فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ...
الفاء للترتب اي يترتب على ثبوت هذا الامر وهو تغير حال الانسان ما سيأتي.
والمعروف ان (لا) في (لا اقسم) زائدة وقد مر الكلام فيما سبق من التفسير حولها وقلنا ان احسن الاقوال أن يقال: إنّها كانت في الاصل لنفي القسم حقيقة لاحد وجهين:
الاول: دعوى أن الامر أوضح من أن يقسم عليه فلا حاجة الى القسم وان لم يكن واضحا لدى المخاطب الا ان القائل يدّعي الوضوح للتأكيد عليه. ونظير ذلك في المحادثات العرفية ما يقال للمخاطب لاعلامه بالاهتمام بالامر (لا اوصيك بكذا) اي لا حاجة الى الايصاء فانت معترف باهميته.
والثاني التحرّج من القسم، والتخوّف من عاقبته، مع وجود الحاجة الى القسم للتاكيد فمعنى قولك لا اقسم (اني اخاف من ان اقسم وان كان لا بدّ منه) ثم تطوّر المعنى في هذا التركيب، واستعمل في موارد اخرى قد لا تكون بتلك الوضوح او لم يكن القائل متحرجا منه كالاقسام الواردة في كلامه تعالى. والنتيجة ان (لا) اصبحت زائدة من حيث المعنى فلا تفيد النفي وانما تفيد التأكيد.
وقلنا ايضا إن القسم قد يؤتى به لإثبات أمر أو نفيه فهو في الحقيقة انشاء علاقة اعتبارية بين كرامة المقسم به وصحة ما يدّعى من النفي او الاثبات وقد يؤتى به لانشاء تعهد بفعل او ترك وهو حينئذ انشاء علاقة بين كرامة المقسم به والالتزام بهذا التعهد.
فاذا قلت: والله كان كذا فكأنك تقول: إنّ صدق كلامي مرتبط بإعظامي لله تعالى، ولذلك يعتبر الحلف كاذبا من اكبر المعاصي.
واذا قلت: والله لأفعلنّ كذا فكأنك تقول: ان التزامي بهذا الوعد مرتبط بتعظيمي للّه تعالى، ومن هنا فان المخالفة توجب الكفارة.
والسؤال هنا حول القسم الوارد في كلامه تعالى وأنه هل ينطبق عليه ما ذكر؟
قيل: انه ليس بهذا المعنى وانما معناه التأكيد فقط وذلك لأن أكثر ما يقسم به اللّه ليس مما له كرامة خاصة لديه تعالى.
ولكن الظاهر أنه لا يشذّ عن القسم الذي ينشئه الآخرون فانه تعالى يقسم بذاته المتعالية وبرسوله الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلّم وبكتابه المجيد وبالملائكة الكرام وببعض مخلوقاته في الطبيعة، وهي ايضا من حيث استنادها اليه تعالى لها كرامة.
ولعل اختيار بعض الاشياء في القسم الوارد في القرآن الكريم من جهة التناسب مع المقسم عليه كالقسم بالقرآن على رسالة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كقوله تعالى (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).[1]
ويلاحظ أنه تعالى لم يقسم بأحد من البشر في ما نعلم الا بالرسول الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلّم في قوله تعالى (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)[2]
والغرض من القسم في الاخبار بوجه عام هو التأكيد ودفع احتمال الهزل والكذب وأما في ما يقسم به الله تعالى فربما يكون الغرض التأكيد والتنبيه على اهمية ما سيخبر به بعده فإنّ القسم يهيّء السامع لتلقّي خبر مهمّ.
والشفق: حمرة الافق بعد غروب الشمس والاصل فيه الرقة فكأنه ظلام رقيق او ضياء رقيق ومن هنا اطلقت الشفقة على رقة القلب.
والمراد القسم بهذا التحول الطارئ على الافق وهو تحول متغير فالحمرة تكون متوهجة ابتداء ثم تتغير الى صفرة ثم الى بياض خفيف ثم الى ظلام متزايد تدريجا.
وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ...
(وسق) اي جمع. ومفعوله ضمير يعود الى (ما) فالتقدير (وما وسقه) اي جمعه. قيل أي ضم وجمع ما تفرق وانتشر في النهار من الإنسان والحيوان فإنها تتفرق وتنتشر بالطبع في النهار وترجع إلى مأواها في الليل فتسكن.
