إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا... من هنا يبدأ القسم الثاني من السورة ومضمونه تنبيه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بما هو واجبه في الغرض الذي سيقت له السورة وهو أنّ الله تعالى خلق الانسان وهداه السبيل إمّا شاكرا وإّما كفورا وأنّ الشاكرين على صنفين الأبرار والعباد المقربون وواجب الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم في تحقيق هذا الغرض هو أداء دوره الرسالي في هداية الانسان.
وحيث فصّل القول في ذكر مقام المقرّبين اشتبه الأمر على المفسرين في وجه ارتباط هذا القسم بما سبق وظنّ بعضهم أنّه خاص بالمشركين فلا بد من كونه مكّـيّا بل قال بعضهم إنه مكّيّ بالاجماع وقال في الميزان (وسياقها مع ذلك لا يخلو من شبه بالسياقات المكّيّة وعلى تقدير مكيتها فصدر السورة مدني وذيلها مكي).
والصحيح أنّه لا علاقة لهذا القسم بالمشركين خاصّة وليس مكيا بل هو مدنيّ ويدل عليه قوله تعالى (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) على ما سيأتي إن شاء الله.
وبناءا على ما ذكرنا فالتنبيه على إنزال القرآن على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم للإشارة الى أنّ هذا الكتاب يأتي في سياق الهدايات التي بعثها الله تعالى للبشر.
والتأكيد بذكر الضمير المنفصل (نحن) للردّ على الأوهام التي تنسب القرآن الى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم قديما وحديثا ولعل الإتيان بالمصدر في الأخير مفعولا مطلقا للتأكيد على تنزيله بعنوانه وهو كونه كتابا جامعا لما يحتاج اليه الانسان في معرفة الصراط المستقيم فلا يتوهم أنه تعالى أنزل عليه المعاني وهو الذي صاغ الالفاظ.
وقيل إنّ التنزيل يدل على نزول القرآن منجّما ومتفرقا في مقابل التعبير بالإنزال الدالّ على نزوله دفعة وقد أوضحنا في تفسير سورة الدخان أنّ هذا الفرق لا أساس له ويدل عليه قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً).[1]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ... الفاء للتفريع أي أنزلنا عليك القرآن لتُبلّغه الى الناس وهو بالطبع يستلزم تحمّل الشدائد في مواجهة أعداء الرسالة سواء في مكة او المدينة كما يتبين من الجملة التالية فلا بد من الصّبر.
وفي معنى الجملة احتمالان:
الاول: أنّ معناها اصبر على ما تقاسيه من أذى المشركين الى أن يأتي حكم ربك فيهم بالعذاب، فاللام في قوله (لحكم) بمعنى (الى) وفي معناه قوله تعالى (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ).[2]
الثاني: ان يكون اللام لتعليل الامر بالصبر اي اصبر لان ربك يحكم عليك بالصبر اي يوجبه عليك ويمكن ان يكون الحكم بمعنى القضاء اي اصبر لانه تعالى قضى بامهال المشركين.
والتعبير بربك يثير فيه صلى اللّه عليه وآله وسلّم حماسا شديدا للقيام بواجبه حيث يدلّ على أنّ هذا الامر دخيل في تربيته وتكوين شخصيته الممتازة التي أراد الله تعالى أن يقوّي بها دينه ويهدي بها عباده.
وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا... الظاهر أنّ هذه الجملة تبيّن مورد الصبر اي إصبر على ما تتعرض له من ضغوط في عدم إطاعة الآثم والكفور منهم. والضمير في قوله (منهم) يرجع الى الناس المعلوم من السياق فإنّ تنزيل القرآن لإبلاغهم.
والظاهر أنّ المراد بالآثم المنافق حيث قوبل به الكفور وهو شديد الكفر ويبعد حمل الآثم على المؤمن العاصي لأنه لا يطالب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر غير مشروع لينهى الله تعالى عن اطاعته.
