المعروف ان سورة الضحى مكية وقال العلامة الطباطبائي قدس سره انها تحتمل ان تكون مكية او مدنية ويقصد بذلك ان مضامينها تناسب الامرين اذ ليس فيها ما يختص باحدى البيئتين دون الاخرى.
وهو كذلك بل ربما يكون بعض آياتها انسب ببيئة المدينة وهي الثلاثة الاخيرة فانه صلى الله عليه واله وسلم كان في المدينة ذا مال وسلطة وهيمنة فيناسب الامر بما ورد فيها.
واذا ثبت ان سورة الانشراح تكميل لهذه السورة او نزلت بعدها مباشرة كما قالوا فبعض آياتها لا تناسب المدينة قطعا كما سياتي ان شاء الله تعالى.
ولعل اصرار القوم على كونهما مكيتين لما ورد من الروايات في شأن نزول سورة الضحى من ان الوحي أبطأ عن النزول اياما فقال المشركون ان ربه قد تركه.
وفي رواية ان خديجة عليها السلام قالت ارى ان ربك تركك فنزلت السورة وسياتي الكلام في الروايات ان شاء الله تعالى.
ويحتمل ان يكون الاصرار لسبب اخر سياتي ذكره ان شاء الله في تفسير سورة الانشراح.
وهناك بحث في كونها متحدة مع سورة الانشراح التالية وهذا الامر مذكور في كتب الخاصة والعامة ولكن بعض علمائنا اعتبروه من خصائص الامامية كما في كتاب الانتصار للشريف المرتضى قدس سره حيث قال انه مما انفردت به الامامية.[1]
ولكن قال الالوسي في تفسير روح المعاني (روي عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان هما سورة واحدة وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة وما كانا يفصلان بينهما ببسم اللّه الرحمن الرحيم).
ومهما كان فالصحيح انهما سورتان وانما ورد في صحيحة زيد الشحام (صلى بنا ابو عبدالله عليه السلام فقرأ الضحى وألم نشرح في ركعة).[2]
وهذه الرواية انما تدل على عدم كراهة القران بينهما في الفريضة بخلاف سائر السور. ومثل هذا البحث ورد في سورتي الفيل وقريش ايضا.
وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى...
قال الخليل رحمه الله (الضحو ارتفاع النهار والضحى فويق ذلك) وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى (والشمس وضحاها) ان الاصل فيها البروز والظهور فالمراد بالضحى وقت بروز الشمس وارتفاعها.
والسُجُوّ السكون والركود. ومنه السجية للصفة الثابتة. وسُجُوّ الليل طوله وهو ملازم لشدة ظلمته ولذلك يعبر به عنها ايضا.
والحاصل ان الله تعالى أقسم في الآيتين بالنهار الواضح المضيء والليل المظلم المطبق على انه لم يودع الرسول صلى الله عليه واله وسلم ولم يتركه. ولعل مناسبة القسم بهما ان الانسان بحاجة الى هدايات ربه وعناياته في كل حال في النور والظلمة والليل والنهار فلا يمكن ان يترك الله تعالى رسوله صلى الله عليه واله وسلم بحال من الاحوال.
وقوله تعالى (ما ودعك) اي ما تركك. وقوله (وما قلى) اي لم يبغضك. والقِلى: البغض. والمفعول مقدر اي (وما قلاك).
ولعل الغرض من الاية الاشارة الى ان تأخر الوحي لا يكون الا لمصلحة. ولا يمكن ان ينشأ من البغض وهو واضح. والتعبير بالرب يدل على ان ما حدث دخيل في تربيته صلى الله عليه واله وسلم.
وهناك روايات مختلفة لا يمكن الجمع بينها ولم تثبت صحة شيء منها تدل على ان الوحي تأخر اياما فقال المشركون ان ربه تركه وقلاه.
وفي بعض الروايات ان خديجة عليها السلام قالت له (لعل ربك قد تركك فلا يرسل إليك).[3]
وهو بعيد جدا من شأنها وجلالة قدرها وايمانها ولا شك في انه مجعول.
وفي مجمع البيان (قيل إن المسلمين قالوا ما ينزل عليك الوحي يا رسول الله فقال وكيف ينزل عليّ الوحي وأنتم لا تنقون براجمكم ولا تقلمون أظفاركم ولما نزلت السورة قال النبي صلى الله عليه واله وسلم لجبرئيل عليه السلام ما جئت حتى اشتقت إليك فقال جبرئيل وأنا كنت أشد إليك شوقا ولكني عبد مأمور وما نتنزل إلا بأمر ربك) والبراجم مفاصل الاصابع.
ومهما كان فلم يثبت شيء من هذه الاحاديث الا ان هذه الآية بنفسها تدل على ان هناك امرا استوجب هذا الشك فنزلت السورة ولعل الاستبطاء كان من الرسول صلى الله عليه واله وسلم بنفسه ولعله كان امتحانا من الله تعالى وهو العالم.
