يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ...
خطاب وعتاب لنوع الانسان. وربما قيل بانها نزلت بشأن بعض المشركين وهو غير صحيح فالسياق لا يساعد على الاختصاص.
وقيل ان المراد به المشرك المنكر للمعاد بقرينة قوله تعالى (بل تكذبون بالدين) ولكن الظاهر انه ايضا خطاب عام فسياق الآيات يقتضي ان يكون الخطاب عاما للنوع وان كان هناك افراد من البشر لا يشملهم الحكم ولكنه صادق على الغالب من البشر حتى المؤمنين منهم.
وليس في الآية دلالة على الاهتمام بجهة انسانية المخاطب وأن كونه انسانا هو اكرم ما في كيانه ولذلك خوطب بهذا العنوان كما قيل بل ذكر هذا العنوان مع بيان غروره ربما يقتضي العكس.
والاستفهام انكاري اي انه لا ينبغي ان يغرّك شيء بربك الكريم. فما هو الشيء الذي غرّك وخدعك؟! والباء للالصاق اي ما غرّك بما يرتبط بربّك من لزوم الاطاعة والتعبد فعصيته وخالفت امره بل اشركت به بل انكرته وكفرت بنعمه؟!
وهذه الباء تختلف عما في قوله تعالى (وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[1] حيث انها هنا للسببية اي إن الغَرور وهو الشيطان خدعكم بأن الله تعالى غفور رحيم وانه يقبل التوبة وان رحمته وسعت كل شيء وسبقت غضبه وما ينتفع الله بعقاب عباده العاصين؟! وكيف يمكن ان يخلق هذه الخلائق بكثرتها ويلقيهم في النار؟! وما الفائدة من خلقهم اذا كان هذا مصيرهم وهو يعلم به من الازل؟! ونحو ذلك من الإلقاءات المضلّلة التي نسمعها من شياطين الانس.
والمشابهة بين الآيتين احدثت شبهة لدى بعض المفسرين وهي ان توصيف الرب بالكريم ينافي استنكار الغرور لان الكرم يستدعي الغرور فما هو وجه الانكار؟ نعم لو كان يصفه بالجبار والمنتقم لكان الاستنكار مناسبا.
وأجاب عنه الزمخشري فقال (معناه أنّ حق الإنسان أن لا يغتر بتكرّم اللّه عليه حيث خلقه حيا لينفعه وبتفضله عليه بذلك حتى يطمع بعد ما مكّنه وكلفه فعصى وكفر النعمة المتفضل بها أن يتفضل عليه بالثواب وطرح العقاب اغترارا بالتفضل الأوّل فإنه منكر خارج من حد الحكمة..)
وهذا الجواب لا ينفع في المقام فان السؤال انما هو عن وجه اختيار هذه الصفة بينما كان الانسب ان يختار صفة الحكيم او شديد العقاب وانما نشأ الاشكال من توهم ان الباء للسببية وان هذه الآية كتلك الآية.
والصحيح أن الاستفهام الانكاري هنا عن سبب الاغترار ولذلك لم يقل (من غرّك) فمعنى الاستنكار انه لا ينبغي ان تغتر باي سبب في ما يتعلق بربك الكريم الذي خلقك بخلاف تلك الاية حيث ان سبب الاغترار هناك هو عفو الله ورحمته.
ونسب الى بعضهم القول بأن ذكر هذا الوصف لتلقينه الحجة بان يقول غرني كرمك وقال ان هذا ايضا من كرمه تعالى.
وبما ذكرنا يتبين أن هذا خطأ واضح فان هذا الوصف يدل على انه لا ينبغي ان تغتر باي شيء فتنسى واجبك تجاه هذا الرب الكريم ومنشأ الخطا هو توهم ان هذا الباء كالباء في الآية الاخرى.
والاوصاف التي تمنع من الاغترار بما يتعلق بشأنه تعالى من لزوم الايمان والطاعة واجتناب المعصية كثيرة اشير في هذه الآية الى اثنتين منها:
اولاهما انه ربك اي الذي رباك وهو مربيك الى اخر مرحلة من مراحل الكمال حسبما يليق بعملك.
