مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

لم يتبين بوضوح ان هذه السورة المباركة مدنية ام مكية ولكن ربما تقتضي قرينة التعرض لكفر اهل الكتاب مدنيتها وان كان ذكرهم واردا في بعض السور المكية الا ان التصريح بكفرهم ومقارنتهم بالمشركين تناسب أجواء المدينة حيث تحزبوا مع المشركين في محاربة الرسول صلى الله عليه واله وسلم.

وموضوع البحث فيها على ما يبدو الاشارة الى ضرورة ارسال الرسالة الجديدة ودفع ما يمكن ان يتوهم من انه مع وجود اهل الكتاب وعلمائهم وكتبهم التي تشتمل على رسالة السماء لم تكن حاجة الى هذه الرسالة.

فهذه السورة تبين أن الكفر قبل البعثة كان قد شمل البلاد والعباد حتى في اهل الكتاب وأنه قد توغل في شؤون المجتمع البشري وأن الناس لم يكونوا يتركون عقائدهم الفاسدة المنحرفة فاهل الكتاب قد حرّفوا دينهم وادخلوا الكفر والشرك في عقائدهم والمشركون ما كانوا ليتركوا عبادة الاصنام التي ورثوها من آبائهم فكان لا بد من ان تاتيهم البينة.

فالغرض الاساس منها هو الاشارة الى كفر اهل الكتاب وتساويهم مع المشركين من حيث الكفر والانحراف عن الحق.

وقد ورد التصريح بكفر اهل الكتاب في مواضع من القرآن قال تعالى في شان اليهود (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).[1]

وقال بشان النصارى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ..)[2] وغيرهما من الآيات.

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ...

الموضوع في الآية الذين كفروا وقوله (من اهل الكتاب والمشركين) بيان له فقوله (والمشركين) عطف على اهل الكتاب وليس المراد الذين كفروا برسالة الرسول الاكرم صلى الله عليه واله وسلم من اهل الكتاب بل ان موضوع الكلام هنا اهل الكتاب بأجمعهم لا خصوص من عاندوا الرسول وكفروا به والمراد الاشارة الى كفرهم جميعا.

ولكن بعض المفسرين ومنهم العلامة الطباطبائي قدس سره فسروا الآية على اساس أن المراد بهم الكافرون بالدعوة الاسلامية.

ولو كان كذلك لكان الاولى ان يعطف المشركين على الذين كفروا فيأتي بالكلمة مرفوعة.

والانفكاك انفصال بعد شدة اتصال وارتباط ولم يذكر متعلق الانفكاك ومن هنا اختلف المفسرون قديما وحديثا في معناه وفي ان المراد به هل هو انفكاك المشركين واهل الكتاب بعضهم عن بعض ام انفكاكهم عن الكفر او الحياة ام أن الانفكاك بمعنى الخلاص.

فحصل اختلاف شديد في تفسير هذه الآية حتى قيل انها من اكثر آيات القران تعقيدا. ونشير هنا الى بعض الاقوال المهمة:

قال الزمخشري في الكشاف (كان الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأصنام يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم: لا ننفك مما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه..).

وما نسبه من الكلام الى الكفار من الفريقين لم ينقل في شيء من مصادر التاريخ.

وقال العلامة الطباطبائي قدس سره ما حاصله (ان المراد بالذين كفروا من اهل الكتاب خصوص من كفر بالدعوة الاسلامية والمراد بالانفكاك على ما يستفاد من قوله «حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ» انفكاكهم عما تقتضيه سنة الهداية والبيان كأنّ السنة الإلهية كانت قد أخذتهم ولم تكن تتركهم حتى تأتيهم البينة ولما أتتهم البينة تركتهم وشأنهم...).

وفي هذا البيان اشكال من جهتين:

الجهة الاولى انه لا موجب لتخصيص الآية بمن كفر بالدعوة الاسلامية بل يشمل من كان قبلهم فالجميع لا ينفكون عن مقتضى السنة الالهية حتى تاتيهم البينة.

الجهة الثانية أن التعبير عن الخلاص بالانفكاك وان نقل عن بعض اهل اللغة الا انه ليس متعارفا.

