مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ... من دأب القرآن الكريم انه اذا تعرض لذكر عذاب المجرمين ذكر ثواب المتقين ايضا ليجمع بين الانذار والتبشير. والمقام: موضع الاقامة. والامين بمعنى انه ذو أمن. والأمان هناك أمان مطلق فالمقيم فيه آمن من كل جهة لا يصيبه مكروه ابدا. وقوله (في جنات) إما بدل عن (في مقام) فيكون المراد بالمقام الجنات او ظرف للمقام اي موضع إقامتهم في جنات. وجمع الجنات باعتبار ان لكل واحد من المتقين جنة فالمجموع جنات او ان لكل واحد جنات. والعيون عطف على الجنات والظرفية بالنسبة للعيون باعتبار اشتمال الجنات عليها او بلحاظ المجاورة كما يقال في اشجار وورود.

يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ... السندس: الحرير الرقيق الناعم. والاستبرق الحرير الغليظ وهو معرب ستبر بالفارسية بمعنى الغليظ.

وهنا سؤال يخطر بالبال وهو انه لماذا الاختلاف في ملابس اهل الجنة فليس هناك حر وبرد حتى يختلف اللباس باختلاف الفصل.

والجواب ان هذا لعله كاختلاف الاطعمة لاختلاف الاذواق او أنهم يلبسون على أجسامهم الحرير الناعم وعليها الحرير الغليظ للاناقة.

وكونهم متقابلين اشارة الى التوادد بينهم حيث ينزع الله ما في صدورهم من غل فيكونون اخوانا متقابلين على أسرتهم والتقابل أحسن هيئة في جلسات الاحباب.

كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُـورٍ عِينٍ... (كذلك) اي يكون الامر كذلك وهو تأكيد للمضمون السابق ورفع للاستبعاد كما مر في تفسير الآية 28. والتزويج بالحور العين يمكن ان يكون المراد به الاقتران فيشمل الرجال والنساء ولذلك عدي بالباء فان التزويج بمعنى النكاح يتعدى بنفسه.

واختلف اللغويون في معنى الحور وهو مأخوذ من الحَوَر قال الخليل في العين (انه شدة بياض العين وشدة سوادها ولا يقال امرأة حوراء الا لبيضاء مع حَوَرها). وقال الراغب قيل: انه ظهور قليل من البياض في العين من بين السواد قال وذلك نهاية الحسن في العين. وقيل ان الحَوَر هو البياض. وحوّرت الثياب اي بيضتها وعليه فالحور بمعنى النساء البيض وقيل غير ذلك. والعين جمع عيناء اي المرأة حسنة العين او ذات العين الواسعة.

يَدْعُـونَ فِيـهَا بِكُلِّ فَاكِـهَةٍ آَمِنِينَ... اي يطلبون أيّا ما شاءوا من الفاكهة فيجاب طلبهم. والفاكهة ما يؤكل للتلذذ. وهكذا طعام الجنة اذ لا جوع هناك ولا حاجة الى طعام. و(آمنين) حال منهم والمراد بقرينة الفاكهة أمنهم من ضررها كما ربما يحصل من أكلها في الدنيا او أمنهم من نفادها.

لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى... الموت أدهى ما يخافه الانسان في حياته. والنعمة لا ينغّصها شيء كذكر الموت. وقديما حاول الانسان ان ينقذ نفسه منه. وكلّما بحث عن حلّ لأحد موجباته ظهرت له عوامل اخرى. وهو الشيء الوحيد الذي تأبّى على الانسان ان يقضي عليه بل وصل الحد الى اليأس عنه فلا يفكّر فيه ابدا وانما يحاول ان يمحي عن ذاكرته فكرة الموت حتى لا تنغّص لذات حياته بذكره ولكن شبح الموت لا يتركه ويجده في كل تغيّر مفاجئ في جسمه وفي كل تحوّل خطير في الطبيعة وفي أمراضه وأسفاره وحروبه وغيرها مما يصعب إحصاؤها.

ومن هنا فانّ عين الحياة هي الامنيّة التي تعقبها الانسان طيلة القرون ولفّق حولها القصص والاساطير والله تعالى يناديه ويدعوه الى عين الحياة الابدية التي لا تنضب ولا يقل ماؤها ولا حاجة للوصول اليها الى تكلّف الاسفار والمخاطرة بالنفس بل طريقه سهل التناول لا يحتاج الا الى الايمان بالله ورسله وكتبه وتقواه والعمل بما امر به وترك ما نهى عنه فيصل بعد الموت عن هذه الدار المشحونة بالمكاره الى دار لا يذوق فيها الموت ابدا وهذا غاية امانيه.

