مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

هذه السورة المباركة تسمى فاتحة الكتاب واُمّ الكتاب والسبع المثاني. وربما تسمى سورة الحمد ايضا ووجه هذه التسمية واضح.

اما تسميتها بفاتحة الكتاب فقد وردت في روايات كثيرة جدا في كتب الفريقين ويمكن ان يكون الوجه في هذه التسمية انها مدوّنة في مفتتح المصاحف. والفتح ازالة الغَلْق واول كل شيء فاتحته لان ما بعده يفتح به فكأنه يفتحه فالفاتحة اسم فاعل من الفتح.

ويظهر من الروايات بوضوح ان هذه السورة كانت فاتحة السور في مصاحف عهد الرسالة والا لم يكن وجه للتعبير عنها بفاتحة الكتاب في الاحاديث الشريفة النبوية.

ومن هنا يقال ان المصحف كان مجموعا في عهد الرسالة وبامر من النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وهذا الامر ليس ببعيد.

ولكن لا يمكن ان يقال بانه باجمعه كان مجموعا في مصحف في اوائل عهد الرسالة ولا في اواسطها لان التنزيل لم يتوقف الى اواخر العهد النبوي الشريف فالذي يمكن ان يقال ان هذه السورة المباركة كانت مفتتح المصحف المجموع في عهد الرسالة وان كان جامعا لقسم من القران الكريم.

ويحتمل ان يكون الوجه فيه انها اول ما نزل من القرآن وهذا الاحتمال اولى بالنظر الى لفظ الفاتحة وباعتبار ان القران لم يكن في بدايته مجموعا لتكون السورة فاتحته فالاولى ان يكون المراد بهذا التعبير انها اول ما نزل من القران الكريم.

ولكن لم نجد دليلا على كونها اول ما نزل سوى هذه التسمية وقد ردّ هذا الاحتمال جمع من المفسرين باعتبار ان اول ما نزل هو سورة العلق او الايات الخمس الاولى منها لما رواه القوم في صحاحهم ولا يمكنهم رفع اليد عما ورد فيها.

وقد بينّا في تفسير سورة العلق انها ليست اول ما نزل وان ما ورد من الحديث في هذا الشأن موضوع ومكذوب.

وعليه فاحتمال كون هذه السورة المباركة اول ما نزل احتمال اقوى من سائر ما قيل في هذا الباب والوجه فيه هو نفس هذا الاسم الذي ورد فيما روي عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم.

وأما تسميتها بام الكتاب او ام القران فقد وردت ايضا في عدة من روايات الفريقين والظاهر أن الوجه في هذه التسمية ايضا هو نفس الوجه المذكور في التسمية بفاتحة الكتاب اي لانها اول سورة مدونة في الكتاب او اول ما نزل منه.

وفي بعض كتب اللغة أن الوجه فيها الابتداء بها في كل صلاة. وهو بعيد اذ لا علاقة له بالكتاب.

ومهما كان فالاصل في ذلك أن الاُمّ بمعنى اصل الشيء ومنه الامّ بمعنى الوالدة فهي اصل الانسان وكل حيوان وكأنهم اعتبروا مقدمة الشيء وما يظهر من بداياته اصلا له ومن هنا يقال للراية اُمّ الجيش لانها تتقدمهم. وحكي عن الخليل قوله (كل شيء يضمّ اليه ما سواه مما يليه فان العرب تسمّي ذلك اُمّا) ومنه ام القرى لمكة.

وهناك من يقول ان هذه التسمية بلحاظ ان مضامين هذه السورة اصل القرآن وان معارف القران كلها مجتمعة فيه باختصار.

ولكن هذا الكلام مما لا اساس له وهذه السورة مع كثرة فضائلها لا يمكن ان تكون اصلا للكتاب بهذا المعنى.

وما يقال من ان معارف القران مجتمعة فيه كلام باطل وانتقاص للكتاب العزيز فالقرآن يشتمل على معرفة الله تعالى بأحسن وجه وعلى أحكام شرعية كثيرة وحكم واخلاق وإنذار وتبشير واخبار عن الغيب وعما يحدث يوم القيامة وعن تاريخ بعض الانبياء عليهم السلام وتنزيههم عما لا يليق بهم وردّ على ما توهمه اهل الكتاب حولهم وعن قصص الامم السالفة وعبرهم وغير ذلك مما لا يمكن ان يدعى اشتمال هذه الآيات عليها حتى بنحو الاشارة.

ولو فرض كون هذه السورة مشتملة على اصول ما ورد في الكتاب العزيز باختصار فتكون كأنها فهرس لموضوعات الكتاب فهذا لا يبرر التعبير عنه بام الكتاب فان الفهرس ليس اصلا واُمّا للكتاب وليس أهمّ ما فيه.

مع انها ليست كالفهرس لمواضيع القران وما ورد في التفاسير من المحاولات لاثبات هذا الامر لا يغني شيئا.

واما السبع المثاني فقد ورد ذكره في القران الكريم قال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)[1] وقد ورد في روايات الفريقين ان المراد بالسبع المثاني سورة الفاتحة.

منها ما رواه الشيخ الطوسي بسند صحيح عن محمد بن مسلم قال (سالت ابا عبد الله عليه السلام عن السبع المثاني والقرآن العظيم هي الفاتحة؟ قال نعم قلت بسم الله الرحمن الرحيم من السبع قال نعم هي افضلهن)[2]

ويتبين من هذه الرواية وغيرها ان وجه تسميتها بالسبع المثاني انها سبع آيات بلحاظ ان البسملة جزء منها.

وهناك بحث في وجه توصيف السبع بالمثاني فقيل لانها تتكرر في كل صلاة مرتين وهو بعيد كما سيأتي.

وقيل لانها نزلت مرتين مرة في مكة ومرة في المدينة ولم يثبت ذلك. مضافا الى ان تسميتها بالسبع المثاني في سورة الحجر وهي مكية تنافي ذلك لانها لم تكن نازلة بعد للمرة الثانية.

والصحيح أن المثاني وصف للقرآن كله و(من) في قوله تعالى (سبعا من المثاني) للتبعيض قال تعالى (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ..)[3] والمثاني جمع مثنيّ اي المعطوف، والثني هو العطف.

ووصف به الكتاب مع أنه مفرد بتأويل الاشتمال، اي يشتمل على مثاني، وهي صفة للمضامين او الآيات بلحاظ ان بعض آياتها ينعطف على بعض، ويفسّر بعضها بعضا، او بلحاظ انّ كثيرا منها تتكرر.

قال الخليل (الثني ضمّ واحد الى واحد) فالتثنية بمعنى التكرير، ولذلك كانت صيغة التثنية ايضا تفيده كقوله تعالى (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)[4] اي كرات ومثله كثير في الاستعمال اللغوي كقولهم (لبيك وسعديك) اي تلبية بعد تلبية.

ويمكن ان يكون وجه التسمية انها تتكرر قراءتها ليلا ونهارا ومع ذلك لا يوجب تكرارها ملالا على القارئ او السامع كما أن تكرار نزولها ايضا لا يوجبه بل يشعر الانسان في كل قراءة وسماع انّ ما يقرأه او يسمعه جديد عليه.

ومن هنا يتبين أن توصيف السبع بالمثاني في الروايات ليس بمعنى تكرارها في الصلوات كما قيل فان المثاني صفة للقرآن باجمعه.

نعم ورد في بعض الروايات تسمية هذه السورة بالمثاني فقد روى العياشي في تفسيره عن ابي بكر الحضرمي قال قال ابو عبد الله عليه السلام (اذا كانت لك حاجة فاقرأ المثاني وسورة اخرى وصلّ ركعتين وادع الله قلت اصلحك الله وما المثاني قال فاتحة الكتاب).[5]

والرواية مع انها مرسلة لا تدل على ان وجه التسمية تكرارها في الصلاة.

وأما فضيلة هذه السورة المباركة فمما لا يحتاج الى دليل لوضوحها واشتهارها وتكفي في فضلها الآية المذكورة آنفا حيث جعلت فيها عدلا للقرآن العظيم ويكفي فيه وجوب قراءتها في كل فريضة ونافلة مرتين وتتكرر في اليوم مرات عديدة وجوبا واستحبابا.

وقد اشتهر الحديث النبوي (لا صلاة الا بفاتحة الكتاب) ولكنه لم يرد في مصادرنا بهذا اللفظ الا ان هناك من الروايات بنفس المعنى ففي صحيحة محمد بن مسلم قال (سألته عن الذي لا يقرأ فاتحة الكتاب في صلاته قال لا صلاة له الا ان يبدأ بها في جهر او اخفات..).[6]

والروايات في فضلها واستحباب قراءتها في مختلف الموارد كثيرة جدا في كتب الفريقين فمنها ما ورد في قراءتها لشفاء المرضى ومنها ما ورد في السفر وقبل النوم وغير ذلك.

ومما ورد في هذا الباب صحيحة معاوية بن عمار عن ابي عبد الله عليه السلام قال (لو قُرأَت الحمد على ميت سبعين مرة ثم رُدّت فيه الروح ما كان ذلك عجبا).[7]

وروى الصدوق عن ابي عبدالله عليه السلام قال (رنّ ابليس اربع رنّات اولهنّ يوم لعن وحين اهبط الى الارض وحين بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلّم على حين فترة من الرسل وحين انزلت ام الكتاب).[8]

واختلف في كونها مكية او مدنية وتدل الآية السابقة على انها مكية لان سورة الحجر مكية بلا خلاف وقد أخبرت الاية عن نزول الفاتحة قبلها.

مضافا الى أنها واجبة في كل صلاة وهي عمود الدين فلا يمكن تاخر نزولها الى المدينة. وقد مر الكلام في احتمال انها اول ما نزل من القرآن وان لم نجد دليلا واضحا عليه الا ان كونها مما لا بد منه في الصلاة يقوي الظن بذلك والصلاة كانت مشرعة من البداية. مضافا الى ما مر من دلالة تسميتها بفاتحة الكتاب وام الكتاب على ذلك.

وقد ذكرنا في تفسير سورة العلق والمدثر ان القول بانهما اول ما نزل من القران لا يدعمه دليل بل تنافيه آيات السورتين.

وقيل انها نزلت مرة في مكة واخرى في المدينة ولم نجد دليلا معتبرا عليه.

واختلف ايضا في عدد آياتها والمشهور والمروي انها سبعة ومنها البسملة وتسميتها بالسبع المثاني دليل واضح على انها سبعة آيات وذهب بعض العامة الى انها ستة ولم يعتبروا البسملة جزءا منها وهناك بحث في الفقه حول كون البسملة جزءا من كل سورة غير التوبة او من خصوص الفاتحة.  

وهناك روايات صحيحة تدل على كونها جزءا من الفاتحة منها صحيحة محمد بن مسلم التي مر ذكرها حيث قال (قلت بسم الله الرحمن الرحيم من السبع قال نعم هي افضلهن)[9] واختلف في كونها جزءا من سائر السور. والبحث عن ذلك موكول الى الفقه.

ومن خصائص هذه السورة انها نزلت بلسان العبد من عند الله تعالى وسائر السور عن لسانه تعالى حتى ما كان دعاءا من الانسان كالمعوذتين فانهما مسبوقتان بكلمة (قل) مما يجعل السورة خطابا اما هذه السورة فان الانشاء كله من العبد والخطاب فيها لله تعالى.

والسورة تنقسم الى ثلاثة اقسام فالقسم الاول حمد وثناء على الله تعالى في اربع آيات ثم مناجاة في آية واحدة ثم دعاء في آيتين.

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ...

آية من أعظم آيات القرآن الكريم وقد مرّ في صحيحة محمد بن مسلم انها أفضل آيات سورة الفاتحة وفي رواية العياشي عن ابي جعفر عليه السلام قال (سرقوا أكرم آية في كتاب الله بسم الله الرحمن الرحيم)[10] ويشير بذلك الى من نفى كونها جزءا من سورة الفاتحة.

وروى ابن عبدالبر عن ابن عباس انه قال (سرق الشيطان من أئمة المسلمين آية من كتاب الله بسم الله الرحمن الرحيم) ثم قال (قال ابن عباس نسيها الناس كما نسوا التكبير في الصلاة والله ما كنا نقضي السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم).[11]

وهناك من الناس من يقرأها قبل الفاتحة او قبل كل سورة في الصلاة وغيرها ولكنه لا يجهر بها في الصلاة ولذلك عدّ الجهر بها في الصلاة من علامات المؤمن في رواية الامام العسكري عليه السلام المشهورة رواها الشيخ المفيد قدس سره مرسلا:

قال (وروي عن ابي محمد الحسن العسكري عليه السلام انه قال علامات المؤمن خمس صلاة الاحدى والخمسين وزيارة الاربعين والتختم في اليمين وتعفير الجبين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم)[12]

ورواها الشيخ الطوسي قدس سره ايضا في التهذيب. [13]

وقد ورد الامر بتلاوة هذه الآية في البدء باي عمل في روايات كثيرة في كتب الفريقين.

وروى الصدوق عن الامام الصادق عليه السلام – في حديث يرويه الامام العسكري عليه السلام – (ولربما ترك بعض شيعتنا في افتتاح امره بسم الله الرحمن الرحيم فيمتحنه الله بمكروه لينبهه على شكر الله تعالى والثناء عليه ويمحق عنه وصمة تقصيره عند تركه قول بسم الله الرحمن الرحيم)[14]

فيستفاد من هذا الحديث ان ترك التسمية في افتتاح اي امر يعتبر تقصيرا يستحق المؤمن عليه الزجر والابتلاء.

والباء متعلقة بمقدر والظاهر أن المقدر هو الابتداء وليس القراءة كما قيل ومفعول الابتداء كل ما تشتمل عليه السورة وحيث ان السورة هنا انشئت بلسان العبد وتشتمل على الحمد والاستعانة وطلب الهداية فمعنى الآية ابتدئ الحمد والاستعانة وطلب الهداية بالتيمن باسمه تعالى.

ولعل الغرض من ذكر هذه الآية في افتتاح السورة تعليم العباد أن يبدأوا مقاصدهم باسمه تعالى للتبرك به ولان في نفس هذا الامر عبادة وتوجها الى الله تعالى واستعانة به. وهكذا استمر القرآن يبدأ كل سورة بالابتداء باسمه الكريم ومعناه أبتدئ مقاصد السورة باسمه تعالى.

ومن الواضح أن هذا امر انشائي وليس اخبارا بأنه يبدأ باسمه تعالى فان الابتداء باسمه لا يكون الا بذكر اسمه مع انا لا نذكر اسمه تعالى مجردا قبل العمل فمعنى هذه الجملة ابتدئ عملي او مقاصدي بالتيمن باسمه تعالى.

هذا ولكن ورد في رواية عن الامام الرضا عليه السلام ما يفسر البسملة بنحو اخر فقد روى الصدوق عن ابن فضال قال (سألت الرضا علي بن موسى عليه السلام عن "بسم الله" فقال معنى قول القائل "بسم الله" اي أَسِمُ على نفسي بسِمةٍ من سمات الله عزّ وجلّ وهي العبودية قال فقلت له ما السمة قال العلامة)[15]

وسند الرواية وان لم يكن معتبرا عند فقهائنا لان الصدوق رحمه الله يرويه عن احد مشايخه الذين ترضى عنهم ولكن لم يوثق صريحا الا انه لا يبعد الاعتماد عليه في التفسير.

ومعنى الحديث ان متعلق الباء (أَسِم) اي اجعل على نفسي علامة من علامات الارتباط بالله تعالى وهي العبودية له وهذا لا يختص بقراءة القرآن ولا باي عمل آخر بل يصح حتى من دون عمل.

قال العلامة الطباطبائي قدس سره في تعليقه على الحديث (وهذا المعنى كالمتولد من المعنى الذي أشرنا إليه في كون الباء للابتداء فإن العبد إذا وسم عبادته باسم الله لزم ذلك أن يسم نفسه التي ينسب العبادة إليها بسمة من سماته).

ولكن الظاهر أن هناك فرقا كبيرا بين هذا التقدير وما مر من تقدير الابتداء وهو ما اشرنا اليه من أن هذا التقدير لا يختص بالابتداء بعمل فضلا عن خصوص العبادة كما ذكره. 

واختلف في أن الاسم اصله الوسم بمعنى العلامة او السُّمُوّ اي الرفعة واللغويون يعدّونه من السموّ لان جمعه أسماء وتصغيره سُمَيّ. وهو الصحيح والسر في اخذه منه أن وضع الاسم للشيء يجعله بيّنا مرتفعا. ولكن بناءا على رواية الصدوق عن الامام الرضا عليه السلام التي نقلناها آنفا الاسم هنا بمعنى العلامة وليس من الاسم بالمعنى العام.

و(الله) علم للذات المتعالية – جل وعلا – في لغة العرب وليس من مبتدعات الاسلام بل هو مذكور بنفس المعنى في اشعار العرب الجاهلي وكلماتهم وكانوا يقولون (باسمك اللهم).

واصله الاله حذفت الهمزة تخفيفا قيل انه من الوله اي التحير لانه لا يدرك كنهه العقول والاوهام. وقيل انه فعال بمعنى المفعول من أَلَه اي عبد فهو بمعنى معبود. وقيل ان اصله اللاه من لاه يليه اي تستّر وتحجّب ونسب الى سيبويه انه اجاز ذلك.

ومهما كان فهذا اللفظ علم في اللغة العربية لا يطلق على غيره تعالى وان اطلقوا لفظ الاله على ما يعبدونه شركا وجهلا.

والدليل على كونه علما انه يأتي موصوفا ولا يأتي صفة فيصح ان يقال الخالق الرازق الاله ولا يصح ان يقال الخالق الرازق الله. ولو لم يكن علما لم تكن كلمة التوحيد دالة على التوحيد فان قولنا (لا اله الا الله) انما يدل على التوحيد لان الله لا يطلق على غيره تعالى والا لكان المعنى لا اله الا الاله.

وربما يقال في رد هذا الاستدلال بانه لو قلنا لا اله الا الخالق الرازق ونقصد به الله تعالى فهذه الجملة تدل على التوحيد وتترتب عليه احكامه وان لم نأت بذكر العلم الخاص به تعالى وانما أتينا بالصفات.

وهذا غفلة عن ان المراد دلالة نفس الجملة على التوحيد لا باعتبار ما تقصد وتاتي بالقرائن عليه. مضافا الى ان مبنى الكلام كون الاصل في هذه الكلمة هو الاله وانما تحول بكثرة الاستعمال الى هذا اللفظ فبناءا على ذلك تعود الجملة الى قولنا لا اله الا الاله ومن الواضح انها بنفسها لا تدل على التوحيد مع ان جملة لا اله الا الله تدل بوضوح وليس هذا كقولنا لا اله الا الخالق الرازق.

وهذا الاسم لا يعني كونه تعالى ذاتا مستجمعا لصفات الكمال كما ربما يقال بل هو علم لا يدل الا على الذات المتعالية ولا يعني حتى المعنى المأخوذ منه اللفظ اي كونه تعالى معبودا او محيرا للعقول وهذا شأن كل علم فمن سمي محمدا لا يفهم من اطلاقه عليه انه محمود كثيرا كما هو معنى الكلمة.

وما يقال من انه كيف يجعل له تعالى عَلَمٌ وهو فوق إدراك الانسان وتصوره ووضع الاسم فرع التصور؟! غير صحيح فان الوضع لا يحتاج الى إدراك كنه الموضوع له بل تكفي معرفته بوجه. والله تعالى يعرف بصفاته وآثاره وافعاله وهذا المقدار يكفي في الوضع.

ومع ذلك فالاسم لا يوضع لذلك العنوان او الوجه الذي عرف به بل لنفس الذات المتعالية التي لا تدركه الاوهام وحتى لو فرض أن لفظ الجلالة وضع بلحاظ بعض الصفات كالمعبودية او المتحير فيه او المتحجب فان اللفظ خرج عن ذلك المعنى ولا يفيده اطلاقا وانما ينتقل الذهن به الى ذاته جلّ وعلا.

واما توصيفه تعالى بالرحمن الرحيم فقد فسرت الرحمة في بعض كتب اللغة بانها رقّة في القلب تستوجب الاحسان الى المرحوم وأنها اذا نسبت الى الله تعالى قصد منها الاحسان بذاته اذ لا يمكن ان يوصف تعالى بالرقّة.

والأوجه ما قاله العسكري في الفروق حيث قال (ان الرقّة والغلظة يكونان في القلب وغيره خلقة. والرحمة فعل الراحم والناس يقولون رقّ عليه فرحمه يجعلون الرقة سبب الرحمة). وعليه فتوصيفه تعالى بالرحمة اسناد لنفس الاحسان والعطف من دون تأويل لان اسناد الرحمة الى غيره تعالى بنفس المعنى ايضا.

ومهما كان فالكلام هنا في وجه الاتيان بالوصفين فربما يتوهم انه تكرار غير مفيد كما نسب الى بعض النصارى.

وهناك محاولات كثيرة قديما وحديثا لتبرير هذا التوصيف ويبدو من استمرار المحاولات عدم اقتناع المتاخرين باقوال السابقين كما يظهر من اهتمام الصحابة والتابعين بهذا الامر انه كان مما يشغل بال كثير من المسلمين.

فمما ورد في التفاسير في هذا الباب ما رواه الطبري عن العرزمي انه قال: الرحمن بجميع الخلق، الرّحيم، قال: بالمؤمنين.

وروى حديثا عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ عيسى بن مريم قال: (الرحمن رَحمنُ الآخرة والدنيا، والرحيم رحيمُ الآخرة).