وقال الراغب في المفردات المراد انهم لا ينفكون عن بعضهم اي لا يزالون متحدين غير متفرقين حتى تأتيهم البينة والرسالة نظير قوله تعالى (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ..).[3]

ولا شك ان هذا خلاف الواقع فلم يكونوا متحدين بل كثيرا ما كانوا يتخاصمون ونشبت بينهم حروب وانما الناس باجمعهم كانوا امة واحدة بمعنى انهم لم يكونوا مختلفين من حيث الدين والعقيدة الى أن بعث الله الرسل.

وقيل المراد انهم لم يكونوا منفكين عن الكفر بالرسالة حتى تاتيهم البينة فالجامع بينهم هو الكفر بالرسالة وكانوا متفقين على أن لا يتركوا هذا الكفر حتى تأتيهم البينة.

والخطأ في هذا التأويل واضح لان المعنى يكون بلحاظ وجود الغاية انهم انما كفروا لعدم وجود بينة وهذا من حقهم مع ان المشهود انهم بقوا على كفرهم حتى بعد مجيء البينة بل ان كفرهم حصل بعد الرسالة لانهم قبل مجيء البينة لم يكونوا كافرين بها بل لا يمكن ذلك خصوصا بالنسبة لاهل الكتاب فانهم كانوا مؤمنين برسالة السماء بل منتظرين لهذه الرسالة ايضا.

ومن هنا ذهب جمع اخر الى القول بان المراد ان هذا كان دعواهم فهم كانوا يتبجحون بذلك الى ان اتتهم البينة ولكنهم لم يؤمنوا بالرسالة بعد أن أتتهم فيكون مفاد الآية كقوله تعالى (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ).[4]

وبالنسبة للمشركين نظير قوله تعالى (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ..).[5]

وقوله تعالى (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ)[6] وغير ذلك.

ولكن هذا غير صحيح ايضا لان مفاد هذه الآيات انهم كانوا يقولون لو يأتينا رسول من عند الله نؤمن به واليهود كانوا يهدّدون المشركين انه سيأتي ذلك الرسول الذي نعتزّ به عليكم ونؤمن به ويكون لنا قائدا وظهيرا. ومضمون هذه الآية بناءا على هذا التفسير انهم لا ينفكون عن كفرهم حتى يأتي ذلك الرسول وهذا ليس ما كانوا يدّعونه ولا ينبغي ان ينسب اليهم لانهم لا يعترفون بكفرهم فهذا أبعد الوجوه.

وذهب ابو مسلم على ما قيل الى ان المراد بالرسول الملائكة فمعنى الآية انهم لا يؤمنون حتى ينزل عليهم ملك وياتيهم بصحف وهذا الطلب قد تكرر منهم وممن قبلهم.

الا ان التعبير عن ذلك بالبينة ليس على ما ينبغي ولا يمكن ان يحمل عليه كلام الله تعالى فان كانوا لا ينفكون عن كفرهم حتى تاتيهم حجة من الله فلهم الحق وليس معنى البينة نزول الملك.

والظاهر أنّ الآية بصدد تقرير أمر مهم ودفع توهم فاسد وهو أنه لا حاجة الى إرسال رسالة جديدة مع بقاء الرسالات السابقة والكتب السماوية فالآية من دون ان تتعرض للكتب والشرايع السابقة تقول ان اهل الكتاب كفار كالمشركين ولا يتركون كفرهم ولا ينفكون عنه الى أن تأتيهم البينة وهي هذه الرسالة وهذا يشمل علماءهم وأحبارهم.

ومن هنا فان المراد بهم كل اهل الكتاب في ذلك العصر لا خصوص من لم يؤمنوا بالرسالة بعد البعثة.

والغرض من السورة التنبيه على لزوم إرسال الرسالة الجديدة وان اهل الكتاب كانوا كالمشركين منحرفين عن الحق والغرض الاساس التنبيه على كفرهم وانما عطف عليهم المشركين للاشارة الى أنهم في صف واحد من الكفر دفعا لتوهم أنهم مهتدون وعلماء ربانيون ونحو ذلك مما كان يتوهم في ذلك الوقت.

رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً...