واستثناء الموتة الاولى ليس على حقيقته فهو استثناء منقطع لان هذه الموتة قد ذاقها في هذه الحياة فهذا الاستثناء للتأكيد على انه ليس هناك موتة ابدا نظير ما يقال (جاء القوم الا حمارا) والحمار ليس من القوم فمعناه انه لم يشذّ منهم احد فلو كان الحمار منهم لاتى ايضا. واما توصيفها بالاولى فيمكن ان يكون في مقابل الموت الذي يذوقه الكفار دون ان يفارقوا الحياة فان هذا هو الذي يقابل نعمة اهل الجنة قال تعالى (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ).[1]

ومن هنا يتبين الجواب عن سؤال آخر وهو انه لماذا اختص اهل الجنة بذلك مع ان الكفار ايضا لا يموتون فالجواب انهم يذوقون الموت ولا يموتون بل الموت لهم امنية وعدمه عذاب ولذلك يطلبون من مالك الجحيم (لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ).[2]

وهنا سؤال آخر وهو ان مقتضى قوله تعالى (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ)[3] أنّهم قد ذاقوا موتة اخرى من الحياة البرزخية الى يوم القيامة فلماذا اختص الاستثناء بالموتة الاولى؟

ويمكن ان يجاب عنه بوجهين:

الاول: ان الموت من الحياة البرزخية والانتقال الى الحياة الآخرة ليس كالموت في الدنيا وليس عذابا ولا فيه حرمان من لذة والتعبير عنه بالموت في تلك الآية لمجرد بيان انه انتقال من حياة الى حياة لانهم انما ذكروا ذلك مقدمة لطلبهم الانتقال مرة اخرى الى الحياة الدنيا او حياة كتلك الحياة يمكنهم فيها ابراز قابلياتهم.

الثاني: انه لعلّ الموت من الحياة البرزخية لا يشمل كل احد ولعل المتقين والصالحين يستمرّون في حياتهم الى يوم القيامة. والله العالم.

وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ... تطمين لهم بأنّ عذاب الجحيم الذي التهم ملايين الملايين من البشر لا يقربهم ابدا فهم مخلدون في النعيم.

فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ... حال من النعم المذكورة او مفعول لاجله. والفضل هو الزيادة. والمراد به هنا ما يزيد على الاستحقاق وحيث لا يستحق احد على الله شيئا فكل ما يمنحه لعباده فضل منه تعالى. وقوله (من ربك) تشريف عظيم للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ولا يخلو من إيماء الى أنه الواسطة والسبب في نزول هذه الرحمة والنعمة على العباد.  

ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ... الفوز: النجاة والظفر بالامنيّة والخير. والفوز العظيم هو ان ينال الانسان من فضل ربه سواء في الدنيا ام في الآخرة فليس المراد ان ذلك النعيم هو الفوز العظيم بل شمول فضل الله لهم هو الفوز العظيم. وغاية الغايات فيما يفوز به الانسان من امنية وخير هو أن تغمره رحمة ربه قال تعالى (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).[4]

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ... ختام يعيد السياق الى ما ابتدأ به السورة من تكريم القرآن والحثّ على التذكر به وعلى الارتقاب ايضا حيث قال تعالى في اوائلها (وارتقب يوم تأتي السماء..) والفاء لتفريع هذه الفذلكة على كل ما ورد في السورة المباركة.

والتيسير: التسهيل، اي سهّلنا فهمه لعامة الناس. وضُمّن التيسير معنى الجعل اي وجعلناه بلسانك اي لغتك وهي لغة القوم وانما اضافه اليه صلى اللّه عليه وآله وسلّم تكريما له. وانما يسّر فهمه لعامة الناس لعلهم يتذكرون عهدهم مع ربهم الذي تنادي به الفطرة. ومن الواضح ان القرآن مع كونه في غاية الدقة ومفاهيمه في غاية العلو والرفعة وبعيد عن متناول العامة والخاصة الا ان كل احد يجيد اللغة العربية او يعرفها نوعا مّا يمكنه الاغتراف من معينه ويستفيد منه في حياته الدنيا ليجعلها وسيلة لنيل السعادة الابدية في الحياة الاخرى.

فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ... الارتقاب ماخوذ من الرقبة وحيث ان الانتظار والتوقع يكون عادة مع مدّ العنق يعبّر عنه بالارتقاب والمراد هنا انتظار النصر الكاسح او انتظار نزول العذاب عليهم. والفاء للتفريع على الجملة السابقة من جهة انهم لا يؤمنون به مع هذا التسهيل وتمكنهم من معرفة الحق الواضح.

وقوله (انهم مرتقبون) تعليل لارتقابه وانتظاره صلى اللّه عليه وآله وسلّم باعتبار أن هذا الانتظار ليس مستبعدا فانهم ايضا مترقبون ومتوقعون لنزول العذاب وذلك اشارة الى انهم مع عنادهم يعلمون ان ما يقوله الرسول حق وان ما يتوعدهم من العذاب آت لا محالة فهم يتوقعون دائما ان ينزل عليهم عذاب الله تعالى ومثله في القرآن كثير وبذلك يتبين أن التعبير بارتقابهم وتوقعهم ليس تهكما كما قيل بل هو أمر واقعي.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله الامين وآله الطاهرين.

 

 

[1] ابراهيم: 17

[2] الزخرف: 77

[3] غافر: 11

[4] يونس: 58