مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة البروج مكية بلا خلاف وهو واضح من سياقها وتتناول الاشارة الى ما كان يلقاه المسلمون الاوائل من الاذى والتعذيب على يد المشركين وتتقدّم على ذلك الاشارة الى قوم من المؤمنين احرقوا على أيدي الكافرين الطغاة في قديم الزمان ولم يتركوا دينهم ليكون ذكرهم اسوة ومثلا يقتدى به ويأتي في النهاية تهديد للمشركين ببطشه تعالى وذكر للامم السالفة وكيف أباد الله طغاتهم.

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ...

ثلاثة امور اقسم بها الله تعالى في ابتداء السورة وقد قلنا سابقا ان القسم منه تعالى للتأكيد على المقسم عليه وللتنبيه على اهميته لان المخاطب اذا لاحظ تقديم القسم ينتبه الى انه امام خبر مهم.

والمراد بالسماء بقرينة البروج ما نراه فوقنا من الاجواء التي تشتمل على المجرات والاجرام الفلكية.

والبروج تطلق على القصور والغرف التي تبنى على الحصون او على سور البلد والظاهر ان الاصل فيه الظهور والبروز ومنه تبرج المراة اذا كشفت عن محاسنها ومن هنا يطلق البرج على القصر الشاهق لانه يرى من بعيد وكذلك بيوت السور والحصن.

وعليه فالظاهر أن المراد بالبروج هنا كما قال العلامة الطباطبائي رحمه الله نفس النجوم لانها بارزة ظاهرة وعالية كالقصور.

واما ما اصطلح عليه باسم البروج وهي مجموعات من النجوم المتباعدة في الفضاء تسامت الشمس في مدة زمنية تدعى شهرا من الشهور الشمسية على اختلافها كالدلو والجوزاء والعقرب فهي ليست امورا واقعية وانما هي مجموعة اعتبارية نشأت من تقسيم السنة الشمسية الى اثني عشر قسما وهو في حد ذاته امر اعتباري ايضا لوحظت فيه المقارنة او المشابهة للاشهر القمرية التي هي امور واقعية تنشأ من تحول القمر في كل ما يقارب ثلاثين يوما الى ان تكون كالعرجون القديم واما العدد اي اثني عشر فهو امر اعتباري ايضا.

والحاصل أن حمل ما أقسم به الله تعالى على امور اعتبارية لا واقعية لها في الكون امر مستبعد جدا.

وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ...

اي اليوم الذي وعد فيه الناس بمحاسبة اعمالهم ومجازاتهم عليها. وهو يوم القيامة فالمراد بالموعود الموعود به اذ الموعود هم الناس.

وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ...

الشهادة وردت في استعمالات اللغة بعدة معان متقاربة منها العلم كما في قوله تعالى (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ).[1]

ومنها اظهار العلم ومن هذا القبيل الشهادة بمعنى أداء ما تحملها حين المشاهدة.

ومنها الحضور كقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..)[2] بناءا على أن المراد به الحضور في مقابل السفر بقرينة قوله تعالى بعد هذه الجملة مباشرة (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ..) وقد ورد الاستدلال بذلك في بعض الروايات.

ومنها الرؤية مع الحضور كما في قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ..)[3] اذ لا يكفي الحضور بل لا بد من الرؤية. والتعبير بالمشاهدة كثير التداول.

والظاهر أن المراد بالشهادة هنا هذا المعنى اي الرؤية مع الحضور.   

وقد وقع الاختلاف الشديد قديما وحديثا بين اهل العلم والتفسير في تحديد المعنى واختلفت في ذلك الروايات في كتب الفريقين. وقيل ان الاقوال في تفسيرهما تبلغ ثلاثين قولا ونحن ننقل هنا بعض الروايات:

ففي معاني الاخبار للصدوق حديث يعد عند الاعلام معتبرا من حيث السند عن ابي عبد الله عليه السلام قال (الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة والموعود يوم القيامة).[4]

وقيل: توصيف يوم الجمعة بالشاهد من جهة انه يشهد يوم القيامة على اعمال الانسان فيه. واما يوم عرفة فهو مشهود من جهة كثرة الناس الحاضرين في عرفات ذلك اليوم وكأنه يوم القيامة والناس قيام يدعون الله تعالى وقد وصف الله تعالى يوم القيامة بانه مشهود في قوله (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ[5]). والظاهر ان الشهادة هنا بمعنى الحضور.

وفيه رواية ضعيفة عنه عليه السلام قال (الشاهد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم والمشهود امير المؤمنين عليه السلام).