بدل من البينة والمراد بها الحجة البينة الواضحة وهو رسول من الله لا عالم ورث علم السابقين كما كان علماء اهل الكتاب فهم لا يمكن الوثوق بهم ولا يمكن مقارنتهم بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما يتوهّمه هذا الفكر الخاطئ.

وله ميزة اخرى وهي انه يتلو على الناس صحفا مطهرة وهي سور القرآن الكريم.

والصحف جمع صحيفة وهي في الاصل كل شيء منبسط كالقصعة العريضة والمراد بها هنا كل ما يكتب عليه من قرطاس او جلد او نحوهما.

والرسول صلى الله عليه واله وسلم ما كان يتلو من كتابة بل من ظهر القلب وانما عبر عنها بتلاوة الصحف باعتبار ما يؤول اليه لان المفروض ان تكتب هذه الكلمات والسور وتبقى للاجيال المتاخرة.

وتوصيفها بالمطهّرة إشارة الى بعدها عن دنس الشياطين وردّ على ما كان يزعم المشركون من تأثيرهم على الوحي وقد ردّ الله تعالى في كتابه الكريم هذه المزاعم في موارد عديدة منها قوله تعالى (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ).[7]

فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ...

الكتب جمع كتاب وهو بمعنى المكتوب. والكتابة بمعنى الجمع ويطلق الكتاب على كل مجموعة من الالفاظ او المعاني. والمراد بها هنا الاحكام والحقائق المدرجة في القرآن الكريم فانها مكتوبة من عند الله تعالى وليس بمعنى كتابة الاسطر بل بمعنى القضاء والحكم فهذا نظير قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ..)[8] ونحوها.

والضمير في قوله (فيها) يعود الى الصحف اي ان هذه الكتب في تلك الصحف ولا غرابة اذا فسرنا الكتب بالاحكام.

والقيّمة صفة الكتب والاصل فيه القوام وهو الاستقامة فالقيّمة في الاصل القويمة اي المستقيمة لا انحراف فيها ولا اعوجاج عن طريق الحق ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وفسرها العلامة قدس سره بأنها أحكام وقضايا قائمة بأمر المجتمع الإنساني حافظة لمصالحه. وعليه فالقيّمة بمعنى القائمة لا المستقيمة.

ولكنه بعيد.

وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ...

هذه الآية تبين السبب في انحراف اهل الكتاب عن حقائق دينهم النازل من السماء وانهم لم تنقصهم البينة وانما تفرقوا واختلفوا ورفضوا الانصياع لحقائق الدين بعد ان أتتهم البينة وهي الحجة الواضحة من قبل رسلهم.

والتفرق دليل ترك الدين فان الدين يدعو الى الوحدة ولكن وحدة تحت الاعتصام بحبل الله كما قال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا..)[9] واما الوحدة من دون ذلك فليست مطلوبة في الدين بل الناس كانوا على وحدة قبل الدين فبعث الله النبيين واوجد فيهم الفرقة.

ولم تتعرض الآية للمشركين والسبب واضح وهو ان الغرض كما قلنا الاشارة الى انحراف اهل الكتاب عن دينهم لئلا يغترّ الناس بهم وبعلمهم وكتبهم.

وحاول العلامة رحمه الله تعميم الحكم للمشركين باعتبار ان الذين اوتوا الكتاب اعم من اهل الكتاب لان الكتاب نزل لهداية الجميع فكل البشر اوتوا الكتاب وكلهم تفرقوا فيه بعد تمام البينة.

ولكن الظاهر ان الامر بالعكس في اصل الاطلاق وان اهل الكتاب اعم فالذين اوتوه واقعا هم الذين عاصروا الرسول واهل الكتاب يشمل من بعدهم كما ان الآيات تخاطبهم باهل الكتاب. واما حسب المصطلح فلا فرق بينهما ولا حاجة الى التعميم ولا موجب له فان المراد هو بيان وجه انحراف اهل الكتاب عنه مع انهم من اهله. 

وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ...

بهذه الآية يبين الله تعالى اصول ما ورد في كتبهم ليتضح انهم كفروا بالدين وحرفوه عقيدة وعملا فالذي امروا به في كتبهم عبادة الله وحده وهم قد اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله.