ولا وجه لارتكاب مخالفة الظاهر بالقول بأن (او) ليس للتنويع وأنّ الآثم هو الكفور بنفسه. ولا وجه ايضا لما قيل من أنّ الآثم عتبة بن ربيعة والكفور الوليد بن المغيرة ولا دليل على هذا التخصيص بل هو مخالف لظاهر التنكير فهو حكم عامّ والمراد به الحثّ على المضيّ قدما في تبليغ كل ما أنزل الله تعالى وعدم الاستجابة للضغوط التي تأتي من المنافقين او الكفار.
ويبدو أن المنافقين كانوا يضيقون ذرعا بالآيات التي تنزل في شأن أهل البيت عليهم السلام لانها تنسف مؤامراتهم التي كانوا يعلّقون عليها الآمال وينتظرون موت الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لتنفيذها كما يظهر من قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ..).[3]
ومن هنا يتبين أنّ سياق القسم الثاني يؤكد على أنّ القسم الاول نازل بشأن أهل البيت عليهم السلام وأنّ الصحيح نزول السورة بأجمعها في شأنهم.
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا... أمر الله تعالى رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأن لا ينسى ذكر ربه أبدا. والبكرة: أوّل النهار. والأصيل قيل: إنّه العشيّ. وقيل: هو ما بعد العشيّ وقيل: العشي آخر النهار. وقيل: أوّل الليل الى ان يمضي صدره وقيل الى الفجر. والمراد ليس الذكر القلبي بل اللفظي لانه هو ذكر الاسم.
وقيل إن المراد به خصوص الصلاة فالآية تشير الى صلاة الصبح والعصر واعتبره بعضهم قرينة على كون الآية مكية حيث لم تشرع الصلوات الخمس.
ولكن لا دليل على التخصيص بل الظاهر أنّ المراد في الذكر ليلا ونهارا الاستمرار على ذكره تعالى دائما كما قال تعالى بشأن الملائكة (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)[4] وهم ليس لهم ليل ونهار.
نعم ورد في بعض الروايات تطبيق الآية التالية على الصلاة ولا تستلزم التأويل في هذه الآية.
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ... (من) للتبعيض اي اُسجد لله تعالى في شطر من الليل. وقيل إنّه اشارة الى صلاة المغرب والعشاء ولا يبعد أن يعبر عن الصلاة بالسجود. ولكن لا دليل على التخصيص بها فضلا عن التخصيص بالصلاتين.
وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا... المراد من قوله (ليلا طويلا) اي قسما طويلا من الليل اذ من الواضح انه لا يقصد به تخصيص التسبيح بليل طويل في نفسه.
وهذا التسبيح ايضا معنى عام يشمل أيّ عبادة في الليل ولكن في بعض الروايات أنّ المراد به صلاة الليل ولا يبعد أن يكون ذكرا لمصداق أكمل.
والرواية مرسلة رواها الطبرسي في مجمع البيان في تفسير الآية قال (روي عن الرضا عليه السلام أنه سأله أحمد بن محمد عن هذه الآية وقال ما ذلك التسبيح؟ قال: صلاة الليل).
ومهما كان فالظاهر أن الغرض من هذه الآيات التنبيه على أنّ العنصر الاساس للصبر والتسلّح الذاتي أمام ضغوط النفاق والكفر هو الإلتجاء الى ذكر الله تعالى وتسبيحه وعبادته وقد تكرّر ذلك في الكتاب العزيز منها قوله تعالى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).[5]
وهذا الأمر لا يختصّ بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بل يشمل كل الدعاة والمصلحين وكل من يواجه ضغوط الكفر والنفاق في نشاطه الديني.
