مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة الانسان – وتسمى سورة الدهر ايضا – تنقسم الى قسمين فالقسم الاول الذي ينتهي بقوله تعالى (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا) خاص بقصة معروفة سيأتي ذكرها ان شاء الله تعالى في شأن أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والحسنين عليهم السلام.

والقسم الثاني يرتبط بالقرآن الكريم وبالتنديد بأعداء الرسالة ولا يختصّ بمشركي مكة وكان الأولى بها أن تسمى سورة أهل البيت عليهم السلام وسيأتي أنّ الآيات بنفسها مع قطع النظر عن الروايات تدلّ على اختصاصها بنفوس مقدّسة أشرف وأفضل من عامّة المؤمنين الصالحين.

ومن هنا يتبين أنّ السورة مدنية كلها او القسم الاول منها كما قيل. وحيث يستبعد التفصيل بين القسمين فلا بد من القول بكونها مدنية بأجمعها كما دلّت عليه الروايات التي وردت في تقسيم السور الى مدنية ومكية عن الفريقين وليس في القسم الثاني من السورة ما يقتضي ان تكون الآيات مكية.

قال الطبرسي قدس سره في مجمع البيان بعد ذكر روايات حول ترتيب نزول السور من العامة والخاصة تدل على أن هذه السورة مدنية: (قد اتّسع نطاق الكلام في هذا الباب حتى كاد يخرج عن أسلوب الكتاب وربما نُسبنا به إلى الإطناب ولكن الغرض فيه أن بعض أهل العصبية قد طعن في هذه القصة بأن قال هذه السورة مكية فكيف يتعلق بها ما كان بالمدينة واستدل بذلك على أنها مخترعة، جرأة على الله سبحانه وعداوة لأهل بيت رسوله فأحببت إيضاح الحق في ذلك وإيراد البرهان في معناه وكشف القناع عن عناد هذا المعاند في دعواه).

أقول: وهذا العناد مستمر في القوم فنلاحظ في كتاب (في ظلال القرآن) ما يلي:

(في بعض الروايات أنّ هذه السورة مدنية، ولكنها مكية ومكيتها ظاهرة جدا في موضوعها وفي سياقها وفي سماتها كلها. لهذا رجحنا الروايات الأخرى القائلة بمكيتها. بل نحن نلمح من سياقها أنها من بواكير ما نزل من القرآن المكي.. تشي بهذا صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة، وصور العذاب الغليظ، كما يشي به توجيه الرسول- صلى اللّه عليه وسلم- إلى الصبر لحكم ربه، وعدم إطاعة آثم منهم أو كفور مما كان يتنزل عند اشتداد الأذى على الدعوة وأصحابها في مكة مع إمهال المشركين وتثبيت الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - على الحق الذي نزل عليه وعدم الميل إلى ما يدهنون به.. كما جاء في سورة القلم وفي سورة المزمل وفي سورة المدثر مما هو قريب من التوجيه في هذه السورة.. واحتمال أن هذه السورة مدنية - في نظرنا - هو احتمال ضعيف جدا يمكن عدم اعتباره!).

أما صور النعيم التي ذكرها ففي سورتي الرحمن والواقعة تفصيل وتطويل أكثر كما قال العلامة الطباطبائي رحمه الله وهما مدنيتان بلا خلاف وأما العذاب الغليظ وهو الانسب بأجواء الشرك فليس فيها منه شيء!! الا إشارة عابرة كما يعترف هو به ايضا حيث يقول (فأما العذاب فيشير إليه في إجمال).

وأما توجيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الى الصبر لحكم ربه وعدم إطاعتهم فقد ورد في القسم الثاني من السورة ولا يلزم من كونه مكيا أن يكون صدرها ايضا مكيا مضافا الى أنه ورد في سور مدنية اخرى ايضا كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)[1] وكذلك قوله تعالى (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا).[2]  

ويلاحظ أن هذه الآيات تدلّ على أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم كان يتحمل في المدينة ايضا ضغوطا من الكافرين بل ومن المنافقين ايضا كما تدلّ عليه القصة المروية في شأن نزول مطلع سورة الاحزاب وأن بعض المشركين أتوا الى المدينة بعد غزوة احد لمداهنة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم. وان كان لنا في ذلك نظر ذكرناه في تفسيرها.  

والحاصل أن إصرار القوم على كون هذه السورة مكية ليس الا لنفي هذه القصة المشهورة في التفاسير وفي التاريخ وحتى في الشعر الاسلامي باعتبار أنّ هذه القصة إنّما كانت – على القول بها – في المدينة والجواب أن ثبوت هذه القصة دليل على أنها مدنية وسيأتي البحث عنها ان شاء الله تعالى.

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا... استفهام تقريري ومعناه محاولة أخذ الإقرار من المخاطب فيكون أكثر تأكيدا على الموضوع ولذلك قيل إن (هل) في مثل هذا المورد تفيد معنى (قد) مع أنه ليس من معانيها.