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى...
المعنى واضح وفي هذه الآية تطييب اخر لخاطره صلى الله عليه واله وسلم بأن ما سيلقاه في الآخرة من الثواب والعناية الالهية اكثر مما رآه من لطفه وفضله في الدنيا.
ويمكن ان يكون المراد تزهيده في الدنيا وأن الله تعالى اذا ضيق عليك امرا في الدنيا فلا تبتـئس فان ما اعده لك في الاخرة خير لك.
ويحتمل ان يكون المراد بالآخرة الحالة الآخرة في هذه الدنيا اي ان ما يحصل لك بعد هذا الابطاء في نزول الوحي خير مما تقدم او ان ما تجده في مستقبل حياتك في الدنيا خير مما مضى. فتفيد الآية ان حياته الرسالية دائما في تطور الى الاحسن.
ويؤيد هذا الاحتمال ان ما ورد في هذه السورة من نعمه تعالى عليه صلى الله عليه واله وسلم كلها من نعم الدنيا.
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى...
اللام للتأكيد وهي لام القسم والمعنى بناءا على ان المراد بالآخرة في الآية السابقة الحياة الآخرة انه تعالى سوف يعطيك من المقام المحمود ما يرضيك وهذا يشمل كل ما يتوقعه الرسول صلى الله عليه واله وسلم من ربه ولا شك ان مما يهتم به هو الشفاعة للعاصين من امته كما ورد في الروايات.
ويحتمل بناءا على ما مر في تفسير الآية السابقة ان يكون المراد من المستقبل المدلول عليه بالتسويف في هذه الآية ايضا ما اعطاه الله تعالى طيلة تاريخه المجيد على قصره من النصر والظفر بالاعداء ونشر الدين والمعارف الالهية واقامة دعائم المجتمع الاسلامي والدولة الاسلامية وتربية الناس وتثقيفهم والقضاء بينهم والحكم بالعدل وغير ذلك.
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى...
ثلاث شواهد على العناية الخاصة منه تعالى برسوله الكريم صلى الله عليه واله وسلم حتى قبل البعثة وذكرها بصورة استفهام تقريري يثبت المنفي.
والتذكير بهذه النعم يطيب خاطر الرسول صلى الله عليه واله وسلم وينبه مناوئيه بانه مورد لعناية ربه ليمتنعوا من التعرض له ويحذروا غضب ربهم وهم كانوا غالبا يعلمون بهذه العنايات الالهية ويعلمون انه مستجاب الدعوة ويخافون دعواته ولكن الكبر والحسد اعميا ابصارهم.
والرسول صلى الله عليه واله وسلم كان يتيما من البدو فان اباه عبدالله توفي قبل ولادته او بعدها بايام وامه توفيت وهو ابن سنتين او ست سنين فالله تعالى يمنّ عليه بانه آواه حيث جعله عزيزا مكرما عند جده عبدالمطلب ثم عمه ابي طالب عليهما السلام. وقوله تعالى (فآوى) اي فآواك.
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى...
المراد بالضلال انه كغيره من البشر لا يهتدون الطريق بانفسهم وانما الهداية من الله تعالى ولكن الهداية لعامة البشر اما هداية فطرية بالانجذاب الى الله تعالى كما قال (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)[4] واما بارسال الرسل وانزال الكتب والشرايع. ولكن هدايته للرسل والائمة الدعاة اليه انما هي بعناية خاصة تجعلهم يجتنبون المعاصي بل الاخطاء من صغرهم.
والى مثل هذا الضلال والهداية يشير قوله تعالى (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي..).[5] وقد مر بعض الكلام حوله في تفسير سورة سبأ.
وهناك محاولات غريبة من المفسرين في توجيه الضلال في هذه الآية.
وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى...
العيلة الفقر والحاجة. والمعروف في تفسيرها انه اشارة الى فقره صلى الله عليه واله وسلم حيث كان فقيرا من بدو حياته اذ لم يرث مالا من ابيه ثم اغناه الله بخديجة عليها السلام وكان لها مال كثير.
والصحيح ان الفقر هو السمة الاولية لكل انسان كالضلال والجهل وغيرهما من النقائص وانما يكتمل الانسان بنعمة ربه ولا يختلف في ذلك من كان فقيرا في بدء الامر كما هو الغالب ومن كان غنيا حين الولادة بالميراث.
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ...
الفاء للتفريع اي حيث آواك الله تعالى حين كنت يتيما فلا تقهر اليتيم اذا واجهته. والقهر الغلبة والاستعلاء ويستلزم الاذلال وهو المراد هنا اي لا تذل اليتيم بفعل ولا بقول.