قال تعالى (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).[10]

والمراد باتخاذهم اربابا اطاعتهم الطاعة العمياء فانها عبادة قال تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ).[11] والناس انما يطيعون الشيطان ولا يسجدون له.

واما المسيح عليه السلام فقد جعلوه الها وربا واقنوما من الاقانيم الثلاثة التي تشكل الاله.

واُمروا ان يخلصوا الدين لله وهذا ينافي الاخلاص بل هو شرك محض.

واُمروا ان يكونوا حنفاء. والحنفاء جمع حنيف من الحنف بفتحتين. وقد اختلفت كلمات اللغويين في معنى الحنف ولكن الاصل فيه ــ كما قالوا ــ ميل في الرجل الى الداخل. بمعنى أن صدر القدم اليمنى مائل الى اليسرى وبالعكس.

ولعل هذا هو الوجه في التعبير عن التوحيد بالحنيفية باعتبار انها ميل وانحراف عن سيرة عامة الناس الى ما تدعو اليه الفطرة فهو انحراف الى الداخل. قال تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا..).[12]

وقد تبنى اهل الكتاب طقوسا شركية خلافا للدين الحنيف الالهي.

ومثل ذلك انحرافهم عن اقامة الصلاة كما نزل في كتبهم وايتاء الزكاة.

وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ...

اي الذي امروا به في دينهم هو دين الكتب القيمة او الجماعة القيمة او الشريعة القيمة فلا بد من تقدير موصوف ليصح التوصيف بالمؤنث.

والقيّم كما مر اي المستقيم على الصراط الالهي من دون اعوجاج وانحراف.

ويمكن ان يكون المراد الاشارة الى وحدة الشرايع والاديان فهذا هو دين الجميع ليكون حافزا اخر لتقبلهم لهذه البينة.

ويمكن ايضا ان يكون المراد باول الاية ان الذي امروا به في هذا الدين الجديد ليس الا هذه الامور التي تشكل دين الكتب والشريعة القيمة. والشريعة واحدة في جميع الاديان كما قال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ..).[13]

وفي ذلك اظهار لغرابة عدم تقبلهم لهذا الدين وعدم ايمانهم بالرسول صلى الله عليه واله وسلم.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ...

وفي اخر السورة المباركة ياتي الاستنتاج فقد جاءت البينة واتضح الامر للجميع سواء في ذلك اهل الكتاب وغيرهم فمن اصر على كفره بعد ذلك فان مصيره النار والخلود فيها وهم شرّ البريّة.

والبريّة اي الخلائق وهي فعيل بمعنى المفعول من برأ اي خلق فالاصل فيه البريئة.

والظاهر أن المراد بالذين كفروا من اهل الكتاب هنا هم نفس السابقين الا انهم بعد ما جاءتهم البينة ومن هنا كانوا شرّ الخلق لانهم تمّت عليهم الحجة فلم يؤمنوا بما جاءهم من البينة والدليل الواضح.

والتعبير بانهم شرّ البريّة يؤكد على تصنيف اساسي وعميق في الدين فعند الله تعالى وهو رب البريّة تصنيف الشر والخير في الناس ليس بالثقافة والتقدم العلمي بل ولا بعمل الخير الانساني وتأسيس جمعيات حقوق الانسان وحقوق الحيوان وما الى ذلك مما نشاهده من مظاهر الخير والصلاح التي تبهر عيون الناس حتى المؤمنين فاصبحنا نحتقر ما نحن فيه من الخير واصبح الكفار من اهل الكتاب وغيرهم اقرب الى الخير والصلاح من المؤمنين في نظرنا.

والله تعالى يصرّح انهم بعد قيام البينة وعدم تقبلها هم شر البرية حتى لو دعوا الى احترام حقوق الانسان وكرامة الانسان فان الاساس الذي هو الغاية من وجود الانسان هو العبودية لله تعالى لا كرامة الانسان فاذا رفضوا ذلك فلا خير في كل ما يظهرونه رياءا وسمعة من الدعوة الى الصلح والسلام والحرية وغير ذلك.

