فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ...
الفاء للتفريع وقد أشرنا آنفا أن الله تعالى صبّ على طغاة التاريخ سوطا من العذاب ليعتبر المجتمع البشري به وهاتان الآيتان تبينان حال الانسان بطبعه في مواجهة الامتحان الالهي وهو متفرع على ما مر.
والمراد بالانسان نوعه وقليل منهم من ليس كذلك ولا يصح ما قيل ان المراد المشركون فضلا عن ارادة اشخاص منهم والغرض بيان خطأ الانسان في مواجهة الخير والشر لينتبه عن غفلته ويصحح طريقه.
و(أمّا) للتفصيل اي تفصيل حال الانسان في مواجهة الخير والشر فكأنه قال (فالانسان اما اذا ما ابتلاه...).
والابتلاء: الامتحان والاختبار. وقوله (ربه) ينبه على أن هذا الاختبار جزء من تربيته.
والاكرام والتكريم من الكرامة اي كون الشيء ذا قدر وقيمة ومن هنا يقال حجر كريم فاكرام الانسان بمعنى اعتباره ذا قدر وقيمة وجعله مكرما معظما وليس كل اعطاء اكراما والله تعالى يعتبر ما يعطيه للانسان من نعمة اكراما له وقد قال تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ..)[1] بناءا على أن العطف للتفسير.
والتنعيم في قوله (ونعّمه) اي ايصال النعمة اليه. وقول الانسان (ربي أكرمنِ) اي اكرمني ليس مطابقا للواقع وان كان الواقع انه اكرمه.
والسر فيه ان هذا الاكرام مع انه اكرام لا يقصد به اكرامه بل ابتلاؤه وهذا هو الذي يخفى على الانسان فلا يتوهم ان ما قاله الانسان هو ما ذكره الله بقوله (فاكرمه) لانه فرّع الاكرام على الابتلاء والانسان توهّم ان الاكرام هو المقصود بالذات وانه ليس الا لكرامة له عند الله تعالى والواقع ان الاكرام لتربيته.
وقوله (فقدر عليه رزقه) اي ضيّق عليه وهو في الاصل بمعنى حدّ الشيء ونهايته فمعناه ان رزقه كان بمقدار نهاية حاجته لا يتجاوزها اي اقل ما يمكن ان يعيش به.
واسناد الانسان هذه الامور الى الله تعالى على افتراض ان يكون مؤمنا بالله. والبشر يؤمن به غالبا حتى لو كفر بدينه وشريعته او اشرك به. ومن ينكره باللسان فهو يشعر به في باطنه.
والحاصل أن موضوع هذه الآية هو من يؤمن بالله تعالى ولو افتراضا فان بعضهم قد يظن ان الامر لو كان كما يقال من ان الله تعالى هو الذي يقسم الارزاق فهو انما وسّع عليّ لكرامة خاصة بي كما قال تعالى في حكاية كلام بعض الكافرين (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا). وقال ايضا (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى).
والآيتان تنبهان على أن كل ما يطرأ على الانسان في هذه الحياة من خير وشر انما هو ابتلاء من الله تعالى وامتحان كما قال (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً..).[2]
ومعنى الابتلاء والفتنة والامتحان ليس ــ كما يتوهم ــ اختباره لفهم مكنوناته بل معناه أن الله تعالى بهذه الحوادث التي يراها الانسان يصنع شخصيته حسبما هو كامن فيه من قابليات فمنهم من يواجه كثرة الخير ووفور المال والجاه والقدرة بالتواضع والشكر لله وعرفان الجميل والاحسان الى المحتاجين وكسب المقام والمنزلة عند ربه بذلك. ويواجه توالي المصائب والنوائب بالصبر واحتساب الاجر والمقاومة وتقوية العزيمة والشكر لله ايضا.
ومنهم من يكون على خلاف ذلك اذا اعطاه الله المال بخل به وتجبر وتكبر على الفقراء واذا اعطاه القدرة والسلطة طغى على العباد وافسد البلاد واعتبر ما اوتي من مال وجاه وسلطة انما هو لخصوصية في ذاته استوجبت اكرام الله تعالى له فيقول ربي اكرمني لاني استحق الاكرام واذا اصيب بالمصائب كالفقر والمرض وفقد الاعزة وزوال الملك والسلطان فانه يشعر بالذل والهوان ويعتبر ذلك اذلالا له من الله تعالى فيقول ربي أهانني وهذا كله على افتراض انه يؤمن بالله وهكذا تتجلى كوامن الذات البشرية بل تتكون شخصيته.
ولعل الوجه في تكرار كلمة الابتلاء للاشارة الى اختلافه في الموردين ففي الاول ابتلاء بالنعمة والغنى وفي الثاني بالفقر والضيق.
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ...
(كلا) حرف ردع اي ليس كما تظنون وليس اكرام الله تعالى وانعامه من اجل اكرامكم ولا تقدير الرزق من اجل اهانتكم بل الغرض ابتلاؤكم فالذي ينبغي ان تهتموا به هو نتيجة هذا الامتحان. وهذا ما نبه عليه بالاضراب الذي بعده.
