مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة الفجر مكية تحذر الانسان من مغبة الطغيان على الله تعالى والطغيان على عباده في الارض وتنذره بما نزل من العذاب على طغاة الارض واشرارها وتنبهه ان ما آتاه الله تعالى من نعمة وما ابتلاه من مكاره ليس الا ابتلاء ليمحصه ويهيئه لعالم آخر يظهر فيه كوامن وجوده.

وفي هذه السورة المباركة ما يحث الانسان على الاحسان والخير وتنتهي بتحذير شديد عديم النظير من الندم في الآخرة على ما بدر منه في الدنيا ثم بخطاب عديم النظير ايضا من الله تعالى للصالحين من عباده فيه غاية اللطف والعناية.

وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ...

مر الكلام فيما يقسم به الله تعالى في عدة موارد وهنا ايضا يقسم ببعض مخلوقاته ولكن المراد في بعضها غير واضح.

اما الفجر فالظاهر انه بمعنى مطلق الفجر كما اقسم تعالى بالصبح والليل والضحى. والفجر هو بياض الصبح في بدو ظهوره. والاصل في معناه الشق واطلاقه على هذه الظاهرة بسبب ان نور الصبح يشق ظلام الليل.

ولكن قيل بان المراد به فجر يوم النحر اي عاشر ذي الحجة وقيل فجر اول ذي الحجة باعتبار انه اول فجر لليالي العشر وقيل فجر اول يوم من المحرم لانه اول السنة وقيل غير ذلك مما لا دليل عليه ولا موجب للتخصيص به.

ويمكن ان يكون الاقسام بالفجر لمناسبة الفجر الذي ينتظره الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنون اي اندحار ظلام الجاهلية وطلوع فجر الاسلام.

وهذا الامر هو المقسم عليه اي ما يسلي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين من انه تعالى سيبيد الطغاة من العرب كما اباد طغاة التاريخ وهم قوم عاد وثمود وفرعون.

واما الليالي العشر فاكثر المفسرين يرون ان المراد بها العشر الاولى من ذي الحجة وقال بعضهم في وجه التخصيص ان ظاهر الآية كونها متوالية وليس لنا عشر ليال متوالية تكون لها ميزة في الدين الا هذه الليالي.

وذهب بعضهم الى ان المراد العشر الاواخر من شهر رمضان ولو صح ما ذكر من الوجه فهذا القول اولى لان الميزة في اول ذي الحجة ليست لليالي بل للايام بل لخصوص الثامن الى الثالث عشر ولا خصوصية للعشر الاولى وانما الميزة في الليالي العشر من آخر رمضان لان منها ليلة القدر وقد ورد في فضل كل هذه الليالي وفضل القيام والعبادة فيها روايات كثيرة وان الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ما كان ينام فيها.

ولكن الشأن في احتمال عدم صحة هذا الوجه من الاساس.

وقيل المراد عشر ليال من اول المحرم لانها اول السنة.

ولا اظن ان هذه ميزة عند الله تعالى وانتهز بعضهم الفرصة لتأييد هذا القول بانها تنتهي الى عاشوراء وقد ورد في فضله الروايات وورد الحث على صيامه بل رووا روايات عديدة في فضل السعة في هذا اليوم على العيال.

وكل ما روي من الفضل فيه من صنع الوضاعين من اتباع بني امية والسر فيه واضح. ولو صح هذا القول لكان الاجدر ان يقسم بالايام ايضا لا الليالي.

ويلاحظ الفرق بين هذا القسم وغيره من المذكورات هنا حيث انه تعالى لم يذكر الليالي معرفة بل اتى بها نكرة فهي قابلة للانطباق على ليال كثيرة ولكن المفسرين ذكروا ان وجه التنكير هو التفخيم.

ولكنه بعيد لعدم وضوح المراد بها فضلا عن تعظيمها ولذلك ذهب بعضهم الى ان المراد بها عشر ليال غير متعينة من كل شهر. وهو غريب.