واسناد القول الى عيسى عليه السلام باعتبار الترجمة لان هذه الكلمة عربية ويظهر من قوله تعالى (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)[16] أن البسملة بنفس هذا المعنى – وان اختلفت اللغة – كانت متداولة في الشرايع السابقة.

ولو صحت الرواية فهي تؤيد ما رواه عن العرزمي وان الرحمن صفة تدل على سعة الرحمة فلذلك تشمل جميع الخلق وتشمل نعم الدنيا والاخرة واما الرحيم فصفة تدل على الثبات والدوام كما قيل فتقتضي الاختصاص بالاخرة وبالطبع تختص بالمؤمنين.

وروى الطبري ايضا عن ابن عباس انه قال (الرّحمن الرحيم: الرقيقُ الرفيقُ بمن أحبَّ أن يرحمه).

ولو صحت هذه النسبة فمعنى هذا القول ان الرحمن صفة ذاتية تدل على انه تعالى ذو رحمة بذاته فلذلك وصفه بالرقيق والرحيم صفة لفعله وهو الرفق بمن احب ان يرحمه.

ولكن لا يمكن اسناد الرقة الى الله تعالى فلا يصح هذا التوجيه.

وروى ايضا عن نصر بن عمرو انه قال (سمعت عطاء الخراساني يقول: كان الرحمن، فلما اختزلَ الرحمن من اسمه كان الرحمنَ الرحيمَ).

ثم عقب ذلك الطبري بقوله (والذي أراد – إن شاء الله – عطاءٌ بقوله هذا: أن الرحمن كان من أسماء الله التي لا يتسمَّى بها أحد من خَلْقِه، فلما تسمَّى به الكذابُ مسيلمة - وهو اختزاله إياه، يعني اقتطاعه من أسمائه لنفسه - أخبر الله جلّ ثناؤه أن اسمه "الرحمنُ الرحيمُ" ليفصِل بذلك لعباده اسمَهُ من اسم من قد تسمَّى بأسمائه، إذ كان لا يسمَّى أحد "الرحمن الرحيم" فيجمع له هذان الاسمان، غيره جلّ ذكره).

ومع ان ما نسبه الى عطاء غير ثابت فالتاويل ايضا غير واضح ومهما كان فهو كلام باطل وان ارتضاه الطبري فان مرده ان الرحمن الرحيم معا اسم لله تعالى وان هذا التركيب حدث بعد تسمي مسيلمة بالرحمن.

وهذا غير صحيح قطعا وقد تسمى الله تعالى في القران الكريم بكلمة الرحمن وحدها في ايات كثيرة مضافا الى ان هذه الاية نزلت قبل دعوى مسيلمة بكثير فهذه من اوائل السور او اولها على الاطلاق ومسيلمة ادعى النبوة في اواخر الهجرة.

وقال بعضهم ان كلمة الرحمن ليست عربية واستنكر الطبري هذا الامر بشدة فقال (وقد زعم بعضُ أهل الغَباء أنّ العرب كانت لا تعرف "الرحمن" ولم يكن ذلك في لغتها ولذلك قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: (وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا) إنكارًا منهم لهذا الاسم، كأنه كان محالا عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته).

ثم استشهد بشعرين قال انهما من عصر الجاهلية وورد فيهما التعبير بالرحمن ولكن لم يثبت الشعران من الشواهد العربية ولم يعرف قائلهما ولا شك ان هذا الاسم كان غريبا عليهم ولم يكن مما يتداولونه.

ولكن هذا لا يدل على ان الكلمة ليست عربية فمن الواضح انها صيغة مبالغة من الرحمة كنظائرها من هذه الصيغة كعطشان وغضبان.

ونقصد بنقل هذه الاقوال الغريبة والردود عليها الاشارة الى تكلف المفسرين واللغويين في توجيه هذا التوصيف والتشبث بهذه المحاولات الغريبة حتى ما حكي عن ابن عباس.

وبسبب هذا الاختلاف ذهب بعضهم ولعلهم الاكثر الى انه من باب التأكيد. قال الشيخ الطوسي قدس سره (وحكي عن أبي عبيدة انه قال: رحمن: ذو رحمة، ورحيم معناه انه راحم وكرر لضرب من التأكيد كما قالوا ندمان ونديم).

ويمكن الاعتراض عليه بانه لو كان للتأكيد لكان الاولى ان يؤتى بما هو ابلغ وهو الرحمن بعد الرحيم لا العكس وفعلان ابلغ من فعيل واشد دلالة على المبالغة لو كانتا للمبالغة كما قيل.

قال في الكشاف (فإن قلت: فلم قدّم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى كقولهم: فلان عالم نحرير، وشجاع باسل، وجواد فياض؟ قلت: لما قال الرَّحمن فتناول جلائل النعم وعظائمها وأصولها، أردفه الرَّحيم كالتتمة والرديف ليتناول ما دقّ منها ولطف).

وهذا تخبط واضح من الزمخشري اذ لا دلالة في الرحمن على ان المراد بها جلائل النعم ولا في الرحيم على اختصاصها بما دقّ ولطف. ولم اجد من اشار الى هذا الفرق في كتب اللغة وغيرها.

ومع ذلك فلا يبعد ان يكون القول بالتأكيد أسلم الاقوال ولعل الوجه في تقديم الرحمن رعاية اواخر الايات. مع أن كون الرحمن اشد مبالغة غير واضح فانهم انما قالوا ذلك على اساس القول بان زيادة المباني تدل على زيادة المعاني.

وهذا الكلام مما لا اساس له ولا دليل عليه فان اللفظ في التصغير اكثر من اصل الكلمة مع أن المعنى فيه اقل كالديوان والدويوين والعبد والعبيد وكلب وكليب. كما ان الصفة المشبّهة على وزن فعل يقال انها للمبالغة كحَذِر مع ان حروفه اقل من حاذر.

والمعروف بين المتاخرين ان صيغة فعلان من صيغ المبالغة وانها تدلّ على الكثرة والشمول والسعة وان صيغة فعيل تدل على ثبوت الصفة ولزومها واختلفوا في كونها من صيغ المبالغة ولعل الاكثر على انها صفة مشبهة وليست للمبالغة.

ولا شك أن رحمته تعالى شاملة لكل شيء وثابتة لا تزول كسائر اوصافه. وبناءا على ذلك فربما يقال ان الاتيان بالصيغة الاولى للاشارة الى سعة رحمته تعالى وبالثانية للاشارة الى ان السر فيه هو ان الرحمة صفة دائمة له.

ولكن لم اجد في كتب اللغة والمعاجم ما يدل على هذا الفرق المعروف بين صيغة فعلان وفعيل وان الاولى تدل على الكثرة والشمول والثانية على الثبات والدوام.

ويمكن نقض هذا القول بمثل التوصيف بالعطشان والجوعان وغيرهما مما لا يدل على الكثرة او السعة كما ان التوصيف بالقريب والبعيد لا يدل على الدوام والثبات فقد يكون القرب والبعد موقتا.

وقال في المنار نقلا عن استاده بعد تشنيعه القول بالتاكيد ما ملخصه:

(إِنَّ صِيغَةَ فَعْلَانَ فِي اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ لِلصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ كَعَطْشَانَ وَغَرْثَانَ وَغَضْبَانَ، وَأَمَّا صِيغَةُ فَعِيلٍ فَإِنَّهَا تَدُلُّ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَلَى الْمَعَانِي الثَّابِتَةِ كَالْأَخْلَاقِ وَالسَّجَايَا فِي النَّاسِ كَعَلِيمٍ وَحَكِيمٍ وَحَلِيمٍ وَجَمِيلٍ. فَالرَّحْمَنِ يَدُلُّ عَلَى مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُ إِفَاضَةُ النِّعَمِ وَالْإِحْسَانُ، وَالرَّحِيمِ يَدُلُّ عَلَى مَنْشَأٍ هَذِهِ الرَّحْمَةِ وَعَلَى أَنَّهَا مِنَ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ الْوَاجِبَةِ. فَإِذَا سَمِعَ الْعَرَبِيُّ وَصْفَ اللهِ بِالرَّحْمَنِ لَا يَعْتَقِدُ مِنْهُ أَنَّ الرَّحْمَةَ مِنَ الصِّفَاتِ الْوَاجِبَةِ لَهُ دَائِمًا لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَنْقَطِعُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ صِفَةٍ لَازِمَةٍ ثَابِتَةٍ فَعِنْدَمَا يَسْمَعُ لَفْظَ الرَّحِيمِ يَكْمُلُ اعْتِقَادُهُ وَيَعْلَمُ أَنَّ لِلَّهِ صِفَةً ثَابِتَةً هِيَ الرَّحْمَةُ الَّتِي عَنْهَا يَكُونُ أَثَرُهَا).

ولكن الرحمن ليس كالعطشان والجوعان ونحوهما من الصفات التي تدل على حالة عارضة فان الله تعالى لا يعرضه شيء وانما يوصف بالرحمة لفعله لا لصفته كما ان الرحيم ايضا لا تدل على صفة ثابتة بل على فعل دائم.

ونسب في المنار الى ابن القيم انه قال (ان الرَّحْمَنَ دَالٌّ عَلَى الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ وَالرَّحِيمَ دَالٌّ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْمَرْحُومِ وَكَأَنَّ الْأَوَّلَ الْوَصْفُ وَالثَّانِيَ الْفِعْلُ فَالْأَوَّلُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ صِفَتُهُ أَيْ صِفَةُ ذَاتٍ لَهُ سُبْحَانَهُ وَالثَّانِي دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ يَرْحَمُ خَلْقَهُ بِرَحْمَتِهِ أَيْ صِفَةُ فِعْلٍ لَهُ سُبْحَانَهُ) واستدل على ذلك بقوله تعالى (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) [17] وبقوله (إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[18] وقال (ولم يجئ قَطُّ رحمن بهم).

ويرد عليه مثل ما مر في الرد على المنار لان الرحمن ايضا لا يمكن ان تكون صفة ذات له تعالى فان الرحمة فعله. ومجرد عدم التعارف في توصيف الرحمن بذكر المتعلق لا يدل على انه صفة للذات كما ان اختصاص الصفة به تعالى لا يدل على ذلك وصفات الذات منحصرة في العلم والحياة والقدرة وما عداها من صفاته تعالى انما تنتزع من فعله كالخالق والرازق وغيرهما.

مع ان الاضافة واردة في بعض التعابير الماثورة كما سياتي ان الوارد في بعض الادعية يا رحمن الدنيا والاخرة ورحيمهما.

وقيل ان اتصافه تعالى بالرحمن من جهة شمول رحمته في الدنيا للجميع واتصافه بالرحيم من جهة اختصاص رحمته المستقرة والثابتة بالمؤمنين لانه لا يرحم غيرهم يوم القيامة.

وربما يستند في ذلك الى قوله تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)[19] فان الكتابة بمعنى التسجيل وهو يحكي عن الثبوت والدوام فالرحمة الثابتة الباقية خاصة بالمتقين.

وفي الكافي في حديث عن الامام الصادق عليه السلام في تفسير البسملة قال عليه السلام (والله إله كل شي‏ء الرحمن بجميع خلقه والرحيم بالمؤمنين خاصة).[20]

ولكن السند ضعيف وفي لفظ الحديث بكامله ما لا يخلو عن غرابة.

وفي مجمع البيان حديث مرسل قال وروي عن الصادق عليه السلام (الرحمن اسم خاص بصفة عامة والرحيم اسم عام بصفة خاصة) ويمكن ان يكون اشارة الى نفس الحديث السابق.

وكونه اسما خاصا بلحاظ أنه علم لله تعالى وكونه صفة عامة لانها تدل على رحمة عامة تشمل جميع الخلائق. فعمومية الصفة هي السبب في خصوصية الاسم اذ لا يمكن لغيره تعالى ان يشمل برحمته جميع الخلق.

وكون الرحيم اسما عاما بلحاظ أنه مما يوصف به غيره تعالى ايضا كما ورد في وصف الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في القرآن (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[21] وكونها صفة خاصة بلحاظ أنها تدل على رحمته المستمرة الى الحياة الاخرى وهي خاصة بالمؤمنين.

وفي هذا التقرير ملاحظات:

الملاحظة الاولى: أن ما ورد في هذين الحديثين مع ضعفهما وكل ما يقال في هذا الباب يتعارض مع ما ورد في ادعية كثيرة مأثورة ومروية في كتب الدعاء والحديث بهذا التعبير (يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما).[22] منها دعاء الامام الحسين عليه السلام يوم عرفة. وورد ايضا في بعض كتب العامة.[23]

ولعل هذه الادعية تنظر الى ما دار على الالسنة في تفسير الكلمتين فاريد بها الرد على هذه المزاعم.

الملاحظة الثانية: أن إطلاق صفة الرحيم عليه تعالى ليس باعتبار رحمته في الآخرة والخاصة بالمؤمنين بل اطلق عليه تعالى في القرآن بلحاظ رحمته في الدنيا ورحمته على غير المؤمنين في الآخرة.

قال السيد الخوئي قدس سره في تفسير البيان (ثم إنه قد ورد في بعض الروايات أن الرحمن اسم خاص ومعناه عام وأما لفظ الرحيم فهو اسم عام ومعناه خاص ومختص بالآخرة أو بالمؤمنين إلا أنه لا مناص من تأويل هذه الروايات أو طرحها لمخالفتها الكتاب العزيز فإنه قد استعمل فيه لفظ الرحيم من غير اختصاص بالمؤمنين أو بالآخرة ففي الكتاب العزيز " فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [24] "نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"[25] "إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ" [26] "رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا"[27] "وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا" [28] إلى غير ذلك من الآيات الكريمة وفي بعض الأدعية والروايات "رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما)

ثم قال رحمه الله (ويمكن أن يوجّه هذا الاختصاص بأن الرحمة الإلهية إذا لم تنته إلى الرحمة في الآخرة فكأنّها لم تكن رحمة وما جدوى رحمة تكون عاقبتها العذاب والخسران؟! فإن الرحمة الزائلة تندكّ أمام العذاب الدائم لا محالة وبلحاظ ذلك صح أن يقال الرحمة مختصة بالمؤمنين أو بالآخرة).[29]

وما ذكره قدس سره في التوجيه لا يرفع الاشكال اذ بناءا على هذا التوجيه لا يصح التعبير بالرحمن باعتبار رحمته الشاملة في الدنيا لجميع الخلائق لانها لا تنتهي الى الفوز في الاخرة في اكثر الناس.

الملاحظة الثالثة: ان اوصاف الله تعالى لا تختص بعالم دون عالم وزمان دون زمان فالرحمانية لو فرض كونها بمعنى سعة الرحمة وشمولها لا تختص بالدنيا بل تشمل الآخرة كما أن الرحيمية لو فرض كونها بمعنى الثبوت والدوام فشمولها لجميع العوالم والادوار واضح. ونحن لا نرجو النجاة يوم القيامة الا من هذا الشمول بل هي تشمل الجميع في الدنيا والآخرة الا ان الاختلاف في القابليات فالمحرومون من كثير من انحاء الرحمة انما حُرموا لعدم استحقاقهم وقابليتهم فالنقص من القابل لا من الفاعل.

وهناك كثير من الناس حُرموا من أنحاء من الرحمة في الدنيا وهناك كثير من غير المؤمنين تشملهم الرحمة يوم القيامة قطعا ولو جزئيا قال الله تعالى (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ..).[30] ومن هذا القبيل ايضا الآية التي نقلناها آنفا في عبارة السيد الخوئي رحمه الله (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا).

وأما قوله تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) فلا يعني أن رحمته تعالى لا يشمل غير المتقين يوم القيامة فانه تعالى يغفر الذنوب جميعا ويغفر للتائبين وغيرهم ويقبل الشفاعات. والآيات الدالة على سعة رحمته يوم القيامة كثيرة جدا منها قوله تعالى (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).[31]

وانما المراد أن الرحمة المكتوبة المسجلة انما هي للمتقين وأما غيرهم فعليهم ملاحظات فربما تشملهم الرحمة الواسعة كل الشمول وربما تشملهم في تخفيف العذاب ونحوه ولا شك في أن رحمته تعالى تشمل كثيرا من غير المؤمنين يوم القيامة بل ربما اكثرهم فان اكثر الناس لا يعقلون ولا يشعرون.

نعم هناك من لا تشمله الرحمة ابدا كالظلمة والمستكبرين وأعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأعداء اهل بيته عليهم السلام.

ومهما كان فبسبب اختصاص هذه الصفة اي الرحمن وبهذه الصيغة بالله تعالى اعتبرت علما له تعالى لا يطلق على غيره في لغة العرب كما قيل. ولعل السبب فيه هو دلالتها على شمول الرحمة لكل شيء – كما هو معروف وان لم يثبت بدليل – ولا يمكن ذلك الا منه تعالى.

ولكن الظاهر أنها من المصطلحات الاسلامية والمشركون ما كانوا يعترفون بهذا الاسم او هذه الصفة كما قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ..).[32] ولم يقولوا (ومن الرحمن) فالاستفهام الانكاري بهذا اللفظ يدلّ على أنهم ما كانوا يفهمون لها معنى. وقد مرّ كلام الطبري حول هذا الامر ونقده.

فتحصل أن الصفتين كلاهما للدلالة على الرحمة ويمكن ان يكون الوجه الاقرب الى الصواب في تكرار التوصيف بهما هو التاكيد على هذا الوصف كما يلاحظ تكرارهما في نفس السورة ضمن توصيفه تعالى بمحامده. ولعل الوجه في هذا التاكيد هو ان الابتداء والتيمن بالاسم الكريم يناسب ان يكون بلحاظ رحمته تعالى وسعة رحمته.

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ...

الحمد هو الثناء. والفرق بينه وبين الشكر ان الحمد لا يختص بذكر النعم ومدح المنعم على ما انعم ولذلك نحمد الله تعالى على كل صفاته وافعاله. والشكر يختص بذلك فلا نقول اشكر الله على عظمته وكبريائه.

وهناك بحث في اللغة في الفرق بينه وبين المدح ولم اجد وجها صحيحا والزمخشري يعتبرهما واحدا والظاهر انه هو الصحيح الا ان هناك فرقا بينهما في الاستعمال فلا يُنشأ الثناء بكلمة المدح ولكن يُنشأ بالحمد ولذلك لا يصح ان نبدّل الحمد لله بقولنا المدح لله.

وهذه الآية تعلّمنا كيف نبدأ الكلام فان هذه السورة وضعت في بداية كتاب الله تعالى بامر من رسوله صلى الله عليه واله وسلم وهو لا يامر الا بامره تعالى.

والمعروف ان معنى قولنا (الحمد لله) ان كل الحمد له تعالى او جنس الحمد له فلا يستحقه غيره وهو صحيح في حد ذاته فان الحمد في الواقع لا يكون الا على صفة جميلة او فعل جميل. وكل جميل مستند اليه تعالى ومخلوق له فان حَمِدنا اي احد او اي شيء فانما نحمده لجماله وكماله وهما من خلقه تعالى فالحمد يعود اليه فليس في الكون حمد يُنشأ الا ويعود اليه تعالى.

ولكن الظاهر ان تفسير هذه الجملة بذلك غير صحيح لانه يستلزم أن تكون هذه الجملة خبرية وليست انشائية مع أن من الواضح لدينا حينما نذكر هذه الجملة - وهي من الاذكار المتكررة كثيرا - اننا لا نقصد بها الاخبار عن ان الحمد له تعالى وانما هي انشاء للحمد من العبد فالمقصود ان نحمده بهذه الجملة لا ان نخبر عن حقيقة خارجية وهي ان المحامد كلها ترجع الى الله تعالى.

ولذلك عقبها تعالى بالمناجاة (اياك نعبد واياك نستعين) ثم بالدعاء (اهدنا الصراط المستقيم) وهذا يدل على اننا نخاطبه تعالى بهذه الجملة.

ونحن نكررها ليلا ونهارا ولا نقصد الا الثناء عليه تعالى بكل ما نعرفه من صفاته الحسنى وما اولانا من نعمه الجسيمة. وفي هذه الآية ننشئ الحمد له على ما يذكر من الصفات بعده اي رب العالمين والرحمن والرحيم.

والربّ صفة مشبهة من (ربب) وهو المالك للشيء المصلح له ولا يقال باطلاقه الا لله تعالى ويطلق بالاضافة على غيره تعالى كربّ البيت وربّ الدابة وربة البيت.

وورد في القرآن خطاب يوسف عليه السلام لصاحبه في السجن (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ)[33] يقصد به الملك.

ويظهر من العين ان الاصل فيه هو المالكية قال (ومن ملك شيئا فهو ربّه). وقال ابن دريد في الجمهرة (وربّ كل شيء مالكه). وكذلك في تهذيب اللغة والمحيط والصحاح. ولكن في معجم مقاييس اللغة أن الاصل فيه اصلاح الشيء والقيام عليه.

وقال الراغب في المفردات (الربّ في الاصل التربية وهو إنشاء الشيء حالا فحالا الى حدّ التمام). ولكن كتب الاقدمين خالية منه بل اعتبروا التربية من ربو بمعنى العلو والارتفاع كأنّ المربّي يؤثر في تنمية جسم الولد وروحه.

ومع ذلك فما ذكره غير بعيد ايضا.

وقال في النهاية (الرب يطلق في اللغة على المالك والسيد والمدبر والمربي والقيّم والمنعم). وبكل من هذه المعاني يصح اطلاقه على الله تعالى.

