مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا... هذه الآية وما بعدها تفسّر التفجير كما أشرنا اليه ولذلك لم يفصل بينهما بالواو ونحوها فكأنّ سائلا يسأل كيف يفجّرون العين؟ فأجاب: يوفون بالنذر...

والنذر المصطلح هو ما يوجبه الانسان على نفسه ويجعله حقّا للّه تعالى عليه ولذلك كانت صيغته الشرعية (للّه عليّ كذا..). ولكنه في أصل اللغة لا يختص به بل يشمل كل عهد.

والظاهر أنّ المراد هنا بوفائهم بالنذر الوفاء بما أوجبوا على أنفسهم او وجب عليهم من عهود الله تعالى كما قال تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[1] والنحب: النذر. والمراد به بيعتهم التي باعوا بها انفسهم للّه كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ..).[2]

فالحاصل أنّ المراد بإيفائهم بالنذر إلتزامهم بما عاهدوا الله عليه، وأمّا الوفاء بالنذر المعروف فليس شيئا خاصا بهم بل عامّة الناس حتى لو لم يلتزموا بأحكام الله تعالى يلتزمون بالوفاء بنذورهم تخوفا من عواقب الدنيا، بل ربما لا يكون لأصل النذر رجحان في الشرع فاستحقاقهم لهذا الثناء من جهة وفائهم بعهد الله وفاءا تامّا لا يحصل الا من المعصومين عليهم السلام.

وللّه على الانسان عهود كثيرة ومنها العهد الأزلي الذي اُودع في فطرة الانسان كما قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا..)[3] فالوفاء به يستلزم أن لا يتخذ الانسان ربّا غيره تعالى فلا يطيع طواغيت الارض ولا يتبع أحكامهم ولا يتّبع هواه إن خالف الشرع.

والإيفاء أوكد من الوفاء. وقوله (ويخافون..) إشارة الى تورّعهم في جانب المحرّمات فيبتعدون عن كل ما يحتمل فيه أن يجرّ الى العقاب او يبعدهم عن رضوانه تعالى.

وظرف الخوف الدنيا وأمّا في الآخرة فهم آمنون فقوله (يوما) مفعول وليس ظرفا وهم لا يخافون نفس اليوم وإنّما يخافون من شرّه المستطير، وهو بمعنى المنتشر فالشرّ في ذلك اليوم ليس خاصا بأحد ولا بقوم بل هو منتشر في الناس قلّ منهم من لا يصيبه.  

وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا... الضمير في (حبّه) يعود الى الطعام اي يطعمون الغير من طعام يحبّونه ويشتهونه او يحتاجون اليه لجوعهم فهناك كثير من الناس يطعمون ما زاد من طعامهم الذي لا يحتاجون اليه او ما لا يحبّون من الطعام وقد قال تعالى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ..).[4]

وقيل: الضمير في (حبّه) يعود الى الله تعالى وهو بعيد لأنّ قصد التقرّب مذكور في الآية التالية ولأنه لو كان كذلك كان ذكر الطعام زائدا اذ هو معلوم من (يطعمون) فالإتيان بالمفعول اي الطعام من أجل ارجاع الضمير اليه. وسيأتي ذكر السبب في حب اهل البيت عليهم السلام للطعام المذكور.

والمسكين قيل إنه أشدّ حالا من الفقير وقيل بالعكس. واليتيم: الطفل الذي فقد أباه. والأسير: المقبوض عليه. وهو في الاصل بمعنى من شُدّ رِباطه بإسار وهو القِدّ وكل ما يُربط به ثم اُطلق على من اُخذ وقبض عليه وان لم يشدّ يداه.

وذكر الأسير مما يعزّز كون الآيات مدنية اذ لم يكن في مكّة أسير يطلب الطعام وإنّما كان في المدينة من الأسرى الذين اُسروا في الحرب واُودعوا عند بعض المسلمين للاحتفاظ بهم والإنفاق عليهم فربّما كان المسلم فقيرا لا يتمكّن من إشباعه فكان الأسير يخرج الى مجامع المسلمين او آحادهم يطلب الطعام لإشباع نفسه.

ولكن القوم فسّروا الأسير بمن قيّد من ضعاف الناس الذين آمنوا في مكة وهو بعيد اذ كانوا يقيّدونهم بالقيود ويحبسونهم ولو كانوا أحرارا وكان المؤمن يطعمهم فهو لا يطعمهم باعتبار الفقر والجوع بل لأنّ المؤمنين في مكة كانوا اُسرة واحدة. 

ثم إنّ سياق الآية يقتضي أنّ موردها قضية خاصة وليس شأنا عامّا اذ لا علاقة بين الوفاء بالنذر وإطعام الطعام اذا فسّرنا النذر بالمعنى المصطلح، وأوضح من ذلك أنّ الإطعام مندوب مطلقا من دون حاجة الى اجتماع المسكين واليتيم والاسير وليس معنى الآية إطعام كل مسكين ويتيم واسير والا لقال ويطعمون الطعام المسكين واليتيم والاسير ليحمل على الجنس او المساكين واليتامى والأسرى فالاتيان بالنكرة للدلالة على فرد خاص من كل صنف حضروا في ذلك الوقت فهو إشارة الى قضية خاصة.