فالاجدر ان نبقيها على ابهامها كما اراد الله تعالى. والابهام في مثل ما يقسم به لا يضر بالمضمون. وفي القران الكريم موارد عديدة من الابهام المقصود ومنها الحروف المقطعة ومنها ايضا كثير من موارد القسم وهذا بذاته نوع من الادب الرمزي مما يجعل الانسان يتامل النص بدقة ويحاول الوصول الى اعماق المقصود والى مناسبة هذه الرموز للموضوع الاساس وهو واضح لا غبار عليه وهو هنا المقسم عليه.

واذا صح احتمال ان يكون القسم بالفجر لمناسبة طلوع فجر الاسلام وشق ظلام الجاهلية فيمكن ان يكون القسم بعشر ليال مبهمة للاشارة الى هذا الظلام المتراكم في الجاهلية وكأنها عشر ليال متوالية لم تشرق بينها الشمس ولم يطلع الفجر وانما تعقبها فجر واحد هو فجر الاسلام المجيد.

ولو صح هذا الاحتمال فالوجه في الاقسام بها هو تعقبها بفجر الاسلام لا الليالي بذاتها فانها ظلمات فهو كالقسم بالليل اذا يسر كما سيأتي ان شاء الله.

كما يمكن ان يكون القسم اشارة الى فجر ظهور الامام المهدي عليه السلام بعد ليال طويلة مظلمة من الجاهلية الحديثة.  

ولعل هذا التفسير بوجهيه افضل ما يمكن ان يقال في تفسير الاية.

واما الشفع والوتر فقد أبدع المفسرون في تأويلهما قال في الكشاف (وقد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه وذلك قليل الطائل جدير بالتلهي عنه).

وقال العلامة قدس سره في الميزان ان بعضهم أنهى الاقوال الى ستة وثلاثين قولا. وقال انهما يقبلان الانطباق على يوم التروية ويوم عرفة.

وقيل: المراد صلاتا الشفع والوتر في آخر الليل، وقيل: مطلق الصلاة فمنها شفع ومنها وتر، ورواه العامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وقيل: الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة، وقيل: الشفع جميع الخلق لقوله تعالى (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً)[1] والوتر هو الله تعالى، وورد ذلك في روايات مرسلة. وقيل: المراد الزوج والفرد من العدد لما في ضبط المقادير به من عظيم النعمة من الله تعالى. وكل ذلك مما لا دليل عليه.

واذا اردنا ان نفسر الشفع لغة فهو مصدر من شفع الشيء شفعا اذا ضم اليه مثله يقال كان فلان وترا فشفعته اي انضممت اليه لنكون اثنين. قال في معجم المقاييس (يدلّ على مقارنة الشيئين). وفي المفردات (ضمّ الشيء الى مثله). ويطلق على الزوج في مقابل الفرد من باب اطلاق المصدر على الذات. والوتر ايضا مصدر من وترت العدد اي جعلته فردا. ويطلق على كل عدد فردي كما يطلق الشفع على العدد الزوجي.

وعلى هذا فيمكن ان يكون المراد هنا المعنى المصدري بنفسه ويراد بهما فعله تعالى في الخلق فهو الذي يشفع بين الاشياء ويوترها اي يركّب الاشياء ويحلها ويفصلها وهما اساس التغيير والتحول في الكون المادي وكل ما نجده من تحولات المادة يعود الى تركيب وتجزئة.

واما تاويلها بالصلاة او خصوص صلاة الليل فبعيد جدا لعدم تشريع صلاة الليل ولا الفرائض في وقت النزول خصوصا اذا صح ما قيل انها عاشرة السور المكية.

ولولا ذلك لكان هذا أقرب تأويل يناسب المقسم عليه وهو كما قلنا تسلية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين بأنه تعالى سيبيد طغاة المشركين كما أباد قوم عاد وثمود وفرعون.

ومناسبته لهذا المعنى أن الله تعالى يمنّ على رسوله صلى الله عليه وآله وسلّم بالفتح والغلبة بسبب تهجده وصلاته وتذلـله لله تعالى.

