مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ...

الجملة مستأنفة لبيان نتيجة حفظ الكتبة كما أنه بيان للدين اي الجزاء الذي يكذّبون به.

والابرار جمع بَرّ صفة مشبّهة من البِرّ وقد اختلفت كلمات اللغويين في تفسيره فقد فسر بالصدق والطاعة والاحسان والصلاح وخلاف العقوق وغيرها وفي موارد استعماله ما لا يناسبه شيء من ذلك كقولهم حج مبرور اي مقبول ويمكن أن يكون من الصدق فلا يصح الا اذا كان الحاجّ صادقا في تعهده والتزامه بكل ما امر به من احكام.

والبَرّ من صفات الله قال تعالى (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)[1] وفسر بالعطف والاحسان. والحاصل أن البر يرتبط بفعل الخير والاحسان. والنعيم النعمة الكثيرة.

 

وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ...

الفجار جمع فاجر. والفجور في اصل اللغة بمعنى التفتّح والشقّ شقّا واسعا ولا يطلق على كل معصية كما يتوهّم بل في التوسّع والانبعاث في المعاصي فإمّا أن يكون الاطلاق على هذا المعنى من جهة أنّ الفاجر شقّ ستر الديانة كما في مفردات الراغب، وإمّا من باب أنّه تفتّح في المعاصي والآثام، وفتح منه أبوابا كثيرة كما في معجم المقاييس.

وربما يقال ان المراد بالفجار هنا الكفار لان الآية تدل على الخلود في النار والمسلم لا يخلد في النار والا فما فائدة اسلامه؟!

وهذا الكلام موافق للهوى ومخالف للقرآن قال تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[2] وهذا الحكم لا يختص بالكافر.

وقال تعالى بعد ذكر بعض احكام الارث (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ).[3]

والاسلام في الظاهر يشمل النفاق فالمنافقون مسلمون ويجري عليهم احكام الاسلام ولكنهم مخلدون في النار كما قال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ)[4] بل هم أسوأ حالا من الكفار لقوله تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).[5]

وما أكثر المنافقين بين المسلمين قديما وحديثا بل هم اليوم اكثر مما كانوا عليه في عصر النزول واشد نفاقا.

والجحيم: النار شديدة التاجج والالتهاب كما في العين. وقيل: النار ذات الطبقات. والمراد بها جهنم أعاذنا الله منها.

و(جملة يصلونها..) وصفية وهي صفة للجحيم والضمير يعود اليها اي يقاسون حرها وشدتها كما في العين. واصل الصلي الايقاد واُطلق على الاشتواء بالنار. ويوم الدين اي يوم الجزاء.

و قوله (وما هم عنها بغائبين) تأكيد على الخلود اي لا يغيبون عن النار. والآيات الدالة على الخلود في النار كثيرة. وقد مر الكلام بشيء من التفصيل في تفسير قوله تعالى (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا).[6]

وقيل ان المراد بالآية ان النار لم تكن غائبة عنهم في البرزخ.

وهو بعيد عن السياق فان التعبير ان كان حسب زمان الخطاب فمعناه انهم لا يغيبون عنها في هذه الدنيا ايضا وان كان حسب زمان إصلائهم بالنار فيدل على الاستمرار فيما بعد لا فيما قبل.

نعم يمكن ان يقال ان التعبير بلحاظ زمان الخطاب والمراد انهم في الدنيا ايضا في النار كقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)[7] ولا بد من حمل النار حينئذ على معنى آخر.

 

وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ...

اي ما هو الشيء الذي يوجب لك العلم والدراية بحقيقة يوم الدين وهو استفهام انكاري اي ليس هناك شيء يوجب علمك به. والمراد التنبيه على أن كل ما تتصورونه عن ذلك اليوم فهو من اوهامكم ولا يمكنكم معرفة تلك الحقيقة حتى ترونها. ولعل القصد منه التهويل. والخطاب موجه الى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم او الى كل قارئ وسامع.

والاية الثانية تكرار للتأكيد على أنه ليس مما يدرك كنهه.

 

يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ...

قرئ (يوم) بالرفع فيكون بيانا ما لحقيقة ذلك اليوم واشارة الى خصوصية من خصوصياته اي هو يوم لا تملك.. او يكون بدلا عن يوم الدين.

واما بناءا على قراءة الفتح فلا بد من تقدير اذكر كما قيل فلا يكون بيانا لليوم وانما هو اشارة الى خصوصيته من دون ان يكون المقصود بيان حقيقته ولو اجمالا.

وهذا انسب بالسياق لان المفروض في معنى الآية ان حقيقته مما لا يمكن ادراكه بكنهه فلا تنبغي محاولة بيانها وانما يعبر بهذه الآية عن صفة من صفاتها لتقريبها الى الذهن.

ويذكر في هذه الآية صفتان لذلك اليوم:

احداهما انه لا تملك نفس لنفس شيئا وتنكير النفس في الموضعين وفي الشيء يفيد العموم لانه في سياق النفي اي لا يوجد اي نفس يملك لاي نفس اخر اي شيء ينفعه والنفع يستفاد من اللام فهو يوم تنقطع فيه الاسباب فلا يمكن لاحد ان ينفع احدا بشيء كما قال تعالى (لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ)[8] فلا تنفع الصداقة ولا الشفاعة الا ما يرجع الى الله تعالى فان التوسل باوليائه ورسله من التوسل به وشفاعتهم ليست الا باذنه تعالى.

والصفة الثانية ان الامر في ذلك اليوم لله وحده. والظاهر ان المراد بالامر ما يقابل النهي اي لا يمكن لاحد ان يأمر بشيء في ذلك اليوم الا الله تعالى فيكون نظير قوله تعالى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ).[9]

وربما يسأل: الملك دائما وفي كل العوالم ومراحل الكون ليس الا له قال تعالى (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[10] فما هو المراد هنا؟

قيل ان المراد ان هذه الحقيقة تتبين ذلك اليوم. ولكن الاولى ان يقال ان الانسان له ملك في هذه الحياة وقدرة وسلطة باذنه تعالى وهذه السلطة الممنوحة له باستمرار تسلب منه يوم القيامة فلا اختيار لاحد الا بمقدار ما يؤذن له هناك اذنا خاصا محدودا كما قال تعالى (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ).[11]

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

 


[1] الطور: 28

[2] النساء: 93

[3] النساء: 13 - 14

[4] التوبة: 68

[5] النساء: 145

[6] النبأ: 39

[7] النساء: 10

[8] البقرة: 254

[9] غافر: 16

[10] ال عمران: 189

[11] هود: 105