ولا كرامة للانسان الذي لا يتعبّد بأوامر الله تعالى ونواهيه ويرفض التسليم لشريعة السماء (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا).[14]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ...

هذا هو مناط كون الانسان خير المخلوقات: الايمان والعمل الصالح ولا يكون العمل صالحا من دون ايمان. ولا ينفع الايمان ان لم يتعقبه عمل. قال تعالى (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا..).[15]  

ويبقى بين من هو خير الخلق وشرهم من لم تتم عليه الحجة كما قال تعالى (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).[16]

جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا...

التقييد بكون الجزاء عند ربهم لبيان انه مضمون فالذي يتعهد به هو الله تعالى وانما يتعهد باعتبار انه ربهم ومعنى ذلك ان هذا مقتضى ربوبيته ونتيجة التربية الصالحة التي اوصلتهم الى هذه النعمة.

ولعله أتى بصيغة الجمع في قوله (جنات عدن) باعتبار التوزيع فلكل واحد منهم جنته او من جهة ان لكل منهم جنات.

وعدن مصدر بمعنى الاستقرار والثبات والاقامة. ومنه اُخذ التعبير بالمعدن عن الموضع الذي تستقر فيه الجواهر. فالمعنى أن جزاءهم عند الله تعالى جنات يستقرون فيها وهو معنى الخلود.

ولكن في بعض التفاسير وكذا في بعض الروايات ان المراد بجنات عدن وسطها وافضلها. ولم اجد له اصلا في اللغة.

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ...

وهذا غاية العناية الالهية فرضاه تعالى عن العبد هو غاية المأمول وهو الجنة العليا واهل الرضا يعيشون فيها وهم بين اظهرنا فهم في الدنيا ايضا في جنة.

والامر الملفت في الآية انهم ايضا راضون عن الله تعالى فان الانسان كما نراه طموح لا تنتهي طموحاته ولا تنفد امنياته وكل ما اُوتي من رخاء وسعة تطلّع الى أوسع منه فما الذي يُعطاه هناك فيرضى ويستقرّ ويبلغ جميع آماله؟

انه العطف والرحمة الالهية تشمله من كل جانب.. إنه رضوان الله تعالى.. فلا يبقى له طمع وأمل في أيّ شيء آخر.

ولكن هذه الدرجة العالية لا تُنال بسهولة ولا يكفي لبلوغها العبادات الظاهرية وطول الركوع والسجود بل الاصل والاساس فيه هو ما اختصره الله تعالى هنا بقوله (ذلك لمن خشي ربه).

والخشية: الخوف. والخوف من الله  في جميع شؤون الحياة امر بالغ الصعوبة وبعيد كل البعد بالنسبة لمن أرخى عنان آماله وشهواته وطموحاته في هذه الحياة.

 والمذكور في الآية المباركة الخوف من الرب وبهذا الاعتبار له معنى خاص فليس كالخوف مما يؤذيك ويضرك بل هو خوف من المربي ومن المالك لأمرك والمصلح لشؤونك فمن كان يعتقد ان الله تعالى ربه ويصلح اموره فانما يخاف مقامه ويخشى ان لا يؤدي حقه كما قال تعالى (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).[17]

وليس هذا خوفا من العذاب ولذلك تخافه الملائكة وهم لا يعصونه فلا يخافون عذابه وانما يهابون مقامه ويخشون القصور في أداء حقه. قال تعالى (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون).[18]

نسال الله تعالى ان يوفقنا لبلوغ خشيته والخشوع له والحمد له اولا وآخرا وظاهرا وباطنا والصلاة والسلام على رسوله المصطفى وآله البررة الكرام.

 


[1] البقرة: 61

[2] المائدة: 73

[3] البقرة: 213

[4] البقرة: 89

[5] الانعام: 155- 157

[6] القصص: 47- 48

[7] الشعراء: 210- 212

[8] البقرة : 183

[9] ال عمران : 103

[10] التوبة: 30- 31

[11] يس: 60

[12] الروم: 30

[13] الشورى : 13

[14] الفرقان : 44

[15] الانعام : 158

[16] التوبة : 106

[17] النازعات : 40 – 41

[18] النحل : 50