فالغرض من الآية الكريمة تنبيه الانسان على حقيقة واضحة لا يمكنه الانكار ولكنه ربما يغفل عنها وهي أنه قد مرّ عليه زمان لم يكن فيه شيئا مذكورا ولكنه كان شيئا الا أنه غير مذكور بمعنى أنه لم يكن موجودا بهويّته وحقيقته الحالية وان كان موجودا بمادّته في الارض اي كانت المادة التي خلق منها جسمه موجودة ولولا ذلك لم يصح التعبير بأنه قد أتى عليه ذلك الحين، فكونه شيئا قبل خلقه يفهم من هذا التعبير كما يفهم من توصيفه بالمذكور.

ويمكن أن يكون المراد كونه موجودا في علم الله تعالى كما في بعض الروايات فقد روى الكليني بسنده عن مالك الجهني انه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن هذه الآية فقال (كان مقدرا غير مذكور).[3]

وفي بعض الروايات أنه كان في العلم ولم يكن في الخلق. ولعلهما يرجعان الى أمر واحد فالتقدير هو العلم ولا ينافي ذلك كونه موجودا في الخلق بمادّته اذ المراد بما هو مقدّر ومعلوم الصورة لا المادة وحقيقة الشيء صورته لا مادّته.

فالحاصل أن كونه شيئا قبل خلقه يمكن اعتباره من وجهين: كون مادّته موجودة في الطبيعة، وكونه بحقيقته وصورته موجودا في علم الله تعالى وتقديره.

والمراد بالانسان كل فرد من أفراد هذا النوع لا جنس الانسان – كما في بعض التفاسير – فليس المقصود الاشارة الى الزمان الذي لم يخلق فيه الانسان من أصله كما أنه لا وجه لتفسيره بآدم عليه السلام كما عن بعضهم.

بل المراد توجيه الاستفهام التقريري الى كل انسان بشخصه حيث يلاحِظ هو بالذات أنه لم يكن موجودا في برهة من الزمان ثم وجد لينتبه الى سبب وجوده على ما سيأتي بيانه في الآية التالية فهذه الآية مقدّمة لما يأتي كما أنّ كل هذه الآيات في مطلع السورة المباركة مقدّمة للتنويه على مقام عباد الله المخلصين كما سيأتي توضيحه ان شاء الله تعالى.

وقد اختلف اللغويون في معنى كلمة (حين) حتى ان ابن دريد في الجمهرة تحرّج من تفسيرها احتياطا نظرا لهذا الاختلاف باعتبار تأثيره في معنى القرآن. ومهما كان فالظاهر أنّ المراد به هنا أيّ جزء من الزمان طال او قصر.

واختلفوا ايضا في معنى الدهر والظاهر صحة ما في كتاب العين وقد أخذ منه غيره وهو أنه الأبد الممدود ليشمل كل الازمنة السابقة واللاحقة وفي الصحاح انه الزمان. فمعنى الآية أنه قد أتى على الانسان جزء من الزمان الممتد لم يكن فيه شيئا مذكورا.

إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا... جواب لسؤال مفترض يستوجبه التقرير في الآية السابقة فبعد التأكيد بطريقة الاستفهام التقريري على أن أيّ انسان يشعر بأنه لم يكن موجودا في زمان يفرض سؤال نفسه:

كيف وجد؟ ومن الذي أوجده؟ ولماذا؟ فهذه الآية تجيب على كل هذه الاسئلة. فالذي خلقه هو الله تعالى ولذلك صدّرت الآية بضمير المتكلم مع التأكيد بحرف (إنّ) للتنبيه على أنّ الاهتمام في الآية انما هو بذكر الخالق جل ذكره.

وخلقه من نطفة أمشاج تطورت من حال الى حال وفقا لخريطة رسمتها الارادة الازلية مناسبة لحاجة الانسان في مختلف أطواره. والسبب هو الاختبار ليبلغ الكمال المرتقب منه وينال المقام المخصص له بجدارة.

والنطفة: الماء القليل. والمراد هنا مني الانسان. والأمشاج جمع مَشِج او مشيج بمعنى الخليط وتوصيف المفرد بالجمع إمّا باعتبار اشتمال النطفة على أجزاء كما قيل فالاجزاء هي المختلطة او باعتبار أنّ المراد بها ماء الرجل والمرأة كما قيل ايضا فالجمع بلحاظ إطلاقه على المثنى.

وقال الزمخشري (نطفة أمشاج كبُرْمَة أعشار وبُرْد أكياش وهي ألفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد ويقال أيضا: نطفة مَشْج)[4] والبرمة قِدر من الحجر.

ولكن الظاهر أن الأعشار جمع يقال برمة اعشار او قدر أعشار اذا كسر الى عشرة اجزاء او ما يقاربها فيوصف القدر بالاعشار باعتبار أجزائه قال في العين (العِشر قطعة تنكسر من البرمة او القدح فهو أعشار) وأما قولهم بُرد أكياش فالبُرْدُ نوع من الثياب والأكياش قيل انه مفرد بصيغة الجمع بمعنى ما اُعيد غزله او ما كان رديئا. وقال الصاحب في المحيط (وقيل انه المِزَق) فيكون جمعا ايضا كالاعشار.