وهناك فرق بين أن تقول أطعم فقيرا وقولك أطعمت فقيرا فالاول لا يقصد به فقير خاص بخلاف الثاني وهو واضح. ولا يكاد ينقضي عجبي من القوم أنّهم كيف فسروا الآية بالمعنى العام؟! وكيف علّلوا التنكير في الأوصاف المذكورة اذ لم أجد من أحد منهم شيئا في هذا الموضوع؟! بل ولا رأيت من الآخرين الاستشهاد بذلك ردّا عليهم.

ومنه يظهر أنّ المضارع هنا لا يعني الاستقبال ولا الاستمرار بل يعني حال نزول الآية فهم في هذا الحال يوفون ويطعمون وبذلك يفجّرون العين في الجنة.

وقد ورد في روايات الفريقين ما يدل على أنّ القصة حدثت لأمير المؤمنين وفاطمة وابناهما عليهم سلام الله وفي بعضها اُضيفت خادمتهم فضة رضوان الله عليها ولكن في كيفية القصة اختلاف في الاحاديث فمنها ما يستبعد وقوعه وهو المعروف من صياغة القصة وقد رواها في مجمع البيان هكذا قال:

(قد روى الخاصّ والعامّ أنّ الآيات من هذه السورة وهي قوله «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ» إلى قوله «وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً» نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وجارية لهم تسمى فضة وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وأبي صالح والقصة طويلة جملتها أنهم قالوا: مرض الحسن والحسين فعادهما جدهما ووجوه العرب وقالوا: يا أباالحسن لو نذرت على ولديك نذرا؟ فنذر صوم ثلاثة أيام إن شفاهما الله سبحانه، ونذرت فاطمة عليها السلام وكذلك الفضة فبرءا وليس عندهم شي‏ء، فاستقرض علي عليه السلام ثلاثة أصوع من شعير من يهوديّ ورُوي انه أخذها ليغزل له صوفا، وجاء به الى فاطمة فطحنت صاعا منها فاختبزته وصلى علي عليه السلام المغرب وقرّبته إليهم فأتاهم مسكين يدعوهم وسألهم فأعطوه ولم يذوقوا الا الماء، فلما كان اليوم الثاني أخذت صاعا وطحنته واختبزته وقدّمته الى علي عليه السلام فاذا يتيم بالباب يستطعم فأعطوه ولم يذوقوا الا الماء، فلمّا كان اليوم الثالث عمدت الباقي فطحنته واختبزته وقدّمته الى علي عليه السلام فاذا أسير بالباب يستطعم فأعطوه ولم يذوقوا الا الماء، فلما كان اليوم الرابع وقد قضوا نذورهم أتى علي ومعه الحسن والحسين عليهم السلام الى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وبهما ضعف فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ونزل جبرئيل بسورة هل أتى).

وهذه نسخة مختصرة ومحسّنة من هذه الصيغة للقصّة والأصل فيها يشتمل على أشعار غريبة دارت بين أمير المؤمنين والزهراء سلام الله عليهما في كل مرة حضر السائل يطلب شيئا والغرابة فيها هو عدم تعارف مثل ذلك في المحاورات وقد وردت الصيغة مفصّلة مع الأشعار في بعض كتب العامّة ورواها الصدوق قدس سره بأشعارها في أماليه بطريقين أحدهما عامي والآخر ضعيف جدا في طريقه الحسين بن مهران وهو واقفي ضعيف ورد ذمّه في رواية طويلة عن الامام الرضا عليه السلام.

ورواها باختصار ايضا الزمخشري في الكشاف وبعض آخر من العامّة والخاصّة وهذه الصياغة للقصة مستبعدة من جهات عديدة:

منها الاهتمام بالوفاء بالنذر.

ومنها أصل رجحان النذر وقد مرّ بعض الكلام فيه في تفسير قوله تعالى (يوفون بالنذر).

ومنها صوم الحسنين عليهما السلام وهما طفلان مريضان.

ومنها بقاء اهل البيت عليهم السلام ثلاثة ايام جياعا واستبعاد ان لا يتمكّن امير المؤمنين عليه السلام من الإنفاق على أهله ولو بالخبز والتمر مثلا.

ومنها التصدق بطعام خمسة اشخاص او ثلاثة لفقير واحد وغير ذلك.

ولكنّ القصّة مما لا يمكن إنكار أصلها ومثل هذا الاختلاف في النقل يحدث في كثير من الوقائع التاريخية القطعيّة من قبل القصّاصين يبتغون بذلك رواج بضاعتهم في سرد القصص بكيفية مثيرة في جميع الحوادث التاريخية.