والعالمين جمع عالم وهناك خلاف في معناهما فمنهم من يقول ان مفهوم الجمع اقل موردا من مفهوم المفرد لان العالم بمعنى كل المخلوقات والعالمين بمعنى ذوي العقول.

ولكن الظاهر أن هذا المعنى للعالم من مستحدثات المتكلمين ولم ترد هذه الكلمة في استعمالات العرب بهذا المعنى بل هي قليلة الاستعمال في اللغة اساسا وانما الوارد في القرآن والحديث واللغة هو الجمع ومعناها في اللغة البشر وكذلك المفرد على ندرة وجوده.

قال في العين (والعالم: الطَّمْش اي الانام يعني الخلق كله والجمع عالمون).

والظاهر ان الجمع ايضا بنفس معنى المفرد لا اكثر منه ولا اقل ولكن بعض اللغويين قالوا ان الجمع باعتبار اصناف الخلق وهو بعيد.

وقال بعضهم ان المراد بالعالمين كل الكون بدليل قوله تعالى (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)[34]

وهو استدلال غريب فهو تعالى رب كل شيء ورب الناس ايضا ورب كل مجموعة من الكون.

وبعضهم يقول ان العالم بمعنى كل الكون والعالمين جمع باعتبار اطلاق العالم على كل مجموعة كما يقال عالم الحيوان وعالم النبات.

ولكن الظاهر ان هذا كله استعمال مستحدث وأن العالمين بمعنى البشر وحكي عن ابن عباس القول بانه یشمل الجن والانس.

وقال الراغب في المفردات (والعالم اسم للفلك وما يحويه من الجواهر والاعراض وهو في الاصل اسم لما يعلم به كالطابع والخاتم لما يطبع به ويختم به وجعل بناؤه على هذه الصيغة لكونه كالآلة والعالم آلة في الدلالة على صانعه ولهذا احالنا تعالى عليه في معرفته فقال أولم ينظروا في ملكوت السماوات والارض..[35]).

وقد اخذ منه جمع من المفسرين ولا أظن أن العرب سموا العالم عالما لهذا الوجه فهذا أمر ورد في الكتاب العزيز ولا يعرفه العرب مع ان العالم ليس عندهم بهذا المعنى الذي ذكره الراغب تبعا لمصطلح الكلام فانه من اهله.

والحاصل ان الجمع والمفرد هنا بمعنى واحد وان المراد البشر او الجن والانس.

 

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ...

مر الكلام فيهما. وربما يسأل عن وجه التكرار واعادة ذكر الوصفين.

وأجاب بعضهم عن السؤال بأن البسملة ليست جزءا من السورة وهو غير صحيح فانها جزء من سورة الفاتحة قطعا.

بل الجواب ان اعادتهما هنا للاشارة الى سبب انشاء الحمد من العبد فالله تعالى يعلمنا ان نحمده على ربوبيته للعالمين ونحمده على سعة رحمته وشموله وعلى ثبات رحمته ودوامه على فرض اختلاف الوصفين في المفاد كما قيل.

ونحمده على سلب كل ملك عن غيره يوم القيامة لئلا يحكم في الناس الا العدل والرحمة. فذكر هذه الاوصاف بمنزلة التعليل للحمد نظير ما اذا ورد الامر (اكرم زيدا العالم) فان العرف يفهم منه التعليل اي اكرمه لعلمه.

ومن اللطيف انه تعالى يرغّب الانسان ان يحمده اول ما يحمد على صفة الرحمة لا على صفة القهر والجبر والعظمة.  

 

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ...

وهذه ايضا صفة اخرى امرنا ان نحمد الله عليها وهي كونه تعالى هو المالك في يوم الدين لا غيره فالاضافة هنا اضافة الى الظرف لا الى المفعول ليكون المعنى انه يملك يوم الدين فانه لا خصوصية له فلله ملك السماوات والارض وانما الاهتمام في الاية بنفي المالكية في ذلك اليوم عن غيره تعالى.

واليوم في اللغة النهار ولكن المراد به هنا مطلق الزمان. واليوم يطلق ايضا على كل مرحلة من الزمان له طابع خاص.

وهذا اليوم عالم بنفسه قال تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)[36] بناءا على أن المراد به يوم القيامة كما هو الظاهر.

واما قوله تعالى (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)[37] فقد فسرناه بوجه آخر.

والدين هو الجزاء وقيل الحساب. والاصل فيه على ما في معجم المقاييس الانقياد والذل والطاعة. وذكر في العين له عدة معان منها الطاعة والجزاء والمحاسبة.

وإضافة اليوم اليه توحي بامتياز هذا اليوم من أيام حياة الانسان فهو اليوم الذي يجد فيه نتيجة أعماله واضحة تماما وهو في الدنيا قد لا يرى شيئا من نتيجة عمله لانه ظرف العمل وليس ظرف الحساب والجزاء وان كان ربما يظهر بعض نتايج الاعمال في الدنيا ايضا ولكنه ليس دائما ولا كاملا بل ربما لا يجد اثرا لعمله.

ولذلك ورد عن امير المؤمنين عليه السلام (وإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل)[38] والمفروض ان يكون الجزاء اهم شيء في نظر الانسان الذي يؤمن بالآخرة لانه نتيجة اعماله واتعابه.

والمؤسف ان الانسان حتى لو كان مؤمنا قلّما تجده مهتما بهذا الشأن بمقدار ما يهتم بنتائج اعماله في الدنيا ونحن نجد أن جلّ اهتمام البشر منحصر في الشؤون المادية والصحية حتى مع ايمانهم بالآخرة مع انهم يعلمون ان شأن الدنيا حقير وأمده قصير.

وفي التنبيه على الجزاء والمحاسبة في هذا الموضع بالخصوص وجوه من الحكمة نذكر بعض ما يمكننا ادراكه:

الاول: أن التأكيد على رحمته تعالى في الآية السابقة وفي البسملة وتكرار الرحمة بالصيغتين ربما يوجب اغترار الانسان برحمته الواسعة ويغفل عن المحاسبة فأراد الله تعالى ان ينبّهه ليكون بين اليأس والرجاء. ولذلك تكرر في القرآن ذكر الرحمة والغفران مع العذاب والعقاب كقوله تعالى (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ).[39] وقوله ايضا (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[40] وغيرهما.

الثاني: أن هذه السورة نزلت لتربية الانسان وتوجيهه الى الطريق الصحيح في الحياة ولذلك اُمر المسلم ان يكررها عدة مرات في كل يوم وفي كل صلاة وفي كل مناسبة. ومن أهم الامور في الحياة التوجه الى الآخرة وان يكون الانسان متذكرا لها دائما ولولا ايمانه بيوم الجزاء لم ينفعه الايمان بالله تعالى ولم يؤثر في تنظيم حياته وكل شقاء الانسان يحصل من الاعتقاد بأن الموت هو النهاية وأن الحياة تنحصر في هذه الدنيا.  

الثالث: أن ذكر هذا الوصف من أوصافه تعالى جزء من التعليل لحمده وثنائه فنحن نحمده ونثني عليه ونكرر ذلك يوميا عدة مرات لانه لم يترك اعمال الصالحين تذهب سدى فلو لم يكن لاعمالهم جزاء في عالم آخر لاستوى المحسن والمسيء فهذا من أعظم نعمه تعالى حيث يظهر الحق بكل جماله ويرتفع الحجب عن الابصار وتتبين حقائق الاشياء على ما فيها من قبح او جمال ويتحكم العدل والقسط وينال كل احد حقه ويصل الى نتيجة اتعابه فلولا هذا اليوم العظيم لم تكتمل النعمة ولولا الآخرة لكان كل ما في هذه الحياة ظلم وشقاء ونصب واحتيال.

والمؤمن وان كان يخاف من عواقب اعماله السيئة الا أن كل مؤمن له أعمال صالحة ويتوقع أن ينال عليها جزاءا وافيا ولا شك في أن ما نراه من رحمته تعالى يوم القيامة لا يقارن بعذابه فقد سبقت رحمته غضبه في الدنيا فكيف بالآخرة؟!

الرابع: أن في الجزاء شفاءا لما في صدور المؤمنين من الحنق والغيظ حيث يرون الظلمة والمستكبرين ينالون جزاءهم جزاءا وفاقا لظلمهم وعدوانهم على الناس ولا شك أنهم حتى لو كانوا يقتلون او يصلبون في الدنيا لم يكن ذلك كافيا لمجازاتهم ولا يمكن مجازاتهم في الدنيا جزاءا وفاقا وما يرونه هناك يكفيهم جزاءا كما قال تعالى (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ).[41] بل لولا شدة العذاب والعقاب على المجرمين الظالمين لم تكتمل النعمة على المظلومين والمحرومين.

الخامس: أن فيه تنبيها للمشركين حيث كانوا يعتقدون بالله تعالى وقد تكرر في القرآن هذا المضمون كما في قوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[42] ولكنهم كانوا ينكرون الآخرة كما وصفوا بذلك في آيات عديدة ايضا كقوله تعالى (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ..)[43] فكان المناسب بعد حمده تعالى والتذكير برحمته الواسعة ان ينبه القوم بأن الايمان به تعالى لا يكفي بل لا بد من الايمان بيوم الدين.

واختلفت القراءة في الكلمة الاولى هل هي مَلِك وهو صفة مشبهة من الملك بضم الميم بمعنى السلطة او مالك وهو اسم فاعل من المِلك بكسر الميم. والقراءة الاولى اشهر وان صحّت القراءتان لانهما مشهورتان ومتداولتان بين الناس وقد اُمرنا ان نقرأ كما قرأ الناس.

وهناك محاولات لترجيح احدى القراءتين منها ما قيل في ترجيح القراءة الاولى بان الملك بمعنى السلطة يضاف الى الزمان يقال فلان ملك العصر الفلاني واما الملكية فلا تضاف الى العصور ولا يقال بان فلانا مالك يوم كذا.

وهذه غفلة عن ان هذا الفرق خاص بالملكية الاعتبارية لما تحت اليد والملكية هنا ليست اعتبارية بل حقيقية فلا فرق بينها وبين السلطة من حيث المصداق.

بل يمكن ان يقال ان اختيار لفظ المالك يوحي بامر اخر لا يستفاد من القراءة الاخرى وهو انه في ذلك اليوم ينتفي كل ملك اعتباري فالمالك ايضا منحصر فيه تعالى والانسان لا يملك شيئا وليس له اي اختيار حتى انه لا يملك اعضاءه مع انه يملكها في الدنيا حقيقة لا بالاعتبار ففي الآخرة تشهد عليه اعضاؤه بما فعل فيعترض عليها كما قال تعالى (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ..).[44]  

وهذا هو الاساس في بسط العدل الالهي في ذلك اليوم فالمؤمن لا يخشى في ذلك اليوم ان يُظلم مثقال ذرة لان كل ما لقيه من الظلم في هذه الحياة انما كان نتيجة اختيار الانسان المتسلط ولو سلطة جزئية والسلطة في ذلك اليوم ليست الا للواحد القهار فتطمئن نفسه أن شيئا من عمله الصالح مهما كان قليلا لا يترك من دون ثواب كما قال تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا)[45] كما ان ما يلقاه الظلمة والمستكبرون ذلك اليوم من التحقير والعذاب يشفي غليل المؤمنين والمظلومين.

فتبين أن هذا الوصف ايضا من توابع رحمته تعالى ولكنه مضافا الى ذلك يثير اهتماما آخر للانسان وهو توقّع الجزاء على أعماله وأنه يجب عليه عقلا أن يسلك سبيل الاحتياط حتى لا يقع في عذاب نتيجة اعماله السيئة. والتنبيه على ذلك ضروري بعد التأكيد على الرحمة الواسعة والمستمرة لئلا يغفل الانسان عن عمله اعتمادا على سعة رحمته تعالى.

بل اللازم تكرار التنبيه على ذلك ليلا ونهارا لتستقرّ العقيدة به في قلبه وتؤثر الاثر البليغ والسريع في تصرفاته ولذلك ورد التنبيه عليه في هذه السورة التي تتكرر قراءتها كل يوم عدة مرات وفي كل صلاة مرتين على الاقل.

وربما يقال ان يوم الدين ظرف بروز اختصاص الملك به تعالى لا ظرف الانحصار لانه تعالى في هذا العالم ايضا هو المالك والملك ليس غيره.

ومثل هذا وارد في آيات عديدة كقوله تعالى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)[46] فان الملك ليس الّا له وحده لا يشاركه فيه أحد في جميع العوالم، الّا أن هذه الحقيقة لا تظهر للانسان الا ذلك اليوم.

ولكن يمكن ان يقال ان هناك تبدّلا للحقائق في ذلك اليوم وليس مجرد ظهور لها لأنّه تعالى أعار الانسان ملكا في هذه النشأة ليختبره، وهناك لا يملك أحد شيئا حتى بالملك الاعتباري فلا ملك الا للّه الواحد القهّار.

ومثل هذا ايضا يقال في هذه الاية المباركة فما أصرّ عليه بعض المفسرين من ان يوم الدين يوم ظهور انحصار المالكية فيه تعالى ليس على ما ينبغي.

وهذا الامر يتضح اكثر بملاحظة قوله تعالى (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)[47] فهناك اختيار وقدرة وملكية ممنوحة للانسان في هذه النشأة وان كانت متقومة بارادته تعالى ولا استقلال للانسان فيها الا انه لا يشعر في هذه الدنيا بعدم استقلاله ولكنه يفقد هذا الامر يوم القيامة من الاساس فليس له قدرة وحاكمية ذلك اليوم حتى بصورة ظاهرية.

 

الكلام في اختلاف القراءات:

انما الكلام هنا في اصل اختلاف القراءات وما هو السبب في ذلك وكيف تصح القراءتان؟ هل هما نازلتان من السماء ام أن النازل احداهما وهي مجهولة فما هو التكليف حينئذ؟ هل يتخير المكلف بينهما ام يجب الاحتياط؟

يمكن ان يقال ان الناس كانوا يختلفون في القراءة في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والسبب في ذلك أنهم كانوا يقرأون عن حفظ ومن الطبيعي أن يختلف الناس فيما يحفظون وان كان المصحف مكتوبا في ذلك العهد ايضا وبامر منه صلى الله عليه واله وسلم الا ان الغالب كانوا يتداولون الآيات عن حفظ فيكثر الاختلاف في النقل.

وبالطبع كان ينشأ من ذلك تغيير لفظ بلفظ يرادفه مع الحفاظ على المعنى حسب ذوق التالي للقرآن فإن التقيد بالألفاظ مشكل في الحفظ وقد صرح في بعض روايات العامة بجواز النقل بالمعنى حتى بالنسبة إلى آيات الكتاب.

ويلاحظ حدوث التغير في كثير مما كان يعتمد على الحفظ كالاشعار المنقولة عن الاولين حيث تختلف روايتها باختلاف رواتها اختلافاً فاحشاً منشأه الاعتماد على الحفظ فقد يستعمل الشاعر كلمة مستعملة متعارفة في عهده ثم تهجر تلك الكلمة فيبدلها راويته بكلمة اُخرى تتضمن تلك المعنى وتحتفظ بتلك الحيوية التي للكلمة الأولى في ذلك العهد.

هذا مضافاً إلى اختلاف لغات العرب ولهجاتهم فكان جمع منهم يستثقلون بعض الكلمات فيتلفظونها بنحو آخر ويبدلونها بكلمة اخرى مرادفة حتى في الفاظ القرآن المجيد وكأنهم لم يشعروا بتعبدية خاصة في النقل بالنص.

ومضافاَ إلى أن بعض الشؤون الاجتماعية كانت دخيلة أيضاً في تغير بعض الالفاظ فكان كل رجل مرموق في المجتمع يقرأ بوجه خاص ليمتاز عن اقرانه ويتبعه جماعته بالطبع ومع ذلك كانوا يحافظون على المعنى حسب القدرة والذوق.

هذا ولكن من المستبعد جدا ان تكون هذه الاسباب موجبة لعدم اهتمام المسلمين بالحفاظ على النص القرآني المقدس وان ورد في بعض الروايات ما يدل عليه الا انها لا تقتضي ان يكون ذلك ظاهرة عامة.

روى الطبري في جامع البيان في تفسير قوله تعالى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ..)[48] بسنده عن سعيد بن المسيب (أن الذي ذكر الله إنما يعلمه بشر إنما افتتن أنه كان يكتب الوحي فكان يملي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم "سميع عليم" أو "عزيز حكيم" وغير ذلك من خواتم الآي ثم يشتغل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الوحي فيستفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول أعزيز حكيم أو سميع عليم أو عزيز عليم؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ ذلك كتبت فهو كذلك ففتنه ذلك فقال: إن محمدا يكل ذلك إليّ فأكتب ما شئت).

وهذا الكاتب هو عبدالله بن سعد بن ابي سرح العامري اخو عثمان من الرضاعة وقد ارتد بعد هذا وهو الذي امر الرسول صلى الله عليه واله وسلم بقتله اينما وجد ثم اتى به عثمان وطلب له الامان وبعد ان تولى الخلافة ولاه مصر ودفع له خمس غنائم افريقية وكان ذلك مما أثار الناس عليه.

وقال الطبري (ولا تمانُع بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال "إني قد قلت مثل ما قال محمد" وأنه ارتدّ عن إسلامه ولحق بالمشركين فكان لا شك بذلك من قيله مفتريًا كذبًا).[49] وهذه القصة مروية في روايات كثيرة وبطرق مختلفة ومذكورة في التفاسير وكتب الحديث.

ولكن الظاهر ان الروايات تتضمن افتراء الرجل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وان كان التعبير في بعضها يوهم ان الراوي يسند اليه صلى الله عليه وآله وسلم قبول ما كتبه هذا المنافق فيترتب عليه الحكم بجواز التبديل كما توهمه بعض الناس. ومن المؤسف أن بعض هذه الروايات واردة في كتبنا ايضا.

وروى الطبري ايضا في تفسير قوله تعالى (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا)[50] عن الأعمش قال: قرأ أنس هذه الآية (إنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أشَدُّ وَطْئًا وأصْوَبُ قِيلا) فقال له بعض القوم: يا أبا حمزة إنما هي (وَأَقْوَمُ قِيلا) قال: أقوم وأصوب وأهيأ واحد.

وروى ايضا في تفسير قوله تعالى (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ)[51] بسنده عن همام قال (كان أبو الدرداء يُقْرئ رجلا (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ) قال: فجعل الرجل يقول إن شجرة الزقوم طعام اليتيم قال فلما أكثر عليه أبو الدرداء فرآه لا يفهم قال: إن شجرة الزقوم طعام الفاجر).

ونسبه في تفسير مقاتل بن سليمان الى قراءة ابن مسعود وهذا مما يضعف هذا النقل.

ومثل ذلك كثير في رواياتهم. وكلها مردودة ولا تبرر تغيير كلمات القرآن.

ولو صح شيء منها فلا يدل على أن التغيير كان متداولا ومتعارفا في عهد الرسالة وانما هو شيء حدث بعد وفاته صلى الله عليه واله وسلم وبسبب عدم التفافهم حول المحور الذي جعله الله تعالى لهم لئلا يختلفوا في كتابه وشريعته.

ولو حدث شيء من التغيير في عهد الرسالة فلا دليل على انه كان سببا لاختلاف القراءة وانما هو خطأ من بعض الناس كما يحدث دائما.   

ومهما كان فالمتيقن ان الاختلاف انتشر بين الناس بعد وفاة الرسول صلى الله عليه واله وسلم لعدة اسباب لا يهمنا ذكرها ولا الاعتماد عليها الى ان كثر الاختلاف فقام عثمان بجمع المصاحف المختلفة واحراقها ولم يُبق منها الا مصحفا واحدا وهي ما يعبر عنها بالمصحف الامام وارسل منها نسخا الى عدد من الامصار وفي عددها اختلاف.

وهناك اختلاف في أن هذا العمل هل يعد من محاسنه او مثالبه؟ فان بعض العلماء استحسنه بلحاظ انه لو لم يفعل ذلك لتوسع الاختلاف وكلما ازدادت النسخ ازداد الاختلاف وكان هذا مما يوجب عدم الاعتماد والوثوق. ومنهم من اعتبره امرا سيئا بدليل انه ابتداع منه ولو كان مستحسنا لبادر اليه الرسول صلى الله عليه واله وسلم بنفسه.

قال الشريف المرتضى رحمه الله وهو يشير الى ما فعله عثمان (ان ذلك ليس تحصينا للقران ولو كان تحصينا لما كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يبيح القراءات المختلفة..).[52]

ويبدو منه قبول ما ورد في روايات العامة من جواز القراءات المختلفة ولكن يمكن ان يكون ذلك منه تماشيا مع الخصم وردا عليه بما هو يقبله لانه في مقام الرد على من يدافع عن عثمان.

والصحيح أن عدم استياء الصحابة من فعله بل اعتمادهم على مصحفه خير دليل على أن هذا الاختلاف كان حادثا بعد الرسول صلى الله عليه واله وسلم او لم يتبين في حياته فلم يكن من المتوقع ان يقوم الرسول صلى الله عليه واله وسلم بتوحيد المصحف فكان ما فعله عثمان احسن من تركه وان كان في الاحراق ما فيه.

مضافا الى الشك في وجه الاختصاص بهذا المصحف ويقال انه نسخة الشيخين اخذها من عايشة وحفصة وسيأتي ذكر روايات ربما تدل على خلاف ذلك.

وقد يقال ان الاختلاف بين النسخ لم يكن عميقا مغيرا للمعنى وسيـأتي وجه النظر فيه.