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا... الاشارة بقوله (هؤلاء) الى الناس اي أهل الدنيا أجمعين وليس خاصا بالآثم والكفور ولا تعليلا للنهي عن إطاعتهما كما قالوا فقد ورد نفس التعبير خطابا للناس قال تعالى (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ)[6] وإنّما الغرض منه التقليل من شأن الناس وعدم الإهتمام بمعارضتهم لجهود التبليغ الديني.
والعاجلة كناية عن الدنيا والتعبير عنها بهذا الوصف يشعر بأنّ السبب في حبّ الانسان للدّنيا هو استعجاله كما قال تعالى (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا)[7] فهو يحبّ أن يصل الى نتيجة عمله سريعا ولا يُعجبه الانتظار الى زمان بعيد في هذه الحياة فضلا عن الانتظار الى مرحلة اُخرى من الكون وحياة اخرى يوعد بها. وهذا الاستعجال والتعلّق بالدنيا هو منشأ الشرور في الارض كما في الحديث (رأس كل خطيئة حب الدنيا).[8]
وكما قال هناك (وتذرون الآخرة) قال هنا (ويذرون وراءهم يوما ثقيلا) ومن هنا يتبين أنّ المراد بتركه وراءهم هو عدم الإهتمام كما هو المراد بالترك المطلق في تلك الآية وتوصيف اليوم بالثقل بمعنى أنّه يوم صعب على الانسان مليء بالمخاطر فكأنّه حِملٌ ثقيل يحمله.
والآية بمجموعها إخطار للانسان المقصود في كل هذه السورة بالتنبيه ولذلك سميت به بأن لا يغترّ بما يجده من زينة وملذّات في هذه الحياة فإنّ وراءه يوما صعبا لا بدّ من التحضير له فمثل الانسان في هذه الحياة كقافلة نزلت في مرتع خِصب وأنهار ومزارع وأشجار وفواكه ومناظر خلّابة فاشتغلوا بالتلذّذ والنظر والابتهاج بها فناداهم القائم باُمورهم بأن القصد من المكوث هنا جمع أكثر ما يمكن من الزاد والماء لطريق طويل أمامنا لا نجد فيه ماءا ولا زادا ولكن القوم غافلون ولا يعلمون أنّ الوقت يداهمهم وهم لم يتمكّنوا من إحراز ما يكفيهم بل ربما أعرض بعضهم بالمرّة فنودي فيهم بالرحيل وحيل بينهم وبين ما يشتهون واُسقط في أيديهم يوم لا ينفع الندم.
نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ... كان الكلام في الآية السابقة عن عدم اهتمام الانسان بالآخرة نتيجة عدم إيمانه بها واستبعاده لها حتى من كان يظهر الايمان بل هو مؤمن واقعا ولكن الغالب منهم لا تطمئنّ نفسه بما يقال عن الآخرة وهذه الآية ترفع الاستبعاد بأنّ الخلق الأوّل ايضا من الله تعالى مع أنّ المفروض أن يكون أصعب فتقديم الضمير (نحن) للتأكيد على الفاعل. وهذا نظير قوله تعالى (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ).[9]
وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ... شددنا اي أحكمنا. والأسر: الحبس والإمساك كما في معجم المقاييس وفي العين (أسر فلان فلانا: شده بالوثاق) والإسار القِدّ الذي يُربط به الاسير.
والمفسرون قديما وحديثا استبعدوا ــ في الغالب ــ إرادة المعنى الظاهر فحاولوا تأويل الجملة فقيل: المراد قوّينا وأحكمنا خلقهم. وقيل: أحكمنا مفاصلهم. وقيل: أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب. وقيل جعلناهم أقوياء. وقيل كلفناهم بالأمر والنهي كيلا يتجاوزوا حدود الله كما يشدّ الأسير بالقِدّ لئلا يهرب.
وهذا المعنى الاخير أقرب الى المعنى الظاهر من اللفظ ولكن الظاهر أنّه لا حاجة الى أيّ تأويل فلا مانع من أن يكون المراد كون الانسان تحت السيطرة التامة وأن الله تعالى يميتهم متى شاء وهو المراد بالجملة التالية.
