إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ...
الظاهر ان هذه الآية عامة لجميع من يفتن المؤمنين والمؤمنات في اي مكان وزمان فهو استخلاص من ذكر قصة الاحراق وانتقال الى حكم كلي يشمل ما ابتلي به المسلمون الاوائل من تعذيب الكفار ولا وجه لكل ما قيل من التخصيص باصحاب القصة او بالمسلمين او بالفريقين بل هو استخلاص عام.
والمراد بالفتنة هنا ايقاع المؤمنين في محنة وابتلاء ليتزلزل من كان ضعيفا في ايمانه والفتنة في الاصل الاحراق بالنار ومنه قوله تعالى (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)[1] وتطلق على الابتلاء والامتحان وعلى كل محاولة لتضليل الناس.
ولا يبعد ان يكون اختيار لفظ الفتنة هنا وكذلك ذكر عذاب الحريق للاشارة الى ان طريقة كفار مكة وهم المصداق الفعلي الواضح في عهد النزول كانت كطريقة اولئك الظلمة الذين احرقوا المؤمنين فالمشركون ايضا عذّبوا المؤمنين اشد تعذيب ولكنهم واجهوا مقاومة شديدة حتى انهم قتلوا قسما منهم ولم يرجعوا عن دينهم.
وذكر المؤمنات لتقبيح فعلهم بوجه أشد حيث انهم لم يرحموا حتى النساء. والتقييد بعدم التوبة لبثّ روح الامل في نفوسهم حتى يعودوا الى رشدهم.
وخبر (ان) قوله (فلهم..) ودخول الفاء على الجملة الخبرية لعله باعتبار ان قوله (ثم لم يتوبوا..) بمنزلة الشرط كأنه قال (ان لم يتوبوا).
واختلف المفسرون في توجيه ذكر الحريق بعد جهنم مع انها هي النار المحرقة ولا حاجة الى ما ذكروه من وجوه التأويل فهناك عناية بذكر الحريق وان كان معلوما من ذكر جهنم فان ذلك لا يمنع من التكرار بعنوان آخر للتاكيد على احراقهم كما احرقوا المؤمنين او عذبوهم.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ...
الفوز هو الظفر بالمقصود والغرض من الآية الاشارة الى أن المؤمنين لا يخسرون شيئا بل هم الرابحون فحسب كما يستفاد الحصر من قوله (الفوز الكبير) باللام. فالذي يحصلون عليه بصبرهم والحفاظ على دينهم هو الربح الكبير لا غيره وفوزهم هو الفوز الكبير لا غيره وما اكبر ما يعتبره الله تعالى كبيرا؟!
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ...
البطش ــ كما في معجم المقاييس ــ الاخذ بقهر وغلبة وقوة. ولا شكّ في أن بطش الله شديد لأن المفروض انه الاخذ بقوة والقوة جميعا لله تعالى (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)[2].
وبطشه شديد لانه على كل شيء قدير وكل ما في الكون يستجيب له حتى الانسان المسكين نفسه الذي يريد الله ان يبطش به.
وبطشه شديد لانه عليم بكل شيء فيعلم ما يعذب الانسان أشد العذاب ويعلم كل مواضع الالم فيه.
وبطشه شديد لان الانسان اذا آلمه شيء فانه يهدّئ نفسه وجسمه وألمه بذكره تعالى وباللجوء اليه فاذا كان العذاب منه فالى من يلجأ؟!
وبطشه شديد في الدنيا والآخرة ففي الدنيا لا يبقي شيئا لقوم يبطش بهم وفي الآخرة لا ينتهي عذابه وكل عذاب في الدنيا ينتهي فلا بطش كبطشه (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ).[3]
وفي اضافة الرب الى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم اشارة الى فتنة كفار قريش للمسلمين الضعفاء وتسلية للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وتقوية لعزائم المؤمنين.
ومن هذه الآية يبدأ الجواب عن سؤال مرت الاشارة اليه وهو ان كل هذه الفجائع التي ترتكب بحق المؤمنين المخلصين او الانبياء والاولياء كلها بعين الله تعالى ولا ينتقم من الظالمين ولا يبادر في نصرة اوليائه بل كل الامور تجري بصورة طبيعية فيحزّ في نفوس الضعفاء من المؤمنين هذا السؤال:
لماذا؟ هل لا يمكن الانتقام ونصرة المظلوم؟
وربما يخطر ببال بعضهم انه تعالى عاجز عن منعهم!!