والحاصل أن ما في الكشاف من كون الأمشاج مفردا قول بلا دليل.

والمراد بالخليط إمّا اختلاط الماءين او كون النطفة مشتملة على أجزاء كثيرة دقيقة فتكون إشارة الى دقة خلق الانسان وقيل إن الامشاج بمعنى الأطوار الجنينية باعتبار أن المشج خلط الالوان فهو كناية عن تطور الحالات.

و(نبتليه) حال من ضمير الفاعل في (خلقناه) اي خلقناه حال كوننا نبتليه في المستقبل فتكون حالا مقدّرة ويكون بذلك أشار الى السبب والغاية من خلقه وأنه خُلق لكي يدخل في مجال الاختبار فان تمكن من الغلبة على أهوائه واتّبع هدايات السماء فقد نجح وأفلح وإن اتّبع أهواءه وغرّه ما جعل الله في الارض من زينة فقد خسر وخاب.

والابتلاء ليس بنفسه غاية بل الغاية الوصول الى الكمال البشري المنشود وهو ما ورد في قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[5] الا أن الإبتلاء هو طريق الوصول اليه.

وفي الميزان (والابتلاء نقل الشي‏ء من حال إلى حال ومن طور إلى طور كابتلاء الذهب في البوتقة وابتلاؤه تعالى الإنسان في خلقه من النطفة هو ما ذكره في مواضع من كلامه أنه يخلق النطفة فيجعلها علقة والعلقة مضغة إلى آخر الأطوار التي تتعاقبها حتى ينشئه خلقا آخر). وعليه فيكون حالا مقارنة اي بلحاظ نفس الوقت لا المستقبل.

والسر في إفادة الابتلاء لهذا المعنى مع أنه في الاصل بمعنى الاختبار والامتحان هو أن الاختبار من الله تعالى ليس لمعرفة الحال فهو علّام الغيوب بل لظهور كوامن القابليّات وهذا هو ما يحصل في تحوّل الجنين من حال الى حال فإنّ النطفة تشتمل على قابلية العلقة وظهورها، وتحقّقُها نوع من الاختبار الالهي وهكذا.

والظاهر هو المعنى الاول فانه ظاهر اللفظ اولا مضافا الى أنه بناءا على هذا المعنى يكون الابتلاء متعلقا بالنطفة لا الانسان فيجب تأنيث الضمير.

وبناءا على المعنى الثاني يكون قوله تعالى (فجعلناه سميعا بصيرا) متفرعا على خلقه متحولا من حال الى حال وأما على المعنى الاول يكون جعله سميعا بصيرا سببا للابتلاء ولكن لا مانع من تفريعه عليه لان الإبتلاء علة غائية له فكأنّه قال خلقنا الانسان لنبتليه فجعلناه سميعا بصيرا كما تقول اردت السفر فركبت، فلا حاجة الى ما ذكره بعضهم من أن في الجملة تقديما وتأخيرا وأنها في الاصل (فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه).

والمراد بجعله سميعا بصيرا تكميل قواه المدركة فذكر السمع والبصر من باب المثال او من جهة أنهما أهمّ الحواسّ في الارتباط بالخارج وتوسعة المعلومات.

والفعيل صيغة المبالغة فتدلّ على كمال سمعه وإبصاره وهو مقدّمة للهداية فمن الصعب جدا هداية من لا يسمع ولا يبصر فلا بدّ من أحدهما على الاقل للاهتداء.

إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا... هداية السبيل ترتبط بالابتلاء المذكور في الآية السابقة فان المراد بالسبيل ما يوجب النجاح في الابتلاء والاختبار الذي يواجهه الانسان في هذه الحياة والله تعالى يهدي خلقه بوجوه أربعة:

الأول: الهداية التكوينية التي لا يختلف فيها الانسان عن غيره فكل حيوان ايضا يهتدي الى سبل حياته بما أودع الله تعالى فيه من غرائز بل كل شيء يهتدي الى المرحلة النهائية التي يجب ان يصل اليها بالتطور والتكامل كما قال تعالى في حكاية جواب موسى عليه السلام لفرعون حين سأله عن ربه (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى).[6]  

الثاني: الهداية الفطرية التي أنعم الله تعالى بها على الانسان حيث يميل بفطرته الى ربه لولا العوامل الخارجية المضادّة قال تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)[7] ويظهر من الآيات أنّ هذه الهداية ايضا لا تختصّ بالانسان.