وثانيتهما انه تعالى كريم وهذه الصفة فيه تعالى قد تكون بمعنى الشرف وعلو الرتبة او بمعنى العزة كما قال العسكري في الفروق فتكون على الوجهين من صفات ذاته تعالى وقد تكون بمعنى انه كثير الخير والجود مفضال على عباده كما قال الازهري في التهذيب فتكون من صفات الفعل.
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ...
بيان لبعض افعاله تعالى بالنسبة الى الانسان مما يستدعي ان لا يغترّ باي شيء يجرّه الى عصيانه فضلا عن الشرك به:
فاولها انه خلقه فالانسان بصورته لم يكن موجودا قبل ان يخلقه الله تعالى من نطفة امشاج. وهذا الفعل ليس من نعمه تعالى على الانسان وان ورد في بعض التعابير لانه لم يكن موجودا حين خلقه. ولكنه ينبه الانسان على لزوم الايمان به واطاعته فانه خالق الكون الذي بيده كل شيء. ومنه مبدأ الانسان واليه معاده وهو بكل كيانه منتسب اليه تعالى.
ومثل هذه الآية قوله تعالى (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا)[2] فالاستبعاد من جهة ان الانسان كيف يكفر بمن خلقه وهو يعلم أنه لا يمكن ان يوجد من نفسه بل هو مستند في كينونته الى خالقه وكما يستبعد من الانسان الكفر بخالقه يستبعد ايضا عصيانه وكفران نعمه جل وعلا.
وثانيها أنه تعالى سوّاه. والتسوية: الاستقامة والاعتدال وتناسب الاجزاء والمراد بها هنا وضع كل شيء من أجزاء الانسان في موضعه اللائق به بحيث يؤدي دوره بأحسن وجه في سبيل الايصال الى الهدف المنشود من خلقه كما هو الحال في جميع أجزاء الطبيعة بل الخلق بكامله كما قال تعالى (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى)[3] والفاء للترتيب اي بعد خلقك من النطفة سوّى جميع أجزاء جسمك في الرحم فأكمل خلقك.
والثالثة أنه تعالى عدله. وقد قرئ قوله تعالى (فعدلك) بالتشديد والتخفيف. ولكنّ القراءة بالتشديد تقتضي ان يتفق مع التسوية في المعنى بل ربما لا يختلف فيها الامران لاحتمال ان يكون المجرد فيها ايضا بمعنى المزيد كما قيل.
ومن هنا نجد ان المفسرين يحاولون التفرقة بينهما بوجوه لا محصل لها فالعلامة الطباطبائي قدس سره فسّر التسوية بوضع كل عضو فيما يناسبه من الموضع على ما تقتضيه الحكمة. والتعديل بتقوية بعض اعضائه ببعض بجعل التوازن والتعادل بينها فما يضعف عنه عضو يقوى عليه عضو فيتم به فعله كما أن الأكل مثلا بالالتقام وهو للفم ويضعف الفم عن قطع اللقمة ونهشها وطحنها فيتم ذلك بمختلف الأسنان ويحتاج ذلك إلى نقل اللقمة من جانب من الفم إلى آخر فجعل ذلك للسان ثم الفم يحتاج في فعل الأكل إلى وضع الغذاء فيه فتوصل إلى ذلك باليد وعلى هذا القياس في أعمال سائر الجوارح والقوى.
ومن الواضح ان هذا ليس تفسيرا للتعديل وانما هو بيان لاكمال وظائف الاعضاء وهو مفهوم من التسوية ايضا فتكون التسوية متّحدة مع التعديل في المعنى.
مضافا الى أن هذا الفرق بين التسوية والتعديل مما لا دليل عليه ولذلك يصح العكس ايضا.
وقال بعضهم: المعنى فسوّاك رجلا تسمع وتبصر وتعقل، وقوله فعدلك اي جعلك معتدلا.
ولا اعلم ماذا يقصد بالاعتدال؟ هل يقصد انه ليس بالكبير في جثته ولا بالصغير؟! فهذا غير صحيح لان الكبر والصغر امران نسبيان وليس هناك حد خاص للحيوان في الطبيعة ليقال ان جسم الانسان معتدل من بين اجسام الحيوانات مثلا.