ولكن الظاهر أن المراد كل ما يجمعه ظلام الليل وهو كل الاشياء الموجودة في الطبيعة من الشجر والحجر والانسان والحيوان وغيرها فالمراد القسم بهذا التحول الطارئ على الطبيعة حيث كانت الاشياء واضحة بينة في النهار فصارت باجمعها متلبسة لباس الظلام والسواد وهذا تصوير أدبي لحالة الاشياء في الليل فانها في الواقع لا تتحول ولا تتغير.
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ...
الاتساق افتعال من الوسق ايضا فهو بمعنى الاجتماع والمراد – على ما في العين – الانضمام والامتلاء حين يكون بدرا وهذا التعبير يبتني على تصوير حالة القمر كأن أجزاءه المنيرة مبعثرة فتجمعها في ليالي البدر وهو تصوير ادبي ايضا.
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ...
هذا هو المقسم عليه وهو خطاب لجميع البشر بناءا على قراءة الباء بالضم واما بناءا على قراءة الفتح فالظاهر انه خطاب للانسان وقيل خطاب للرسول صلى الله عليه واله وسلم وهو غير صحيح.
وهذا هو الامر المترتب على قوله (بلى) الذي معناه انك ستحور وتتحول من حال الى حال او انكم ستتحولون.
وهنا بعد هذه الاقسام يؤكد باللام والنون المشددة انكم ستركبون حالات متغيرة وهو يؤيد ما ذكرناه في معنى الحَوْر.
والركوب يطلق على مواجهة الامور الصعبة او الفظيعة في الحياة فيقال فلان ركب الاهوال او ركب الليل كما يقال ركب او ارتكب القبائح او الجرائم.
والطبق من المطابقة ويطلق على كل شيء يطابق شيئا آخر والمقصود الحالات المختلفة والتعدي بـ (عن) يفيد التجاوز كما هو المعنى الحقيقي اي تركبون طبقا بعد ان تتركون طبقا ولعل التعبير عنها بالطبق باعتبار مطابقة بعضها لبعض في استيعاب الناس.
وقيل في الشدة والهول وهو بعيد بل هناك اختلاف في هذه المراحل قطعا.
والحاصل أن الآية تخبر الانسان انه لا يبقى على حاله كما يظن بل يركب امورا صعبة وحالات مختلفة وكل هذه الحالات متطابقة بمعنى أنها عامة تشمل اكثر الناس. والظاهر ان المراد ما يحصل له في يوم القيامة او بعد الموت لا في الدنيا.
وهناك اختلاف شديد في التفاسير قديما وحديثا في المراد بهذه الآية الكريمة.
قال الطبرسي في مجمع البيان (أي لتركبن يا محمد سماءا بعد سماء تصعد فيها عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والشعبي والكلبي ويجوز أن يريد درجة بعد درجة ورتبة بعد رتبة في المقربة من الله ورفعة المنزلة عنده وروى مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقرأ لتركبن بفتح الباء «طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» قال يعني نبيكم حالا بعد حال رواه البخاري في الصحيح ومن قرأ بالضم فالخطاب للناس أي لتركبن حالا بعد حال ومنزلا بعد منزل وأمرا بعد أمر يعني في الآخرة والمراد أن الأحوال تتقلب بهم فيصيرون على غير الحال التي كانوا عليها في الدنيا...(الى ان قال):
وقيل معناه شدة بعد شدة حياة ثم موت ثم بعث ثم جزاء وروي ذلك مرفوعا وقيل معناه لتركبن منزلة عن منزلة وطبقة عن طبقة وذلك أن من كان على صلاح دعاه ذلك إلى صلاح فوقه ومن كان إلى فساد دعاه إلى فساد فوقه لأن كل شيء يجر إلى شكله. وقيل لتركبن سنن من كان قبلكم من الأولين وأحوالهم عن أبي عبيدة وروي ذلك عن الصادق عليه السلام..)
وفي الميزان ان المراد به المرحلة بعد المرحلة يقطعها الإنسان في كدحه إلى ربه من الحياة الدنيا ثم الموت ثم الحياة البرزخية ثم الانتقال إلى الآخرة ثم الحياة الآخرة ثم الحساب والجزاء.
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ...