ومهما كان فقد حدث الاختلاف حتى في قراءة هذا المصحف الموحد ولعل ذلك لعدة اسباب:

منها عدم التنقيط وعدم جعل الحركات على الحروف وعدم وضوح الخط فكان كل قارئ يقرأ – كما سمعه من مشايخه – القراءة التي يرويها من احد من الصحابة وانما يهتم بان لا يكون مخالفا للمصحف العثماني من حيث ظاهر الخط.

قال ابن حجر (قال ابن أبي هاشم: ان السبب في اختلافات القراءات السبع وغيرها ان الجهات التي وجهت اليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل. قال: فثبت أهل كل ناحية على ماكانوا تلقوه سماعاً عن الصحابة بشرط موافقة الخط وتركوا ما يخالف الخط امتثالاً لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأوا في ذلك من الاحتياط للقرآن فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراء الأمصار مع كونهم متمسكين بحرف واحد من السبعة..)[53]

وقال العلامة الزنجاني رحمه الله (يقول التاريخ ان الصحابة جردوا المصحف من كل شيء حتى من النقط والشكل ولم يكن الخط الذي وصل إلى العرب مضبوطاً بالحركات والسكنات كما هو اليوم بل كان خلواً مما يدل على اشكال الحروف المكتوبة ولكن ملكة الاعراب الموجودة في نفوسهم قبل اختلاطهم باُمم أعجمية صانت لسانهم عن اللحن).[54]

ومن موجبات اختلاف القراءة ايضا اختلاف العرب في القواعد النحوية قديما وحديثا. ويروى عن عثمان انه قال بعد الجمع (أَرَى فِيهِ شَيْئًا مِنْ لَحْنٍ سَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا)[55] وهو امر غريب.

وورد في الحديث (اصحاب العربية يحرفون الكلم عن مواضعه).[56] ولكن لا يمكن الاعتماد عليه لان السند ضعيف.

والحاصل أن هذه العوامل وغيرها تسببت في حدوث القراءات المختلفة واشتهر منها سبعة ثم اضيف اليها ثلاثة وهي اكثر من ذلك بكثير وهناك من القراء المعروفين كابان بن تغلب وحمران بن اعين وغيرهما ممن لم يذكر في السبع ولا في العشر.

ولكن كل ما قيل في هذا الباب لا يفسر ما ينقل من الاختلاف فضلا عما لم ينقل فهناك اختلاف في وجود جمل او شبهها وهو منقول من الصحابة بانفسهم وليس اختلافا في قراءة المصحف الموحد ولا من الاختلاف الناشئ من عدم التنقيط او اختلاف القواعد العربية او اللحن واللهجة ولا من الاختلاف الناشئ من الاعتماد على الحفظ او عدم الاهتمام بتوقيفية النص.

ففي كتاب المصاحف لابن ابي داود السجستاني ذكر مصاحف الصحابة وموارد اختلافها وهي كثيرة جدا ننقل بعضها. ومن الغريب وجود الاختلاف حتى في سورة الفاتحة مع انهم باجمعهم سمعوها عدة مرات يوميا من الرسول صلى الله عليه واله وسلم.

فمنها ان عمر بن الخطاب كان يقرأ في صلاته (صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِ الضَّالِّينَ) وروى في ذلك عدة روايات.

قال وقرأ ايضا في اول سورة آل عمران (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيَّامُ).

وهذا مما يوجب الشك فيما نقلناه عن بعضهم ان المصحف الامام مستنسخ من نسخة الشيخين.

وروى في كتاب المصاحف ايضا في قوله تعالى (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)[57] أن اُبيّ بن كعب وابن عباس قرءا (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطُوفَ بِهِمَا).

وهذا مما يقلب المعنى بوضوح.

وفي قوله تعالى (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً)[58] قرءا (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً).

وروى بسنده عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: (قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) قَالَ: قُلْتُ: مَا هَكَذَا أَقْرَؤُهَا قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ نَزَلَتْ مَعَهَا، قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ).

وهذه القراءة تضيف ثلاث كلمات الى القراءة المشهورة وتدل بصراحة على الزواج الموقت فلا يمكن اعتبارها من قبيل الاختلاف في قراءة الكلمة ونحو ذلك مما مر ذكره.

وفي هذه الاية ورد في تفسير مقاتل بن سليمان (ثُمّ ذكر المتعة فقال: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إلى أجل مسمى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً يعني أعطوهن مهورهن..).[59] مما يدل على ان المصحف الموجود لديه كان يشتمل على هذه الزيادة.

ولكنه عقب ذلك بقوله (ثُمّ إن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن المتعة بعد نزول هَذِهِ الآية مرارا). وانما قال مقاتل ذلك لئلا يتهم بانه خالف القانون المتبع والذي تصرّ عليه السلطات.

وروى الطبري في ذلك عدة روايات كما ورد في مجموعة من التفاسير ايضا.

وفي كتاب المصاحف عن اُبيّ ايضا في قوله تعالى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ)[60] أنه قرأها (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ).

وهذه القراءة تضيف قيدا في الصوم وليس من قبيل الاختلاف في قراءة الكلمة ايضا.

وروى عن ابن مسعود وابن عباس في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)[61] انهما قرءا (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ نَمْلَةٍ)!!!

وكأنهما فسّرا الذرة بالنملة مع ان لها معان اخرى ايضا وهذا يؤيد ما قيل انهم كانوا يتساهلون في تبديل لفظة باخرى وله نظائر اخرى ياتي بعضها.

وعنهما في قوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)[62] انهما قرءا (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ) وفي بعض الروايات (ليس عليكم جناح).

وعنهما ايضا في قوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)[63] قراءة (وَأَقِيمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلْبَيْتِ) وفي بعض الروايات (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلْبَيْتِ).

وعن ابن مسعود في قوله تعالى (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ)[64] انه قرأها (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا امْرَأَتَكَ) بِغَيْرِ (وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ).

وفي قوله تعالى (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا)[65] أنه قرأ (إِمَّا يَبْلُغَانِ عِنْدَكَ الْكِبْرَ إِمَّا وَاحِدٌ وَإِمَّا كِلَاهُمَا).

وفي قوله تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا)[66] أنه قرأ (أُذِنَ لِلَّذِينَ قَاتَلُوا بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا).

والمعنى مختلف تماما عما هو المشهور.

وفي قوله تعالى (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا)[67] قرأ (وَإِنَّهُ عَلِيمٌ لِلسَّاعَةِ).

ويلاحظ أن هذه الآية موضع اختلاف شديد في تفسيرها وتأويلها وكأنّه رفض هذه التاويلات فابدل الكلمة الى ما يكون معناه واضحا لديه!!!

ومن غرائبه المروية هناك قراءته (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ وَإِنَّهُ فِيهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).

وروى عن ابن عباس في قوله تعالى (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ)[68] أنه قرأ (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ).

وفي قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ)[69] (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ مُحَدَّثٍ).

وروى عنه ايضا في قوله تعالى (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ..)[70] انه قرأ (وَمَا يُعْلَمُ تَأْوِيلُهُ وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ آمَنَّا بِهِ).

وروى في قوله تعالى (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا)[71] قال حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَا تَقُولُوا (بِمِثْلِ) فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ قُولُوا (فَإِنْ آمَنُوا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ) أَوْ (بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ).

ومعنى ذلك ان القارئ مخير بينهما وهو غريب جدا ويدل على ما مر من تساهلهم في التغيير مع حفظ المعنى ويدل ايضا على انه انما أبدل ذلك لاعتقاده بأن القراءة المشهورة تستتبع ان يكون لله مثل مع انه غير صحيح قطعا.

وروى بسنده عَنْ أَبِي نَوْفَلِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ: (إِذَا جَاءَ فَتْحُ اللَّهِ وَالنَّصْرُ).

وروى عَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ قَالَ: (أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا، ثُمَّ قَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى)[72] فَآذِنِّي فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا فَأَمْلَتْ عَلَيَّ (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) ثُمَّ قَالَتْ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

ومثله عن ام سلمة وحفصة في عدة روايات. ونسب هذه القراءة الى ابن عباس ايضا.

وهذه الروايات تنافي ايضا ما قيل من ان عثمان اعتمد في مصحفه الموحد على ما اخذه من عائشة وحفصة.

وروى بسنده عن حُمَيْدَةُ قَالَتْ: أَوْصَتْ لَنَا عَائِشَةُ بِمَتَاعِهَا، فَكَانَ فِي مُصْحَفِهَا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ وَالَّذِينَ يُصَلُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ).

وفي الكشاف في تفسير قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ..)[73] قال (وقرأ عمر وابن عباس وابن مسعود وغيرهم: فامضوا. وعن عمر أنه سمع رجلا يقرأ: فاسعوا، فقال: من أقرأك هذا؟ قال أبيّ بن كعب، فقال: لا يزال يقرأ بالمنسوخ، لو كانت فَاسْعَوْا لسعيت حتى يسقط ردائي).

وهذا ليس من النقل بالمعنى كما قيل وهو واضح بملاحظة حديث عمر لو صحت النسبة.

وأغرب منه ما ذكره الطبرسي حيث قال (وقرأ عبد الله بن مسعود فامضوا إلى ذكر الله  روي ذلك عن علي بن أبي طالب عليه السلام وعمر بن الخطاب وأبي بن كعب وابن عباس وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام).

الى غير ذلك من موارد الاختلاف في هذا الكتاب وغيره عن الصحابة وامهات المؤمنين والتابعين وهي كثيرة جدا.

انما الاشكال في ان هذا الاختلاف مهما كانت حدوده واسبابه هل يعود الى اختلاف التنزيل ام اختلاف الرواة؟

وفي هذا تختلف روايات العامة والخاصة فان العامة رووا بكثرة ان القرآن نزل بسبعة احرف وفي بعض رواياتنا الرد على هذا القول بشدة. وتختلف رواياتهم ايضا في كيفية النزول مما يؤثر في تفسير الحديث وفيما يلي ننقل بعض رواياتهم.

فقد روى البخاري بسنده عن عُرْوَة بْنُ الزُّبَيْرِ (أَنَّ المِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ القَارِيَّ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاَةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: كَذِبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْسِلْهُ اقْرَأْ يَا هِشَامُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ القِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُ القِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ).[74]

ويظهر من هذا الحديث أن القرآن نزل ابتداءا على عدة وجوه وهو امر غريب وسياتي ما ينافيه. وهناك بحث في كتبهم في ان السبع هل يراد به العدد الخاص او التعدد كما يظهر من بعض رواياتهم.

وفيه ايضا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ).[75]

وهذا المضمون يختلف عن الرواية السابقة لان هذه الرواية تصرح بان القران نزل على حرف واحد ولكن الرسول صلى الله عليه واله وسلم طلب منه ان يزيد في حروفه اي في طريقة قراءته فانتهى الى سبعة وظاهره التقيد بالعدد الخاص.

وروى مسلم بسنده عن ابن عباس ايضا (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ فَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفَ إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَكُونُ وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ).[76]

وهذا ايضا ظاهر في التقيد بالعدد مع تقييد الحكم بان لا يترتب على التغيير تحليل حرام او تحريم حلال ويظهر منه ايضا ان التغيير بيد القارئ ما لم يحلل او يحرم ومع ذلك قيّده بالسبعة وهو عجيب.

ومثله في التقييد ما رواه الطبري قال (قرأ رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فغيَّر عليه فقال لقد قرأتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يغيِّر عليَّ قال فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال بلى قال فوقع في صدر عمرَ شيء فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في وجهه قال فضربَ صدره وقال: ابعَدْ شيطانًا -قالها ثلاثًا- ثم قال يا عمرُ إن القرآن كلَّه صواب ما لم تجعلْ رحمةً عذابًا أو عذابا رحمةً).[77]

الا أن التقييد هنا من جهة تغيير العذاب الى الرحمة او العكس.

وهذا اللفظ ايضا لا يخلو من غرابة اي ما نسب اليه صلى الله عليه واله وسلم (ان القران كله صواب) اذ لا شك ولا خلاف في ان القران كله صواب ولكن المقصود ان يكون كل نحو من القراءة صوابا فهل قصد الرسول صلى الله عليه واله وسلم هذا المعنى لو صح النقل فتكون النتيجة ميوعة اللفظ القرآني مادام يقصد نفس المعنى ولا يوجب تغيير الرحمة الى العذاب او العكس؟!

(حاشاه).

وروى مسلم ايضا بسنده عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: (كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قرَاءَةِ صَاحِبِهِ فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَآ فَحَسَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَأْنَهُمَا فَسَقَطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَدْ غَشِيَنِي ضَرَبَ فِي صَدْرِي فَفِضْتُ عَرَقًا وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرَقًا فَقَالَ لِي: يَا أُبَيُّ أُرْسِلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا فَقُلْتُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي اللهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).[78]

وهذا حديث غريب جدا اذ مطالبة الرسول صلى الله عليه واله وسلم للتخفيف عن التكليف مع ان الحكم ماض من الله تعالى امر ينافي العبودية والاطاعة المحضة.

مع أن التقيد بالحرف الواحد النازل من السماء ليس امرا صعبا ليطالب بالتخفيف عن الامة بل ميوعة النص اشق واشد واخطر!!! وهذا الاستغراب لا يختص بهذا الحديث بل يشمل اكثر الاحاديث المروية في هذا الباب.

ومثله في الغرابة انه تعالى جعل جائزة له صلى الله عليه واله وسلم بقضاء حاجة له في مقابل كل ردة ردها وهو تعالى لم يردّ له ردة بل قبل منه كل اقتراح. وامر اخر وهو انه صلى الله عليه واله وسلم أخّر الثالثة ليوم القيامة وكأنه تعالى لا يستجيب له دعاءا غيرها!!!

كل هذا يثير شكا في أن هناك غرضا من وضع هذه الاحاديث يستهدف النص القرآني كما مر.

وروى مسلم ايضا عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ[79] بَنِي غِفَارٍ قَالَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَقَالَ أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ فَقَالَ أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ ثُمَّ جَاءَهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَقَالَ أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا).[80]

وفي هذا الحديث نفس الاستغراب السابق مضافا الى اختلافه مع بعض ما سبق من الاحاديث مما يوجب عدم الوثوق بها باجمعها فان مفاد اكثرها ان الاستزادة او الاستجازة لقراءة السبع كان حين نزول القران وفي هذا الحديث ورد الامر بالتقيد بالحرف الواحد مستقلا وابتداءا مع انه هو الاصل من دون حاجة الى تنبيه ثم طلب الرسول صلى الله عليه واله وسلم الزيادة.

وهناك روايات اخرى في كتب متفرقة وبعضها معتبرة على اصولهم والملاحظ في جميعها الاختلاف في نقل كيفية صدور الاذن الالهي بالقراءة على سبعة احرف.

فمنها ما رواه الطبري بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جبريل اقرأوا القرآنَ على حرف فقال ميكائيل استزده فقال على حرفين حتى بلغَ ستة أو سبعة أحرف فقال: كلها شافٍ كافٍ ما لم يختم آيةَ عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب كقولك هلمَّ وتعالَ).[81]  

ومعنى الجملة الاخيرة ان التغيير اذا كان مثل تغيير هلم الى تعال فهو جائز في القران نظير ما مر نقله عن ابن مسعود وعن ابي الدرداء وغيرهما.

وهو غريب جدا ويوجب سلب الوثوق بما ينقل فكل انسان ربما يفسر الكلمة حسب فهمه ونحن نجد ان اختيار الكلمات في القران دقيق جدا وربما يتغير المعنى بتغيير مواضع الكلمات فكيف بتغيير الكلمة بذاتها.

وقد اختلف القوم في معنى الاحرف السبعة اختلافا شديدا حتى نقل عن ابن حبان ان فيه خمسة وثلاثين قولا. ولا شك ان القراءات السبع لا علاقة لها بهذه الاحاديث وانما هي محدثة بعد الرسول صلى الله عليه واله وسلم بل بعد توحيد المصاحف من قبل عثمان.

والظاهر ان المتاخرين منهم تركوا العمل بهذه الاحاديث بل قال بعضهم انها من المتشابه ولا يجوز العمل بها بل مما لا شك فيه عند المسلمين جميعا انه لا يجوز تغيير اي حرف في القرآن الكريم.

وهم يروون عن امير المؤمنين عليه السلام المنع من تغيير المصحف فقد روى الطبري بسنده عن قيس بن سعد قال (قرأ رجل عند عليّ (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ)[82] فقال عليّ: ما شأن الطلح إنما هو (وطَلْعٍ مَنْضُودٍ)  ثم قرأ (طَلْعُهَا هَضِيمٌ)[83] فقلنا أَوَلا نحوّلهُا؟ فقال: إن القرآن لا يهاج اليوم ولا يحوّل).[84]

والهيجان: الثوران. والاهاجة: الاثارة. والمراد ان لا يثار فيه الشك.

وفي بعض رواياتهم [85] أنه عليه السلام استشهد بقوله تعالى (لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ)[86] وهو اولى لان النضيد هو المنضود.

والرواية غير معتمدة عندنا وقد ذكرنا في تفسير الآية الكريمة أن المفسرين وقعوا في الاشكال في تفسير هذه المجموعة من الآيات في سورة الواقعة وقلنا ان تبديل الطلح الى الطلع لا يرفع اشكال الاستبعاد ايضا وذكرنا توجيها للآيات الكريمة.

وفي مقابل هذه الروايات الكثيرة التي رواها القوم واصروا عليها ورد عن أئمتنا عليهم السلام ما ينفي جواز اي تغيير في الكلمات فقد روى الكليني قدس سره بسند صحيح عن الفضيل بن يسار قال (قلت لابي عبدالله عليه السلام إن الناس يقولون إن القرآن نزل على سبعة أحرف فقال كذبوا أعداء الله ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد).[87]

وروى بسند فيه اشكال عن زرارة (عن أبي جعفر عليه السلام قال إن القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة).[88]

ولكن روى الصدوق في الخصال مثل رواية العامة عن ماجيلويه عن محمد بن يحيى عن محمد بن أحمد عن أحمد بن هلال عن عيسى بن عبد الله الهاشمي عن أبيه عن آبائه قال (قال رسول الله أتاني آت من الله فقال ان الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد فقلت يا رب وسع على اُمتي فقال ان الله يأمرك ان تقرأ القرآن على حرف واحد فقلت يارب وسع على أمتي فقال: ان الله يأمرك ان تقرأ القرآن على سبعة أحرف).[89]

والرواية ضعيفة فاحمد بن هلال هو العبرتائي وهو مشكوك في امره وعيسى بن عبد الله الهاشمي لم يوثق.

ومع هذا الاختلاف الموجود في نقل كلام الله تعالى يثار سؤال فقهي وهو انه كيف نقرأ القرآن خصوصا في الصلاة وهذا الاختلاف موجود حتى في الفاتحة كما هو محل الكلام؟

وفقهاؤنا أجازوا القراءة بما هو مشهور بين المسلمين وخصه سيدنا الاستاد ايده الله[90] بما كانت متداولة في عصر الائمة عليهم السلام فيما يتعلق بالكلمات والحروف.

ويمكن الاستدلال عليه بأن هذا الامر هو مقتضى السيرة المتبعة في عصر الائمة عليهم السلام ولم يمنعوا احدا من متابعتها ولم يظهروا طريقة اخرى للقراءة وأنهم كانوا يستدلون بهذا المصحف المتداول بين المسلمين مضافا الى روايات تدل على ذلك نذكر بعضها تيمنا:

روى الكليني قدس سره بسنده عن سالم بن سلمة قال (قرأ رجل على أبي عبدالله عليه السلام – وأنا أستمع – حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس فقال أبوعبدالله عليه السلام كُفَّ عن هذه القراءة اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم عليه السلام قرأ كتاب الله عز وجل على حدّه وأخرج المصحف الذي كتبه علي عليه السلام وقال: أخرجه علي عليه السلام إلى الناس حين فرغ منه وكتبه فقال لهم: هذا كتاب الله عزوجل كما أنزله [الله] على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد جمعته من اللوحين فقالوا: هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه فقال أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبدا إنما كان عليَّ أن اخبركم حين جمعته لتقرأوه)[91] 

وروى عن سفيان بن السمط قال (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن تنزيل القران؟ قال: اقرأوا كما علّمتم).[92]

وتفصيل البحث عن هذا الموضوع موكول الى الفقه.

 

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ...

هذه آية المناجاة. وهذه مقدمة للدعاء في الآية التالية وهذا التقديم يعلمنا أن المؤمن اذا اراد ان يطلب حاجة من ربه فالادب يقتضي ان يقدم على دعائه الثناء والمناجاة كما ورد ذلك في بعض الروايات ايضا.

ولعل الوجه فيه أن المؤمن لا يجوز أن يكون منشأ طلبه للحاجة استحقاقه فالعبد لا يستحق على الله شيئا وكل ما يناله من ربه فهو فضل وانما يكون منشأ طلبه عموم رحمته تعالى التي وسعت كل شيء فيريد الانسان ان يظهر حاجته لينال من الرحمة الواسعة قسطا.

ومن جهة اخرى يجب ان يعترف العبد أنه لا تنقصه النعمة وأنه نال من نعمه تعالى الكثير وأنه لا يستحق ما ناله بل لا يتوقع المزيد لاستحقاقه وانما يطلب المزيد ويتوقعه لجوده تعالى وكرمه.

فهذه السورة تعلمنا كيفية طلب الحاجة من الله تعالى والتضرع لديه فان الانسان كثيرا ما لا يطلب حاجته بتذلل وخضوع بل يرى نفسه مستحقا للمزيد او يرى نقصا فيما انعم الله عليه بل كثيرا ما يتدلل في دعائه بدلا من التذلل وكأن له التطوّل على ربه كما في الدعاء فلا بدّ من تعليمه طريقة الدعاء وطلب الحاجة.    