ويلاحظ أن الآية مشابهة في المضمون لقوله تعالى (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ).[10]
ومنه يظهر أنّ هذه الآية تتعرض لرفع الاستبعاد عن إعادة الحياة يوم القيامة فيكون قوله (وشددنا أسرهم) في موضع (نحن قدّرنا بينكم الموت) في تلك الآية ويكون المراد بشدّ الأسر إحكام أسره ــ بالمعنى المعروف ــ بقوانين الكون وسنن الطبيعة وهي محكومة بإرادته تعالى فالانسان ليس حرّا طليقا كما يتوهم بل هو أسير مشدود الى الطبيعة محكوم عليه بالموت متى أراد الله تعالى وهو مقدمة لبيان إعادته يوم القيامة.
وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا... اي بدّلنا منهم أمثالهم فوضعنا الأمثال في مواضعهم والظاهر أنّ المراد به تبديل هذه الأجسام بأجسام اُخرى تتجدد يوم القيامة بإحياء الموتى.
ولا ينافي ذلك جسمانية المعاد وما يستظهر من النصوص من أنّ تلك الاجسام هي هذه بعينها فإنّ الصورة الحالية تفنى لا محالة وما يعاد صورة اُخرى وان كانت بنفس المادة. ولعل قوله تعالى (تبديلا) يشير الى ذلك فانه إشارة الى أنه نوع خاص من التبديل لا كما يتوقع.
وتعليق هذا التبديل بالمشيئة لا ينافي حتمية الإحياء فإنّه تعليق بالظرف اي يقع التبديل في ظرف المشيئة ولا يعلمه الا الله تعالى.
وفي الميزان وغيره أنّ المراد إماتة قرن وإحياء آخرين. وهو ما يعبّر عنه بتغيير الاجيال ولكنه بعيد جدا لأنه أمر طبيعي مستمرّ بصورة تدريجية ولا يحصل في موعد خاص حتى يعلّق بظرف المشيئة مضافا الى أنّه يبقى الكلام في موضع هذه الآية من السياق والغرض منها.
وقال العلامة قدس سره انها لدفع توهم (أنهم بحبهم للدنيا وإعراضهم عن الآخرة يعجزونه تعالى ويفسدون عليه إرادته منهم أن يؤمنوا ويطيعوا فأجيب بأنهم مخلوقون لله خلقهم وشدّ أسرهم وإذا شاء أذهبهم وجاء بآخرين فكيف يعجزونه وخلقهم وأمرهم وحياتهم وموتهم بيده).
ولكن من الواضح أن الآية السابقة لا تتعرض لهذا المعنى ولا تشير اليه مع أنّ حبّ العاجلة لا يختص بالكفار كما قال المفسرون وقد بيّـنّا بوضوح أنه أمر طبيعي وحالة للبشر بصورة عامة حتى المؤمنين.
وقيل: ان المراد لو شئنا لأهلكناهم وخلقنا خلقا آخر مثلهم كقوله تعالى: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ).[11]
والصحيح في هذه الآية أنّ المراد بها تهديد نوع الانسان بأن لا يتوهم أنّ الله تعالى بحاجة اليه فهو الغنيّ المطلق ولو كان هناك ضرورة لمن يقوم بدور الانسان في الكون فإنّه قادر على أن يزيل هذا النوع من الوجود ويأتي بخلق جديد لا يكون مثله وأين هذا من الآية التي نفسرها؟! وأمّا إهلاك هذا القوم والاتيان بجيل جديد فهو ما مر الكلام حوله.
فالظاهر أنّ المراد بهذه الجملة إحياء الموتى كما أنّه هو المراد في الايات التي نقلناها عن سورة الواقعة فإنّ الانشاء فيما لا تعلمون الإحياء يوم القيامة وهو عطف تفسير على قوله (نبدل امثالكم) ولذلك استشهد عليه بالنشاة الاولى.