والآيات في هذا الشأن كثيرة منها قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ..).[8]

ولعلّ هذا المعنى هو المراد بقوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ).[9]

فهناك بحث طويل في معناها ولا نمنع أن تكون حاكية عن قضية كونية لا نعرف حقيقتها حدثت في عالم آخر يعبر عنه بعالم الذّرّ كما يقال ولكن المصرّح به في الآية أنّ الغرض من ذلك هو إتمام الحجّة على الانسان ولئلا يعتذر يوم القيامة بغفلته او بمتابعته لما كان عليه الآباء فلا بدّ من ان يكون هناك أمر يشعر به الانسان ليكون حجّة عليه وليس ذلك الا ما نشعر به في قرارة أنفسنا من التوجّه الى الله تعالى.

الثالث: الهداية التشريعية وهي التي تتحقق بإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الأئمة وتشريع الاحكام فهي في الواقع إراءة الطريق وإنارته بحيث يقطع العذر ولكن الانسان يبقى مختارا بل ربما يتردد ولا يخرج عن حيرته فغيوم الباطل لا تنقشع نهائيا والحق ليس واضحا كل الوضوح والمجال واسع للمضللين وشياطين الانس والجن.

قال أمير المؤمنين عليه السلام (فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنى..).

الرابع: التوفيق للوصول الى الكمال الممكن، ويعبّر عنه بالايصال الى المطلوب. وهذا بالطبع لا يناله كل أحد. وهذه هي الهداية الحقيقية وإطلاقها على غيرها لا يخلو من تجوّز وتشبيه فإنّ الهداية في الاصل بمعنى التقدّم. وهوادي القوم طلائعها. وهوادي الخيل أعناقها. فالهادي في الحقيقة هو الدليل الذي يتقدم القوم لإرشادهم وإيصالهم الى المقصد. وإطلاقها على إراءة الطريق من باب التشبيه.

ولكن الذي يحصل من الله تعالى في هذا القسم ليس هو التقدّم الحسي كما هو واضح ولكنه أقرب منه والنتيجة تحصل هنا بالضرورة بخلاف التقدّم فإنّه قد يخطئ الدليل كما قد يرفض أتباعه متابعته ولكن الله تعالى اذا أراد أن يوصل أحدا الى المطلوب فهو حاصل لا محالة كغيره مما يريده الله تعالى.

والى هذا المعنى يشير قوله تعالى (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ..)[10] فإن الهداية المنفية عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لا يمكن ان تكون بمعنى إراءة الطريق اذ لم يتوان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم عن إراءته في أيّ مجال وإنّما المنتفي هو الإيصال الى المطلوب.

والمراد في هذه الآية الهداية الفطرية والتشريعية لانهما الّلتان تؤثّران في نتيجة الإبتلاء وينقسم الانسان بهما الى شاكر وكافر وأمّا القسم الأول فلا يختص بالانسان وليس مناطا للاختبار الإلهي كما أنّ القسم الأخير خاصّ بمن يستحق التوفيق ولا ينقسم به الانسان الى شاكر وكافر.

و(شاكرا) و(كفورا) حالان من الضمير المفعول في (هديناه). و(إمّا) للتفصيل. والمعنى أنّا هديناه السبيل المؤدّي الى سعادته الأبدية وخيّرناه بين أن يكون شاكرا لهذه النعمة او كافرا. والشكر ليس هو التلفظ بما يدلّ على تقدير النعمة واحترامها كما هو المعروف بل الشكر هو العمل بما يطلبه المنعم بالنسبة لتلك النعمة.

ونعمة الهداية أهمّ النعم على الإطلاق والمطلوب هو السير وفقا لها ومتابعة الطريق المرسوم من الله تعالى فكل تجنّب عن الطريق يعتبر كفرا بالنعمة ولكن التعبير فرّق بين الشكر فاكتفى فيه بأقله وبين الكفر فعبّر عنه بصيغة المبالغة.

ومعنى ذلك أن فريق الشاكرين يشمل من يشكر ربه على الهداية بمتابعتها في اصولها وإن انحرف عن الطريق في بعض الفروع بتأثير من عوامل الضلال وأما فريق الكفر فلا يشمل الا الكفور الذي لا يهتم بهداية ربه أبدا إمّا بانكار الرّبّ او بإنكار الرسالة او بتكذيب الرسول ولو في بعض رسالاته او بمحاولة تحريف الرسالة وإضلال الناس عنها ونحو ذلك.

وهناك من يقول: إن الهداية الفطرية قد لا يشعر بها الانسان نتيجة العوامل المضادّة التي تكثر يوما فيوما من عوامل البيئة والوراثة والإعلام المضادّ والملاهي التي تشغل بال الانسان ولا تدع له مجالا للرجوع الى الفطرة والضمير الحيّ وأما الهداية التشريعية فقد لا تصل الى كثير من البشر بل أكثرهم خصوصا في الازمنة السابقة حيث لم تكن وسائل الارتباط موجودة فكيف يُحتجّ بها على الانسان؟!