فقوله (بل لا تكرمون..) بيان للواقع الذي حصل بعد الامتحان ومعنى الاضراب انه ليس هذا الانعام اكراما بل هو اظهار لدفائن نفوسكم حيث لا تكرمون اليتيم فتنقلب النعمة نقمة عليكم.
واليتيم الصبي الذي فقد أباه قبل بلوغه فاذا بلغ ذهب عنه اليتم. والاصل فيه الانفراد يقال درة يتيمة اي منفردة لا مثيل لها. وكذلك بيت يتيم من الشعر.
والمطلوب شرعا حسب الآية اكرام اليتيم لا اطعامه والاحسان اليه فحسب. والسبب ان اليتيم فقد حنان الاب وعطفه وهو أهمّ من لقمة العيش.
ولعل التأكيد عليه من جهة انه مغفول عنه في ذلك المجتمع البدوي او لان الاكرام يستلزم الاحسان ايضا.
وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ... (تحاضّون) اصله تتحاضّون وهو تفاعل من الحضّ بمعنى البعث والترغيب في الشيء بمختلف السبل ومعناه ان يحضّ كل منكم غيره.
والطعام اسم لما يؤكل، فهنا تقدير اي لا يحضّ بعضكم بعضا على بذل الطعام للمسكين. والمسكين: الفقير وهناك بحث في اللغة في انه أسوأ حالا من الفقير او العكس.
وهناك خلاف ايضا في ان الاصل فيه السكون وانه يطلق على الفقير الذي اسكنه الفقر فلا يستطيع طلبا للرزق او انه اصل براسه في اللغة.
والسؤال هنا انه لماذا هذا الاهتمام بالحض على اطعام المسكين دون نفس الاطعام؟
وقد ورد هذا التعبير في سورة الحاقة ايضا قال تعالى (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ).[3]
وكذلك في سورة الماعون قال تعالى (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ).[4]
ويلاحظ أن الآيات لا تبعث على الحضّ بل تعتبر عدم الحضّ على إطعام المسكين موجبا لدخول النار.
ولعل السبب أن عدم الحضّ غاية في البخل وانتفاء الرحمة، لأنّه فضلا عن عدم اطعامه بنفسه لا يحضّ غيره ايضا على ذلك، ومورده الطعام وهو أرخص شيء، وحاجة الانسان اليه أشدّ حاجة اذ به قوام حياته.
ويمكن أن يكون السبب أن إطعام المسكين والارفاق بالفقراء يجب ان يكون موضع اهتمام المجتمع بمختلف طبقاتهم، حتى الفقير نفسه يساعد من هو أفقر منه وأحوج. فالتعاون الاجتماعي هو الهدف الأسمى، لا مجرّد رفع الحاجة عن محتاج في مورد خاص ولذلك ورد الفعل هنا بصيغة التفاعل بأن يحضّ الجميع بعضهم بعضا بناءًا على القراءة المشهورة.
ويمكن ايضا أن يكون المراد بيان أقلّ ما يعتبر اهمالا بأمر الفقراء وهو عدم حثّ الآخرين على إطعامهم، فهناك مراتب في الظلم على الفقراء والمساكين، أشدّها ظلما أخذ أموالهم بمختلف الأعذار، سواء ما يرتكبه الجبابرة الطغاة من نهب المال العام وعدم التوزيع العادل، والذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، ويأتي بعده منعهم حقوقهم الواجبة كالزكاة والصدقات، ومن ذلك ما اذا رأى الانسان محتاجا جائعا وهو قادر على اطعامه فامتنع.
ثم يأتي في النهاية من لا يحثّ الآخرين على الاطعام وان كان لا يرتكب شيئا مما مر. فان كان العذاب والعتاب لمن كان لا يحثّ على طعام المسكين، فكيف بمن ظلمهم حقهم، او غصب اموالهم، او تسبب في انتشار الفقر والجوع في المجتمع؟!
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا...
المراد بالاكل الانتفاع بنحو لا يبقي شيئا وهذا من استعارات القرآن الكريم على ما قيل.
والتراث: المال الموروث اي الباقي من السلف للخلف واصله الوراث فابدل تاءً ومثله التُهمة والتُخَمة والتقاة.
واللمّ: الجمع. وهو وصف للاكل اي تأكلون ميراث اليتامى والنساء بطريقة الجمع ولعل المراد انهم – والخطاب للبشر – يجمعون نصيب اليتامى الى نصيبهم ففيه اشارة الى أن الآكل هو من الورثة او المراد أنهم يجمعون كل ما ورثه اليتيم لا يبقون له شيئا.
ومن قبيل المعنى الاول قوله تعالى (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا).[5]
والجمّ: الكثير اي تحبون المال حبا شديدا. يريد بذلك الاشارة الى أن السبب في أكل التراث ليس هو الحاجة بل الحب الشديد للمال والحرص عليه.
وهذه صفة الانسان يكتسبها من توغله في الدنيا وبعده عن هدايات السماء وليس الخطاب خاصا بمشركي مكة كما قيل فالمذكور في الآيات الانسان بصورة عامة وان كان انطباق ما ورد فيها على اهل مكة واضحا ولكنه لا يختص بهم.
[1] الاسراء: 70
[2] الانبياء: 35
[3] الحاقة: 33- 34
[4] الماعون: 2- 3
[5] النساء: 2