سورة الفلق لم يتبين كونها مكية او مدنية وتسمى هي وسورة الناس بالمعوذتين لاشتمالهما على الاستعاذة بالله من الشرور. وسياتي بعض الكلام في شأن نزولها. وروي ان النبي صلى الله عليه واله وسلم كان يعوّذ بهما الحسنين عليهما السلام.
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ...
الامر بالقول يراد به ارشاد الرسول صلى الله عليه واله وسلم ومن يتبعه الى ما ينبغي الاستعاذة منه والى كيفية الاستعاذة فلو اريد الدعاء فقط ينبغي ان يتلفظ بما بعد هذا الامر اي يقال اعوذ برب الفلق واما اذا اريد حكاية كلام الله تعالى يجب البدء بهذا الامر ويجوز قصد الدعاء به ايضا.
والعوذ: اللجوء. والفلق اسم ماخوذ من الفَلْق بمعنى الشق ويراد به الصبح لانه يشق الظلام ومثله الفجر. وانما اضيف اليه الرب في هذا المقام للتيمن به اي كما فلقت الظلام بنور الصبح فافلق عني ظلمة الشر.
مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ...
لجوء الى الله تعالى من شر كل ما خلق لان بعض ما خلق قد يكون منشأ شر للانسان وان كان لقوم اخرين خيرا. والمراد بالطبع كل ما يمكن ان يكون منشأ شر واما ما لا يتاتى منه الا الخير فلا يشمله.
وبهذه الجملة يبين للناس أن الشر ايضا من خلقه تعالى لئلا يتوهموا أن هناك شيئا في الوجود ليس من خلقه كما ظنه الثنويون او خارج عن سلطته تعالى وربوبيته.
وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ...
الغسق: شدة الظلمة. والوقوب: الدخول. والغاسق: الليل بعد ذهاب الشفق وحدوث العتمة. قال تعالى (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)[1] يقصد به صلاة العشاء اي واعوذ به من شر ليل مظلم اذا دخل عليّ.
وقوله (اذا وقب) ظرف للغاسق اي اعوذ من شر الظلام اذا دخل علينا للاشارة الى شدة الظلام واطباقه فانه في الغالب فرصة الاشرار فان الاستعاذة من ظلمة الليل باعتبار انها مما يستغله الاشرار للوصول الى مقاصدهم وخصوصا في تلك الازمنة بل تاتي الشرور ايضا من الحشرات والسباع في الليل غالبا.
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ...
هذه الآية هي التي من اجلها ادّعي ان السورة نزلت من اجل تعويذ النبي صلى الله عليه واله وسلم من سحر اصابه.
والرواية في ذلك مروية في البخاري وغيره من كتب الحديث وتسربت الى بعض كتبنا غير المعروفة واعجب بها بعض علمائنا وهي منقولة بصور مختلفة متهافتة
منها ما في البخاري بسنده عن عائشة (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ، حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلاَ يَأْتِيهِنَّ، قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ، إِذَا كَانَ كَذَا، فَقَالَ: " يَا عَائِشَةُ، أَعَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِي رَجُلاَنِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلْآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ - رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ كَانَ مُنَافِقًا - قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ، قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، تَحْتَ رَاعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ " قَالَتْ: فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ، فَقَالَ: «هَذِهِ البِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا، وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ» قَالَ: فَاسْتُخْرِجَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: أَفَلاَ؟ - أَيْ تَنَشَّرْتَ - فَقَالَ: «أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي، وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا».[2]
وفي الدر المنثور (وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه وَالْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل عَن عَائِشَة قَالَت: كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غُلَام يَهُودِيّ يَخْدمه يُقَال لَهُ لبيد بن أعصم فَلم تزل بِهِ يهود حَتَّى سحر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذوب وَلَا يدْرِي مَا وَجَعه (الى ان قال) فَلَمَّا أصبح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَدا وَمَعَهُ أَصْحَابه إِلَى الْبِئْر فَنزل رجل فاستخرج جف طلعة من تحب الراعوفة فَإِذا فِيهَا مشط رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن مشاطة رَأسه وَإِذا تِمْثَال من شمع تِمْثَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِذا فِيهَا أبر مغروزة وَإِذا وتر فِيهِ إِحْدَى عشرَة عقدَة فَأَتَاهُ جِبْرِيل بالمعوّذتين فَقَالَ: يَا مُحَمَّد {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} وَحل عقدَة {من شَرّ مَا خلق} وَحل عقدة حَتَّى فرغ مِنْهَا وَحل العقد كلهَا وَجعل لَا ينْزع إبرة إِلَّا يجد لَهَا ألماً ثمَّ يجد بعد ذَلِك رَاحَة...) الحديث.
وقال المفسرون اعتمادا على هذا الحديث ان المراد بالنفاثات في العقد النساء الساحرات وانما خصّ الامر بهن لان الغالب في السحرة هم النساء والمراد بالنفث النفخ او وضع مقدار من الريق والمراد بالعُقَد العقد التي كنّ يعقدن بها الحبال وينفخن فيها بما يقرأنه من السحر.