و(اياك) ضمير منصوب منفصل والاصل ان يقال (نعبدك ونستعينك) ولكن حيث اريد الحصر واظهار أنّا نعبدك ولا نعبد غيرك ونستعينك ولا نستعين غيرك اُبدل الضمير المتصل بضمير منفصل وقُدّم على الفعل والفاعل ليفيد الحصر.

وشكك بعضهم في أن التقديم يفيد الحصر وقيل انه لا يفيد الا الاهتمام بما قدّم الا أن الظاهر افادة الحصر ولو جزئيا اي بمعونة القرائن اللفظية او المقامية ويتبين بما قدمناه ان ظاهر التعبير هنا إفادة الحصر وأنه هو المقصود من هذا التغيير.

والعبادة في اللغة: التذلل والخضوع. والطاعة قسم منها. وفي العبادة من التذلل ما ليس في العبودية.

وهذا هو اساس الفرق بين العبد والعابد فالعبد اي المملوك ايضا ذليل لمولاه ومطيع له وهذه صفته وشيمته ولكن العبادة عمل يصدر من العابد ففيها امر زائد على الطاعة ولذلك قالوا انها غاية التذلل والخضوع ولا تجوز الا لله تعالى فالمملوك لا يجوز له ان يعبد سيده بل لا يجوز ان يطيعه في كل ما يطلب.

وهذا الفرق بين العبد والعابد كما يقول الخليل في العين ليس لغويا وانما هو حسب استعمال العامة.

وقال العسكري في فروق اللغة (العبادة غاية الخضوع ولا تستحق الا بغاية الانعام ولهذا لا يجوز ان يعبد غير الله تعالى).

وقال الراغب في المفردات (العبودية اظهار التذلل. والعبادة ابلغ منها لانها غاية التذلل ولا يستحقها الا من له غاية الافضال وهو الله تعالى).

وهناك فروق اخرى وردت في بعض كتب اللغة منها ان جمع العبد بمعنى المملوك عبيد وبمعنى العابد عباد.

وهذا غير صحيح فهناك موارد في القران الكريم اطلق العباد على من لا يعبد الله من البشر كقوله تعالى (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)[93] بل اطلق على المملوكين بصراحة قال تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ..).[94] 

انما السؤال عن معنى العبادة التي يختص جوازها بالله تعالى فقد يقال ان تفسيرها بانها التذلل والخضوع ليس دقيقا فالانسان يتذلل لوالديه مثلا وهو امر مطلوب شرعا قال تعالى (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ..).[95]

والتقييد بالرحمة لان المفروض في الآية انهما قد بلغا من الكبر ما يستوجب العناية والرحمة فان الولد ربما يخفض جناح الذل لهما من الحاجة ولكنه في هذا الحال يجب ان يتذلل رحمة بهما.

فما هو الحد الذي لا يجوز تجاوزه لانه خاص بالله تعالى؟

وكذلك التذلل لعباد الله المقربين كالرسل والائمة عليهم السلام حيهم وميتهم مع أنه لا تجوز عبادتهم قال تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ..).[96]

قال السيد الخوئي قدس سره بعد بيان ان العبادة لها ثلاث معان:

(الاول: الطاعة... الثاني: الخضوع والتذلل... الثالث: التأله ومنه قوله تعالى "قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به" [97] وإلى المعنى الاخير ينصرف هذا اللفظ في العرف العام إذا أطلق دون قرينة).[98]

وقال في موضع اخر من تفسير الآية (والعبادة إنما تتحقق بالخضوع لشيء على أنه رب يعبد..).[99]

اقول: اما التأله فليس له معنى الا العبادة ولا يعتبر تعريفا قال في الصحاح (ألِه إلاهة اي عبد عبادة) وفي معجم مقاييس اللغة (يقال تأله الرجل اذا تعبّد).

وأما الخضوع لشيء على أنه رب يعبد فقد اخذت العبادة في التعريف والربوبية صفة للمعبود ولكن ليس كل تذلل لكل رب عبادة فان الرب بمعنى المربي يصدق على كثير من الناس ومنهم الوالدان. والرب بمعنى المالك والمصلح للشيء ايضا يطلق على موارد كثيرة منها رب البيت ورب السفينة وغير ذلك.   

وللعلامة الطباطبائي قدس سره تعريف اخر حاصله ان العبادة لا تختلف عن العبودية وأن العبادة هي ان ينصب الانسان نفسه في مقام العبودية والمملوكية لله تعالى.

واستشهد لذلك بان العبادة تقبل الشركة ولا تنافيها ولكن تنافي العصيان والاستكبار فالعبد اذا أبق عن مولاه يقصد بذلك نفي العبودية والمملوكية له وكذلك العبادة كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي..)[100] فافاد باستخدام حرف (عن) التي تفيد التجاوز ان المستكبر يأنف من عبادة الله تعالى ولكن لا يمتنع ان يملك سيدان عبدا واحدا وكذلك العبادة فيمكن ان يشرك الانسان في عبادة ربه احدا كما هو حال المرائي قال تعالى (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[101] ومعنى ذلك ان الاشراك ممكن والا لم يصح النهي.

ثم أضاف بأن هذه المملوكية التي ينصب العابد نفسه في مقامها بعبادته لربه تختلف عما بين الاسياد والمماليك فالملك هناك ليس مطلقا والسيد لا يملك من عبده الافعال الطبيعية بل الاختيارية فحسب فضربان قلبه مثلا ليس تحت اختيار المولى كما انه لا يحق له ان يطلب منه كل شيء بل الخدمة المتعارفة المسموحة شرعا والله تعالى له المالكية المطلقة على جميع شؤون العبد وعلى كل شيء.

اقول: ولكن هذا المعنى بعيد في نفسه فان الانسان يشعر بمعنى العبادة لله تعالى ولكنه لا يشعر حين العبادة بأنه قد نصب نفسه في مقام المملوكية بل هو معترف دائما بانه مملوك لله تعالى ملكية حقيقية كما ان الكون كله ملك له تعالى حتى من لم يعبد.

هذا مضافا الى ان النصب في مقام المملوكية معناه العبودية الاعتبارية والاعتبار لا يجامع الحقيقة فالانسان يشعر بانه عبد مملوك حقيقة ولا يمكن ان يعتبر نفسه مملوكا.

ومضافا الى ان هذا النصب قد يحصل بالنسبة الى غيره تعالى ايضا ولا يعتبر عبادة ويلاحظ ذلك في التسمي بعبد الرسول وعبد الحسين وامثالهما فان المراد بهذه التسمية هو اعتبار هذا المولود مملوكا للرسول صلى الله عليه واله وسلم او للحسين عليه السلام وهو مجرد امر اعتباري من باب التشبه بالمماليك فكأنه يظهر بذلك تذللا وخضوعا لهما او لغيرهما من المعصومين عليهم السلام ولكن لا احد يظن ان هذا من مصاديق العبادة الا المتشددون من المخالفين.

وذكر محمد رشيد رضا في تفسير المنار وجها اخر للعبادة نقلا عن استاذه الشيخ محمد عبده قال:

(العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها واعتقاده بسلطة لا يدرك كنهها وماهيتها وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به ولكنها فوق ادراكه فمن ينتهي الى اقصى الذل لملك من الملوك لا يقال انه عبده وان قبّل موطئ أقدامه مادام سبب الذل والخضوع معروفا وهو الخوف من ظلمه المعهود او الرجاء بكرمه المحدود... – الى ان قال – أمرنا الله تعالى بألّا نعبد غيره لأن السلطة الغيبية التي هي وراء الاسباب ليست الا له دون غيره فلا يشاركه فيها احد فيعظّم تعظيم العبادة...).

واستدل على ذلك بقوله تعالى (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)[102] وتوضيحه باختصار أن الفاء في قوله (فاعبده) تدل على ترتب الامر بالعبادة على قوله ولله غيب السماوات والارض والامر بالتوكل على رجوع الامر كله اليه تعالى ومن هنا فاستحقاق العبادة منحصر في من له الغيب اي له السلطة الغيبية والتاثير الغيبي وهو الله تعالى فحسب.

اقول: ولكن هذا المناط لا يمكن الالتزام به فان العبادة المحرمة لغير الله تعالى لا تختص باستشعار التأثير الغيبي فقد نهى الله تعالى عن عبادة الطاغوت مطلقا واعتبر اجتنابها مع عبادة الله هدف الرسالات كما قال (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[103] والطاغوت مبالغة في الطغيان وتنطبق على الشيطان وعلى الجبابرة الطاغين على ربهم وعلى عباده.

كما انه تعالى اعتبر اجتناب عبادة الطاغوت صفة المؤمنين في قوله (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى..).[104]

فما ذكره من الفرق انما هو من خصائص عبادة الله تعالى ولكنه ليس دخيلا في مفهوم العبادة.

بل ان عبّاد الشمس والقمر والنجوم والنار لم يعلم منهم انهم يعبدونها ويسجدون لها لاعتقادهم بالتاثير الغيبي بل المسموع منهم انهم يسجدون لها لان لها دورا عظيما في الحياة. نعم هناك من الناس من يعبد الجن خوفا ورهبة من تاثيرهم الغيبي في الاضرار بالناس لا انهم يعتقدون فيهم التاثير العام في الكون.

وأما استدلاله بقوله تعالى (ولله غيب السماوات والارض..) فغريب فان قوله تعالى (ولله غيب السماوات والارض) لا يعني أن له السلطة الغيبية بل معناه أن الغيب لا يعلمه الا هو واما السلطة الغيبية فقد تحصل لغيره تعالى باذنه كسلطة الملائكة في تدبير الكون وكتسلط اوليائه تعالى على المعاجز والكرامات باذنه بل هناك نوع من السلطة الغيبية للمرتاضين وهناك من يدعيها بالسحر ونحوه.

والعبادة والتوكل في الآية الكريمة كلاهما مترتبان على ان الامر كله يرجع اليه تعالى اما العبادة فلان الانسان لا يعبد الا طلبا لحاجة او دفعا لمكروه وحيث كان الامر كله بيده تعالى فهو الضار والنافع فلا معنى لعبادة غيره كما انه هو السبب في انحصار التوكل فيه. فلا وجه للتفصيل الذي ذكره بينهما.

والحاصل ان قوله تعالى (اياك نعبد) الدال على الحصر وعدم جواز عبادة غيره ليس لانه تعالى هو السلطان في الغيب كما قال بل لانه هو السلطان المطلق وليس لاحد غيره تعالى السلطة على قضاء الحوائج لا في الغيب ولا في الشهود ومن يعتقد ان الطبيب يستقل في شفاء المريض فهو غير موحد كمن يعتقد ان الرسول او الامام يستقل في ذلك ومن يعتقد ان كل وسيلة انما تؤثر باذنه تعالى وبامره فهو موحد سواء كانت الوسيلة طبيعية او غيبية.

وما ذكره باصرار من ان الاعتقاد بوجود سلطة غيبية لغيره تعالى شرك خطأ واضح فان الله تعالى صرح في كتابه العزيز بوجود هذه السلطة بارادته.

قال تعالى في حكاية كلام عيسى عليه السلام (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ..).[105]

وفي خطابه تعالى لعيسى عليه السلام (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي..)[106] فهل تأثيره عليه السلام في خلق الطير وابراء الاكمه والابرص واحياء الموتى تأثير طبيعي كسائر الاسباب الطبيعية؟!

لا شك في انه تأثير غيبي وهو من فعله عليه السلام ولكن باذنه تعالى ومن اللطيف ان الآية الكريمة كما تعدّ عمله الطبيعي وهو خلق الطير من الطين باذنه تعالى كذلك عمله وتأثيره الغيبي في جعله حيا.

فالظاهر أن العبادة كما في بعض كتب اللغة هي غاية الخضوع وقد مر نقل عبارة العسكري والراغب وهذا الامر له ثلاثة مصاديق فيما نعلم:

الاول: الاطاعة المطلقة قال الجوهري في الصحاح (العبادة: الطاعة) وهي باطلاقها لا تجوز لاحد الا لله تعالى او من امر باطاعته كالرسل والائمة المعصومين عليهم السلام وهم المراد باولي الامر في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)[107] اذ لا يمكن ان يامر الله بالاطاعة المطلقة لاحد الا لمعصوم.

وهذا المعنى هو المقصود من قوله تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)[108] فان الناس لا يسجدون للشيطان وانما يطيعونه.

ويلاحظ ان الاستفهام الانكاري في الآية الشريفة موجه الى بني آدم بأجمعهم لا الى قوم خاص يسجدون للشيطان.

والظاهر انه المراد ايضا من عبادة الطاغوت في قوله تعالى (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ)[109] بناءا على أن المراد بالطاغوت في هذه الآية علماء اهل الكتاب حيث كان بنو اسرائيل يطيعونهم اطاعة عمياء بالرغم من انهم كانوا يرون منهم الفسق والفساد.

ويصدق عليهم الطاغوت لانهم اشتروا بايات الله ثمنا قليلا وكانوا يكتبون الكتاب بايديهم ويقولون هو من عند الله وكانوا يتأمرون على الناس بدعاوى فارغة. وكذلك في قوله تعالى (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى..).[110]

وليس المراد بالطاغوت الاصنام وكل من يعبد من دون الله كما قيل فان الصنم لا يطغى على ربه ولا يشعر بعبادة الناس له. ولا تختص صفة الطاغوت بالشيطان وان انطبقت عليه فان الطاغوت مصدر بمعنى الطغيان وتفيد المبالغة واطلاقها على الشخص ايضا من باب المبالغة كأنه هو الطغيان بنفسه.

وكما تنطبق على الشيطان لانه طغى على ربه كذلك تنطبق على كل من يدعي لنفسه من الولاية والسلطة على الناس ما لم يمنحه الله تعالى وهم كثير وبعناوين مختلفة وتتحقق عبادتهم غالبا بالطاعة المطلقة وربما يُعبدون بالسجود وانحاء الخضوع ايضا كما راينا من بعض الجهلة تقبيل الاقدام بل تقبيل مواضع اقدام بعض المتسلطين.

الثاني: الدعاء لقوله تعالى (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ).[111]

وروى الكليني قدس سره في كتاب الدعاء من الكافي عدة روايات في هذا المعنى منها صحيحة زرارة عن ابي جعفر عليه السلام قال (ان الله عز وجل يقول "ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" قال هو الدعاء وافضل العبادة الدعاء..).

ومنها حديث سدير الصيرفي قال قلت لابي جعفر عليه السلام: اي العبادة افضل؟ فقال (ما من شيء افضل عند الله عز وجل من ان يسأل ويطلب مما عنده وما أحد أبغض الى الله عز وجل ممن يستكبر عن عبادته ولا يسأل ما عنده).

ومنها صحيحة حماد بن عيسى عن ابي عبدالله عليه السلام قال سمعته يقول (ادع ولا تقل قد فرغ من الامر فان الدعاء هو العبادة ان الله عز وجل يقول "ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" وقال "ادعوني استجب لكم).[112]   

والدعاء في الاصل هو الطلب قال العسكري في الفرق بين الدعاء والنداء (ان النداء هو رفع الصوت.. والدعاء يكون برفع الصوت وخفضه يقال دعوته من بعيد ودعوت الله في نفسي ولا يقال ناديته في نفسي واصل الدعاء طلب الفعل..).[113]

وانما كان الدعاء عبادة لانه يشتمل على تضرع واستغاثة مع الاعتقاد بان المدعوّ هو المؤثر في الكون بالاستقلال والا فالطلب من الانسان ليس عبادة وليس لان الله تعالى يؤثر بالغيب والانسان يؤثر في الظاهر كما توهمه بعض السلفية بل حتى لو طلبت من انسان يؤثر غيبيا باذن الله تعالى كعيسى عليه السلام الذي يبرئ الاكمه والابرص ويحيي الموتى باذنه تعالى لم يكن عبادة له لانك تعتقد ان التاثير في الواقع هو من الله تعالى وليس منه كما تعتقد ذلك في التاثير الطبيعي من الانسان او غيره.

ويدل على ذلك ايضا قوله تعالى (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).[114]

فهم كانوا يدعون الاصنام ويطلبون منها حاجاتهم والآية تأمر الرسول صلى الله عليه واله وسلم ان يعلن لهم ان الله تعالى نهاه عن عبادة الاصنام بالدعاء.

الثالث: الطقوس الخاصة في كل دين مما يعبد بها الآلهة تقربا اليها لطلب الحوائج او لاي امر اخر كما يلاحظ في الثقافات المختلفة والاديان سواء السماوية او المتخلفة ولعل بعضها تكون اوضح تذللا من السجود كتقديم القرابين خصوصا بملاحظة ان بعضهم يقدّمون اولادهم قربانا للآلهة.

وفي الاسلام ايضا طقوس تعتبر عبادة لله تعالى غير السجود كالصلاة بجميع اجزائها من القيام والتوجه الى جهة خاصة كالقبلة وعدم الالتفات عنها وعدم التوجه الى غيره تعالى وعدم التحرك وعدم التكلم مع الغير.

وبعض هذه الطقوس مشتركة بين الدين الالهي والاديان المصطنعة وما هو متعارف بين الناس في الثقافات القديمة وحيث ان الدين حسبما ورد في القرآن الكريم أقدم الثقافات البشرية بل هو اصلها لان اول بشر وجد على سطح الارض هو آدم عليه السلام وهو نبي فان كل هذه الطقوس المشتركة تعود في اصلها الى الدين وان تلاعبت بها ايدي الجاهلين.

وحتى القربان الموجود في بعض الاديان معتبر في الاسلام فان الهدي في منى يعتبر منه ولذلك يستحب للحاج ان يذبح بنفسه او يجعل يده على يد الذابح وعلى الاقل يحضر عنده وينظر وهذا يدل على ان الغرض أسمى من نفس الذبح وتوزيع اللحم بل ليس التوزيع جزءا من الواجب في الاساس.

فلا يبعد ان يكون ما تعارف في الطقوس الدينية المتخلفة ماخوذا من الدين الالهي وان تحولت الى وجوه اخرى. ولعل التقرب بذبح الانسان ايضا مأخوذ في الاصل من الدين وان لم يشرعه الله تعالى كشعيرة الهية مستمرة ولعل منه ما رآه ابراهيم عليه السلام في الرؤيا من ذبح ابنه ولكن الله تعالى فداه بالذبح العظيم على الاختلاف في تفسيره.

وكذلك ما حصل لسيدنا عبدالله عليه السلام والد الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم ويلاحظ ان الامر تطور في الدين حتى امر بان لا يتم ذبح الحيوان الا بذكر اسمه تعالى ليكون قربانا وان اريد به الاكل ومنع من اكل ما لم يذكر اسمه عليه ولعل السبب في هذا التطور اصرار الجهلة على الذبح من اجل الالهة المختلقة.

ويمكن ان يعتبر الطواف ايضا من الطقوس العبادية المتعارفة بين الناس وان كان اصلها في الدين حيث ان بعض الثقافات تعتبر الدوران حول الشخص بمعنى انه يفديه بنفسه. وكذلك السعي وخصوصا الهرولة فانهما ايضا من طقوس العبادة.

واما بعض ما نتعبد به ونتقرب الى الله تعالى كمقدمات الصلاة من الغسل او الوضوء او التيمم وكذلك الصوم وبعض اعمال الحج كرمي الجمرات او الوقوف ونحو ذلك فيمكن ان تكون عباديتها من جهة الطاعة فحسب.

 ومن اوضح طقوس العبادة السجود ولذلك اتفق فقهاء المسلمين – على ما يبدو – على حرمته لغير الله تعالى.

ويمكن ان يستدل عليه مضافا الى الروايات وان كانت ضعيفة بأن السجود من مصاديق العبادة بل هو المصداق الطبيعي لها بمعنى ان انطباق عنوان غاية التذلل عليه لا يتبع الاعتبار وقد دلت الايات على حرمة العبادة لغيره تعالى بل ان حرمتها واضحة لدى جميع الموحدين.

ولكن ربما يناقش فيه بما ورد من سجود يعقوب واولاده ليوسف عليهما السلام وسجود الملائكة لآدم عليه السلام. وهناك روايات ضعيفة وردت في توجيه ذلك:

منها ما في الوسائل عن التفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السلام عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (لم يكن سجودهم يعني الملائكة لآدم إنّما كان آدم قبلة لهم يسجدون نحوه لله عزّ وجلّ وكان بذلك معظّماً مبجّلاً ولا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون الله يخضع له كخضوعه لله ويعظّمه بالسجود له كتعظيمه لله..)

وعن تفسير علي بن ابراهيم عن يحيى بن أكثم (أنّ موسى بن محمّد سئل عن مسائل فعرضت على أبي الحسن علي بن محمّد عليه السلام فكان أحدها أن قال له: أخبرني عن يعقوب وولده أسجدوا ليوسف وهم أنبياء؟ فأجاب أبو الحسن عليه السلام: أما سجود يعقوب وولده فإنّه لم يكن ليوسف إنّما كان ذلك منهم طاعة لله وتحيّة ليوسف كما كان السجود من الملائكة لآدم كان ذلك منهم طاعة لله وتحيّة لآدم فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكراً لله لاجتماع شملهم..).

