة إعجازه والبيّنات التي معه.

وأمر آخر يستلزم التصديق منهم وهو أنّه مصدّق لما معهم من الكتاب وان كان الكتاب محرّفا ولكن بقي فيه من اصول المعارف والشريعة ما يكفي للمقارنة فلو كان هذا الرسول يأتيكم بما لا تعرفونه من معارف واحكام لكان لكم عذر في التوقف كالمشركين اما اذا كان مصدقا لما بايديكم حتى ما يعدّ من الاسرار التي لا تبوحونه لعامّة الناس وهم يعلمون أنّ العرب لا يعلمون هذه الحقائق فكانت هذه علامة واضحة على أنّه رسول من عند الله. 

ويمكن ان يكون المراد التصديق العملي بمعنى أنّه يحمل الصفات التي وردت في كتبهم للرسول المنتظر وهذا تصديق للكتاب ولإخباره عن الغيب.

وقوله (نبذ..) جواب (لمّا) والمراد بالفريق المعاصرون لنزول القران منهم بل المقصود خصوص الاحبار والعلماء منهم لان الكتاب كان حكرا عليهم حسب سيرتهم.

ويدل على ذلك قوله تعالى بشانهم (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)[28] فان الذين كتموا الحقائق عن الناس هم علماؤهم والمراد بالكتمان عدم إعلام عامّتهم بها.

وهنا ايضا عبر عنهم بانهم نبذوا عهد الله وراء ظهورهم ولم يبيّنوا ما في كتبهم من صفات الرسول صلى الله عليه واله وسلم وكتموها واشتروا بكتمانهم للحق ثمنا قليلا وهو المال والجاه في الدنيا وهو - مهما كان - قليل اذا قورن بما يلقونه يوم القيامة من الخزي والعذاب.

وعنوان الذين (اوتوا الكتاب) يشمل النصارى ايضا والمراد في بعض الآيات الفريقان ولكنه هنا خاص باليهود على الظاهر باعتبار أنّ سياق الآيات يقتضي ذلك، والا فالنصارى ايضا كان فيهم من يكتم آيات الله تعالى في شأن الرسول صلى الله عليه واله وسلم فإنّ علاماته مذكورة في التوراة والانجيل كما قال تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ..).[29]

ثم إنّ بعض المفسرين قسّم اليهود في تعاملهم مع كتابهم الى اربعة فرق:

فريق آمنوا بالتوراة ايمانا واقعيا والتزموا بكل احكامه ودافعوا عنها وهم بالطبع اذا واجهوا الدعوة الاسلامية آمنوا بها لانه مقتضى الايمان بالتوراة.

وفريق تمرّدوا على احكام التوراة ولم يعملوا بها ونبذوها وراء ظهورهم واعلنوا ذلك.

وفريق هم العلماء المتظاهرون بالدين رياءا ونفاقا وهم الذين كتموا التوراة وما فيها من الحقائق عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم.

وفريق جهلة وهم عامّتهم فهؤلاء وان لم يتمردوا على كتاب الله بل ربما كانوا يظهرون ايمانهم بشدة بالتوراة واحكامها ولكنهم كانوا يتبعون علماءهم وكبراءهم متابعة عمياء فهم مثلهم في الخزي والعذاب يوم القيامة.

وورد في القران مواقف بين المستكبرين والمستضعفين يوم القيامة وفي النار ولكنهم في النهاية مشتركون في العذاب.

وتوصيفهم بانهم ممن اوتوا الكتاب للاشارة الى غرابة امرهم فالمتوقع من الذين اوتوا كتاب الله وتلوه واعتزّوا به في الناس ان يعرفوا قدره ولا يكونوا كالمشركين الذين لم ينزل عليهم كتاب من السماء وكانوا بعيدين عن الثقافة الدينية بل كل ثقافة ولكنهم وهم اهل الكتاب ألقوا كتاب الله تعالى وراء ظهورهم.

والجمع بين كلمتي وراء والظهور للتأكيد على عدم اهتمامهم به فلو اكتفي بالوراء أفاد نفس المعنى كما لو قيل نبذه وراءه فقوله وراء ظهورهم بمعنى انهم لم يعيروا له اي اهتمام.

والمراد بالكتاب الاول التوراة واما الثاني فيمكن ان يراد به القران باعتبار انهم علموا بمقتضى ما لديهم من صفات الرسول صلى الله عليه واله وسلم أنّ هذا الكتاب من الله تعالى ومع ذلك لم يؤمنوا به بل نبذوه وراء ظهورهم اي اهملوه ولم يعتنوا به.

ويمكن ان يكون الثاني ايضا التوراة باعتبار أنّهم لم يعملوا بما فيها من لزوم الايمان بهذا الرسول مع انهم يجدون فيها الصفات المذكورة. ومن هذا التعبير يتبين ان الاهتمام بالكتاب ليس بالتلاوة والتجويد ولا بالطبعات المختلفة والتذهيب والنشر بل بالعمل به.

وقوله (كأنهم لا يعلمون) بمعنى انهم تعاملوا مع الرسالة الالهية والكتاب المنزل من السماء كما يتعامل الجهال كالمشركين مع انهم علموا بمقتضى إعجاز القران أنّه من الله تعالى فاصبحوا كأنّهم لا يعلمون. وهذا يدلّ على أنّهم كانوا لا يؤمنون بالقرآن وبالرسول صلى الله عليه واله وسلم مع علمهم بأنّه الحق وإنّما كان يمنعهم الحقد والحسد.

وقد مرّ بعض الكلام حول امكان عدم الايمان بما يعلم به الانسان في تفسير الاية 89 من هذه السورة.

 


[1] البقرة : 111

[2] النور : 13

[3] الانعام : 139

[4] الجمعة : 6

[5] العنكبوت: 5

[6] اقبال الاعمال ج3 ص 321

[7] اللهوف ص 69

[8] البقرة : 110

[9] الاعراف: 156

[10] التوبة : 102

[11] المائدة: 59

[12] المائدة: 62

[13] تحف العقول ص 245 تاريخ الطبري ج4 ص 305 وغيرهما

[14] التكوير : 20

[15] الزمر : 42

[16] الاحقاف : 9

[17] فاطر : 43

[18] التحريم : 6

[19] النساء : 150 - 151

[20] نوح : 13

[21] طه : 133

[22] العنكبوت : 50 - 51

[23] الحجر : 14 - 15

[24] الكهف : 50

[25] النور : 55

[26] ال عمران : 75

[27] الاعراف : 172

[28] ال عمران : 187

[29] الاعراف : 157<