وهذه الرواية من أكاذيب الوضّاعين يريدون بذلك النيل من كرامة الرسول صلى الله عليه واله وسلم فان هذا الامر ينافي العصمة. وينافي قوله تعالى (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)[3] ويوجب الشك فيما يبلّغ به عن الله تعالى وقد ورد في القران نفي كونه صلى الله عليه واله وسلم مسحورا قال تعالى (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا).[4]
والعجيب ان العلامة الطباطبائي قدس سره دافع عن هذا الحديث والتزم بان هذه الاية نزلت بهذا الشان وان السورة مدنية لذلك وان الاية في سورة الاسراء لا تدل على ما اراده المخالفون لهذا التفسير (لأن مراد المشركين بالمسحور والمجنون فساد العقل بالسحر وأما تأثره عن السحر بمرض يصيبه في بدنه ونحوه فلا دليل على مصونيته منه).
وهكذا ورد في كلام غيره ايضا ممن دافع عن الحديث.
ويرده ان الخبر لا يدل على مرض في جسمه بل على التاثير في عقله وادراكه بحيث يخيل اليه انه فعل كذا وهو لم يفعل وهذا امر مستحيل.
مضافا الى ان الرواية تنسب السحر الى رجل والاية حسبما ذكروه تخص الحكم بالنساء فكان المفروض ان يذكر الرجال ليشمل مورد النزول ولو كان اللفظ مذكرا كان شاملا للنساء ايضا.
ويلاحظ أن كتب اللغة مجمعة على تفسير النفث في هذه الآية بالنفخ او باخراج الريق وقالوا هو اقل من التفل وتبعوا في كل ذلك التفاسير وهي ايضا تبعت هذا الحديث الموضوع حتى ان كتاب العين لم يذكر للنفث غير هذا المعنى مع انه في اصل اللغة يستعمل في عدة معان ليس هذا منها:
ففي الجمهرة (الحية تنفث السم اذا نكزت بفيها) والنكز ان تضربه الحية بفيها ولا تنهشه كما في الجمهرة ايضا.
وفي خطبة الوداع قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (ألا وان الروح الامين نفث في روعي انه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها..)[5] اي القى في نفسي. وفي احاديث العامة (وان روح القدس نفث في روعي).
وفي صحيحة اسحاق بن غالب عن ابي عبد الله عليه السلام في خطبة جليلة يذكر فيها صفات الامام (لم يزل مرعيا بعين الله، يحفظه ويكلؤه بستره، مطرودا عنه حبائل إبليس وجنوده، مدفوعا عنه وقوب الغواسق ونفوث كل فاسق..).[6] اي القاءاته ووساوسه.
وفي المثل لا بد للمصدور ان ينفث اي يخرج ما في نفسه من الهم. ويقال (الجرح ينفث الدم). ونحو ذلك.
والظاهر ان المراد بالنفّاثات في الآية الكريمة النمّامون وهذه صيغة المبالغة وليست صفة مؤنثة فهي كالعلّامة وجمعه علّامات والمراد بالنفث نفث السمّ تشبيها لهم بالحيات.
والعقد جمع عقدة وهي كل ما يتعاقد به الناس في مختلف شؤون حياتهم ومنها عقود المعاملات كعقدة النكاح قال تعالى (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ..)[7] فالامر الخطير الذي اُمر النبي صلى الله عليه واله وسلم والمؤمنون بالاستعاذة منه هو نفث سموم النمامين.
والواقع ان اكثر الحروب والفتن في عالم البشر مستندة اليهم كما نلاحظه في زماننا ايضا ومن هؤلاء في هذا العصر اصحاب مصانع الاسلحة وغيرهم ممن تقتضي مصالحهم الشخصية ايقاع هذه الحروب والفتن في المجتمعات وكثير من الدول تتحارب او تقطع علاقاتها بسبب هذه الالقاءات.
ولا يختص بهؤلاء فنحن الان نجد في الاخبار المنتشرة محاولة الشياطين القاء الشر بين الدول والطوائف بتحريف الاخبار وتغطية ما يثير الشر تغطية واسعة وتفسير الكلمات بما يوجب ذلك.
ومن هذا القبيل ما نجده من هجوم بعض الناس على مراكز السفارات وغيرها لايقاع الشر بين الدول وليس هذا عملا عفويا منتسبا الى العامة كما يتوهم بل وراءهم اشرار لهم مصالح وقد يكونون من منتسبي احدى الدولتين ولكنهم يقدّمون مصالحهم الشخصية على مصالح الدولة والوطن.
والحاصل أن النفاثات في العقد من شر اشرار البشر ومنتشرون في كل مكان وبصور مختلفة ويبثون سمومهم للاضرار بالمجتمع.
وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ...
الحاسد معروف والظاهر ان المراد بقوله اذا حسد اي اذا قام بعمل بناءا على حسده وذلك لان الحسد بذاته ليس شرا بل هو صفة طبيعية وغريزة انسانية واصله حب التفوق على الاخرين وهو اساس تقدم المجتمع البشري فان الدافع لكثير من الناس لطلب العلم او القوة الجسمانية او المال ونحوها هو هذا الامر فهو بذاته لا يدعو الى الشر ولكن الحسود قد لا يحاول التقدم او لا يتمكن منه بل يحاول الايقاع بالطرف الاخر والاضرار به بدلا من العمل الايجابي وهنا يكمن الشر.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطاهرين.
[1] الاسراء : 78
[2] صحيح البخاري ج7 ص137 ح5765 باب هل يستخرج السحر
[3] المائدة : 67
[4] الاسراء: 47- 48
[5] الكافي ج2 ص 74 باب الطاعة والتقوى
[6] الكافي ج1 ص 204 باب نادر جامع في فضل الامام وصفاته
[7] البقرة : 235