وقال عطاء: جعلك قائما معتدلا حسن الصورة. ويبدو انه فسر التعديل بكونه منتصب القامة ولكنه ليس من معاني التعديل.
وقال مقاتل: عدّل خلقك في العينين والأذنين واليدين والرجلين، والمعنى: عدل بين ما خلق لك من الأعضاء. ويبدو انه يقصد بذلك جعل العدل لكل عضو وجارحة فلم يجعل له عينا واحدة او يدا واحدة او رجلا واحدة.
ولا ادري لماذا لم يجعل له انفين وفمين وقلبين؟! مضافا الى ان هذا ليس تعديلا للانسان وانما هو تعديل لبعض الاعضاء.
وربما يتوهم أن التسوية بمعنى أصل الصنع، والتعديل بمعنى التنظيم. وربما يؤيده قوله تعالى (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)[4] فان التسوية في هذه الآية بمعنى اصل الصنع وكذلك قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ).[5]
ولكنه لا يصح في هذه الآية لانه تعالى رتب التسوية هنا على الخلق بل رتبها عليه مطلقا في قوله تعالى (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى)[6] فالتسوية ليست بمعنى الصنع فلا بدّ من تفسير التسوية في مثل قوله تعالى (وما سوّاها) بأنّه خلقها مستوية.
وللعدل معنى اخر هو التحويل والصرف قال في معجم المقاييس (العين والدال واللام اصلان صحيحان ولكنهما متقابلان كالمتضادين احدهما يدل على استواء والآخر يدل على اعوجاج). وفي العين (العدل ان تعدل الشيء عن وجهه فتميله).
وقد ورد المعنيان في الكتاب العزيز فمن الاول قوله تعالى (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[7] ومن الثاني قوله (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ)[8] اي ينحرفون يقال عدل عن الطريق اي جار. ويؤيده ما حكاه الازهري في تهذيب اللغة عن الفرّاء قال (من خفّف فوجهه _ والله اعلم _ فصرفك الى أيّ صورة شاء إمّا حسن وإمّا قبيح وإمّا طويل وإمّا قصير).
وقال في الكشاف (والثاني فَعَدَلَكَ فصرفك. يقال عدله عن الطريق يعني فعدلك عن خلقة غيرك وخلقك خلقة حسنة مفارقة لسائر الخلق أو فعدلك إلى بعض الأشكال والهيئات).
وعليه فيحتمل ان يكون المراد بالعدل تحويله الى موجود آخر وهو ما أشار اليه تعالى بقوله (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).[9]
والظاهر أن المراد بالخلق الآخر نفخ الروح الانسانية فيه كما قال تعالى (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ)[10] فنفخ الروح يأتي بعد التسوية.
وهذه أهم مرحلة في خلق الانسان وهي التي تميزه عن سائر الاحياء ولذلك قال تعالى بعد الاشارة اليها (فتبارك الله احسن الخالقين).
ولذلك ايضا عبر الله تعالى عن خلقه بقوله (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ..)[11] والخلق باليدين كناية عن مزيد الاهتمام به.
وإضافته تعالى روح الانسان الى نفسه اضافة تشريف والتعبير بالنفخ لعله يفيد استقلال الروح الانسانية عن جسمه وأنه ليس شيئا تابعا للجسم او نابعا منه بل هو امر متقوم بنفسه نفخ به فيه فحصل له نوع تعلق به مع كونه ذا كيان مستقل عنه حتى في هذه الحياة وهناك من البشر من يتمكن من فصله عنه مع بقاء الجسم حيا كما يقال.
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ...
وهذه ايضا مرحلة اخرى من مراحل تكوّن الانسان يُذكّره الله تعالى بها للتنديد بالاغترار بأيّ شيء يبعّده عنه تعالى او يزيّن له الكفر بنعمه او الإشراك به وجعل عديل له تعالى من خلقه.
والظاهر أن الجار والمجرور متعلق بقوله (ركّبك) وقيل انه متعلق بقوله (فعدلك). وهو بعيد اذ يبقى قوله ركبك ناقصا. و(أيّ) موصولة. والصورة بمعنى الشكل والهيئة.