وقد اشتبه الامر على كثير من الأعلام فحسبوا كلام القصّاصين من التاريخ ومنها ما حدث في مأساة كربلاء فهناك أحاديث وروايات كثيرة وضعت في هذا الشأن من اجل شحذ المشاعر وجذب القلوب وإبكاء الناس فقصد الوضّاعون التقرب الى الله بكذبهم وهو كثير في وضع الاحاديث ولكن ذلك لا ينقص من قيمة اصل القصّة المعلومة بالاجمال شيئا.

وهناك روايات اخرى تنقل القصة بوجوه عديدة ولكنها ضعيفة السند جدا وغريبة المضمون ايضا ورد بعضها في تفسير الفرات.

وافضل صيغة للقصّة فيما رأيت ما رواه القمي في تفسيره قال (حدثني أبي عن عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد الله عليه السلام قال كان عند فاطمة عليها السلام شعير فجعلوه عصيدة، فلما أنضجوها ووضعوها بين أيديهم جاء مسكين، فقال المسكين رحمكم الله أطعمونا مما رزقكم الله، فقام علي عليه السلام فأعطاه ثلثها، فما لبث أن جاء يتيم فقال اليتيم رحمكم الله أطعمونا مما رزقكم الله، فقام علي عليه السلام فأعطاه ثلثها الثاني، فما لبث أن جاء أسير فقال الأسير يرحمكم الله أطعمونا مما رزقكم الله فقام علي ‏عليه السلام فأعطاه الثلث الباقي، وما ذاقوها فأنزل الله فيهم هذه الآية إلى قوله وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً في أمير المؤمنين عليه السلام وهي جارية في كل مؤمن فعل مثل ذلك لله عزّ وجل).

وهذا الحديث يعتبر صحيحا على مبنى جمع كثير من الاعلام الا أن استناد كتاب التفسير الموجود بأيدينا الى علي بن ابراهيم غير ثابت لأن الراوي عنه وهو العباس بن محمد بن القاسم لم يوثّق ولكن القصّة بهذا النقل لا يرد عليها شيء من الاشكال فهي لا تشتمل على نذر ولا على مرض الحسنين عليهما السلام ولا على الصوم ويتبين منها وجه حبّ الطعام وأنّه ليس من الجوع وعدم وجود طعام لديهم بل كونه طعاما فاخرا أحبّوا تناوله ولم يدفعوا كلّ طعامهم لفقير واحد بل دفعوا ثلثه لكل واحد منهم.

وما ورد في آخر الحديث من أن الآيات تجري في كل مؤمن فعل مثل ذلك لا ينافي الاختصاص بأهل البيت عليهم السلام لأنّ القصد منه أنّهم ما نالوا ذلك الا بفضل عملهم وإخلاصهم فلو فرض تحقّق مثل ذلك لغيرهم نال نفس الثواب بل هذا الذيل يدلّ على أنّ الآية نزلت خاصّة في شأنهم عليهم السلام ولو كانت عامّة لم تكن حاجة للتنبيه على جريانها في كل مؤمن فعل مثل ذلك.

مضافا الى أنّه لم يظهر كون هذا الذيل من تتمّة الحديث ولعله مما ألحقه اليه بعض الرواة وهذا الاحتمال يسري في كثير من ذيول الروايات المنقولة عن الكتب القديمة لعدم الفصل فيها بين أصل الحديث وما يعلّق عليه من الرواة او صاحب الكتاب خصوصا في مثل هذه العبارة لعدم تناسقها فقد مر قوله (فانزل الله فيهم هذه الآية..) ثم كرّر أنّها في امير المؤمنين عليه السلام مما يثير الشك في أنّه ايضا مضاف الى اصل الحديث.

ويمكن الاعتراض على ما ذكرناه من أنّ الآية خاصة بهم عليهم السلام برواية معتبرة ورد فيها الاستشهاد بالآية الكريمة مما يمكن أن يوهم عموم الآية وعدم اختصاصها بالمورد وهي صحيحة معمر بن خلاد عن ابي الحسن الرضا عليه السلام قال: ينبغي للرجل أن يوسّع على عياله كي لا يتمنّوا موته وتلا هذه الآية (ويطعمون الطّعام على حبّه مسكينا ويتيما وأسيرا) قال: الاسير عيال الرجل... الحديث[5]

والجواب أنّ الظاهر من الحديث أنّ الاستشهاد بالآية يبتني على أن الحكم الوارد فيها وان كان خاصا بهذا المورد وهذه القصة الا انه يستند الى سبب عام وحكم عام وهو استحباب التصدّق على الأسرى مطلقا ويبتني ايضا على التوسّع في معنى الاسير بحيث يشمل العيال باعتبار أنهم لا يتمكّنون من الاسترزاق الا بما يأتيهم من قبل الزوج او الاب كما هو الحال في الأسرى في ذلك العصر.

وهذا من موارد الاستدلال بالقرآن على ما لا يظهر لعامة الناس من اللفظ وهو كثير في روايات اهل البيت عليهم السلام.