وعن الاحتجاج للطبرسي عن أبي عبد الله عليه السلام – في حديث طويل – (أنّ زنديقاً قال له: أفيصلح السجود لغير الله؟ قال: لا، قال: فكيف أمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟! فقال: إنّ من سجد بأمر الله فقد سجد لله، فكان سجوده لله إذا كان عن أمر الله). [115]

وهذه الروايات وان كانت ضعيفة وكذا غيرها مما ورد في هذا الموضوع الا ان جمعا من العلماء ذكروا هذه الوجوه في دفع الاشكال تبعا للروايات فينبغي البحث عنها والصحيح ان هذه الوجوه ضعيفة ايضا كالروايات.

وتتلخص هذه الوجوه في ثلاثة:

الاول أن سجود يعقوب عليه السلام واولاده انما كان شكرا لله بان جمع شملهم.

والثاني ان السجود في الموردين انما كان الى يوسف وادم عليهما السلام لكونهما قبلة ولم يكن لهما.

والثالث ان جوازه مستند الى امره تعالى فيكون تقربا اليه واطاعة له وان كان السجود لادم ويوسف عليهما السلام.

اما الاولان اي كون سجود يعقوب واولاده سجودا لله تعالى وان يوسف كان قبلة لهم او كان سجودهم شكرا لله تعالى وكان يوسف معهم ايضا فمما يأباه ظاهر الآية الكريمة (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا..).[116]

خصوصا بملاحظة الآية التي تنقل قصة الرؤيا (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)[117] فان اللام في الموضعين يدل على ان السجود كان له عليه السلام لا اليه ولا يصدق على من يتوجه الى الكعبة في سجوده انه سجد لها كما هو واضح.

وكذلك سجود الملائكة فقد قال تعالى (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ).[118]

فالسجود هنا ايضا كان لآدم عليه السلام وليس اليه وهذا هو ما استكبر عنه ابليس واعتبره منافيا لافضلية عنصره وأنه من النار وهذا من الطين.

وهذا واضح من التعبير في قوله تعالى (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).[119]

وأما الوجه الثالث وهو ما ورد في الحديث الاخير من أن السجود لآدم عليه السلام كان بامر من الله تعالى فهو الذي ارتضاه السيد الخوئي قدس سره حيث قال:

(ان السجود هو الغاية القصوى للتذلل والخضوع ولذلك قد خصه الله بنفسه ولم يرخص عباده ان يسجدوا لغيره وان لم يكن السجود بعنوان العبودية من الساجد والربوبية للمسجود له غير ان السجود لغير الله اذا كان بامر من الله كان في الحقيقة عبادة له وتقربا اليه لانه امتثال لامره وانقياد لحكمه وان كان في الصورة تذللا للمخلوق... (الى ان قال) وهذا هو الوجه الصحيح).[120]

ولكن هذا الوجه مع انه لا يأتي في السجود ليوسف عليه السلام انما يصح لو كان السجود لغيره تعالى حراما بعنوانه الخاص لا باعتبار انه غاية التذلل وينطبق عليه عنوان العبادة لان حرمة عبادة غيره تعالى لا تقبل التخصيص.

ولذلك قالوا بان العبادة تستلزم الشرك والكفر وحرمتها ممّا اتفقت عليه الموحّدون بأجمعهم وتعتبر في نظرهم الفاصل بين الشرك والتوحيد فاذا كان السجود هو المصداق الطبيعي للعبادة بحيث لا يتوقف انطباقها عليه على اعتبار وتشريع فلا يمكن تجويز السجود لأيّ أحد.

ومن هنا نجد ان جمعا من الفقهاء استدلوا على حرمة السجود لغيره تعالى بانه غاية التذلل فلا يجوز الا لمن هو في غاية العظمة فلا بد من تأويل ما ورد مما ظاهره ذلك.

ولعل الاولى ان يحمل السجود في قصة يوسف على الانحناء والاحترام ففي جمهرة ابن دريد (اصل السجود ادامة النظر في اطراق الى الارض) وفي الصحاح (سجد: خضع).

وعليه يحمل قوله تعالى خطابا لبني اسرائيل (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) في ثلاث مواضع من الكتاب العزيز[121] اذ لا يمكن دخول الباب في حال السجود بالمعنى المعروف.

ولا ينافيه التعبير بالخرور فانه بمعنى السقوط ولا يستلزم وضع الجبهة ونحوها على الارض فيمكن ان يسقطوا على الارض على ركبهم خاضعين له من دون وضع الجبهة نعم لو كان التعبير (خرّوا على وجوههم) لم يمكن الحمل على غير السجود.

ويدل على ذلك ان الرؤيا التي رآها يوسف عليه السلام من سجود الشمس والقمر والكواكب لا يمكن حملها على وضع الجبهة على الارض.

وأما سجود الملائكة لآدم عليه السلام فلا شكّ انه ليس من قبيل وضع الجبهة على الارض فان الملائكة ليست اجساما فلا بد من حمل الامر بالسجدة على معنى اخر يقتضي نوعا من الاحترام والاكرام.

بل لعله ليس بهذا المعنى ايضا فيمكن ان يكون المراد امرهم بان يلاحظوا في تدبيرهم لشؤون الارض ان هذا الكائن له حق الاختيار فهو يختلف عن سائر الموجودات والكائنات الارضية وحيث ان الملائكة هم الوسائط بين الله وخلقه وهم من ينفذون الاوامر الالهية في جميع شؤون الكون فلعل الامر بالسجود بمعنى تنفيذ طلب الانسان فيما يحاول تحقيقه اذ لا يمكنه الوصول الى اهدافه لولا مساعدة العوامل الغيبية.

ولعل هذا هو الوجه في تعبيره تعالى عن الانسان بانه خليفة الله في قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).[122]

ولعلهم ايضا علموا من هذا التعبير انه يفسد في الارض ويسفك الدماء لانه مقتضى حريته واختياره والمراد بالخليفة الانسان لا ادم عليه السلام بشخصه والمسجود للملائكة ايضا هو الانسان كما يستفاد من قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ..).[123]

كل ذلك نقولها من باب الاحتمال لدفع الشبهة والله العالم بحقائق الامور.

وتبقى في الآية الكريمة عدة اسئلة ينبغي ان نجيب عليها:

السؤال الاول: ما هو الوجه في الالتفات من الغيبة الى الحضور فان الآيات الاولى من السورة المباركة وردت في الحمد والثناء من دون خطاب ومن هذه الآية يبدأ الخطاب لله تعالى. والمفسرون ذكروا وجوها في هذا الالتفات.

ولعل الوجه فيه أن هذه الجملة ليست خبرية بل هي انشاء للعبادة والاستعانة فالعبد بهذه الجملة يعبد ربه ويستعين به والعبادة والاستعانة تستلزمان الحضور امام الرب. والانسان وان كان كغيره من المخلوقات حاضرا عند ربه الا أنه في هذا المقام يجب أن يستشعر الحضور وهذا يتم بالخطاب.

ولعل من هذا الباب ما ورد من استحباب الاهتمام باللباس النظيف والمناسب وان يكون الثوب ابيض والتعطر والتختم فان الظاهر عدم اختصاص ذلك بحضور المسجد والجماعة وانما هي من آداب الصلاة والحضور امام الله تعالى وهو لا ينتفع بها ولا يتضرر من عدمها ولا يؤثر فيه شيء وانما الذي يتأثر منها الانسان نفسه فهو يشعر أنه وقف أمام ربه باهتمام.     

ولكن يمكن ان يقال انه لا التفات في الكلام بل هذه السورة باجمعها خطاب من العبد الى الله تعالى وانما ذكر الاسم الجليل في الآيات السابقة تعظيما وتكريما له ولا يستلزم ذلك اعتبار الغياب بل يقوله العبد مع استشعار الحضور لدى ربه وكثيرا ما يُمدح العظماء بهذا النحو في الخطاب.

السؤال الثاني: ما هو الوجه في الاتيان بصيغة المتكلم مع الغير مع أن الخطاب يتحقق من كل فرد فلماذا لم يقل (اياك اعبد واياك استعين اهدني..).

والجواب أن ذلك للتواضع والتقليل من شأن المتكلم امام ربه فهو لا يحسب نفسه موجودا مستقلا يخاطب ربه بل هو ضمن مجموعة البشر او المؤمنين بل الكون باجمعه يعبد الله ويستعينه ومثله قوله تعالى (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)[124] وغير ذلك من الموارد.

السؤال الثالث: ما هو وجه تكرار ضمير المفعول اي قوله (اياك) اذ كان بالامكان الاقتصار على ضمير واحد للفعلين بان يقال اياك نعبد ونستعين وهو أخصر؟

ولعل الوجه فيه أن عدم التكرار يوهم أن الذي يجمع بين كونه معبودا ومستعانا هو الله تعالى مع ان المقصود حصر كلا الامرين فيه فلزم التكرار ليعلم ان لا معبود سواه ولا مستعان غيره تعالى.

وربما يقال ان الجملة الثانية بمنزلة الجملة الحالية اي اياك نعبد في حال الاستعانة بك لئلا يتوهم أننا نستقل في عبادتك ونعتمد على أنفسنا فيها لان نفس إظهار العبودية توهم نوعا من استقلال الذات فأراد بالجملة الثانية دفع هذا التوهم وإظهار أننا نستعينك في عبادتنا ايضا كما نستعينك في كل شؤوننا.

السؤال الرابع: ما هي دوافع الانسان في عبادة الله تعالى؟

والجواب ان هناك دواع كثيرة وبعضها يوجب بطلان العمل فهناك من الناس من يعبد الله من أجل أهداف دنيوية فهو لا يريد من الله السعادة في الآخرة بل يعبده لكي يرزقه المال والولد ويمنحه السلامة وطول العمر ويوفقه لنيل رغباته وامانيه.

قال تعالى (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ).[125]

ومن الناس من يعبد الله خوفا من النار ولا يهمه الثواب ودخول الجنة ولذلك لا ياتي الا بالمقدار الواجب من الصلاة ويحاول ان يخفف من صلاته مهما امكن وربما يؤخر الصلاة اذا كان قاصدا سفرا حتى تسقط منه ركعتان ويترك اكثر المستحبات او كلها كما يترك النوافل.

والحاصل انه لا يطمع في الجنة وانما يخاف النار فهو زاهد في الآخرة وجشع في الدنيا لا يشبع من ملذاتها وزينتها ولا تجتذبه النعم الاخروية ولعله غير واثق منها.

وهذا حال كثير من المؤمنين كما نسمع منهم التصريح بانه لا يهمهم المقام والقرب في الجنة وانما يهمهم الابتعاد عن النار او انهم يرضون من الجنة باقل ما يمكن ولا يرضون من الدنيا بالقليل.

ومن الناس من يعبد الله طمعا في الجنة فهو يصلي ليلا ونهارا ويحج كل عام ويعتمر ويزور الرسول صلى الله عليه واله وسلم والائمة الطاهرين عليهم السلام ويتصدق بماله فوق ما تجود به نفسه من الحقوق الواجبة ويصوم اياما كثيرة من السنة فضلا عن رمضان وغيرها من الاعمال الصالحة وكل ذلك طمعا في الثواب الجزيل الموعود فهو ليس اجيرا يطلب اجرته بل الغالب انه يطلبه ثوابا وتفضلا من الله تعالى ولكنه كالاجير او كالتاجر لانه يطلب من عمله الثواب.

وهذا شأن اكثر المؤمنين الصالحين.

وكل هؤلاء قد يكون عملهم العبادي صحيحا كما هو الغالب وقد يكون باطلا فالاول الذي لا يعبد الا للدنيا مع دناءته قد يكون عمله صحيحا كما اذا قصد بالعمل التقرب الى الله تعالى ولكن في سبيل الوصول الى اهداف دنيوية عن طريق استجابة الدعاء فهو يقصد التقرب ليرحمه الله تعالى ويلبي حاجته الدنيوية فعمله صحيح لانه قصد التقرب الا ان هدفه دنيء.

وهذا وان صح عمله فانه ليس له في الآخرة من خلاق كما في الآية المباركة. والخلاق: النصيب بمعنى ان هذا العمل لا ينفعه وان كان صحيحا لا يجب عليه القضاء.

وقد يكون عمله باطلا اذا قصد وصوله الى هدفه بعنوان انه اجرة عمله فاذا توهم ان عمله يقابل ثواب الله وجزاءه في الدنيا او الاخرة وعلى هذا الاساس يعامل ربه كانه يقول اعبدك وتعطيني كاي اجير يطالب اجرة عمله فعمل هذا الانسان ربما يكون باطلا لان شرط صحة العمل قصد التقرب الى الله ولو من اجل الوصول الى اهداف دنيوية.

ومن هنا يتبين ان العمل حتى في القسم الثاني والثالث ايضا قد يكون باطلا مع انه يقصد الآخرة وذلك فيما اذا لم يقصد التقرب الى الله تعالى وامتثال امره وانما قصد الوصول الى هدفه في الآخرة باعتبار انه اجرة لعمله.

ولذلك ورد في العروة الوثقى من وجوه الامتثال (ان يقصد به الثواب ورفع العقاب بان يكون الداعي الى امتثال امره رجاء ثوابه وتخليصه من النار واما اذا كان قصده ذلك على وجه المعاوضة من دون ان يكون برجاء اثابته تعالى فيشكل صحته).[126]

ولم يعلق عليه اكثر الاعلام ومنهم سماحة السيد السيستاني اطال الله بقاءه.

ومن الناس – وهم قليل – من يعبد الله شكرا لأنعمه فهو لا يرى نقصا فيما وهبه الله تعالى وأنعم عليه. وأهمّ نعمه عنده الهداية الى الصراط المستقيم والتوفيق الذي حظي به ان قام بعبادة ربه وهو يتعب نفسه في العبادة ومع ذلك يرى نفسه مقصرا في حق ربه.

وهؤلاء هم العرفاء بالله تعالى وبمقامه وربما يعبدونه حبا له وشوقا اليه وربما يقعون ساجدين لانهم يدركون عظمة ربهم وكأنهم يرونه امامهم متجليا فيقعون ساجدين خاشعين من دون اختيار.

كما ان الملائكة لا يعبدونه تعالى الا لذلك فهم لا يطمعون في جنة ولا يخافون من نار ولكنهم (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ)[127] (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)[128] فهم يخشون عظمته ومقامه وهم يعلمون ان الجميع مقصرون امام ربهم.

وهكذا عباده المقربون من البشر كما قال تعالى (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).[129]

قال امير المؤمنين عليه السلام على ما في نهج البلاغة (إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ).[130]

وروى الكليني قدس سره بسند معتبر عن هارون بن خارجة عن أبي عبد الله عليه السلام قال (العُبّاد ثلاثة: قوم عبدوا الله عز وجل خوفا فتلك عبادة العبيد وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاجراء وقوم عبدوا الله عز وجل حبا له فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة).[131]

وهذا لا ينافي انهم ايضا يخافون عذابه ويرجون ثوابه كما قال تعالى بعد ذكر الانبياء عليهم السلام (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).[132] الا أن عبادتهم ليست الا شكرا له تعالى وحبا واجلالا.

ومن جهة اخرى فان الجنة التي يطلبها المقربون قد لا تكون جنة الحور والغلمان بل جنة القرب. وهناك في القرآن شواهد يمكن ان يفهم منها أن بعض ما ورد من التعبير بالجنة ربما يراد بها جنة القرب الى الله تعالى:

منها قوله تعالى (أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ)[133] فان المناسب للسياق ان يقال اولئك المقربون ثلة من... في جنات النعيم... ثم تذكر بعده اوصاف الجنات فلعل قوله في جنات النعيم متعلق بالمقربين ولذلك لزم ان يتعقبه فيكون ذلك اشارة الى انهم مقربون في جنات النعيم ونعيمهم هو القرب فلا يراد بهذه الجنات ما ورد في وصفها من ذكر الحور والقصور.

ومنها قوله تعالى (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى)[134] والرسول صلى الله عليه واله وسلم بلغ في معراجه غاية القرب فكان قاب قوسين او ادنى وفي نزلة اخرى حظي بالقرب من الله تعالى ان بلغ سدرة المنتهى.

وهذا مقام لم يبلغه احد على ما في الروايات فقد روى الكليني بسند صحيح عن ابن ابي نصر عن ابي الحسن الرضا عليه السلام قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لما اسري بي الى السماء بلغ بي جبرئيل مكانا لم يطأه قط جبرئيل. فكُشف له فأراه الله من نور عظمته ما أحبّ).[135]

وقوله (فكُشف له..) من كلام الامام عليه السلام والمراد ان الرسول صلى الله عليه واله وسلم كشف له ما لا يراه ولا يصل اليه احد فأراه الله من نور عظمته ما أحب وهذه رؤية القلب كما قال تعالى (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى).[136]

والتعبير بالسدرة لعله من جهة أنها موضع عبور وليس موضعا للاقامة فالواصل اليها مثله كمسافر يحتاج الى موضع ليستريح والسدرة ظلها مناسب لاستراحة المسافر فاستعيرت للتعبير بها عن هذا المقام الذي هو منتهى ما يصل اليه السالك في هذا الطريق.

وعند هذه السدرة جنة المأوى التي قال عنها الله تعالى في الآية المذكورة آنفا انها لمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فالظاهر أن هذه الآية للاشارة الى درجة هذا القرب.

فالرسول صلى الله عليه واله وسلم وصل الى جنة القرب في هذه الحياة بمعراجه ولعل لكل من المقربين مرحلة من المعراج ومرحلة من جنة القرب يصلون اليها والله العالم.

السؤال الخامس: لماذا امرنا الله تعالى بالعبادة؟

والجواب أن الله تعالى انما خلق الخلق ليرحمهم ولكنهم لا يستحقون الرحمة الا بالعبادة.

وهذا يعلم بضمّ قوله تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)[137] الى قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[138] فان اسم الاشارة في قوله (ولذلك خلقهم) يعود الى رحمته تعالى في قوله (الا من رحم ربك).

وبالآية الثانية نعلم أن الرحمة لا تشملهم الا بالعبادة فالامر بالعبادة لمصلحة الخلق والله تعالى لا ينتفع بشيء كما قال (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)[139] والهدف الالهي ليس كاهدافنا واغراضنا مما يعود نفعه الينا بل فعله تعالى يعود نفعه الى المخلوق.

وبعبارة اخرى مقتضى حكمة الله تعالى ان تكون افعاله لحكمة وغرض ولا تكون عبثا ومقتضى غناه ان لا يعود النفع اليه فالحكمة في خلق الجن والانس هو العبادة ونفعها يصل اليهم.

ولذلك لم يقل في التعبير عن الغرض (لاُعبد) او (لاكون معبودا) بل قال (ليعبدون) فالهدف هو عابديتهم لا معبودية الباري سبحانه.

ويمكن أن يكون للعبادة الاختيارية تأثير مهم في الكون فالبشر الذي يعبد الله تعالى يربط بين السماء والارض ربطا اختياريا من الارض اي من عالم الطبيعة وربما لا نعقل تأثيره الا أن من المحتمل وجود هذا التأثير فيكون هو السبب في امره تعالى الانسان بالعبادة.

ويعلم ايضا من قوله تعالى (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) في آية سورة هود الآنفة الذكر ان العبّاد قليل ولذلك اعلن انه سيملأ جهنم من الجنة والناس اجمعين لانهم لا يعبدون الله تعالى فلا تشملهم الرحمة.

وهذا ايضا ربما يستوجب استغرابا من الناس حيث يتوهم انه تعالى لم يصل الى هدفه بل ربما يقال ان بعض الآيات تدل على ان الغرض من الخلق هو إلقاؤهم في النار حيث قال تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ..).[140]

ولكن الصحيح ان الهدف قد تحقق وهو عبادة المؤمنين الصالحين فضلا عن عبادة المقربين واللام في قوله (ولقد ذرأنا لجهنم) لام الغاية وليس لام الغرض اي انهم بسوء اختيارهم جعلوا غايتهم النار.

ويمكن أن يجاب بوجه اخر وهو ان الله تعالى خلق الناس ليعبدوه ولكنه هو الغرض من خلق الجنس لا من خلق كل فرد والمقصود لا يترتب الا مع الاختيار وهو يستلزم انحراف اكثرهم عن الصراط المستقيم فلا يعبدون الله ولا يطيعونه فاستحقاقهم للنار نتيجة طبيعية لخلقهم احرارا عقلاء وهو ايضا داخل في الهدف الاساسي من الخلق فصح أن يقال انهم خلقوا من اجل جهنم.

ونظير ذلك كون الشهادة غرضا للمجاهدين في سبيل الله مع ان الغرض الاساس هو النصر والفتح وكسر شوكة الكفر الا انه يستلزم القتال وهذا بطبيعته يستلزم القتل والشهادة فيصح ان يقال ان الغرض من مجاهدتهم الشهادة مع أنها ليست هي الغرض واقعا ولو تمكن الامام لحافظ على حياة كل فرد منهم الا أن الحرب بطبيعتها تؤدي الى موت كثير منهم فالموت للبعض غرض ايضا ولكنه غرض ثانوي لا بد منه لتحقيق النصر.

وكذلك انحراف اكثر الناس غرض ثانوي لابد منه بطبيعة الحال لتحقيق الهدف الاسمى وهو عبادة الاحرار التي لا تتحقق الا ببذل الحرية للجميع وهو بدوره يجرهم الى النار بسوء اختيارهم. 