فالجواب يتبين بملاحظة هذه المجموعة من الآيات واول شيء ينبه عليه هو ان بطشه تعالى شديد فلو اراد ان يبطش بأيّ أحد او بأيّ قوم فانه لا يبقي منهم شيئا وكما نرى ربما يكون البطش بصورة طبيعية من دون إعجاز فيسخّر قوما لإبادة قوم كما سخر نبوخذنصر للبطش باليهود كما قال تعالى (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا)[4]
وراينا في عهدنا كيف سخر الله قوما كافرين لابادة جبابرة مسلمين وتخليص المؤمنين من ظلمهم.
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ...
البدأة والابداء واحد ومعناه الانشاء اي إن الله تعالى هو الذي ينشئ الخلق باستمرار ويعيد خلق الانسان يوم القيامة واستمرار الانشاء يدل عليه الفعل المضارع فحركة التكوين لا تتوقف.
والغرض من هذه الآية التنبيه على أنّ البطش بالظلمة او بعضهم قد لا يكون في الدنيا بل في الآخرة ولذلك أتى بهذه الآية من دون عطف لتكون بيانا لموعد البطش.
والدنيا والآخرة سيّان عند الله تعالى فهو الذي بدأ الخلق وهو يعيده والاعادة أهون من البدء في حد ذاته وان لم تختلف الامور أمام قدرة الله تعالى وهو واضح قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ..)[5] فلا يدخلنّ في نفوس المؤمنين حزن من ذلك فان الله تعالى لا يفوته شيء بل تعذيبهم يوم القيامة اقوى في الانتقام واشفى للصدور وانما يستعجل المؤمنون لضعف ايمانهم بالقيامة.
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ...
الغفور اي الستار على الآثام. والودود من الود وهو الحب ومعناه انه تعالى كثير الحب لعباده لا يريد لهم الا الخير كما قال تعالى (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ..)[6] اي لكي يرحمهم.
وموضع هذه الآية غريب بعد آية البطش ولذلك قالوا انه تعليل لما وعد الله المؤمنين المفتونين ولكن الذي يبدو لي أنّ السياق كله في نفس الجهة التي أشرت اليها وهي الجواب عن سؤال الامهال من الله تعالى للظلمة فهو هنا ينبه على أنه تعالى غفور لعباده ودود لهم حتى بالنسبة الى المشركين والظلمة فهو يؤخر العذاب الى الآخرة ويمهله ويهيء له وسائل التوبة لعل الانسان يتوب.
واعجبني كلام احد من عامة الناس في هذا الباب فالحكمة ضالة المؤمن اينما وجدها اخذها قال ما معناه ان من نعم الله تعالى على الانسان انه يخفف من سورة غضبه وطمعه وميوله وشهواته ونزواته في كبر سنه ونهاية عمره لتكون له فرصة للتوبة والانابة.
واذا تأمّلنا هذا الامر عرفنا غاية حبه تعالى لعباده ووداده ورحمته ولكن من البشر من تسوء عاقبته في كبر سنّه فتراه مؤمنا متواضعا في شبابه ولكنّ الله تعالى يبتليه بقدرة او ثراء او جاه في كبر سنّه فينسى نفسه وينسى ربه ويظلم الناس ويتجبّر يكاد يدّعي الربوبية او يصرف المال للصدّ عن سبيل الله او ينشر افكارا شاذّة حبا للشهرة.
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ...
العرش كناية عن الحاكمية المطلقة على الكون والمجيد من صفاته تعالى. والمجد بلوغ الغاية في الكرم والشرف والعظمة فالمجيد المطلق هو الله تعالى.
وقرئت الكلمة بالجر ايضا لتكون صفة للعرش. وهو ايضا صحيح فحاكميته تعالى بلغ الغاية في العظمة.
والتاكيد على عموم السلطة والحاكمية يأتي ايضا ضمن نفس السياق المذكور اي التنبيه على ان التأخير لا يضرّ شيئا فالامر كله تحت سلطته تعالى ومتى أراد واقتضته حكمته فانه يستأصل الظلمة في الدنيا واذا اراد يؤخر عذابهم الى الآخرة فله السلطة التامة ولكنه مجيد لا حدّ لمجده وكرمه فيؤخّر العقوبة بحلمه.
فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ...
(فعّال) مبالغة في الفعل اي اذا اراد شيئا فانه يفعله من دون ان يعارض فعله احد اويمنع من تحقق ارادته شيء فالمراد انه يفعل ما يشاء من دون استثناء.