و(ما) زائدة وتؤكد تعلق الصورة بالمشيئة فإنّ المعنى عدم وجود إطار خاصّ للصورة كما تقول (رجل مّا) اي رجل من الرجال غير معين فالمستفاد من قوله (صورة مّا) ايّ صورة من الصور غير محددة الا بمشيئته تعالى. وهذا نظير قوله تعالى (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ..)[12]
والتركيب اذا تعلق بشيئين او اكثر فمعناه ربط بعضها ببعض بنحو من الربط واذا تعلق بشيء واحد كما هنا فمعناه ربط أجزائه بعضها ببعض فالمعنى أنه تعالى ركّب أجزاء الانسان ليخرج بالصورة التي شاءها له.
انما الكلام في المراد بهذه الصورة فقال الاكثر ان هذه الآية بيان للتعديل لانه لم يأت بالجملة معطوفة على ما قبلها مما يدل على أنها تفسير وتفصيل له. وعليه فالمراد بالصورة ما يكون عليه كل انسان من الشكل والهيئة.
قال في الميزان (ركبك من ذكر وأنثى وأبيض وأسود وطويل وقصير ووسيم ودميم وقوي وضعيف إلى غير ذلك وكذا الأعضاء المشتركة بين أفراد الإنسان المميزة لها من غيرها كاليدين والرجلين والعينين والرأس والبدن واستواء القامة ونحوها فكل ذلك من عدل بعض الأجزاء ببعض في التركيب..).
ولكن مجرد عدم العطف لا يدل على كونها بيانا للتعديل فيحتمل ان يكون استينافا والظاهر أن المراد بالصورة الهيئة التي يمتاز بها كل انسان عن غيره.
وكم في هذا التصوير من أسرار وآيات؟!
فلكل انسان هويّته البارزة في ملامح وجهه وفي بصمات عينه وخطوط أصابعه لا يشاركه فيها أحد. ناهيك عن الخصائص الشخصية المميزة في كل عضو داخلي وخارجي وفي الدم والاعصاب والعروق وغير ذلك، وأغرب منها خصوصياته النفسية والعقلية، فكل ذلك من عظمة التصوير، وكثير مما في الانسان من خصائص انما هي من صورته الشخصية الخاصة به فانها هي التي تحكي عن الكيان الشخصي. والمادة هي الامر المشترك بين جميع أفراد النوع بل بين الانسان والحيوان.
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ...
المعروف أن قوله (كلا) ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى ولكن لا يناسبه الاضراب الذي بعده.
وقيل انه ليس للردع بل للتنبيه كما مر احتماله في سورة عبس ولكن الاضراب يقتضي ان يكون للردع.
والظاهر أنه ردع عن اصل كون الاغترار هو العذر في الكفر والشرك وارتكاب المعاصي فيكون الاضراب على حقيقته من دون تقدير اي ان الموجب لهذه الامور ليس هو الاغترار بل تكذيب يوم القيامة.
والدين: الجزاء. واذا أمن الانسان الجزاء فانه لا يمنعه شيء من ارتكاب الكبائر والاعتداء على الناس. وهذا التكذيب لا يختص بالكافر والمشرك فان كثيرا ممن يؤمن بالله ظاهرا يلاحظ ان عمله لا يوافق تصديق الجزاء وانما يعمل ببعض الاحكام احتياطا ورجاءا.
ولذلك قال الامام الحسين عليه السلام فيما روي عنه (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم فاذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الديّانون).[13]
حتى المؤمنون الملتزمون لا يعملون لآخرتهم كما يعملون لدنياهم ولو كنا نصدّق بيوم الجزاء تصديقا كاملا لكان معظم اهتمامنا متعلقا بالآخرة ولقلّ اهتمامنا بالدنيا. فالواقع أنّ الخطاب في الآية المباركة لجميع أفراد البشر وان خرج منه المعصومون.
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ...
الظاهر أن الجملة حالية اي تكذبون بالدين والحال أن عليكم حفظة يكتبون اعمالكم ويحصونها وهم بالطبع لا يحصونها الا للجزاء فكيف تكذّبون به؟!
والحفظ اذا تعدّى بنفسه فالمراد صيانته واذا تعدّى بـ (على) كان بمعنى الرقابة لان الحافظ في هذا الحال يحفظ على الانسان ما يفعله ليلقى يوم الجزاء جزاءه. واللام للتأكيد. و(حافظين) صفة لاسم (ان) المقدر اي ان عليكم لملائكة حافظين.
