مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا...

تكرار الردع لتشديد التقبيح والتنديد بتعامل الانسان مع الضعفاء واليتامى وحبه الشديد للمال.

وقوله (اذا دكت الارض) ظرف لما يأتي من تذكر الانسان حين لا ينفعه الذكر. والمراد به يوم القيامة اي يوم يقوم الناس لا يوم زوال هذا الكون كما ورد في التفاسير.

والدك – كما في العين – كسر الحائط والجبل. وتكراره ليس للتأكيد بل لبيان تكرر الدك حتى لا يبقى شيء من جبالها وهضابها.

والمعروف ان المراد به زلزلة الارض عند زوال هذا النظام الكوني ولكن الظاهر أن المراد به ما ورد في قوله تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)[1] وقد ذكرنا مرارا أنّه كناية عن انكشاف الحقائق يوم القيامة.

وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا...

المعروف في التفاسير أن المراد بمجيء الرب مجيء أمره اذ لا ينسب المجيء والذهاب اليه تعالى ومعنى مجيء امره حضور موعد امره بقيام القيامة. وقد ورد ذلك في بعض الروايات ايضا.

ولكن يمكن أن يكون المراد من مجيء الرب انكشاف الغطاء عن الانسان ورفع الحجب فيشعر الانسان بحضوره امام ربه ويدرك ربه بتمام وجوده كما يدرك نفسه بتمام وجوده فان الانسان في هذه الدنيا لا يشعر بشيء الا عن طريق الحواس ولكنه يدرك نفسه ويشعر به ويتلمسه من دون اي احساس فلو فرض زوال كل حواسه يشعر بنفسه ادراكا مباشرا من دون اي وسيط وهذا هو العلم الحضوري حيث يكون المعلوم بذاته حاضرا للعالم ويوم القيامة ترتفع الحجب وينكشف الغطاء ويدرك الانسان ربه بكل وجوده لا برؤية بصرية.

وأما مجيء الملك فهو ما أشار اليه تعالى بقوله (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا)[2] وقلنا فيما سبق أن المراد بانشقاق السماء وانفطارها وكونها كالمهل ووردة كالدهان وفتح ابوابها ونحوها من التعابير هو ارتباط الملائكة بالانسان ارتباطا مباشرا حيث اننا لا نشعر بوجودهم معنا وحولنا في هذه الحياة.

ويوم القيامة يحادثهم البشر من المؤمن والكافر وهذا هو المراد من تنزيلهم من السماء وهو تعبير عن حقيقة ملازمة وهي تحوّل الانسان الى حقيقة اخرى حيث يتمكن من الارتباط بهم.

وقوله صفا صفا ليس تأكيدا بل بمعنى انهم في صفوف مختلفة ولعل السر فيه اختلاف مراتبهم فيكون المقصود ان الانسان يرتبط بكلهم على اختلاف مراتبهم.

وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ...

اي جيء بجهنم يوم تدك الارض وهو يوم القيامة.

وقد اختلف المفسرون في تفسير المجيء بها وتوسلوا بوضّاع الاحاديث فوضعوا لهم حديثا ان لها سبعون الف زمام يجرّ كل زمام سبعون الف ملك يأتون بها الى المحشر.

كل هذا لتصحيح المجيء بها وقد ورد الحديث في صحاحهم. والصحيح انه كمجيء الرب والملائكة لا يراد به الا الظهور والانكشاف.

ومثله إزلاف الجنة اي تقريبها قال تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ).[3]

يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى...

(يومئذ) بدل من قوله (اذا دكت الارض) وانما اتى بها لطول الجمل المتعاطفة التي تحدد ظرف التذكر فأعاد الظرف بقوله (يومئذ) اي يتذكر الانسان يوم دك الارض ومجيء الرب والملك ومشاهدة جهنم اي يوم ينكشف الغطاء وتظهر الحقائق هناك يتذكر الانسان..

يتذكر تفريطه باوامر ربه ونواهيه..

يتذكر انكاره للرسالات..

يتذكر ظلمه لليتامى والفقراء..

وأنّى له الذكرى..

(أنى) اسم استفهام عن المكان والكيفية اي من اين له الذكرى؟ او كيف يتذكر؟ والاستفهام انكاري اي ليست له الذكرى.

ولكن المفروض انه يتذكر فعلا فالمراد ليس النفي على حقيقته بل بمعنى ان الذكرى لا تنفعه ذلك اليوم فكـأنه لم يتذكر شيئا وبقي على غفلته لانه لم يتذكر يوم كان ينفعه.

يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي...

(يقول) بيان لتذكر الانسان ولذلك لم يات بحرف العطف اي هكذا يتذكر.. والقول قد لا يكون على حقيقته وانما هو لسان حاله.

وقوله (ياليتني) تركيب معروف متداول قيل ان (يا) اداة تنبيه تأتي قبل التمني وقيل ان التقدير يا قوم ليتني.

والمراد بالتقديم تقديم أعمال تنفعه في ذلك اليوم العصيب فان أعمال الانسان تسبقه ولذلك قال تعالى (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ..).[4]

ويعبر عنه بالحياة حيث يظهر له أن الحياة الواقعية هي تلك الحياة وما رآه في الدنيا لم يكن في الواقع الا لهوا ولعبا كما قال تعالى (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).[5]

فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ...

الفاء للتعليل فان سبب تمنيه هو ما يلاحظه من شدة العذاب والوثاق.

والضمير يعود الى الله تعالى اي لا عذاب كعذابه ولا وثاق كوثاقه والوثاق اسم مصدر من الايثاق وكل من العذاب والوثاق مفعول مطلق لبيان النوع اي لا يعذب مثل عذابه احد.

والمراد بالوثاق عدم التمكن من الفرار فان الانسان ربما يخدع نفسه بالفرار هناك كما يفر من كل ما يضرّ به في الدنيا ولكنه يفاجأ يوم القيامة بأنه لا مفرّ من عذاب الله هناك بل لا مفرّ منه هنا ايضا كما قال نوح عليه السلام في جواب ابنه المغفل (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ).[6]

والسؤال هنا انه ما المراد بالمقارنة بين الله تعالى وغيره في العذاب والوثاق فليس هناك موجود في الكون يقارن به تعالى ولا حول ولا قوة الا به كما يلاحظ نفس السؤال في مثل قوله تعالى احسن الخالقين وخير الرازقين اذ لا خالق ولا رازق غيره؟

والجواب انه لا يراد بالاحد هنا فرد من صنف او نوع بل المراد ان هذا العذاب والوثاق فوق ما يتصوره الانسان فان من اخطاء البشر مقايسة ما هناك بما هنا سواء العذاب ام الثواب ام المحاكمة والسؤال فكل ذلك لا يشبه ما هنا الا في اللفظ والمفهوم بالمعنى العام دون الحقيقة قال تعالى (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ).[7]

وقلنا مثل ذلك في احسن الخالقين وخير الرازقين اي كل ما يتصور من خالقية ورازقية فان الكمال فيهما لله تعالى وله الاسماء الحسنى ولله المثل الاعلى.

وفي بعض القراءات (يعذَّب) و(يوثَق) بالفتح فيعود الضمير الى الانسان اي لا يعذب انسان كما يعذب هذا المتمني الذي لم يقدم لحياته شيئا. 

 


[1] طه: 105- 108

[2] الفرقان: 25

[3] الشعراء: 90- 91

[4] الحشر: 18

[5] العنكبوت: 64

[6] هود: 43

[7] الزمر: 47