والله تعالى يعبر عن إحياء الموتى يوم القيامة بخلق المثل كما قال (وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ..)[12] وكذلك قوله تعالى (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ..).[13]
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا... عود على بدء كما هو الحال في كثير من السور فهذا المقطع يجمل الغرض من القرآن او من السورة المباركة وبعد أن ذكر في صدرها أنه تعالى هدى الانسان الى السبيل الذي يبلغ به رضوانه تعالى إمّا شاكرا وإمّا كفورا أجمل هنا أنّ هذه السورة او هذا القرآن تذكرة له لعله يسلك هذا السبيل.
وقوله تعالى (هذه) إشارة الى السورة او الى آياتها او الى آيات القرآن ليناسب التأنيث اللفظي كما قالوا. ويمكن أن تكون اشارة الى القرآن ويكون التأنيث باعتبار لفظ الخبر فانه مؤنث.
والتذكرة مصدر كالتذكير ويقتضي ذلك أن هذه امور يعرفها الانسان بفطرته فهي مما يملي عليه ضميره اي إطاعة الرب والوفاء بما عاهد الله عليه وإطعام المسكين وكل ما اُشير اليه في هذه الآيات او غيرها من آيات القرآن الكريم ولكنه ينسى او يتناسى دعوة الضمير فينزل الله تعالى ــ لرحمته به ــ ما يذكّره ويوقظ ضميره.
وقوله (فمن شاء...) متفرع على كون هذه الآيات تذكرة فانها تذكّره بالسبيل الذي يوصله الى رضا ربه ونيل ثوابه ويتفرع عليه أنه يبقى الامر باختياره فاذا شاء أن يتخذ في حياته طريقا يوصله الى رضا ربه اتخذه ونال ثوابه.
ومفعول (شاء) محذوف تدل عليه جملة الجزاء اي من شاء أن يتخذ السبيل اتّخذه فالمراد أنّ السبيل واضح بعد هذا ولا يبقى الا اختيارك. وتنكير السبيل لعله للدلالة على كفاية أن يتخذ ما يمكنه من السبيل الى رضا ربه فان الوصول الى الرضا الكامل من شأن الكاملين فحسب.
والمراد بالسبيل الى الله تعالى متابعة عباده المقربين وهي معنى الولاية وقد قال تعالى (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا)[14] فاذا ضممنا هذه الآية الى قوله تعالى (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)[15] تبيّن أن من السبيل المودة في قربى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وهي لا تحصل في خِضَمّ هذه الاختلافات والمشاحنات الا بمتابعتهم والابتعاد عن سائر السبل وهذا هو المناسب لجوّ السورة المباركة وهي سورة اهل البيت عليهم السلام كما أسلفنا.
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ... يؤكّد القرآن دائما على هذا المضمون كلّما علّق الامر على مشيئة الانسان كي ينتبه الى أنّه ليس حرا طليقا كما يتوهم بل يتحكّم في إرادته ما خلقه الله تعالى من عوامل داخلية وخارجية ذاتية ومكتسبة فعليه أن يبذل جهده لمقاومة ما يدعوه من العوامل الى اتّخاذ طريق الضلال ويتوسّل في ذلك الى ربه فكل الامور بيده وتأثير تلك العوامل ايضا طوع إرادته فلا يمكن أن يشاء الانسان أمرا ويتخذ سبيلا صحيحا او خاطئا الا بإرادته تعالى.
ولكنه تعالى لا يشاء فعل العبد من دون ان يشاءه العبد بحيث يشاء المعلول من دون تحقّق العلة والسبب فيكون العبد مجبورا بل يشاء الفعل عن طريق مشيئة العبد. ويشاء مشيئة العبد ايضا.