واما مناسبته لما ذكرنا من المعنى المصدري فيمكن ان تكون من جهة التنبيه على أن الامر بيد الله تعالى فهو الذي يفرق ويوتر وهو الذي يركب ويجمع.

واما ما ذكر من انطباقهما على بعض الليالي لمجرد ان الرقم زوج او فرد فمما لا ينبغي ان يعتبر وجها للتخصيص وليس فيه ادنى مناسبة للمقسم عليه.

واقسم أخيرا بالليل والمراد به مطلق الليل. ولا وجه لتخصيصه بليل خاص وقيّد القسم بكون الليل في حال سريانه والسُّرى هو السير ليلا فكأنّ الليل بنفسه ايضا يتخذ من الظلام فرصة للذهاب والانقضاء فالمراد القسم به حال المضي نحو الزوال لا حال تمكن الظلمة كما قيل.

وعليه فالآية نظير قوله تعالى (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ)[2] وقلنا في تفسيرهما (وأقسم بالليل إذ أدبر تنبيها على أنّ ظلمات الجاهلية لا بد لها أن تنقشع أمام هذا النور الساطع الذي قد أسفر كالصبح). وبذلك يتبين التناسب بين القسم والمقسم عليه.

ولعل في التعبير بالسريان وهو السير في الليل اشارة الى ان ظلمات الجاهلية تختفي تدريجا بطلوع فجر الاسلام فكأنها تتهرب من مواجهة النور.

هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ...

الحجر في الاصل بمعنى المنع. والمراد هنا العقل كما ان العقل ايضا بمعنى المنع. ومنه عقال البعير لمنعه من السير. والعقل يمنع الانسان من السفاهة والجهالة والعمل من دون تدبير ورويّة.

والاستفهام للتقرير اي ان في ما اقسم الله به قسم بليغ للعاقل. وهذا نظير قوله تعالى (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ).[3]

ولعل السر في التنبيه على ذلك في الموردين هو غرابة القسم بما ذكر نوعا ما كما لاحظنا ذلك من ابهام المراد.

والتنكير في القسم للتعظيم فهو يؤدّي ما أدّاه قوله (عظيم) في سورة الواقعة. والتقييد بكونه عظيما لذي حجر نظير قوله تعالى (لو تعلمون).

والغرض من ذلك التنبيه على أهمية المقسم عليه فلا يتوهم السامع من كون ما اقسم به امورا متعارفة نشاهدها باستمرار في حياتنا اليومية أن الامر ليس مهما بل يجب ان تلاحظ المناسبة بين القسم والمقسم عليه.   

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ...

قيل ان هذه الآيات جمل معترضة بين القسم والمقسم عليه وهو قوله تعالى (ان ربك لبالمرصاد).

ولكن لا يبعد ان يكون المقسم عليه مقدرا تدل عليه هذه الآيات التي هي كالدليل عليه. وقد مرت الاشارة الى ان المقسم عليه المقدر جملة تدل على ان الله تعالى سيهلك طغاة قريش كما اهلك طغاة تاريخ البشرية فاستغنى عن ذكر هذا الامر بالاشارة الى ما مرّ عليهم.

ومهما كان فالاستفهام للتقرير والرؤية بمعنى العلم اذا كان الخطاب للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم كما يبدو وان كان الخطاب للجميع فلعل بعضهم رأى الآثار بعينه لانها كانت في المنطقة العربية والقوافل تراها وتعتبر بها وتعلم تاريخها ولذلك اهتم بهم القرآن الكريم ونبّه العرب على لزوم الاعتبار بشأنهم.

وقوله تعالى (كيف فعل ربك) باضافة الرب الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من جهة ان المراد بالتنبيه على ذلك تسلية الرسول والمؤمنين بأن الله ناصرهم وانه سيهلك طغاة قريش وفيه تهديد للمشركين ايضا.

و(عاد) قوم كانوا يعيشون في تلك المنطقة في قديم الزمان وكانت آثارهم باقية في عهد الرسالة قال تعالى (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ..)[4] بل الظاهر انها باقية الى الآن وانما غمرتها الرمال.