فإن قيل: ما هو الدليل على أصل ثبوت القصة ونزول الآيات في شأن أهل البيت عليهم السلام اذا كانت القصة المشهورة غير منقولة في مصادرنا المعتبرة وسند تفسير القمي غير معتبر ايضا؟

نقول اولا: إنّ الآيات بنفسها تدلّ على أنّها نزلت في قصّة خاصّة ولا يراد بها العموم كما أوضحناه في تفسير قوله تعالى (مسكينا ويتيما واسيرا) ولم يُذكر لها شأن نزول آخر.

وثانيا: أنّ ما ذكرناه من أنّ الآيات ليست بشأن الأبرار بل بشأن عباد الله وهم المقربون يدلّ ايضا بوضوح أنّها ليست بشأن أحد غيرهم عليهم السلام.

وثالثا: أنّ أصل النزول بشأنهم مما اتفق عليه علماء الامامية بل ورد في تعابيرهم أنّ ذلك مما اتفقت عليه روايات العامة والخاصة مما يدل على أنّ هناك روايات كثيرة بهذا الشأن عن طرقنا ايضا وعدم وجودها في المصادر الواصلة الينا لا يدلّ على الانتفاء من الاساس فهناك كتب كثيرة من آثار الشيعة لم تصل الينا كما يظهر ذلك بمراجعة فهارس المصنفات.

قال الشيخ المفيد قدّس الله نفسه (وقد شهد بذلك له (يقصد أمير المؤمنين عليه السلام) القرآن في قوله تعالى "ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا" وكان هو المعنيّ بذلك في هذه الآية على اتّفاق العلماء بتأويل القرآن).[6]

وقال السيد المرتضى قدّس سره (واتفقت الرواة من الفريقين الخاصة والعامة على أنّ هذه الآية بل السورة كلها نزلت في امير المؤمنين وزوجته فاطمة وابنيه عليهم السلام).[7]

وقال الشيخ الطوسي في التبيان (وقد روت الخاصة والعامة أنّ هذه الآيات نزلت في علي عليه السلام وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فإنهم آثروا المسكين واليتيم والأسير ثلاث ليال على إفطارهم وطووا عليهم السلام ولم يفطروا على شي‏ء من الطعام فأثنى اللَّه عليهم هذا الثناء الحسن وأنزل فيهم هذه السورة وكفاك بذلك فضيلة جزيلة تتلى الى يوم القيامة وهذا يدل على أنّ السورة مدنيّة).

وقد مرّت عبارة الشيخ الطبرسي في مجمع البيان وهي (قد روى الخاص والعام أنّ الآيات من هذه السورة وهي قوله «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ» إلى قوله «وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً» نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وجارية لهم تسمى فضة وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وأبي صالح).

وقال ايضا (قال أبو حمزة الثمالي في تفسيره حدثني الحسن بن الحسن أبو عبد الله بن الحسن أنها مدنيّة نزلت في علي وفاطمة السورة كلها).

وفي ذلك كفاية لإثبات أنّ الأمر واضح لدى الشيعة الامامية وأمّا العامة فقد رووا رواية في ذلك مع أشعار موضوعة ملفّقة تنسب الى أمير المؤمنين وفاطمة عليهما السلام والكذب واضح من الرواية والشعر وعلى هذا الأساس تهجّموا على أصل الحديث بأنّه موضوع وأنّ هذه الآيات عامّة ولم ترد في شأن خاص.

إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا... الشُكور مصدر كالشُكر وهو عرفان الاحسان والثناء على المحسن. وحيث ان الجملة لم تبدأ بالقول بأن يقول مثلا (قالوا انما نطعمكم) يبدو أنها تحكي حالهم وليست من كلامهم.

وقد صرّح بذلك في عدّة روايات منها ما في أمالي الصدوق (والله ما قالوا هذا لهم – اي للمسكين واليتيم والاسير – ولكنهم أضمروه في أنفسهم فأخبر الله بإضمارهم).[8]

وفي الدر المنثور بطرق عديدة عن مجاهد أنه قال (لم يقل القوم ذلك حين أطعموهم ولكن علم الله من قلوبهم فاثنى عليهم به ليرغب فيه راغب).[9]

وهذه الآية تبيّن الخصوصية المهمّة في عملهم وهو الإخلاص لله تعالى فهم لم يطعموا المستحق لجزاء ولا لشكور بل لوجه الله والتعبير بوجه الله يوحي بأنّ الهدف ليس هو الثواب ايضا بل رضاه تعالى فحسب وهناك فرق شاسع بين من يفعل الخير للثواب ومن يفعله طلبا لرضوان الله.

ووجه الله ذاته كما قال تعالى (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[10] وقد مرّ بعض الكلام حوله في تفسير سورة الرحمن وقلنا بأنّ المراد بوجه ربّك هو ذاته تعالى ولو كان غيره لم يوصف بأنه ذو الجلال والاكرام.

إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا... تعليل لعدم توقّعهم جزاءا ولا شكورا فهم لا يهمّهم الا ما يأتي من قبل ربّهم والإطعام لم يكن الا لإطفاء غضب الربّ وطلب رضاه فقولهم (من ربّنا) للتأكيد على أنّ خوفهم من عواقب يوم القيامة ليس الا من جهة أنها تحكي عن غضب الله تعالى و(يوما) مفعول وليس ظرفا والمراد ما يقع في ذلك اليوم من شدائد.

والعبوس صفة مشبّهة من (عبس) اي قطّب وجهه لغضب او ضيق صدر وإطلاقه على اليوم الشديد من التشبيه كأنّ الزمان قطّب وجهه للناس غضبا. والقمطرير: الشديد الصعب. وفي العين أنه اليوم الفاشي شرّه فيكون بمعنى أن شرّه مستطير كما مرّ. والظاهر أن الاصل فيه (قَمَط) كما في معجم مقاييس اللغة بمعنى جمع وشدّ ومنه قماط الصبيّ وإضافة الراء وتكريره للتأكيد على الشدّة. وصياغة اللفظ تدل بوضوح على نوعية المعنى.

فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا... (وقاهم) اي حفظهم من شرّ ذلك اليوم الذي خافوا شرّه وهو يوم القيامة من أن يصيبهم من شرّه المستطير فهم آمنون لا يلحقهم منه ضرر ولا يصيبهم من شره شرر. و(لقّاهم) اي جعلهم يلقون النضرة والسرور. والنضرة: البشر والبهجة في الوجه.

وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا... (ما) مصدرية. اي جزاهم بسبب صبرهم. وتنكير الجنة للتفخيم اي جنة ما مثلها جنة. والحرير معروف والمراد أنّ ملابسهم من حرير في إشارة الى رفاههم وبذخهم في الجنة حيث حرموا أنفسهم من لذّات الدنيا حتى من كثير ممّا حلّ منها تواضعا للّه تعالى وزهدا في الدنيا ومواساة للفقراء والمساكين وابتعادا عن مواضع الشبهة وعن التشبّه بأهل البذخ والترف في الدنيا.

وهذه الآية ايضا مما تدل على صحة التفسير الذي ذكرناه باعتبار أن الصبر الذي يقتضي مثل هذا الجزاء هو الصبر على الوفاء بالنذر بالمعنى الذي ذكرناه اي بالعهد الالهي الذي يقتضي تحمل كل الشدائد تقربا اليه تعالى وأما الوفاء بما ذكروه وهو صوم ثلاثة أيام فيبعد أن يكون بهذه المثابة وكذلك الاطعام وان كان مع حبهم له نعم يمكن أن يكون الجزاء مناسبا للنية وهي ابتغاء وجه الله ولكن المذكور هنا الصبر.

مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا... (متّـكئين) حال من ضمير المفعول في (جزاهم) والمتّكئ أصله من الوكاء اي الشدّ. والاتّكاء على الشيء الاعتماد عليه والمراد أنهم متكئون ومعتمدون على الأرائك وهو تعبير عن راحتهم ورفاههم وخلوّ حياتهم من كل ما يشوبه من همّ وإجهاد وتعب بل هم متفرّغون للاُنس واللّذة. والأرائك جمع أريكة وهي السرير وقيل يختصّ بما اذا كان السرير في حَجَلة ــ بفتحتين ــ وهي القبّة ودونها ستر.

والزمهرير شدّة البرد. والمراد بالرؤية معنى عام يشمل كل احساس. ومحصل المعنى أنهم لا تؤذيهم حرارة الشمس ولا شدّة البرد فهم في بُلَهْنية من العيش. وعدم رؤية الشمس قد يكون من جهة أنّه لا شمس هناك وقد يكون من جهة أنّهم دائما في ظلّ، فيكون الغرض بيان التفاف شجر الجنة وطول ظلّها.

وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا... (دانية) حال عنهم عطف على قوله (متكئين) و(ظلالها) فاعل (دانية) والضمير يعود الى الجنة ودنوّ الظلال كناية عن دنوّ الاشجار وقربها منهم فالمعنى أنّهم متكئون على الأرائك بين الأشجار القريبة منهم. والجمع بين التعبير بالظلال وعدم رؤية الشمس يوحي بوجود شمس هناك وأنّ عدم الرؤية لوجود الظلال المتقاربة والكثيفة كما هو معنى الجنة. ويحتمل أن يكون التعبير بالظلال كناية عن عدم وجود الشمس والإضحاء وأنّهم دائما في نهار ظليل والله العالم.

والقطوف جمع قِطْف بكسر القاف اي الثمر الذي آن وقت قطافه. والضمير يعود الى الجنّة او الاشجار المدلولة عليها بالظلال. وتذليلها بمعنى كونها في متناول أيديهم متى شاءوا وفي أي حال كانوا. والمفعول المطلق يؤكد المعنى أي تذليلا ايّما تذليل.

وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ... يتعرض هنا لتكريمهم في الاستضافة الالهية فالآنية التي تطاف عليهم فيها طعام او شراب من فضة وحيث حرموا أنفسهم من أواني الذهب والفضة في الدنيا امتثالا لامر الله تعالى وزهدا في زخارف الدنيا أبدلهم الله تعالى في تلك الحياة الأبدية بأواني الذهب والفضة وقد ورد ذكر الذهب في قوله تعالى (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ..).[11]  

ولكن الملفت أنّ أواني الفضة وأساور الفضة لم تذكر في نعم أهل الجنة الا هنا وكل ما ذكر في سائر الموارد من الذهب. والغريب أنّ مورد تلك الآيات بأجمعها على الظاهر عامة المؤمنين الذين عملوا الصالحات وما ذكر هنا خاصّ ــ بناءا على ما ذكرنا ــ بالعباد المقربين فكأنّ الفضة في الجنة لها ميزة على الذهب بخلاف ما في الدنيا فهل هذا ايضا من خصائص الجنة أم في تخصيصهم بالفضة سرّ آخر لا نعلمه؟

وفي مجمع البيان أنّ المراد بها تلك الفضة الشفّافة وهي التي يرى ما وراءها كما يرى من البلورة وهي أفضل من الدر والياقوت وهما أفضل من الذهب والفضة فتلك الفضة أفضل من الذهب والفضة في الدنيا وهما أثمان الأشياء. والله العالم.

وإطافة الطعام والشراب بمعنى إدارتهما بينهم ليتناول كل واحد منهم ما شاء وفاعل الإطافة الولدان المخلدون كما سيأتي ذكرهم. والآنية جمع إناء. وأصله أأنية ككساء وأكسية اُبدلت الهمزة الثانية ألفا.

والإناء – على ما قيل – وعاء الاكل والشرب والطبخ ولا يطلق على سائر الاوعية كظروف الغَسل والتخزين والحمل ولا يبعد ذلك حسب موارد الاستعمال العرفي ولكني لم أجد له أصلا في اللغة بل في الجمهرة (الذي يوضع فيه الطعام وغيره) وفي مفردات الراغب أنه ما يوضع فيه الشيء.

وأكواب جمع كوب وهو ابريق لا عروة له ولا خرطوم ويتداول في محافل الشاربين استعماله لادارة الخمر وملء الكؤوس منه وهو من الزجاج عادة ليرى فيه الخمر زيادة في اللذة والنشوة.

والقوارير جمع قارورة واختلف اهل اللغة في معناها فقيل إنّه الإناء من الزجاج وقيل إنّه نفس الزجاج وهذا يبدو من الكشاف ويؤيد المعنى الثاني قوله تعالى (قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ)[12] اي من زجاج. وتفسيرها بالإناء قيل من جهة أنه يُقَرّ فيه الماء ونحوه ولكن ابن فارس رفض ذلك في المعجم.

ومهما كان فاللفظة هنا تحتمل الامرين فالأكواب كانت قوارير اي أواني زجاجية ثم أوضح أنها من فضة والجمع بينهما لعله بمعنى أنّ تلك الأواني في صفاء الزجاج ولمعان الفضة او انها مصنوعة من المادّتين والله تعالى يخلق ما يشاء ويحتمل ان يكون المراد نفس الزجاج فالاكواب من زجاج والزجاج من فضة.

وقوله (كانت) بمعنى ان الاكواب تكونت وصنعت من القوارير اي مادة الزجاج والزجاج من فضة او من أواني الزجاج وهي في نفس الوقت من فضة. وكلمة (قوارير) الثانية بدل من الاولى. والاصل في قراءة قوارير عدم التنوين لانه غير منصرف ولكن المتداول حاليا قراءة الاولى حين الوقف بالالف وذلك لتناسب أواخر آيات السورة.

والغرض من كل هذه التفاصيل التي لم ترد في موضع آخر من ذكر أوصاف محافل اهل الجنة التأكيد على خصوصية أهل البيت عليهم السلام ومقامهم السامي في القرب لدى الله تعالى حتى في خصوصيات أواني الشرب. وكل ذلك على ما يبدو كناية عن حقائق عالية وبعيدة عن أذهاننا يتميّزون بها في أهل الجنة.

قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا... التقدير محاسبة الشيء في الكيل او الوزن او العدّ ليوافق مورد الحاجة. قالوا إنّ الضمير يعود الى الساقين الطائفين وقد مرت الاشارة اليهم في قوله (ويطاف) وأنّ المراد كون ما يصبون لهم في الكأس بمقدار حاجتهم لا يزيد ولا ينقص. ولا أرى في ذلك فضلا وميزة ليذكره الله تعالى في عداد مميزات عباده المقربين. مع أنّ الضمير المفعول ينبغي أن يعود الى الأقرب في الذكر وهو الأكواب او القوارير.