وليس معنى ذلك أنه مجبور في إرادته كما يقال بل هو مختار ولكنّ اختياره بيد الله تعالى فهو الذي يمدّه بالاختيار والارادة والتحكّم فيها كما يمدّه بالقدرة والطاقة فاذا لم يشأ الله تعالى أن يكون الانسان مختارا وسلب منه الارادة فانه لا يتمكن من التحكم في إرادته وليست إرادته مستمرة الى أن يشاء الله سلبه كما ربما يتوهم بل استمرارها منوط بمشيئته تعالى كأيّ حادث آخر. فالانسان حر ولكن حريته تحت السيطرة.
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا... الظاهر أنه تعليل للجملة السابقة ومعناه أنه تعالى أراد استمرار اختيار الانسان وقدرته على التحكّم في الارادة بخلاف غيره من المخلوقات لانه تعالى مع كونه عليما بما يستتبع هذه الارادة وهذا الخَلق من فساد في الارض بل الكون الا أنه حكيم فبمقتضى حكمته وحسن تدبيره أراد أن يخلق هذا الموجود المختار لما يترتب على صلاح بعضهم وهم المتقون الصالحون والعباد المقربون من خير في الكون لا يعلمه الا الله تعالى.
ولذلك يقال ان محمدا وآل محمد صلوات الله عليهم هم العلة الغائية من الخلق.
وقوله تعالى (كان) منسلخ عن الدلالة على الزمان وانما يفيد تأكيد المضمون ومثله كثير في القرآن وغيره كقوله تعالى (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا)[16] ويمكن أن يكون الاتيان به لتتحد أواخر الآيات بكون الخبر منصوبا.
وقيل إن هذه الجملة تعليل للآية التالية وهو بعيد عن السياق.
يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا... يبدو أنّ هذا متفرع على علمه تعالى وحكمته بمعنى أنه حيث يعلم ما يترتب على اختيار الانسان من مفاسد ومصالح فإنه لم يتركه يفعل ما يشاء من دون تبعة وجزاء بل يدخل من يشاء أن يرحمه في رحمته وهو لا يشاء جزافا وانما يشاء ذلك بالنسبة لمن لم يصدر منه اي ظلم بقرينة مقابلته للظالمين كما قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[17] وهم المعصومون فهؤلاء يدخلهم في رحمته والتعبير يوحي بأنه تعالى يغمرهم برحمته. والظلم وضع الشيء في غير موضعه. وهذه العبارة ايضا تناسب جوّ السورة المباركة الخاصة بأهل البيت عليهم السلام.
وأعدّ للظالمين عذابا أليما والظلم كما قلنا وضع الشيء في غير موضعه والمراد هنا المواضع التي حدّدها الشرع فكل مخالفة للشرع ظلم وهذا العنوان يشمل غير المعصومين بأجمعهم تقريبا وليس معنى الآية أنه تعالى يعذّب جميعهم وانما يستحقون عذابا ولذلك قال وأعدّ للظالمين ويختلف العذاب باختلاف الظلم كل حسب ظلمه ولكنه مهما كان فهو أليم لأنه في الآخرة وعذاب الله تعالى أليم مطلقا.
قال الزجاج: (نصبَ الظالمين لأنَّ ما قبله منصوبٌ أي يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين، ويكون أعدَّ لهم تفسيراً لهذا المضمر).[18]
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عباد الله المخلصين محمد وآله الطاهرين.
[1] الفرقان: 32
[2] يونس: 109
[3] المائدة: 67
[4] الانبياء: 20
[5] الحجر: 97- 99
[6] القيامة: 20- 21
[7] الاسراء: 11
[8] الكافي ج2 ص315 باب حب الدنيا ح1
[9] ق: 15
[10] الواقعة: 58- 62
[11] ابراهيم: 19
[12] الاسراء: 98- 99
[13] يس: 81
[14] الفرقان: 57
[15] الشورى: 23
[16] الاسراء: 93
[17] الانعام: 82
[18] معاني القرآن على ما في المكتبة الشاملة