والمراد بما فعل بهم الله تعالى عذاب الاستئصال الذي نزل عليهم وقد بينها الله تعالى بقوله (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ).[5]

وقد اختلف في موضعهم، والوارد في سورة الاحقاف أنّهم كانوا يعيشون في الاحقاف، وهي جمع حقف – بكسر الحاء – اي الكثيب الرملي المرتفع الذي فيه انحناء وتعاريج.

وقلنا في تفسيرها أن توصيف المنطقة بذلك على ما يبدو بلحاظ زمان نزول الآية اذ لا يمكن أن تكون تلك الحضارة العريقة في منطقة رملية خصوصا بملاحظة ما ورد في توصيف بلادهم بقوله تعالى (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).[6]

وورد هنا انهم هم الذين بنوا مدينة ارم وانها كانت ذات أعمدة لم يخلق مثلها في البلاد. وقد اكتشفت آثار مدينة قديمة بهذا الوصف في صحراء اليمن. وهناك شواهد لعلها تدل على انها هي التي سميت بارم في القرآن الكريم.

ولكن كثيرا من المفسرين اعتبروا ارم اسم جدهم.

قال في مجمع البيان: (واختلفوا في إرم على أقوال (أحدها) أنه اسم لقبيلة قال أبو عبيدة هما عادان فالأولى هي إرم وهي التي قال الله تعالى فيهم "وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى"‏ وقيل هو جد عاد وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عن محمد بن إسحاق. وقيل هو سام بن نوح نسب عاد إليه عن الكلبي وقيل إرم قبيلة من قوم عاد كان فيهم الملك وكانوا بمهرة وكان عاد أباهم عن مقاتل وقتادة (وثانيها) أن إرم اسم بلد ثم قيل هو دمشق عن ابن سعيد المقري وسعيد بن المسيب وعكرمة وقيل هو مدينة الإسكندرية عن محمد بن كعب القرظي وقيل هو مدينة بناها شداد بن عاد فلما أتمها وأراد أن يدخلها أهلكه الله بصيحة نزلت من السماء (وثالثها) أنه ليس بقبيلة ولا بلد بل هو لقب لعاد وكان عاد يعرف به عن الجبائي وروي عن الحسن أنه قرأ بعاد إرم على الإضافة وقيل هو اسم آخر لعاد وكان له اسمان ومن جعله بلدا فالتقدير في الآية بعاد صاحب إرم).

وكل ما نقله عنهم لا اساس له من الصحة ولا دليل عليه وكل ذلك تخرص على الغيب ومن العجيب متابعة المتأخرين لهم وكأن السبب هو ظاهر لفظ الآية حيث جاء ذكر (ارم) من دون فعل او وصف يدل على ارتباط القوم به فاعتبروه بيانا لهم.

وزاد الطين بلة الاستشهاد بقوله تعالى (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى)[7] فتوهموا ان قوم عاد المذكور في القرآن قومان عاد الاولى وهم المعنيون باغلب الآيات وعاد الثانية وهم الذين كانوا بالاحقاف.

وهذا ايضا تخرص اخر على الغيب ومن الواضح من سياق الآيات ان المراد بقوم عاد في القرآن قوم واحد والتوصيف بالاولى انما هو لكونهم في العهود القديمة جدا.

ويحتمل وجود قوم اخر بهذا الاسم في العصور المتاخرة ولكن لا دليل عليه ولم يذكرهم القران بشيء.

واما ان ارم اسم لجدهم فهذا من اوهام اصحاب النسب الذين يذكرون انساب البشر الى ادم عليه السلام وهو ليس الا اختلاق وانما اوقع القوم في هذا الخطأ إباؤهم عن تقدير لفظ يصحح ارتباط البلد بالقوم فأولوا توصيف (ارم) بانها ذات العماد ان هذه القبيلة ذات اجسام طويلة كالاعمدة فالتأنيث بلحاظ كون الوصف للقبيلة والعماد بمعنى الاجسام الطويلة وقوله (التي لم يخلق مثلها في البلاد) ايضا بمعنى ان مثل هذه القبيلة لم يخلق في البلاد.