وبهذا التقرير يحاول كثير من مخالفي الاديان إضلال الناس ويمكن أن يتمسك بهذا التقرير في عدة محاولات مناوئة للدين نذكر بعضها:

المحاولة الاولى: إنّ متابعة كل مجموعة من الناس لدين وطريقة ومذهب وطقوس لم تنشأ من متابعة الهداية الفطرية ولا التشريعية والا لتوافقت الامم واتّحد الدين وإنّما نشأت متابعة الاديان من التأثر بالبيئة والوالدين والتربية الاجتماعية والإعلام الصاخب فليس شيء منها صحيحا ولا بد للبشر من ترك كل الطقوس الدينية والرجوع الى العلم لمعرفة حقائق الكون ومبدأ وجوده.

ولنا على هذا التقرير ثلاث ملاحظات:

الملاحظة الاولى: أنّ الرجوع الى العلم ايضا من المذاهب والعقائد المخترعة وليس خارجا عن مخترعات البشر فمجرد بطلان سائر العقائد لا يقتضي صحّته فهذه المحاولة لم تنجز شيئا الا زيادة عدد العقائد المخترعة.

الملاحظة الثانية: أنّ العلم لا يتمكن من الإجابة على الاسئلة المرتبطة بمبدأ الكون فغاية ما توصّل اليه العلم هو فرضية الانفجار العظيم وهي تفسّر على فرض صحّتها تحوّلا خاصا في مرحلة من مراحل تطوّرات الكون وأمّا تكوّن المادة الأوّلية فلم يجد له العلم تفسيرا ودليلا والسبب واضح وهو محدودية نطاق العلم بالمعنى الحديث وانحصار نشاطه في حدود المادّة وشؤونها ولا يمكنها البحث عمّا قبل المادّة وعن مبدأ وجودها وتكوّنها.

الملاحظة الثالثة: أنّ العلم لا يمكنه أن يردّ بجواب قاطع عن السؤال عن مستقبل الانسان وهل هناك عالم آخر بعد الموت أم لا؟ وهذا أمر يقضّ مضجعه وهو خطير جدا لا يدانيه خطر في هذه الحياة لارتباطه بمستقبل مجهول أبديّ. وكل ما يقال في هذا الموضوع عن غير طريق الوحي تخرّص على الغيب وقول من دون دليل. وهو واضح اذ ليس للانسان طريق لمعرفة الغيب وما وراء الطبيعة ولا يمكن للانسان أن ينفي وجود عالم وراء الطبيعة الا بالحدس والخيال والقول بغير علم كما قال تعالى (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ).[11]

المحاولة الثانية: أنّ تأثير الوراثة والبيئة والتربية والإعلام الصاخب على الانسان يقتضي أن يكون الله ظالما اذا عاقب إنسانا لمتابعته غير دين الحق لانه ليس مختارا في ذلك وإنّما هو يتبع المؤثّرات التي تجرّه عنوة الى المعتقد العامّ الذي تبثّه وسائل الاعلام في كلّ عصر ولذلك قلّما نجد من يخالف مذهب آبائه وأجداده والمجتمع الذي يعيش فيه مع أنّ أكثر الناس ملتزمون بمقتضيات العقيدة ويناضلون ويضحّون بالنفس والنفيس من أجلها فلا تقصير من قبلهم ولو فرضت صحّة دين واحد ومذهب واحد فقط كان أكثر الناس في ضلال غير مقصود وكانت العقوبة من الله تعالى ظلما.

والجواب أنّه لا شكّ أنّ الحقّ واحد والانسان مؤاخذ بما اُوتي من عقل وفطنة والله تعالى لا يؤاخذ أحدا الا بمقدار ما تمّت عليه الحجة وهو أعلم بحججه قال تعالى (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ..)[12] ولكن لا يقبل منه الإعتذار بمتابعة الآباء والمؤثّرات الاجتماعية فكثيرا ما نرى او نسمع بمن ترك دين آبائه وأجداده واعتنق دينا آخر حقّا او باطلا.

ولو كان الانسان مهتمّا بمستقبله الغامض كاهتمامه بشؤون الدنيا لما بقي على متابعة الطقوس الوهمية والعقائد الخرافيّة كما لم يبق على متابعة الأقدمين في حضارته وتغيير مجرى حياته الدنيوية في جميع المجالات.

ويلاحظ أنّ الأديان المختلفة قد تكون مستندة الى جذور قديمة من شرائع السماء وإنّما تحوّلت الى طقوس وهمية وخرافية نتيجة الأهواء البشرية التي حرّفت الأديان وليست هي من صنع الأديان ولا تستند واقعا الى دين سماوي.

وهذا الامر مصرّح به في مواضع من الكتاب العزيز قال تعالى (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).[13]

وقال ايضا (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ..)[14] وغيرهما من الآيات.

فهي تبيّن أن الاختلاف في الدين نشأ من البغي والعدوان الحاصل بين أتباع الشرايع بعد الرسل وأنّ الله تعالى هدى فريقا واحدا الى الحق وليس معناه أنّه اختار هذا الفريق عشوائيا لهدايتهم وإنّما اهتدوا لإيمانهم بالله وبالرسالة إيمانا كاملا كما قال تعالى في الآية المذكورة (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق).