والظاهر أن الضمير الفاعل يعود الى عباد الله وأنه مثل ما مر من قوله يفجّرونها تفجيرا فهم الذين قدّروا قوارير الخمر او أكوابها بعملهم في إشارة الى أنّ هذه التعابير تحكي عن انعكاس أعمال الانسان ونواياه فبقدر ما يكون العمل عظيما وبقدر ما يكون القصد خالصا يسقى من هذا الخمر.

وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا... اي ويسقون في الجنة كأسا. والكأس لا يطلق الا مع كونه مشتملا على الخمر او هو نفس الخمر ولذلك أتى بالضمير مؤنثا. وهي خمر الجنة التي لا يصدّعون عنها ولا ينزفون. وتمزج خمرهم بالزنجبيل وهو معروف. وقال المفسرون انها سقية اخرى لهم فهم يسقون تارة بخمر مزاجها الكافور واخرى بخمر مزاجها الزنجبيل.

وقد بيّنّا أن هذا خطأ وأنّ الابرار غير العباد المقرّبين المقصودين بهذه الآيات فكأس الابرار تمزج بالكافور وكأس عباد الله تمزج بالزنجبيل لطيب رائحته وهذا ايضا مقصود وهناك فرق واضح بين تطييب الخمر بالكافور وتطييبها بالزنجبيل. وهذه ايضا قرينة اخرى على عدم شمول هذه الآيات للابرار.

ويلاحظ أنّ هذا السقي يختلف عن شربهم من عين الكافور فهناك لم يعبر عنه بالسقي ولا بالكأس بل بالشرب فليس له حدّ الا اختيارهم ولا يعلم أحد الا الله تعالى ما هي حقيقة هذه الكأس التي تخصّ العباد المقربين ولا حقيقة مزيجها.

عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا... قيل: إنّ المراد أنّهم يمزجونها بماء فيه زنجبيل وهذا الماء يأتي من عين السلسبيل. وهو خلاف الظاهر بل الزنجبيل هو نفس تلك العين او مأخوذ منها لانّ قوله (عينا) بدل منه ويحتمل أن يكون بدلا من الكأس فتكون الخمر الممزوج بالزنجبيل من تلك العين. وهذه التعابير كما قلنا تحكي عن اختلاف الدرجات فكلما كان الانسان أقرب الى الله تعالى تعالت درجته فهناك من يمزج خمره بالكافور وهناك من يمزجها بالزنجبيل.

والسلسبيل قيل: إنّه اسم للعين ولم يسمع به قبل القرآن فهو نظير ما مرّ في تفسير الكافور من الاسماء المخترعة التي تحكي عن حقائق لا مثيل لها في الدنيا. وقيل هو صفة بمعنى السائل الذي ينزل في الحلق بسهولة. وقيل: مأخوذ من السلاسة والسبيل. وقيل: من السلاسة والباء زائدة. وعلى تقدير كونه وصفا فلعل الغرض منه كما قيل الاشارة الى انه وان كان يشتمل على الزنجبيل الا انه ليست فيه لذعته ولكن صريح الآية انه اسم لا وصف.

وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا... اي يطوفون عليهم بالسقي وإنالة الطعام في الأواني المذكورة او لإسداء اي خدمة يطلبونها او لكي يزيدوا محفلهم بهاءا وجمالا. والولدان جمع وليد اي الصبي او الغلام قبل أن يبلغ.

ومخلّدون بمعنى أنهم باقون على صباوتهم فان الخلود بمعنى أصل البقاء لا يختصّ بهم فكل من في الجنة خالد فيها.

والخطاب في (إذا رأيتهم) لمن يسمع الكلام والغرض تشبيههم باللؤلؤ المنثور في إشراق وجوههم وصباحة منظرهم وتحرّكهم في المحفل بحيث يشعر به كل من يشاهدهم فهو مبالغة في التشبيه.

وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا... (ثَمّ) اشارة الى المكان اي اذا رأيت مكانهم رأيت نعيما ومعناه أنه اذا نظرت الى اي جهة في تلك الجنة تجد النعيم والملك. و(رأيت) الثاني جواب الظرف المفيد معنى الشرطية.

واتى بالنعيم والملك نكرة للدلالة على العظمة بحيث لا يمكن توصيفه بهذه الالفاظ فالنعيم نعمة مطلقة لا يشوبها اي شيء ينغّصها والملك كبير وعظيم جدا بمعنى أنهم كالملوك يأمرون ويطلبون ما يشاءون الا أنّ الملوك في الدنيا ربما يطلبون ما لا ينالون وهو كثير جدا بل لا ينالون أكثر ما يطلبونه والانسان كلما اتّسعت رقعة ملكه وسلطانه زاد طمعه وزادت طلباته وامنياته ولكن المقربين هناك ينالون كل ما يشاءون قال تعالى (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ).[13]  

عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ... اختلفت القراءات هنا والتخريج النحوي ولا نجد كثير فائدة في ذكرها والظاهر على القراءة المتعارفة أنّ قوله (عاليهم) حال عن عباد الله و(ثياب) فاعله وأنه بيان لملكهم الكبير الذي اُبهم في الآية السابقة تفخيما فهنا أوضح أنّ من شؤون ملكهم الظاهر أنّهم يلبسون الملابس الفاخرة التي كانت تتميز بها الملوك في الدنيا فمنها ثياب سندس وهو من رقائق الحرير على ما قيل والكلمة دخيلة في لغة العرب.