والتكلف في هذا التأويل واضح جدا ويوجب الاستغراب من اصرار القوم على متابعة الاوائل في هذا الامر كما ان اعتبار ارم هي مدينة دمشق او الاسكندرية لا يستند ايضا الى اي قرينة او دليل.

والصحيح ان الآية واضحة الدلالة على ان قوم عاد هم اصحاب هذا البناء اي ارم وهو اسم مدينة عظيمة ذات اعمدة طويلة لم يخلق مثلها في البلاد اي لم يصنع. فيمكن أن يقدر بعد قوله (بعاد) بناة ارم او صانعي ارم.

واذا صحت قراءة الاضافة ــ كما قيل ــ فالمعنى واضح اذ يجوز الاضافة الى ما بنوه.

وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ...

ثمود عطف على عاد. وهم قوم من العرب الاقدمين وهم اصحاب الحجر الوارد ذكرهم في سورة الحجر وهي مدينة قديمة ورد ذكرها في اقدم التواريخ والآثار وتعرف بوادي القرى تقع بين المدينة والشّام وتسمى المنطقة حاليا (مدائن صالح) على الطريق من خيبر إلى تبوك على ما قيل.

قال تعالى (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلينَ * وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضينَ * وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنين)[8] وقد قال ايضا بشأن نفس القوم (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهين)[9]

والجوب: القطع. والمراد بالصخر الجبال. والوادي اسم فاعل من ودى اي سال، ويطلق على موضع سيلان الماء ثم اطلق على كل مفرج بين الجبال والآكام وهو المراد هنا ويمكن ان يراد به اسم مدينتهم حيث يقال ان اسمها وادي القرى.

وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ...

يمكن ان يراد بفرعون هو وقومه او هو وجنوده. والظاهر أن المراد به فرعون موسى عليه السلام لانه هو المذكور في القرآن بهذا العنوان. وان كان عنوان فرعون يطلق على مجموعة من ملوك مصر الا ان هذا الرجل طغى كثيرا وتجبر وادعى الربوبية.

ويحتمل ان يكون المراد بكونه ذا الاوتاد الاشارة الى طريقة تعذيبه لمعارضيه – على ما قيل – من أنه كان يسمّر ايديهم وارجلهم بالاوتاد وهي المسامير اما في الارض او في الاشجار كما ورد في تهديده للسحرة وان لم يذكر الوتد هناك.

وقيل المراد بها جنوده لانهم كانوا يحفظون ملكه ويثبتونه كأنهم اوتاد لملكه.

وهو بعيد جدا.

وابعد منه القول بان المراد كثرة اوتاده لكثرة جنوده وحاجتهم الى المخيمات. وهو تاويل غريب.

وقيل المراد بها اهرام مصر وانه تعالى شبهها بالاوتاد كما شبه الجبال بها في قوله تعالى (وَالْجِبالَ أَوْتاداً).[10]

وهو مع انه بعيد عن اللفظ قد لا يوافق الواقع فان الاهرام ليست من صنع فرعون موسى عليه السلام بل من صنع مجموعة من الفراعنة على ما يقال الا اذا كان المراد بفرعون كل من اطلق عليه هذا الاسم.

وهو ايضا بعيد لان الله تعالى لم ينزل العذاب عليهم جميعا. 

الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ...

الظاهر انه صفة لجميع من تقدم ذكرهم. ويحتمل كونه صفة لفرعون خاصة والجمع باعتبار ان المراد قومه.

وطغيانهم في البلاد بمعنى طغيانهم على العباد وهو غير الطغيان على الله تعالى وهذا يدل على ان سبب نزول العذاب لم يكن كفرهم وشركهم بل ظلمهم على سائر عباد الله وهذا الامر لا يختص بطغاة الكفار فليكن طغاة المسلمين على حذر!!