وقد وصفهم الله تعالى بأربعة أوصاف:
الاولى: أنهم حافظون اي يتتبعون الانسان ويسجلون عليه كل اعماله.
والثانية أنهم (كرام) اي لهم قدر ومنزلة عند الله تعالى.
ولعل هذه الصفة إشارة الى عصمتهم كما نبّه عليه العلامة الطباطبائي رحمه الله تعالى اذ لا كرامة لاحد عند الله الا بالتقوى. فاذا اطلق كرامتهم افاد انهم لا يصدر منهم شيء يسقطهم عن هذا المقام. وقد وصف الله تعالى ملائكته بوجه عام بالكرامة في قوله تعالى (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ).[14]
والثالثة أنهم كاتبون.
والكتابة في الاصل جمع شيء الى شيء ومنها تسطير الحروف والكلمات فالمراد أنهم يجمعون كل ما يفعله الناس ويحفظونها ويسجلونها عليهم ولا نعلم كيفية جمعهم وقد عبر عنه في القرآن بالاستنساخ قال تعالى (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).[15]
والرابعة أنهم يعلمون ما تفعلون لدفع توهم أن الانسان ربما يتخفى في عمله كما يتخفى من الشرطة ورجال الامن ولكن الملائكة لا يمكن التخفي عنهم فهم مع الانسان اينما كان ويعلمون جميع افعاله.
ويستفاد من الآية أنهم يعلمون حقيقة العمل ونية العامل فهم ليسوا كالبشر يلاحظون ظاهر الاعمال فتخفى عليهم الاهداف والاغراض فان الانسان مهما كان دقيقا وقويّ الملاحظة الا انه كثيرا ما يخطئ في معرفة المجرمين ولذلك تجد الثغرة واسعة في أمن البلاد بالرغم من السيطرة والاهتمام ولكن الملك لا يخفى عليه شيء من ذلك ولا يترك الانسان في حال من الاحوال.
ولا يصح ما ورد في بعض روايات العامة من انهم لا ينظرون الى الانسان في حالات ففي الدر المنثور في ذيل الآية المباركة (وأخرج البزار عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله ينهاكم عن التعري فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم الا عند احدى ثلاث حاجات الغائط والجنابة والغسل).
نعم ربما يظهر من كلام امير المؤمنين عليه السلام في الدعاء المعروف بدعاء كميل ان هناك امورا تخفى عليهم حيث قال عليه السلام (وكنت انت الرقيب عليّ من ورائهم والشاهد لما خفي عنهم).
والظاهر ان ذلك ليس من الاعمال بل من بواطن الانسان التي ربما تخفى على نفسه ايضا فان الانسان يخدع نفسه في موارد كثيرة فيقنع ضميره بانه يقصد من وراء عمله قصدا مشروعا ولكنه في دخيلة نفسه يقصد امرا آخر بمعنى ان الذي يدفعه الى العمل امر آخر يغفل عنه وهو في ضميره المستتر المعبر عنه باللاشعور.
وهذا من غرائب احوال الانسان وعجيب خلقته ولكن الله تعالى ينبه الانسان انه هو بنفسه بصير بنياته الواقعية ولكنه يختلق لنفسه ولغيره المعاذير قال تعالى (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)[16]
و(بصيرة) صيغة المبالغة فالانسان بصير بنفسه جدا ولكنه يتغافل ويتعامى ويستر على نفسه نواياه فاذا اراد ان يكتشف الحقيقة فليخل بنفسه وليرفع الستائر ويصارح نفسه بكل خلوص فسوف يجد ما لم يكن بالحسبان.
[1] الحديد: 14
[2] الكهف: 37
[3] الاعلى: 2
[4] الشمس: 7
[5] البقرة: 29
[6] الاعلى: 2
[7] المائدة: 8
[8] النمل: 60
[9] المؤمنون: 14
[10] السجدة: 7- 9
[11] ص: 75
[12] آل عمران: 6
[13] بحار الانوار ج44 ص383
[14] الانبياء: 26
[15] الجاثية: 29
[16] القيامة: 14- 15<