السؤال السادس: كيف نحصر الاستعانة في الله تعالى مع انا نستعين بغيره من الاسباب الطبيعية وغيرها في كثير من شؤوننا؟

والجواب واضح وان خفي على بعض الناس وهو ان الاستعانة بالله تعالى ليست من قبيل الاستعانة بغيره كما أن فعل الله تعالى وتأثيره في الكون لا يدانيه ولا يشبهه شيء فاذا نسبنا الخلق او الرزق او الشفاء اليه تعالى فانه ليس كاسناد الصنع الى الانسان او كاسناد اطعام الاطفال الى الوالدين والمربين او كمعالجة الطبيب بل هو تعالى مسبب الاسباب وخالقها والمؤثر في سببيتها فلا يمكن ان يؤثر شيء في الكون الا بإرادته وأمره وإذنه تعالى.

بل حتى اذا توسلنا برسول او امام او ولي من اولياء الله تعالى مع الاعتقاد بأنه يؤثر غيبيا في حصول الشفاء فانا نعلم أنه لا يمكن ان يؤثر الا باذنه تعالى فكل ذلك لا ينافي انحصار الاستعانة في الله تعالى لانه لا مؤثر في الكون غيره.

ومن هنا يتبين الجواب عما يكرره أتباع ابن تيمية من حرمة التوسل بالرسول صلى الله عليه واله وسلم والأئمة الطاهرين عليهم السلام ومن ذلك ما ذكره صاحب المنار بتفصيل واسهاب حيث قال:

(انَّ كل عمل يعمله الانسان يتوقف نجاحه على حصول الاسباب التي اقتضت الحكمة الالهية ان تكون مؤدية اليه وانتفاء الموانع التي تحول دونه وقد مكّن الله تعالى الانسان بما اعطاه من العلم والقوة من دفع بعض الموانع وكسب بعض الاسباب وحجب عنه البعض الآخر فيجب علينا أن نقوم بما في استطاعتنا من ذلك ونفوّض الأمر فيما وراء كسبنا إلى القادر على كلّ شيء ونلجأ إليه وحده ونطلب المعونة المتمّمة للعمل منه سبحانه دون سواه إذ لا يقدر على ما وراء الأسباب الممنوحة لكلّ البشر على السّواء إلّا مسبّب الأسباب وربّ الأرباب...

(الى ان قال) وخُصّت بالذكر لئلا يتوهم الجهلاء ان الاستعانة بمن اتخذوهم اولياء من دون الله واستعانوا بهم هي كالاستعانة بسائر الناس في الاسباب العامة بخلاف الاستعانة بهم في شؤون تفوق القدرة والقوى الموهوبة لهم كالاستعانة في شفاء المرض بما وراء الدواء وعلى غلبة العدو بما وراء العِدّة والعُدّة فان ذلك مما لا يجوز الفزع فيه والتوجه الى غير الله تعالى...) الى اخر ما قال وهو كلام طويل.

والصحيح أن ما ذكره هو الذي يستلزم الشرك من حيث فرّ منه فان قوله (ونفوّض الأمر فيما وراء كسبنا إلى القادر على كلّ شيء ونلجأ إليه وحده..) معناه أن الامر فيما هو من كسبنا وما نصل اليه بالوسائل الطبيعية لا نحتاج فيه الى معونته تعالى وانما نحتاج اليه فيما وراءه.

وكل ما ذكره يدور حول هذا المحور وهو ما كرره في موارد عديدة ومنها ما نقلنا عنه في معنى العبادة وأن التأثير الغيبي خاص بالله تعالى وقد فنّدنا كلامه بأن التأثير في كل شيء منه تعالى لا في خصوص التأثير الغيبي وقلنا ان التأثير الغيبي قد يكون من غيره تعالى باذنه كما كان للسيد المسيح عليه السلام بنص القرآن فراجع.

وتهجّم بوجه خاص على من يتوسل بالاضرحة والقبور ويقصد به ما يشمل التوسل بقبر الرسول صلى الله عليه واله وسلم كما نسمعه من كثير من دعاة الوهابية والسلفية وقد ذكرنا في مواضع عديدة أن التوسل بالاضرحة الشريفة له ثلاث صور:

الصورة الاولى: ان يذهب الانسان الى المكان المقدس ويدعو الله تعالى هناك باعتقاد أن التوجه والدعاء في ذلك المكان اقرب الى الاستجابة.

وهذا لا اشكال فيه ابدا والدليل عليه قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا)[141] حيث تدل الآية الكريمة على أن لحضور المستغفر عند الرسول صلى الله عليه واله وسلم اثرا في استجابة التوبة وقبولها مع انه بامكانه ان يستغفر ربه اينما كان.

والوجه في ذلك ان الانسان يشعر بقربه الى الله تعالى في اماكن خاصة فالبعد ليس منه تعالى بل هو اقرب الينا من حبل الوريد ولا يختلف الحال من جهته وانما يختلف من جهتنا وهذا امر يستدعي الانتباه حيث ان البعد من جهة واحدة.

وهذا الفاصل يقل في الازمنة والامكنة الخاصة ولذلك يكون الدعاء اقرب الى الاستجابة يوم عرفة وفي ذلك المكان الخاص وفي المسجد الحرام وحول الكعبة ويوم الجمعة وفي اي مسجد.

ومن ذلك ايضا بنص القرآن الكريم في محضر الرسول صلى الله عليه واله وسلم في حياته وكذلك عند قبره الشريف فانه صلى الله عليه واله وسلم حي يرزق من دون شك رغما على انوف الوهابية فهو لا يقل شأنا من الشهداء وهم احياء عند ربهم يرزقون.

بل نحن نعتقد ان الانسان لا يفنى بالموت بل يشعر بما يجري حوله حتى الكافر ويدل على ذلك ما روي في قصة قليب بدر حيث كلم الرسول صلى الله عليه واله وسلم قتلى المشركين والحديث مروي في عدة من كتب الحديث منها البخاري حيث روى عن ابن عمر قال (اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ القَلِيبِ فَقَالَ: وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَقِيلَ لَهُ: تَدْعُو أَمْوَاتًا؟ فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لاَ يُجِيبُونَ).[142]

وروي في مصادر اخرى بتفصيل اكثر.

قال صاحب المنار في تفسير قوله تعالى (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)[143] (وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ مَا وَرَدَ مِنْ نِدَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لِبَعْضِ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ بَعْدَ دَفْنِهِمْ فِي الْقَلِيبِ " يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانٍ! وَفُلَانُ ابْنَ فُلَانٍ! أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ " قَالَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا؟ - أَوْ فِيهَا - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ثُمَّ قَالَ: قَالَ قَتَادَةُ أَحْيَاهُمُ اللهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنِقْمَةً حَسْرَةً وَنَدَمًا اهـ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا خَصَّ اللهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمُتَعَذِّرِينَ لِعُبَّادِ الْقُبُورِ بِدُعَاءِ أَصْحَابِهَا لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ يَقِيسُونَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا وَرَدَ مِنْ حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ فِي الْبَرْزَخِ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَعَا مَيِّتًا مِنَ الصَّالِحِينَ يَسْمَعُ مِنْهُ وَيَقْضِي حَاجَتَهُ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أُمُورَ عَالَمِ الْغَيْبِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي لَا يَجْرِي الْقِيَاسُ فِيهَ..).[144]

ويردّ ما ذكره ونقله أن الرسول صلى الله عليه واله وسلم لم يقل حسبما ورد في الحديث اني اسمعهم وانتم لا تسمعون او اني اتمكن من الحديث معهم وانتم لا تستطيعون بل قال ما انتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون فهذا لا يختص بكلام الرسول صلى الله عليه واله وسلم بل هو امر يختص بهم.

الصورة الثانية: ان يحضر عند القبر الشريف ويطلب من صاحبه أن يدعو الله تعالى ليقضي حاجته وهذا ايضا منصوص عليه في الآية الكريمة حيث قال تعالى (واستغفر لهم الرسول).

وقد مرّ الكلام حول عدم الفرق بين الحضور عنده صلى الله عليه واله وسلم في حياته وعند قبره بعد وفاته بل لا حاجة الى الحضور عند القبر فيمكن ان يطلب منه صلى الله عليه واله وسلم اينما كان فانه اذا صلى عليه بلغه ذلك كما ورد في الحديث.

ولا فرق في ذلك بينه صلى الله عليه واله وسلم والائمة الطاهرين عليهم السلام حسب معتقدنا ومن لا يعتقد ذلك فانما يصح له ان يستنكر ذلك على اساس انه لا يعتقد بامامتهم وولايتهم ولكن لا معنى لاستنكاره على انه شرك وكفر كما يقوله صاحب المنار وسائر اتباع ابن تيمية.

الصورة الثالثة: أن يطلب من صاحب القبر ان يقضي حاجته وهذا ايضا لا مانع منه اذا كان الطالب يعتقد فيه انه ولي من اولياء الله موهوب منه تعالى بولاية تكوينية يمكنه ان يبرئ الاكمه والابرص وغيرهما من المرضى باذنه تعالى كما صرح به القرآن الكريم بالنسبة لسيدنا عيسى عليه السلام.

والذي يرفض ذلك فانما يرفضه لعدم الاعتقاد بولاية الائمة الطاهرين عليهم السلام ولكن هذا الاعتقاد لا يستلزم كفرا او شركا.

 

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ...

قلنا فيما سبق ان هذه السورة انزلها الله تعالى لتكون افضل طريقة في مخاطبة العبد ربه وهي تتضمن ثلاث مراحل: الحمد والثناء ثم المناجاة في آية واحدة ثم الدعاء فكما أن افضل طريقة للثناء على الله تعالى ومناجاته هي ما تضمنته هذه السورة فكذلك افضل دعاء يدعو المؤمن به ربه هو طلب الهداية الى الصراط المستقيم.

والهداية في الاصل بمعنى التقدم قال في العين (الهادي من كل شيء اوّله. اقبلت هوادي الخيل اي بدت اعناقها... وقد تكون الهوادي اول رعيل يطلع منها لانها المتقدمة... والدليل يسمى هاديا لتقدمه القوم بهدايته..).

والهداية من الله تعالى الدلالة بلطف اي بخفاء فانه لا يأخذ بيد الانسان كمن يقود الاعمى ولا يتقدمه كالدليل وانما يهيء له الاسباب ليجد الطريق الصحيح ويرسل له الهدايات عن طريق الرسل والكتب ويجعل له ائمة وقادة ليقتدي بهم ويلين قلبه ليتقبل الحق وربما ينعم على أحد بلطف خاص لسبب من الاسباب فيهتدي باعجاز او كرامة او اي لطف اخر.

والهداية قسمان اراءة الطريق والايصال الى المطلوب وقد جمعتا في قوله تعالى (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ..)[145] فان الرسول صلى الله عليه واله وسلم هو الهادي الى الصراط المستقيم قطعا قال تعالى (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[146] فلا بد من حمل الهداية المنفية عنه صلى الله عليه واله وسلم في هذه الآية على الايصال الى المطلوب وهي ما لا يقدر عليه احد بالنسبة الى الصراط المستقيم الا الله تعالى والهداية التي هي وظيفة الرسل إبلاغ الرسالة وإراءة الطريق.

وقيل انها اذا تعدت الى المفعول الثاني بدون واسطة فبمعنى الايصال الى المطلوب واذا تعدت بحرف اللام او (الى) كانت بمعنى اراءة الطريق.

ولكن هذا التفصيل مما لا وجه له بل الهداية بمعنى الاراءة قد تأتي متعدية بنفسها كقوله تعالى (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)[147] فانها بمعنى الاراءة لانها تشمل الكفور مع انها تعدت بدون حرف.

كما أنها بمعنى الايصال قد تتعدى بالحرف كقوله تعالى في شأن ابراهيم عليه السلام (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[148] فالهداية هنا بمعنى الايصال قطعا مع انها تعدت بالحرف.

وربما يقال ان الدعاء بالهداية انما يصح ممن ضلّ الطريق اما اذا اهتدى فلا معنى له فانه طلب للحاصل خصوصا ممن بلغ غاية الكمال البشري وهو الرسول صلى الله عليه واله وسلم مع انه ايضا كان يدعو بهذا الدعاء ويتلو هذه السورة في كل صلاة حتى قال بعضهم ان هذا الدعاء منه صلى الله عليه واله وسلم تجوّز.

ويمكن ان يدفع الاشكال بان المراد ادامة الهداية حتى لا نضل الطريق ومن هذا الباب قوله تعالى (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا..)[149] والدعاء المشهور (اللهم مقلب القلوب والابصار ثـبّت قلبي على دينك)[150] او بأن المراد الاستزادة من الهداية وغير ذلك من الوجوه التي ذكروها حتى ان بعضهم حمل الصراط المستقيم على الثواب في الاخرة.

والصحيح انه لا وجه للاشكال اساسا فالانسان لا يستغني عن هدايته تعالى في اي لحظة حتى الرسول صلى الله عليه واله وسلم. والكمال البشري لا حدّ له والله تعالى امره بالاستزادة من العلم في قوله تعالى (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا).[151] والهداية ايضا قابلة للزيادة قال تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ).[152]

والهداية لا تختص بالتمسك بالدين في اصوله واحكامه فالانسان كثيرا ما يتحير في الطريق الذي يجب ان يسلكه لئلا يبتلى بالوقوع في شراك الشيطان فيطلب الهداية من الله تعالى في جميع شؤونه حتى في تشخيص الموضوع واتخاذ الموقف.

والرسول صلى الله عليه واله وسلم كان مهديا دائما والهداية الالهية مستمرة له في جميع حركاته وسكناته وكذلك غيره من المعصومين عليهم السلام وهو معنى العصمة ولولا ذلك لامكن ان يضل الطريق. قال تعالى (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي..).[153] وقال ايضا (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا).[154] 

بل لا تختص هدايته تعالى بهذه الحياة التي هي مجال العمل فالانسان يحتاج الى هدايته في الآخرة ايضا فإن الحركة لا تنتهي والسير متواصل ولا غنى عن هدايته تعالى في اي حال من الاحوال وفي اي عالم من العوالم كما قال تعالى (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ)[155] فهذه الآية تدل على انه تعالى يهدي الشهداء يوم القيامة الى الجنة.

والصراط: الطريق وفي الفروق اللغوية للعسكري انه الطريق السهل وفي فقه اللغة للثعالبي انه وسط الطريق ومعظمه. وأصله السراط وانما ابدلت السين صادا في التلفظ لتناسب الطاء. وتجوز القراءة بالوجهين قال الازهري في تهذيب اللغة (وقال الفراء: اذا كان بعد السين طاء او قاف او غين او خاء فان تلك السين تقلب صادا).

وقيل: السراط في اصل اللغة الابتلاع واطلق على الطريق باعتبار أن المسافر يغيب فيه فكأنه ابتلعه. وفي معجم مقاييس اللغة ان اصله الغياب ويطلق على الطريق لان المسافر يغيب فيه وكذلك اللقمة تغيب حين الابتلاع.

ولا فرق بينه وبين الطريق والسبيل وكل ذلك ورد في القرآن بنفس المعنى قال تعالى (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ).[156]

والتعبير بسبيل الله كثير في القرآن اما ما يعادل الصراط المستقيم فقد ورد في عدة موارد قال تعالى (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).[157] والسواء مصدر بمعنى الاستقامة وهو من اضافة الصفة الى الموصوف. ومثله ورد في الصراط ايضا قال تعالى في قصة داود عليه السلام (فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ).[158]

والاستقامة: الاعتدال والاستواء. والمراد باستقامة الصراط انه طريق لا ينحرف عن الحق فهو من باب الاستعارة وليس بمعنى كونه كالخطّ المستقيم يوصل الى المطلوب اسرع من الخطوط المنحنية كما ورد في تفسير الميزان.

بل المراد ان سالكه لا ينحرف عن تحصيل رضا الله تعالى الى الاهواء والآراء الفاسدة كما قال امير المؤمنين عليه السلام على ما في النهج (الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ مَضَلَّةٌ وَالطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ).[159] فكل ما عدا الطريق الوسطى وهو الصراط المستقيم ينتهي بالانسان الى الضلال والهلكة.

بل ان توصيف الطريق بالاستقامة في اي موضع كان لا يقصد به الخط المستقيم في مقابل المنحني فاذا قال لك الدليل سر في هذا الطريق باستقامة ولا تنحرف عنه فانه يوصلك الى المطلوب لا يقصد انك لا تنحن مع انحنائه بل لا بد من الانحناء والا فانك لن تصل الى الهدف انما القصد ان لا تنحرف عنه الى الطرق الفرعية او المشابهة.

وللعلامة الطباطبائي قدس سره كلام طويل في هذا الباب حاصله أنّ الصراط المستقيم هو الطريق الاقرب الى اللّه تعالى واما سائر الطرق فانها ايضا تنتهي اليه تعالى ولكنها بعيدة وتتعب السالك بالانحناء والتعرج وبعد المسافة والا فالبشر باجمعهم سائرون في هذا الطريق بل كل ما سوى الله تعالى سائرون فيه.

قال رحمه اللّه: (ان اللّه سبحانه قرر في كلامه لنوع الإنسان بل لجميع من سواه سبيلا يسلكون به إليه سبحانه فقال تعالى: "يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ" الإنشقاق: 6 وقال تعالى: "وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ" التغابن: 3 وقال: "أَلا إِلَى اللّه تَصِيرُ الْأُمُورُ" الشورى: 53 إلى غير ذلك من الآيات وهي واضحة الدلالة على أن الجميع سالكو سبيل وأنهم سائرون إلى اللّه سبحانه. ثم بيّن أن السبيل ليس سبيلا واحدا ذا نعت واحد بل هو منشعب إلى شعبتين منقسم إلى طريقين فقال: "أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ" يس: 60-61 فهناك طريق مستقيم وطريق آخر وراءه، وقال تعالى "فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" البقرة: 186 وقال تعالى: "ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ" غافر: 60 فبيّن تعالى أنه قريب من عباده وأن الطريق الأقرب إليه تعالى طريق عبادته ودعائه ثم قال تعالى في وصف الذين لا يؤمنون "أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ" فصلت: 44 فبيّن أن غاية الذين لا يؤمنون في مسيرهم وسبيلهم بعيدة. فتبين أن السبيل إلى اللّه سبيلان: سبيل قريب وهو سبيل المؤمنين وسبيل بعيد وهو سبيل غيرهم...).

ولكن الصحيح أن المراد بالملاقاة في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) أن الانسان اي طريق سلك واي دين اتخذ فانه سينتهي الى اللّه تعالى ويقف امامه للمحاسبة والجزاء ولذلك قال بعد هذه الآية (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ..).[160]

وهذا اللقاء يتم قسرا وقهرا وليس من سلوك الانسان في سبيل ينتهي اليه واما الصراط المستقيم فهو الذي يسلكه الانسان باختياره ليصل الى تحصيل رضاه والتقرب لديه تعالى وليس هذا سبيل غير المؤمنين كما يبدو من عبارته رحمه اللّه.

ويلاحظ انه قدس سره قال في تفسير الآية في سورة الانشقاق (ان المراد بملاقاته انتهاؤه إلى حيث لا حكم إلا حكمه من غير أن يحجبه عن ربه حاجب) وهذا ينافي ما يبدو من كلامه هنا كما هو واضح.

كما ان استدلاله هنا على سير سائر المخلوقات الى اللّه بقوله تعالى (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ينافي ما ذكره في تفسيرها من أن المراد به البعث وهو خاص بالانسان.

وأما قوله تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ..) فالقرب فيه ليس بمعنى قرب الطريق من جهة الانسان ليدل على أن الدعاء أقرب الطرق بل بمعنى أنه تعالى قريب اليه كما انه قريب من كل شيء بمعنى الاحاطة به فيسمع كل دعاء ويجيب كل داع حتى لو لم يكن العبد في الصراط المستقيم والخطاب فيه عام لكل العباد.

وقد قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ): (أي فلا يسمعون الصوت ولا يرون الشخص وهو تمثيل لحالهم حيث لا يقبلون العظة ولا يعقلون الحجة).

وأين هذا من قرب الطريق الى اللّه وبعده؟!!!

والحاصل ان ما يظهر من تفسيره قدس سره للآيات التي استشهد بها في تفسير هذه الآية هو أنه عدل عن هذه الفكرة وكان ينبغي ان يلاحظ ذلك في الطبعات المتاخرة.

وقد وقع الكلام في المراد بالصراط المستقيم فقيل هو اصلاح الامور وقيل القرآن الكريم وقيل انه دين الله تعالى من العقائد والاحكام وقيل صراط الرسول الاكرم صلى الله عليه واله وسلم وقيل صراط الائمة عليهم السلام.

وروى الصدوق بسنده عن ابي عبدالله عليه السلام قال (الصراط المستقيم امير المؤمنين علي عليه السلام).[161]

وفي تفسير القمي (ونحن والله الصراط المستقيم).[162]

وكل ذلك صحيح ومن باب ذكر المصداق فالصراط المستقيم هو ما بينه تعالى في موارد من كتابه العزيز وهو الطريق الذي جعله الله تعالى للوصول الى رضوانه ويشمل كل ما ذكر فعبادة الله تعالى هي الصراط المستقيم.

قال تعالى في حكاية قول عيسى عليه السلام (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)[163] وقال ايضا (وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ).[164]

وكل ما يدعو اليه الرسول صلى الله عليه واله وسلم صراط مستقيم قال تعالى (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[165] وقال (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا..)[166] وقال (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).[167]

بل يظهر من قوله تعالى (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ..)[168] انه صار بعد نزول القرآن امرا واضحا يشاهده كل احد ولذلك يشير اليه بقوله (هذا) مما يدل على وضوحه للجميع وهو كذلك.

وهناك من يتهجم على الشيعة ورواياتهم لانهم رووا ان الصراط المستقيم هو امير المؤمنين عليه السلام او ان الائمة عليهم السلام هم الصراط المستقيم.