اي ماذا حدث لهم وهذه حالهم لا يؤمنون؟ والاستفهام لانشاء التعجب والضمير يعود الى المشركين بقرينة عدم الايمان ولان سياق الكلام حول من اوتي كتابه وراء ظهره.
والكلام في الفاء فهي للترتب ولكن السؤال ان هذا التعجب يترتب على أي شيء مما مضى ذكره؟
اختلف المفسرون في ذلك ولم يأتوا بشيء مقنع وبعضهم مرّ على الآية مرور الكرام والسر فيه انهم فسروا الايمان في الآية بالايمان بالبعث والرسالة والقرآن وحيث انه لا يوجد فيما سبق على هذه الاية ما يستتبع الايمان بالبعث والرسالة والقران فلا يوجد وجه واضح لترتيب التعجب.
وبناءا على ما ذكرنا من أن الحور بمعنى تغير الحال وأن الانسان المعجب بنفسه لا يؤمن بأن أعماله تحت مراقبته تعالى وأن هذه الاعمال تستوجب عدم استحقاقه للابقاء على النعم فالمترتب على ما مضى هو التعجب من انتفاء الايمان بأنه تحت المراقبة وأن أعماله لا يستوجب بقاء النعم.
وهو عجيب لانه لا يحتاج الا الى تأمل في ما يعمله الانسان بنفسه وما يهمله وهو على نفسه بصيرة والله تعالى منحه ضميرا صافيا يدرك به ما ينبغي وما لا ينبغي فمن العجيب بعد كل ذلك ان يبقى معجبا بنفسه ولا يؤمن بما ينتظره من ركوب الصعاب طبقا عن طبق.
وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ...
السجود هو التذلل والخضوع. والجملة معطوفة على ما قبلها ففيها التعجب ايضا اي لماذا لا يخضعون اذا تلي عليهم القرآن ولعل الوجه في التعجب أن القرآن يحدثهم بما تنطوي عليه أنفسهم وهم يشعرون بصدق آياته فالمتوقع من الانسان في هذا الحال أن يخضع ويتذلل قبولا لما يتلى عليه.
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ...
(بل) للاضراب اي انهم لا يقتصرون على عدم الايمان بهذه الحقائق الناصعة التي يسمعونها من القرآن ولا يقتصرون على ترك الخضوع والتذلل بل يكذّبون بها مع أنهم يشعرون في ضمائرهم بانها حقة فانها ليست اخبارا عن الغيب بل عما تنطوي عليه ضمائرهم.
ولم يأت بالضمير بل بالاسم الظاهر للتنديد بصفة الكفر فيهم وفعل المضارع يدل على استمرارهم في التكذيب.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ...
(يوعون) من الايعاء وهو والوعي بمعنى واحد وهو الحفظ اي والله اعلم بما يحفظونه ويكتمونه في ضمائرهم من الاسباب التي تدعوهم الى التكذيب وعدم الايمان من الحسد والكبر ومتابعة الاهواء فهم لا يؤمنون بل يكذبون بالقرآن لانه لا يوافق اهواءهم. وهذا التعبير ينطوي على تهديد واضح لهم.
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ...
هذا تهكم واستهزاء اذ لا بشارة في العذاب ولعل احد وجوه الالم في هذا العذاب هو وخز الضمير فانهم سيعترفون يوم تبلى السرائر أنهم كانوا على علم بصحة ما اخبرهم به القرآن مما في ضمائرهم وكان الاجدر بهم ان يستيقظوا عن سباتهم في هذه الدنيا.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ...
يمكن ان يكون استثناء متصلا من ضمير (فبشرهم) بمعنى أن من آمن من هؤلاء المشركين وتاب وعمل الصالحات فان له اجره.
ويمكن ان يكون منقطعا ومعنى الانقطاع انه لا استثناء عن المشركين فكلهم في عذاب اليم وانما يخرج من ذلك الذين آمنوا وهم ليسوا منهم.
والممنون بمعنى المقطوع اي اجرهم متواصل مادامت السماوات والارض فهو عطاء غير مجذوذ.
واما ما قيل من انه لا يمن عليهم بهذا الاجر فهو غير صحيح فان المنة لله تعالى عليهم جزء من النعمة وانما تقبح المنة من غيره لان غيره لا يملك شيئا فلا يحق له ان يمن على احد.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله الكريم الامين وآله الطيبين الطاهرين.
[1] يس: 2- 3
[2] الحجر: 72