المحاولة الثالثة: أنّ هذا الاختلاف يدل على أنّ الصراط المستقيم الى الله تعالى ليس صراطا واحدا بل هناك صرط مستقيمة تنتهي اليه وأنّ كل هذه الطرق والاديان والمذاهب صحيحة ولا موجب للتعصّب والإهتمام بمذهب واحد وهذا ما يصرح به بعض المنتحلين للعلم والمعرفة.

ولكن ربّما يبدو ذلك من بعض رجال الدين ايضا وربّما يتوهّم أنّ ذلك مقتضى ما اشتهر بين العلماء من القول بأن الطرق الى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق بل قيل إنه حديث نبوي مع أنّه لم يرد في أيّ كتاب من كتب الحديث وإنّما هو من كلام بعض المتصوّفة وهم ايضا لم ينسبوه الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم.

ومن الغريب أنّ كثيرا من الأعاظم ذكروه كأصل مسلّم حتى لو لم يكن حديثا مع أنّه غير صحيح أساسا والطريق الى الله تعالى واحد وإن اختلفت فيه الانظار وفرق واضح بين أمر تختلف باختلاف الأنظار وأمر تختلف فيه الأنظار وهو الطريق الصحيح والصراط المستقيم الواحد وهو ما أرسله عن طريق الرسالات كما قال تعالى (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ..).[15]

ولو صحّ التعدد فلا يصحّ أن يكون بعدد أنفاس الخلائق اذ مقتضاه صحة كل الطرق وهو فاسد قطعا. وقد حاول بعضهم توجيه هذه الجملة ظنّا منهم بأنه حديث شريف وهي محاولة فاشلة.

ولعل أساس التوهم عند بعضهم على الأقلّ هو أنّ كل إنسان ينتهي به الأمر الى لقاء الله كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[16] وقد استشهد بها العلامة الطباطبائي قدس سره في الميزان في تفسير قوله تعالى (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ).[17]

ولكنّ هذا لا يعتبر طريقا يسلكه الانسان للوصول الى الله تعالى أي تحصيل رضاه والتقرّب اليه وإنّما يُرجع الى الله قهرا وقسرا فيلاقيه وقد مرّ بعض الكلام فيه في تفسير قوله تعالى (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).[18]      

إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا... حيث كان المقصود من السورة التنبيه على مقام المقرّبين كما قلنا وإنّما ذُكر الانسان وابتلاؤه كمقدمة للوصول الى بيان حالهم وأنّهم الذين نالوا القدح المُعلّى في هذا السباق فاكتفى في ذكر نتائج الكافرين والأبرار بالاختصار.

والإعتاد إفعال من العتد وهو الحضور فالمعنى الإحضار والإعداد اي هيأنا لهم سلاسل. والسلاسل جمع سلسلة وهي حلقات مترابطة بعضها في بعض. والأغلال جمع غُلّ وهي الجامعة التي يربط بها العنق باليد. والسعير: النار الملتهبة.

إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا... بعد أن قسّم الانسان الى شاكر وكفور وبيّن حال الكافر في الآية السابقة ذكر هنا حال الشاكر وقسّمه الى قسمين ولذلك لم يعبّر عنهم بالشاكر كما عبّر بالكافر فقسم منهم هم الأبرار وهم أصحاب اليمين وقسم منهم عباد الله والمراد بهم المقرّبون.

والأبرار جمع بَرّ صفة مشبّهة من البِرّ وقد اختلفت كلمات اللغويين في تفسيره ولم أجد فيها ما تطمئن اليه النفس فقد فُسّر بالصدق والطاعة والاحسان والصلاح وخلاف العقوق ونحوذلك وهناك من موارد استعماله ما يصعب تطبيق هذه المعاني عليه كقولهم (حجّ مبرور) ولعله من الصدق بمعنى أن يكون الحاجّ صادقا في تعهده والتزامه بترك محرمات الاحرام.

والبَرّ من صفات الله قال تعالى (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)[19] وفُسّر بالعطف والإحسان. والمعنى على الاجمال ما ينبئ عن فعل الخير والاحسان.

واذا لاحظنا كلمة الأبرار في القرآن الكريم فإنّا نجد أنّ المراد بهم من صنّفهم الله تعالى في أصحاب اليمين عندما صنّف الناس في اول سورة الواقعة الى ثلاث فصائل كما يلاحظ ذلك في سورة المطففين وسيأتي البحث عنها إن شاء الله تعالى.

ولعله اختار من جزائهم الشرب من الكأس مع أنّ الجنة مليئة بالنعم لينتقل الكلام الى مزاجه وهو شراب المقرّبين لما يبدو من السياق أنّ الغرض من السورة مدحهم وبيان فضائلهم.