وفي مجمع البيان (روي أن رجلا دخل مسجد رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلّم فإذا رجل يحدث عن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلّم قال فسألته عن الشاهد والمشهود فقال نعم الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة فجزته إلى آخر يحدث عن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلّم فسألته عن ذلك فقال أما الشاهد فيوم الجمعة وأما المشهود فيوم النحر فجزتهما إلى غلام كأنّ وجهه الدينار وهو يحدث عن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلّم فقلت أخبرني عن شاهد ومشهود فقال أما الشاهد فمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلّم وأما المشهود فيوم القيامة أما سمعته سبحانه يقول «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً» وقال «ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» فسألت عن الأول فقالوا ابن عباس وسألت عن الثاني فقالوا ابن عمر وسألت عن الثالث فقالوا الحسن بن علي عليهما السلام).

وما ورد في هذا الحديث من الاستدلال لطيف الا ان مجرد توصيف شيء بالشاهد او المشهود لا يعين المراد في هذه الآية. والرواية مرسلة. وقد نسب القول بذلك في بعض كتب العامة الى الامام الحسين سلام الله عليه والله اعلم.

وتستبعد ارادة بعض هذه الوجوه في الآية كتفسيرهما بيوم الجمعة او عرفة لعدم وجود قرينة للتعيين ولا مناسبة مع المقسم عليه وهو وان لم يذكر صريحا الا انه يفهم من الآيات التالية انه مرتبط بقصة اصحاب الاخدود او بتعذيب المؤمنين في مكة وهو الغرض الاساس من السورة.

فالذي يناسب هذا المعنى ان يكون المراد بالشاهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لانه كان شاهدا على اعمال القوم وجرائمهم بالنسبة للمؤمنين والمشهود نفس تلك الاعمال او حالة المؤمنين في مواجهتها ومقاومتهم للظلم. واما احتمال ان يكون المراد بالشاهد الذين شهدوا مقتل المؤمنين في الاخاديد وبالمشهود المؤمنون المعذبون فهو امر مستبعد من جهة ان الشهود في تلك القصة لا كرامة لهم ليقسم الله بهم.

والتنكير في الشاهد والمشهود للتعظيم وليس للتعميم كما قيل اذ لا مزية لنفس الشهادة في حد ذاتها باي معنى من المعاني المذكورة في الشهادة ليقسم الله تعالى بكل شاهد ومشهود.

قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ...

هذا هو المقسم عليه بمقتضى ظاهر السياق لانه الوارد بعد القسم مباشرة وناقش فيه بعضهم بحجة أن هذه الجملة دعاء والدعاء لا يقسم عليه. ولذلك قيل ان المقسم عليه قوله تعالى (ان الذين فتنوا..) وقيل قوله (ان بطش ربك لشديد). ولكن الظاهر هو الاول وسيأتي أن الدعاء ليس على حقيقته.

وما يقسم به الله تعالى يكون في الغالب او دائما مما يناسب المقسم عليه وهو هنا التنديد بتعذيب المؤمنين على ايدي اعداء الله تعالى.

ولعل مناسبة القسم بالسماء لهذا الامر تنبيه الناس على ان ما يعملونه على هذه الارض يرتبط بما في السماء وان كانت السماء في مورد الارتباط بمعنى اخر غير ما فيه النجوم.

ومناسبة القسم باليوم الموعود واضحة ففيه تحذير بما وعد المجرمون يوم القيامة من العذاب والمؤمنون من الجزاء على صبرهم ومقاومتهم ووعدوا ايضا بما يشفي صدورهم من الانتقام.

وأما القسم بالشاهد والمشهود فقد مر ذكر مناسبته عند تحديد المراد بهما.

والآية تشير الى قصة المؤمنين الذين احرقوا بالنار والروايات فيها مختلفة حتى في تحديد المكان وانها هل وقعت في اليمن او الحبشة او غيرهما وليس فيها ما تطمئن اليه النفس ولا تهمنا القصة ومثلها يقع في كثير من الازمنة والامكنة.

انما المهم هو هذا المقدار الذي ورد في الكتاب العزيز مما يحكي عن شقاء أعداء الله ومقاومة اوليائه وايمانهم وأهم منهما أن كل ذلك بعين الله تعالى وهو الشاهد على كل ما يرتكبه البشر من فجائع ولكنه يؤخر بطشه غالبا الى يوم القيامة.

وهنا تكمن الفتنة فلا بد للبشر من الامتحان فالمتسلطون يُفتنون بأنهم الى اي حد يعتدون معتمدين على قدرتهم وبطشهم متناسين بطش الله تعالى والمؤمنون يُفتنون بانهم الى اي حد يقاومون ويتحملون الاذى في سبيله تعالى والله لا يعجل في الانتقام لانهم تحت السيطرة فلن يعجزوه هربا.

وأصحاب الاخدود هم الظلمة الذين اوقدوا النار فيه لاحراق المؤمنين الذين رفضوا الانصياع لاوامرهم ولم يتركوا دينهم. والاخدود الحفرة المستطيلة في الارض.