وقد ورد التأكيد على العناية بالايتام في آيات عديدة:
فمنها ما نهى الله فيها عن التصرف في اموالهم الا بالتي هي احسن قال تعالى (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ..).[6]
ومنها ما شجب فيه عدم اكرامهم قال تعالى (كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ).[7]
ومنها ما امر فيها بالقيام لهم بالقسط. قال تعالى (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ..).[8]
ومنها ما امر بالاحسان اليهم قال تعالى (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ..)[9] ونحوها.
والروايات في الحث على العناية بهم والاحسان اليهم وتكفلهم كثيرة جدا وامر ذلك معروف بين المسلمين بالضرورة من الدين.
ويفهم من النهي عن القهر في الآية الاهتمام بالجانب النفسي في التعامل مع الايتام وعدم الاكتفاء بالمساعدة المالية كما يلاحظ من بعض الناس بل الاهم من ذلك هو احترامهم واكرامهم وعدم التضجر من اعمالهم الطفولية كما يتحملها الانسان من اطفاله.
ولذلك ورد في الروايات استحباب المسح على راس اليتيم وينبغي ان يكون ذلك بحيث لا يشعر اليتيم بيتمه.
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ...
النهر: الزجر بمغالظة كما في المفردات. وهذا متفرع على قوله تعالى (ووجدك عائلا فأغنى).
والآية تدل على ان السؤال امارة الفقر والحاجة وهذا مبني على حسن الظن بالمسلمين وان المسلم لا يسأل ان لم يكن محتاجا ولكن اذا تغيرت احوال المجتمع واصبح الناس يكثرون السؤال من دون حاجة فربما لا يكون السؤال امارة عرفية على الحاجة الا انه مع احتمال الصدق لا يجوز النهر والزجر فلا بد من التخلص عنه بعذر.
ويمكن ان يقال ان السائل لا يختص بمن يسأل المال فيشمل من يسأل ما لا يعلمه وان المراد من الآية النهي عن الغلظة في الجواب اذا كان السائل جاهلا ساذجا يصعب عليه التفهم فيكرر السؤال او يتوقف تفهيمه على ذكر امور واضحة او هو مبتلى بالوسواس ونحو ذلك مما يحرج المجيب او يغيظه فيجب الصبر وتحمل السائلين.
وبناءا على هذا التعميم فهذا الحكم متفرع ايضا على قوله تعالى (ووجدك ضالا فهدى).
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ...
اي فحدث الناس بها ولا يختص بالقول بل يشمل ظهور اثر النعمة عليه.
ومعنى الآية ان ما انعم الله تعالى على الانسان ينبغي ان يظهرها للناس ولا يكتمها وهذه جهة يجب ان يلاحظ في التعامل مع الناس ومع النعم ولكن لا يعني ذلك ان يبوح الانسان باسراره ويعلن للناس حدود ثرائه فهذا الامر ربما يترتب عليه مفاسد دنيوية بل ومعنوية واخلاقية ايضا وانما القصد هو ان لا يظهر الانسان نفسه بمظهر الفقير البائس وهو يملك ما يمكن ان يتجمل به.
وقد وردت روايات كثيرة في التجمل وخص له الكليني قدس سره كتابا في الكافي باسم كتاب الزي والتجمل وروى عدة روايات في خصوص اظهار النعمة.
فمنها ما رواه عن امير المؤمنين عليه السلام (ان الله جميل يحب الجمال ويحب ان يرى اثر النعمة على عبده).
وعن ابي عبد الله عليه السلام (اذا انعم الله على عبد بنعمة فظهرت عليه سمي حبيب الله محدثا بنعمة الله واذا انعم الله على عبد بنعمة فلم تظهر عليه سمي بغيض الله مكذبا بنعمة الله).
وعنه عليه السلام ايضا قال (ابصر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم رجلا شعثا شعر راسه وسخة ثيابه سيئة حاله فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من الدين المتعة واظهار النعمة).[10]
وهذه الآية يمكن ان تكون متفرعة على كل ما مر ويمكن اختصاصها بقوله (ووجدك عائلا فاغنى) فيختص الحكم السابق بالسؤال عن الدين والمعارف الالهية والله العالم.
ولا شك في ان هذه الاحكام لا تختص بالرسول صلى الله عليه واله وسلم وان اختص به الخطاب كما يظهر ذلك ايضا من بعض روايات باب التجمل.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد واله الطاهرين
[1] الانتصار ص146
[2] الاستبصار ج1 ص317 باب القران بين السورتين في الفريضة
[3] تفسير القمي ج2 ص428
[4] الروم: 30
[5] سبأ: 50
[6] الاسراء : 34
[7] الفجر : 17
[8] النساء : 127
[9] النساء : 36
[10] الكافي ج6 ص439 باب التجمل واظهار النعمة