مضافا الى أنّ الشرب من هذا الكأس ربما يكون أهمّ النعم فإنّ حقيقة هذه النعم لا يعلمها الا الله تعالى كما ان العذاب الاخروي ايضا لا تُعلم حقيقته. ويبدو من الآيات أن أكثر هذه التعابير ترمز الى حقائق بعيدة عن أذهاننا وسيأتي بعض الإشارة الى ذلك.

والكأس بمعنى إناء الخمر إن كان فيه خمر وربما اُطلق على الخمر نفسها. والمزاج ما يخلط الشيء به فانهم كانوا يخلطون الخمر بالماء ونحوه. والكافور مادة نباتية بيضاء ذات رائحة عطرية قوية تؤخذ من شجرة الكافور ولها استخدام في الطب فهي مضادة للبكتيريا وتستعمل في غسل الميت ولعله من اجل التغلب على الرائحة.

وحيث كان العرب يمزجون الخمر بشيء من الطيب من اجل التغلّب على رائحتها فالآية تشير الى أنّ خمر الأبرار ايضا لها خليط من الكافور ولكن لا يراد به هذا الكافور الموجود في الدنيا كما أنّ الخمر ليست هذه الخمر فهذه التعابير كما قلنا تحكي عن حقائق لا يوجد لها مثيل في الدنيا.

والقرآن يعبّر عنها بتعابير مقرِّبة للمعنى كالحميم والغسلين والزقّوم والضريع والقطران والسلاسل والأغلال وسجّين في جانب العذاب والكافور والخمر والتسنيم والفواكه وعليّين ونحوها في جانب الثواب بل نفس الجنة والنار ايضا من هذا القبيل فلا الجنّة من قبيل هذه الجنان ولا النار من هذه النار.

وحكي عن بعض القدماء أنّ الكافور إسم عين في الجنّة وانتقده المفسرون ولكنّه غير بعيد فهو لم يقل ذلك عن غيب وانما استظهره من الآية الكريمة فإنّ الآية التالية ربّما تدلّ على ذلك حيث أتى بالعين بدلا عن الكافور والآخرون اعتبروه سائلا جاريا من العين وهو خلاف الظاهر.

ولكن هذا الاختلاف لا أساس له بناءا على ما ذكرنا من أن هذه التعابير تحكي عن حقائق بعيدة عن اذهاننا فلا تحمل على معانيها الظاهرة.

عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا... (عينا) بدل عن الكافور فالظاهر أنّ العين هي الكافور اي إسمها الكافور وأنّ المزيج في شراب الأبرار منها وليس شرابهم من هذا العين ويحتمل أن يكون الكافور شيئا يؤخذ من هذه العين فتسمية العين بالكافور لاشتمالها عليه.

هذا بالنسبة الى المعنى الذي استعمل فيه اللفظ وأما المعنى المقصود واقعا وهو المعبر عنه في الاصول بالمراد الجِدّي فهو أنّ الابرار مقامهم أنزل بكثير من مقام عباد الله المقربين كبعد من يؤتى بشراب مزيج بمادة طيبة ومن يؤتى بنفس تلك المادة خالصة فعباد الله يشربون من هذه العين صرفا والأبرار يمزجون منها شرابهم.

ومن الغريب جدّا أن المفسرين اتّفقوا على أنّ المراد بعباد الله هم الأبرار وأنه لا يقصد من الآية بيان حال المقرّبين. والذين فسّروا الآية باهل البيت عليهم السلام ظنّوا أنّهم المراد بالأبرار وحاول العلامة الطباطبائي قدس سره أن يفسر الأبرار بمعنى خاص يدلّ على علوّ مقامهم لدى الله تعالى مع أنّه يعلم أن هذا المصطلح في القرآن ليس كذلك ورأيت من بعض تلامذته القول بأنّ المراد بالأبرار هنا يختلف عن سائر المواضع. كل ذلك يزيد الأمر غرابة.

وأغرب منه أنهم غالبا ذكروا في سورة المطففين ما ذكرناه هنا مع أنّ الآيات لا تختلف مضمونا بل ولا تعبيرا قال تعالى (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ).[20]

يلاحظ أنّ الآيات ذكرت الابرار في موضعين الأوّل أنّ كتابهم في عليّين ويشهده المقرّبون وهم من يأتي ذكرهم بعد بضع آيات ولا وجه للقول بأنهم الملائكة والموضع الثاني أنّهم يسقون من رحيق اي خمر خالص طيب، مزاجه من تسنيم، وهو اسم عين يشرب منها المقربون صرفا خالصا.

قال العلامة قدس سره في تفسير سورة المطففين (ومفاد الآية أن المقربين يشربون التسنيم صرفا كما أن مفاد قوله «وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ» أنه يمزج بها ما في كأس الأبرار من الرحيق المختوم ويدل ذلك أولا على أن التسنيم أفضل من الرحيق المختوم الذي يزيد لذة بمزجها وثانيا أن المقربين أعلى درجة من الأبرار الذين يصفهم الآيات).