وهذا ايضا من وجوه الجواب عن السؤال المذكور فلا يظننّ احد انه تعالى يعجزه شيء او يمنعه شيء وانما لم يعجّل العذاب لانه لم يرده وهو لا يؤخر الا لحكمة.
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ...
خطاب للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم او لكل قارئ وسامع.
والاستفهام للتقرير اي قد اتاك حديث الجنود إمّا لان هذا الحديث كان مشهورا بين العرب وإمّا لان القرآن ذكره في آيات كثيرة فالقصد منه التنبيه على ذلك للاستشهاد بشدة بطشه تعالى اذا اراد ان يبطش بأحد او بقوم.
ولعل ذكر فرعون أنّ الله تعالى امهله طويلا وكان عاليا في الارض ومن المفسدين ولكن الله تعالى أمهله وبعث اليه رسولا من اعظم رسله ومعاجز وآيات من اعظم الآيات فيكون هذا دليلا واضحا على ان الله تعالى لا يعجل في إنزال العذاب ويمهل الظلمة والمفسدين مهما توسعت رقعة فسادهم فهو لا يخاف الفوت.
وكذلك امهل ثمود الى ان طالبوا بآية خاصة وهي الناقة فلما اتاهم بها وكفروا بها انزل عليهم العذاب وهو من سننه تعالى كما قال لنبيه عيسى عليه السلام عندما طلب الحواريون مائدة من السماء (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ).[7]
وقوله (فرعون) ليس بدلا عن الجنود بل بتقدير مضاف اي هل اتاك حديث الجنود جنود فرعون وثمود. والجنود جمع جند وهم العسكر ويطلق الجند على كل مجموعة والمراد هنا المجموعة التي تنصر شخصا او قوما.
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ...
الظاهر انه اضراب عن ذكر حديث الجنود اي هذا الحديث لا ينفع في تنبيه المشركين المتسلطين في مكة ــ وهم المراد بالذين كفروا على ما يبدو من سياق القصة والآيات ــ والسبب انهم في تكذيب فيكذّبون بهذا الحديث ايضا ويعتبرونه من اساطير الاولين.
والتعبير بأنهم في تكذيب وكأنه ظرف لهم محيط بهم يوحي بأن هذا حالهم الدائم لا يفارقونه فليس التكذيب مجرد صفة عارضة بل توغّلوا فيه واعتادوه فيكذّبون كل ما يتلى عليهم من دون تأمل فليس هناك أمل في هدايتهم.
وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ...
الاحاطة بهم من ورائهم بمعنى انه تعالى مسلط عليهم قادر ان يفعل بهم ما يشاء فليس المراد احاطة العلم بل احاطة القدرة. والاحاطة من الوراء يصوّر من يريد ان ينقضّ عليهم في اي لحظة ويهلكهم.
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ...
وهذا اضراب عن تكذيبهم فليس كما يقولون ويتوهمون بل ان ما ورد من الآيات قرآن مجيد. والمجد ــ كما مر ــ بلوغ الغاية في الكرم والشرف والعظمة.
والقرآن كلام بلغ الغاية في كل ذلك فلا كلام يضاهيه في الشرف والعظمة وهو قرآن عظيم وكريم كما ورد وصفه في كلامه تعالى، فلا حاجة الى ما قيل من انه مجيد لانه كلام المجيد تعالى بل هو بنفسه مجيد في الكلام.
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ... اللوح كل صحيفة من صحائف الخشب يكتب فيها او يصنع منها السفن. وكونه في لوح او كتاب بمعنى أنه مسجل ومجموع في امر مصون محفوظ ولا نعلم حقيقة هذا الكتاب او اللوح الذي جمع الله فيه هذا الكلام. ومثله قوله تعالى (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ).[8]
ومهما كان فالظاهر انه كناية عن امر يحتوي على الفاظ القرآن تنزل به ملائكة الوحي على الرسول صلى الله عليه واله وسلم.
ومعنى كونه مكنونا ومحفوظا انه بعيد عن متناول الشياطين كما كان المشركون يتهمونه وهذا مما يدل عليه قوله تعالى (لايمسه الا المطهرون) وهم الملائكة الكرام.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا وحبيبنا محمد واله الطيبين الطاهرين.
[1] الذاريات: 13
[2] البقرة: 165
[3] الفجر: 25- 26
[4] الاسراء: 4- 5
[5] الروم: 27
[6] هود: 119
[7] المائدة: 115
[8] الواقعة: 77- 79