وقوله (خضر) صفة للثياب واللون الاخضر مما يضفي عليهم البهجة والسرور وقيل ان الملوك كانوا يلبسون الثياب الخضر و(إستبرق) معرب (استبرك) بالفارسية ومعناه الحرير الغليظ او الحرير المنسوج بالذهب. وكل من رقيقه وغليظه يستحب في نوع من الثياب كما هو واضح ومن هنا ذكر الصنفين و(استبرق) عطف على الثياب لا السندس لانه في الواقع ليس اسما لنوع من الحرير بل نوع من نسيجه وهو الغليظ.   

وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ... اي وزُيّنوا بأساور وهي جمع سوار ما تلبسه المرأة في يديها وتتزيّن به والظاهر أنه معرّب دستوار بالفارسية وقد مرّ بعض الكلام حول تخصيص العباد المقربين بالفضة في هذه السورة مع أن الاساور في سائر الموارد وصفت بأنها من ذهب.[14]

وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا... وهذ آخر ما ذكر هنا من خصائصهم والظاهر أنه أهمّها فكأنّ كل ما ذكر لم يبلغ الغاية فأعقبها بهذا الامر الخاصّ ليبيّن بوضوح أنّهم بلغوا الغاية والنهاية التي لا يبلغها أحد من البشر وهو أن الربّ جل ثناؤه يسقيهم بنفسه شرابا غاية في الطهارة وذكر عنوان الرب يوحي بأنّه تعالى ربّاهم أحسن تربية الى أن بلغوا غاية الكمال البشري وإسناد السقي اليه تعالى هو ما جعله أهمّ النعم.

وقد أخذ الشعراء هذا المعنى في كثير من الغزل العرفاني. ولعل القصد من المبالغة في كونه طاهرا أنه يطهر ويزيل كل دنس كما وصف به ايضا ماء المطر في قوله تعالى (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا)[15] وحيث إنّهم هناك بل مطلقا منزّهون من كل دنس فلعل المراد أنّه يزيل عنهم التعلق بأيّ شيء الا الله تعالى.

ولعل السر في هذا التعقيب بعد ذكر النعم الجسيمة السابقة التنبيه على أنّهم لا يجذب انتباههم شيء من النعم المادية حتى لو كانت في الجنة الا نفس التعلق بالله تعالى. والله العالم.

إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا... الظاهر أنّ هذا خطاب لهم في الدنيا ليَقِرّوا عينا به هنا قبل تنعّمهم في الآخرة وقيل إنّه بتقدير القول اي ويقال لهم...

وإقحام فعل (كان) يدلّ على أنّ كون هذه النعم جزاءا لعملهم أمر مسجّل مقطوع. وهذا غاية التكريم حيث يخاطبون بأنّ كل ما تعطونه إنّما هو باستحقاقكم وفقا لعملكم مع أنّ العبد لا يستحق على الله تعالى شيئا.

وفوق هذا كله أعلن لهم أنّ سعيهم كان مشكورا من قبله تعالى وأنّه سعي يستحق الشكر كما يفيده فعل (كان) وهذه المزيّة ايضا من أعظم النعم بل هو أعظمها مطلقا حيث يحظون بشكره تعالى فضلا عن رضاه.

وفي هذا التعبير مضافا الى التعريف بمقام أهل البيت عليهم السلام حثّ على متابعة طريقهم في العمل والتنبيه على أنّ الجزاء إنّما يعطى على السعي والعمل حتى لأولئك المقربين.

ويلاحظ أنّ هذه الآيات مع كل هذه التفاصيل التي لم ترد في غيرها حول نعم الجنة لم تذكر الحور العين مع أنّهنّ يذكرن في كل مورد وقد تنبّه لذلك بعض المفسرين وقال إنّ السرّ لعله من جهة ورودها في شأن أهل البيت عليهم السلام فلم تذكر الحور إكراما لسيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء سلام الله عليها.

 


[1] الاحزاب: 23

[2] التوبة: 111

[3] الاعراف: 172

[4] آل عمران: 92

[5] الكافي ج4 ص11 ابواب الصدقة باب كفاية العيال

[6] المسائل العكبرية  ص48 المسالة الثانية عشرة

[7] الفصول المختارة ص140

[8] امالي الصدوق ص 333

[9] الدر المنثور ج 6 ص 299

[10] الرحمن: 27

[11] الزخرف: 71

[12] النمل: 44

[13] ق: 35

[14] الكهف : 31 / الحج: 23 / فاطر: 33

[15] الفرقان: 49