والمراد بالبلاد اما بلادهم اي كل منهم طغى في بلده او طغيانهم على سائر البلاد كما هو سيرة طغاة التاريخ خصوصا في ازمنة الاستعباد والاغتنام حيث كان معظم الحروب من اجل اهداف اقتصادية مهمة لهم كما هو الحال في كثير منها في هذا العصر.

والفساد ضد الصلاح قال الله تعالى (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا..)[11] وقد جاء ذكر بعض فسادهم في القرآن قال تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).[12]

والمراد افساد المجتمع ولم اجد من تعرض لمعنى الصلاح والفساد وانما يفسر كل واحد منهما في كتب اللغة بانه ضد الآخر.

والظاهر أنّ صلاح الشيء بمعنى كونه نافعا للجهة المطلوبة منه وفساده خلاف ذلك فاذا وصفنا السيف بانه صالح اي يصلح للحرب والقتل.

واذا وصفنا الدابة التي يقصد منها الركوب فالمعنى انها تصلح له وان لم تصلح لغرض آخر وهكذا.

ولذلك نجد أن الصلاح في القرآن يختلف حسب الموارد قال تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ...)[13] فالصلاح هنا ليس كما يرد في توصيف العباد المستحقين للجنة كقوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) [14] بل المراد هنا صلوح الرقيق للزواج.

كما انه قد يراد به معنى اخر في موارد اخرى كقوله تعالى بعد ذكر مجموعة من الانبياء عليهم السلام (وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ)[15] فالظاهر ان المراد هنا صلوحهم للدخول في الرحمة ليصح التعليل.

والمراد هنا فساد المجتمع فسادا دينيا واجتماعيا في نظر الشرع اما فساد دينهم فمن جهة نشر الشرك والكفر والمعاصي واما الفساد الاجتماعي فمن جهة ظلمهم للناس واعتدائهم على الضعفاء واستعبادهم.    

فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ...

التعبير بالصبّ كناية عن شمول العذاب للجميع بحيث لم يفلت منهم أحد. ويفيد ايضا معنى السرعة والمفاجأة.

وتنكير العذاب للتفخيم والتهويل اي عذاب أيّما عذاب. والسوط ما يضرب به. وقيل انه خاص بالجلد المضفور الذي يضرب به اي ما يعقد بعضه على بعض كضفائر المرأة. واصله من السوط بمعنى الخلط ولعله سمي به لانه بالضرب يختلط بالجلد واللحم كما قيل.

والتعبير هنا فريد في القرآن فقيل انه من باب الاشارة الى ان ما اصابهم بالنسبة لعذاب القيامة كضرب السوط.

وقيل ان الغرض الاشارة الى ايلامهم بالعذاب اذ قديكون العذاب مهلكا ولكنه غير مولم.

ويمكن ان يكون اشارة الى ان عذابهم سوط تأديبي بالنسبة للمجتمع البشري ولذلك عقبه بما حصل لجنس الانسان.

إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ...

المرصاد اسم المكان والزمان من الرَّصْد وهو الترقب فالراصد يترقب العدو في مكمن لينقضّ عليه او ينتظر الفرصة المناسبة للايقاع به.

وهذا كناية عن انه تعالى يراقب اعمال عباده فمن طغا منهم وتجبر فانه في الوقت المناسب يأخذه اخذ عزيز مقتدر اذا اقتضته الحكمة.  

وتكرار قوله تعالى (ربك) هنا وفي الاية السابقة للتأكيد على تسلية خاطر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين بأنه تعالى سيبيد طغاة قريش كما أباد الطغاة الماضين وليكون تهديدا للمشركين.

 


[1] النبأ: 8

[2] المدثر: 33- 34

[3] الواقعة: 75- 76

[4] العنكبوت: 38

[5] الحاقة: 6- 7

[6] الشعراء: 133- 134

[7] النجم: 50

[8] الحجر: 80- 82

[9] الشعراء: 149

[10] النبأ: 7

[11] الاعراف: 56

[12] القصص: 4

[13] النور: 32

[14] العنكبوت: 9

[15] الانبياء: 86