وقال الآلوسي في روح المعاني: (ومذهب الجمهور أنّ الأبرار هم أصحاب اليمين وأنّ المقربين هم السابقون كأنّهم إنما كان شرابهم صرف التسنيم لاشتغالهم عن الرحيق المختوم بمحبة الحي القيوم فهي الرحيق التي لا يقاس بها رحيق..).

ومن الواضح انه لا فرق بين هذه الآيات وسورة الانسان. ولا أدري هل لعبت الأهواء ايضا دورا في ذلك فيكون هو الفارق بين السورتين ام أنّه مجرد غفلة ولا شك أنّ بعض المفسرين خصوصا الشيعة غفلوا عن الحقيقة.

ويبدو أن الذي أوجب توهم الفرق بين الموردين هو التعبير بعباد الله في سورة الانسان وهذا عنوان يصدق على أهل الجنة جميعا بل على اهل النار ايضا قال تعالى (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)[21]  وقال ايضا (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ).[22]

ولكن بمقتضى القرائن يتبين أن المراد بهم هنا العباد المخلَصون ــ بالفتح ــ والذين يخاطَبون يوم القيامة بهذا الخطاب: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)[23] فالاضافة هنا اضافة تشريفية خاصة لا ينالها الا المقرّبون.

ومثلها ما ورد في قوله تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى..)[24] وغيرها من الآيات التي عبّر بمثل ذلك عن الانبياء المرسلين عليهم السلام.

وهناك من يقول إنّ قوله تعالى (يشرب بها) بمعنى أنّهم يشربون الخمر بالكافور اي يمزجونها به فالعباد هم الذين يمزجون ولكن هذا التعبير بنفسه وارد في سورة المطففين وهناك قالوا إنّ الباء زائدة اي يشربها او أنّه بمعنى (من) اي يشرب منها او بتضمين الشرب معنى الإرتواء اي يرتوون بها فيمكن القول هنا ايضا بذلك.

مضافا الى أنّ ما قالوه هنا لا يصح أساسا لان الضمير في (بها) يرجع الى العين ولا معنى لمزج الشراب بالعين ولو اُعيد الى الكافور لكان مذكّرا.

والتفجير: الشق. والفجر ايضا الشق فإتيانه من باب التفعيل للتأكيد كما أنّ الإتيان بالمفعول المطلق ايضا للتأكيد الا أنّ الاول تأكيد على نفس الفعل وأنّه شقّ عظيم والثاني تأكيد على الفاعل بأنّ التفجير منهم واقعا وليس فيه مبالغة. والعيون تختلف فمنها ما تنشقّ ويخرج منها الماء بصورة طبيعية ومنها ما يتوقف انفجار الماء منها على فعل الانسان بكسر الصخور وإزاحتها عن فوهة العين لينفجر الماء.

ولكنّ المفسرين حيث رأوا أنّ التفجير لا يمكن أن يستند الى أهل الجنة أوّلوه بأنّ المراد شقّ الطريق الى الماء لينتقل الى أماكن اخرى حيث يشاءون مع أنّ هذا ايضا يحتاج الى جهد لا ينبغي ان يتعب أهل الجنة أنفسهم له.

وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله (وينبغي أن يحمل تفجيرهم العين على إرادتهم جريانها لأنّ نعم الجنة لا تحتاج في تحققها والتنعم بها إلى أزيد من مشيئة أهلها..) وما ذكره أفضل ما قيل.

ولكن الصحيح أنّ الآية الكريمة تشير الى حال النزول وأنّهم في هذا الوقت يفجّرونها بعملهم في الدنيا ويشربون منها في الجنّة كما يمزج اولياؤهم شرابهم بها او بكافورها.

والدليل عليه أنه ذكر بعد ذلك عملهم في الدنيا الذي استوجب تفجّر العين في الجنة من دون ان يأتي بواو العطف ونحوها وهذا يفيد التفسير وأنّ تفجيرهم هو نفس إيفائهم بالنذر وإطعامهم الطعام الى آخر ما ذكره من خصائصهم.

وقد أشار العلامة في موضع آخر الى أن الآية ربما تشير الى تجسم الاعمال وأنّ وفاءهم بالنذر بذاته هو ما يتنعمون به في الجنة بصورة اُخرى.

 


[1] الاحزاب: 1 - 3

[2] الاحزاب: 48

[3] الكافي ج1 ص147

[4] الكشاف ج 4 ص 666

[5] الذاريات: 56

[6] طه: 50

[7] الروم: 30

[8] النور: 41

[9] الاعراف: 172- 173

[10] القصص: 56

[11] الجاثية: 24

[12] الانعام: 149

[13] البقرة: 213

[14] آل عمران: 19

[15] الانعام: 153

[16] الانشقاق: 6

[17] الفاتحة: 6

[18] الشورى: 52

[19] الطور: 28

[20] المطففين: 18 - 28

[21] مريم: 93

[22] الفرقان: 17

[23] الفجر: 27 - 30

[24] الاسراء: 1