وقوله (قتل) دعاء عليهم بالموت وبأشدّه وهو القتل ولكن الدعاء من الله تعالى ليس على حقيقته كما هو واضح لانه المدعوّ في كل دعاء فلا يكون داعيا من نفسه خصوصا انه دعاء بالموت على الاموات.

ولكن إنشاء الدعاء ليس دائما بداعي الدعاء حتى من غيره تعالى ايضا كالسلام فانه دعاء بالسلامة ولكن القصد منه التحية.

وكالصلاة على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم واله الطاهرين عليهم السلام فان الغالب من الناس لا يقصدون الدعاء ولا ينتبهون انه دعاء وانما يقصدون اظهار الولاء لهم عليهم السلام والظاهر انه هو الغرض الذي من أجله امرنا بالصلاة عليهم ولذلك ورد الامر برفع الصوت فيها.

وكالدعاء باستعجال الفرج فان الله تعالى لا يغيّر الموعد لا بتأخير ولا بتقديم ولكن القصد اظهار الحب والولاء لولي الامر سلام الله عليه.

فالدعاء هنا ايضا يقصد به التنديد بهذا العمل المشين.   

والنار في الآية الثانية بدل عن الاخدود فكأنّ الاخدود كله كان نارا وتوصيفها بانها ذات وقود لبيان شدة توهجها واستمرار اشتعالها.

إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ... الضمير لاصحاب الاخدود و(اذ) ظرف للدعاء بالقتل والضمير في (عليها) يعود الى النار. و(قعود) و(شهود) جمع قاعد وشاهد. والشهادة هنا بمعنى الحضور والرؤية.

والغرض التنبيه على ان الذي يزيد الامر فداحة بحيث يدعى عليهم بالهلاك أنهم كانوا قاعدين حول النار ينظرون الى هذا الامر الفظيع فهناك من الجبابرة والطغاة من يامر بالقتل ولكنه لا يحضر المجزرة وهناك منهم من يامر بالقتل امامه ويتلذذ بالنظر الى المظلوم وهو يقتل كالحجاج بن يوسف لعنه الله واخزاه.

وهكذا كان كفار قريش فانهم كانوا يباشرون التعذيب بايديهم او يحضرونه ويشهدونه. وهذا الامر يدل على مرض نفسي فيهم او عداء متجذر في نفوسهم بالنسبة للمسلمين مع انهم لم يسبق لهم موقف معاد منهم فيستنتج انهم انما كانوا يعادون الله تعالى الذي آمنوا به.

وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ...

وهذا بيت القصيد فالظلمة لم يكن لهم ثأر منهم ولم يجدوا منهم عدوانا ولا حقدا بل كانوا مؤمنين مسالمين فما الذي نقموا منهم؟

والنقمة: الانكار. اي ما الذي أنكروه منهم ليستحقوا هذا العذاب الاليم؟

ما نقموا منهم الا امرا واحدا وهو ايمانهم بالله تعالى ومعناه انهم كانوا يعادون الله فلا يصح ما في بعض الروايات من انهم كانوا من اليهود والمؤمنون كانوا نصارى لانهم ايضا يؤمنون بالله.

وأتى بفعل المضارع (يؤمنوا) للدلالة على استمرار ايمانهم فهم لم ينقموا منهم ايمانهم السابق بل اصرارهم على الايمان وعدم ترك العقيدة حتى مع التهديد بالحرق ورؤية النار بل واحراقهم تدريجا.

ثم وصف الله تعالى بالعزيز الحميد للتأكيد على غرابة نقمتهم فالله تعالى هو العزيز اي الغالب على كل شيء فكان المفروض ان يحذروا من معاداته ويخافوا بطشه ومن جهة اخرى هو الحميد الذي يحمد على كل صفاته فليست فيه سبحانه صفة تستوجب المعاداة وهو له ملك السماوات والارض بما فيه المعادون له فكيف يعاديه من هو مملوك له؟!

وليست هذه ملكية اعتبارية كما يملك الانسان رقيقه بل معناها ان كل شيء متقوم باستناده اليه تعالى ولا بقاء ولا كيان له الا بالتعلق به بل هو عين التعلق والفقر فكيف يعادي ربه وخالقه والممدّ له بالوجود والحياة والنعم المستمرة؟!

وأخيرا فانه تعالى شهيد على كل شيء لا يغيب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الارض وهو القائم على كل نفس بما كسبت يراقب اعمالهم صغيرها وكبيرها فكيف لا يحذرونه مع أنهم لا يمكنهم الاستخفاء منه؟!  

 


[1] ال عمران: 70

[2] البقرة : 185

[3] النور: 4

[4] معاني الاخبار ص299

[5] هود: 103