وكأنّ هذا القائل رأى في ذلك منافاة مع كون عبادته تعالى هو الصراط المستقيم حيث قال (وان اعبدوني هذا صراط مستقيم) وغفل عن ان الصراط المستقيم مجموعة العقائد والاحكام الالهية ويشمل ولاية اوليائه تعالى بل هو اهم شيء في الشريعة كما سيأتي.

وانما قصد الائمة عليهم السلام بهذه الروايات وامثالها اعلام عامة المسلمين بان كثيرا من افراد المجتمع الاسلامي انحرف عن الصراط المستقيم الذي ابتدأه الرسول صلى الله عليه واله وسلم وان مسالك المسلمين تشعبت بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم الى شعب وان استمرار الصراط المستقيم انما هو في هذه الشعبة واما غيرها من الشعب فهي داخلة في السبل في قوله تعالى (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)[169] ولذلك ايضا ورد في الحديث (ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية).

ففي صحيحة الفضيل بن يسار عن ابي جعفر عليه السلام قال (بني الاسلام على خمس على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية فاخذ الناس باربع وتركوا هذه يعني الولاية).

وفي صحيحة زرارة عن ابي جعفر عليه السلام قال (بني الاسلام على خمسة اشياء على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية قال زرارة فقلت وأيّ شيء من ذلك افضل فقال الولاية افضل لانها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن..). [170]

والسر واضح لانهم اذا أخطأوا في الولاية اخطأوا في الجميع واتبعوا غير ما انزل الله تعالى وتركوا سنة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وخسروا في كل ذلك كما مني به العالم الاسلامي.

 

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ...

بدل عن الصراط المستقيم. والمراد بالنعمة نعمة الهداية ومن هداه الله تعالى الى الصراط المستقيم لن يضلّ الطريق قطعا وبالتالي لن يكون ممن غضب الله عليه لان المراد بالهداية ليس اراءة الطريق فانها حاصلة للجميع من دون حاجة الى الدعاء بل المراد التوفيق للوصول الى الطريق المستقيم والسير عليه من دون انحراف فهذه البدلية لا تضيف امرا على توصيف الصراط بالمستقيم وانما المراد التنبيه على أن الهداية الى الصراط المستقيم هي النعمة العظمى وهي التي تمنعك من الضلال والتحير ومن وقوع غضب الله عليك.

 ولكن المعروف بين المفسرين أن هذه الآية تحدد معنى الصراط المستقيم وانما قالوا ذلك لانهم فسروا المنعم عليهم بالمسلمين والمغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى وهكذا يتحدد معنى الصراط فنحن ندعو ان يهدينا الله للاسلام ويبعدنا عن الاديان المنحرفة المحرفة.

ولكن من الواضح ان هذا التحديد انما يصح لو كان التعبير صريحا في الفرق الثلاثة واما اذا تم ذلك بالتفسير والتأويل فيبقى الجميع غير محدد. مضافا الى أن الدعاء لا يبقى له مورد فانه طلب للحاصل قطعا ومن هنا توهم الاشكال السابق. ومضافا الى ما سيأتي من ان المغضوب عليهم والضالين فرق كثيرة جدا واليهود والنصارى اقربهم الى الهداية.

وقد فسر المنعم عليهم في بعض الروايات[171] بمن ورد ذكرهم في قوله تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا).[172]

واستدل العلامة الطباطبائي رحمه الله[173] بهذه الآية على أن المراد بقوله (الذين انعمت عليهم) هم المعصومون من النبيين والمرسلين والائمة الطاهرين عليهم السلام واما المؤمنون الذين يطيعون الله ورسوله فهم مع هؤلاء وليسوا منهم وانما يرافقونهم وكل منهم يتبع سبيلا من سبل السلام التي ورد ذكرها في قوله تعالى (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).[174] والنتيجة ان الصراط المستقيم امر آخر غير السبل الى الله تعالى وهو خاص بالمعصومين لا يمكن لغيرهم الوصول اليه.

ولكن الظاهر ان قوله تعالى (سبل السلام) في هذه الآية لا يعني ذلك والاستنتاج ليس صحيحا اذ ظاهر الآية انه تعالى يهدي كل من اتّبع رضوانه جميع سبل السلام لا سبيلا واحدا من سبله.

ولعل الوجه في الاتيان بصيغة الجمع في الآية أن السلامة من كل آفة من الآفات لها سبيل خاص بها فللتخلص من الحسد سبيل ومن الكبر سبيل ومن متابعة الشهوات سبيل ومن حب الجاه والمال سبيل خاص ايضا وهكذا...

فمعنى الآية – والله العالم - ان الله تعالى يهدي من اتبع رضوانه طريق تخلصه من الآفات الروحية المختلفة كل حسبما ابتلي به ويخرجهم من ظلمات الجهل ومتابعة الهوى ونحوها الى النور ويهديهم الى الصراط المستقيم وهو طريق عبادته ومتابعة دينه وشريعته.

والرواية التي ذكرناها في تفسير (الذين انعمت عليهم) بما في قوله تعالى (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ..) ضعيفة لا يمكن الاستناد اليها ولكن لا بأس بهذا التفسير لتحديد معنى النعمة لئلا يتوهم ان المراد النعمة المادية او مايشملها فان هؤلاء لم يكونوا متنعمين بنعمة مادية ممتازة بل كانوا غالبا في ادنى مراتب التنعم المادي وانما انعم الله عليهم بنعمة الهداية الى ما يستتبع رضوانه تعالى.

ومن هنا فان توصيفهم بانهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين يؤكد نفس المعنى حيث يفيد تحديد النعمة بان لا يكون الانسان بحيث يعمل ما يوجب غضب الله تعالى او يضل الطريق. وأما تحديد المنعم عليهم فيهم كما هو مبنى بحث العلامة رحمه الله فلا نرى له وجها.

ويدل على ذلك ان هذا التعبير وارد في موارد عديدة لا تنطبق عليهم هذه العناوين كقوله تعالى (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ..)[175] وايضا قوله (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ..)[176] بل خاطب الله تعالى عموم المؤمنين باتمام النعمة في قوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)[177] وبصورة عامة لا يوجد في الكون احد لم يشمله الله بالانعام.

فلا بد من ملاحظة أنه ما هو المراد بالانعام في هذه الآية؟ والى اي نعمة من نعمه تعالى تشير؟

لا شك أن المراد بها نعمة الهداية والتوفيق كما هو واضح من السياق ولا شك ايضا أن النبيين والصديقين لهم الحظ الاوفر من هذه النعمة ولكن لا يمكن ان يكون المراد بهذا الدعاء الذي علمه الله تعالى عباده الوصول الى الامر الذي لا يمكنهم الوصول اليه من الهداية الخاصة بالانبياء والرسل والائمة الطاهرين عليهم السلام بل هو دعاء للوصول الى الصراط المستقيم الذي جعله الله لعامة خلقه يصلون به الى مرضاته ويهتدون الى الكمال البشري الذي يمكنهم الوصول اليه كل حسب استعداده.

وقد مرّ أن اسم الاشارة الى القريب في قوله تعالى (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ..) يدلّ على أن الصرط المستقيم أمر واضح للجميع يشاهدونه ويمكنهم اتباعه وليس أمرا معقدا لا يعرفه الناس ولا طريقا خاصا بالمعصومين عليهم السلام بل هو طريق في متناول الجميع.

وكيف يمكن أن يأمر الله عباده بالدعاء ليل نهار لنيل امر مبهم لا يعرفونه ولا طريق لهم للوصول اليه؟!

وهذا يجري في كل دعاء ومناجاة. ومن الخطأ أن يقرأ الدعاء المأثور للتعبد او الرجاء او التبرك. فالدعاء طلب ولا يصح ان يطلب الانسان ما لا يعرفه وما لا يشعر بالحاجة اليه. والمناجاة محادثة مخفية بين العبد وربه يبوح له بمكنون ضميره فلا يصح الا مع العلم والمعرفة بما يقول ولا معنى للمناجاة بكلام لا يعرف معناه.

وقد فسر المغضوب عليهم باليهود لورود الغضب عليهم في موارد من الكتاب العزيز كقوله تعالى (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ..)[178]

وقوله (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)[179] وغيرهما من الآيات.

وفسر الضالون بالنصارى لقوله تعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ).[180]

وورد هذا التفسير في بعض الروايات الصحيحة فقد روى الشيخ الطوسي قدس سره في الاستبصار بسنده عن معاوية بن وهب قال (قلت لابي عبد الله عليه السلام اقول آمين اذا قال الامام غير المغضوب عليهم ولا الضالين؟ قال هم اليهود والنصارى. ولم يجب في هذا)[181]

والمراد بقول الراوي (ولم يجب في هذا) ان الامام عليه السلام لم يجبه عن موضع السؤال ولعله للتقية وانما اجاب عن امر اخر وهو تفسير الآية فكأنه عليه السلام تهرب عن الجواب.

ومهما كان فهذا التفسير من باب ذكر المصداق ولا خصوصية لليهود والنصارى وما ورد من الآيات لا تحدد المعنى وانما تدل على نوع من الاختلاف بين نفسية الغالب من معتنقي المذهبين فاليهود كانوا وما زالوا في الغالب مصرّين على مخالفة الحق اذا لم يناسب اهواءهم ولذلك اتسموا بالعنصرية والنصارى غالبا مسامحون مع الآخرين الا انهم ضلّوا الطريق ولم يهتدوا الى الحق.

ولكن هذا لا يوجب انحصار الوصفين فيهم فهناك موارد اخرى وصف الناس بالغضب عليهم كقوله تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا).[182]

واما الضلال فقد وصف به كثير من الناس فالكافرون باجمعهم ضالون وكذلك المنافقون والفاسقون والايات في ذلك كثيرة.

ويلاحظ ايضا ان هناك فرقا بين الوصفين حتى لو اجتمعا في فريق واحد فالوصف الاول ينطبق على الذين يعادون الحق عنادا واستكبارا ويستحقون غضب الله تعالى والوصف الثاني ينطبق على الذين يتبعون أهواءهم فلا يهتدون الى الحق ويبقون حيارى لا تطمئن قلوبهم فهم الذين ضلوا الطريق وان لم يعادوا الحق.

ولهذا كرر النفي بقوله (ولا الضالين) ولم يقل (غير المغضوب عليهم والضالين) لتتم النعمة بالابتعاد عن الضلال فضلا عن عدم استحقاق الغضب.

ولا يبعد ان يقال ان الوصفين بالاعتبار الذي ذكرناه ينطبقان على اليهود والنصارى فاليهود تميزوا بالعناد والاستكبار وبذلك استحقوا غضب الله تعالى على ما ورد من قصصهم في القرآن وأن ذلك كان بسبب توهمهم أن عنصرهم يختلف عن سائر الناس وأنهم شعب الله المختار وهم الى العصر الحاضر معروفون بهذه الصفة.

وأما النصارى فقد تميزوا بمتابعة الاهواء والملذات وحرّفوا دينهم من أجل ذلك فأباحوا ما حرمه الله تعالى في جميع شرايعه كالخمر وخدعوا انفسهم بأن الله تعالى لا يؤاخذهم باي ذنب وأن المسيح عليه السلام ضحّى بنفسه من اجلهم حتى يتوغلوا في شهواتهم دون خوف من عذاب الله تعالى ومن اجل ذلك ايضا حرّفوا معارف الدين الاساسية والاعتقاد بالرب والاله ولم يصلوا الى نتيجة واضحة فتحيروا في اصل دينهم فتارة يقولون المسيح هو الله وتارة ابن الله وتارة ابنه بالتبني وتارة شريك له في الربوبية واقنوم من الاقانيم الثلاثة وتارة يصرّحون بان الاب قد حلّ فيه الى غير ذلك من العقائد الخرافية التي اخترعوها لتبرير موقفهم من الدين الالهي وعدم الالتزام باي قانون من الشريعة.

ومع ذلك فالصفتان لا تختصان بقوم والقرآن ينقل لنا قصص بعض الاقوام السابقة الذين ضلوا الطريق وتوغلوا في الفساد ونزل عليهم غضبه تعالى وعذابه لكي نعتبر بها ولا نقع فيما وقعوا فيه.

ومن هنا يتبين الوجه في تعبير الآية حيث عبّر بالوصف المنطبق على الاقوام البشرية لا نفس الغضب والضلال فالوارد في هذا الدعاء هو ان لا نكون من المغضوب عليهم ولا من الضالين ولم يقل جنّبنا الغضب والضلال. فلعل السبب فيه هو الاعتبار بالاقوام السابقة الذين استحقوا الغضب الالهي او ضلوا طريق الحق. فهذا الدعاء الذي علمنا الله تعالى لندعو به في كل صلاة وكل مناسبة يشتمل على الحثّ على الاعتبار ايضا وليس دعاءا محضا.

وهكذا الادعية المأثورة عن المعصومين عليهم السلام فانها تشتمل ايضا على هذا الجانب التربوي وليس دعاءا محضا فمنها ما في الدعاء المعروف عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغ بنا رضوانك ومن اليقين ما يهون علينا به مصيبات الدنيا.... ولا تجعل الدنيا اكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا).

فهو صلى الله عليه وآله وسلم بنفس عبارة الدعاء يحثّ المؤمنين على خشيته تعالى في ترك المعصية والحرص على الطاعة ويعلمهم أن يستهينوا بمصيبات الدنيا لانها بامر من الله تعالى واذنه وهو العزيز الحكيم ويعلمهم ايضا ان لا يجعلوا الدنيا اهم شيء في حياتهم ولا يقتصروا في العلم على ما يخص امور الدنيا بل يهتموا بدينهم ويبين لهم ان اكبر مصيبة على المؤمن ما يصيبه في دينه لا ما يصيبه في ماله وولده وأعزّائه.

كما أن امير المؤمنين عليه السلام يعلّم الناس ان يرضوا بقضاء الله تعالى ويسلموا أنفسهم لتقديره حين يقول في الدعاء المعروف بدعاء كميل (وتجعلني بقسمك راضيا قانعا).

وكذلك الامام زين العابدين عليه السلام في دعاء السحر المعروف بدعاء ابي حمزة الثمالي وهو الراوي له حيث يقول (اَوْ لَعَلَّكَ وَجَدْتَني في مَقامِ الْكاذِبينَ فَرَفَضْتَني اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني غَيْرَ شاكِر لِنَعْمائِكَ فَحَرَمْتَني اَوْ لَعَلَّكَ فَقَدْتَني مِنْ مَجالِسِ الْعُلَماءِ فَخَذَلْتَني اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني فِى الْغافِلينَ فَمِنْ رَحْمَتِكَ آيَسْتَني اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني آلِفَ مَجالِسِ الْبَطّالينَ فَبَيْني وَبَيْنَهُمْ خَلَّيْتَني). فالامام عليه السلام يحاول بنفس عبارة الدعاء والتضرع الى الله تعالى ان يربي شيعته واتباعه ان لايكونوا من الكاذبين ولا يتركوا مجالس العلماء ولا يجالسوا البطالين وغير ذلك مما ورد في هذا الدعاء وغيره من الادعية المأثورة.   

وربما يقال ان (غير) لا يمكن ان يكون وصفا لمعرفة لان الابهام لا يفارقه وان اضيف الى معرفة فاذا قلنا غير المغضوب عليهم فان هذا العنوان يشمل من رحمه الله كما يشمل من لم يرحمه ولم يغضب عليه فلا بد من اعتباره بدلا عن الذين انعمت عليهم.

ولا يصح كونه بدلا من حيث المعنى فان المقام مقام تحديد الصراط المطلوب بذكر اوصافه ولا يكفي نفي كونه صراطا لأقوام آخرين وبعبارة اخرى لو فرض كون المعنى غير اليهود والنصارى مثلا فالدعاء لا يكون هو الدعاء المطلوب بل لا بد من تحديد وصف الصراط لا نفي كونه صراط هؤلاء فحسب كما هو واضح.

وذكر في الكشاف وجهين لتصحيح كونه وصفا:

الاول: ان الموصوف وان كان معرفة الا انه غير محصور وغير محدد بحسب المعنى فلا مانع من توصيفه بالنكرة كما في قول المتنبي (ولقد امر على اللئيم يسبني) فاتى بالجملة وصفا للئيم والمراد به الجنس وهو معرفة فلا يوصف بالجملة الا انه غير محدد فلا باس بالتعريف.  

الثاني: ان (غير) هنا لا ابهام فيه كسائر الموارد باعتبار ان الناس فريقان فريق مهتدون وهم الذين انعم الله عليهم وفريق مغضوب عليهم وضالون وهم غيرهم فليست هناك فرقة ثالثة فلا يبقى ابهام في كلمة (غير) كما في قولك رايت جميلا غير قبيح.

ولكن الوجه الثاني ضعيف لان تحديد الفرق في ثلاث غير واضح.

ويمكن التصحيح بوجه آخر وهو أن اضافة (غير) الى الفرقة انما هي بلحاظ توصيف الفرقة المهدية به ولكن المراد نفي الوصف لا الموصوف فمعنى غير المغضوب عليهم تحديد المراد بالنعمة في من اضيف اليه الصراط بان المراد ليست النعمة المادية بل ما يبعد الانسان عن غضب الله وعن الضلال فالآية ليست بصدد تقسيم الانسان الى ثلاث فرق كما يبدو بل بصدد تحديد الدعاء بالابتعاد عن كل ما يوجب الغضب الالهي وعن الضلال.  

وهناك بحث في اسناد الرضا والغضب الى الله تعالى مع انه منزّه من طروّ الحالات والعوارض والمعروف تأويل ما ورد من ذلك بأن المراد اسناد نتيجة الغضب وهي العقاب اليه تعالى.

قال العلامة الطباطبائي رحمه الله (وأما رضاه تعالى فإنما هو من أوصافه الفعلية دون الذاتية فإنه تعالى لا يوصف لذاته بما يصير معه معرضا للتغيير والتبدل كأن يعرضه حال السخط إذا عصاه ثم الرضى إذا تاب إليه وإنما يرضى ويسخط بمعنى انه يعامل عبده معاملة الراضي من إنزال الرحمة وإيتاء النعمة أو معاملة الساخط من منع الرحمة وتسليط النقمة والعقوبة..).[183]

ويقول اتباع السلف بأن التأويل غير جائز وأن المراد به شأن من شؤونه تعالى يستوجب العقوبة والانتقام.[184]

ولا شك أن الغضب بالمعنى الموجود فينا لا يمكن ان ينسب الى الله تعالى ولكن تفسيره بانزال العقوبة بعيد جدا فالايات تدل على أن هناك امرا آخر وراء العقوبات كما في قوله تعالى (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).[185] حيث ورد ذكر الغضب والعقاب معا.

واوضح منه قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[186] ففي هذه الآية وجهان من اظهار سخطه تعالى عليهم وهما عدم مكالمتهم وعدم النظر اليهم وهما يغايران العذاب الاليم الذي اُعدّ لهم.

وعليه فالغضب امر آخر وراء العقوبات ولكنه في نفس الوقت فعل من افعال الله تعالى وليس من الصفات الذاتية ليستلزم التحول والتغيير.

قال امير المؤمنين عليه السلام في دعاء كميل (فَلَئِنْ صَيَّرْتَني لِلْعُقُوباتِ مَعَ اَعْدائِكَ وَجَمَعْتَ بَيْني وَبَيْنَ اَهْلِ بَلائِكَ وَفَرَّقْتَ بَيْني وَبَيْنَ اَحِبّائِكَ وَاَوْليائِكَ فَهَبْني يا اِلـهي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ وَهَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ اِلى كَرامَتِكَ). فالعقوبة بالفراق وعدم المكالمة والهجر وعدم النظر بعناية اكبر بكثير من عذاب النار.

وهكذا رضوانه تعالى امر آخر وراء المثوبات وهو اعظم منها بل لا يقاس بها قال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).[187]

فاذا أحسّ الانسان بعناية خاصة من الله له يشعر بسعادة لا مثيل لها فيكون في الجنة وهو في الدنيا حتى لو كان اسيرا في سجن اومعذّبا تقطع اعضاؤه اربا اربا ولذلك ورد أن اصحاب الامام الحسين عليه السلام ما كانوا يتألمون مما يصيبهم من الضرب والطعن.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد واله الطاهرين.

 


[1] الحجر: 87

[2] تهذيب الاحكام ج2 ص289 باب كيفية الصلاة

[3] الزمر: 23

[4] الملك: 4

[5] تفسير العياشي ج1 ص21

[6] الكافي ج3 ص317 باب قراءة القران

[7] الكافي ج2 ص623 باب فضل القران

[8] الخصال ص 263

[9] تهذيب الاحكام ج2 ص289 باب كيفية الصلاة

[10] تفسير العياشي ج1 ص19

[11] التمهيد لابن عبدالبر ج 20 ص 211

[12] كتاب المزار ص53

[13] التهذيب ج6 ص52 باب فضل زيارة الامام الحسين عليه السلام ح37

[14] التوحيد ص231

[15] التوحيد ص229 /عيون اخبار الرضا ع ج2 ص236 / معاني الاخبار ص3

[16] النمل : 30

[17] الاحزاب : 43

[18] التوبة: 117

[19] الاعراف: 156

[20] الكافي ج1 ص114 باب معاني الاسماء

[21]  التوبة: 128

[22] راجع الصحيفة السجادية ص 308 / والكافي الشريف ج2 ص557 باب الدعاء للكرب والهم / وعيون اخبار الرضا ج2 ص19 في دعائه ع عند الركن اليماني / والتهذيب ج3 ص95 في فضل شهر رمضان وغير ذلك

[23] منها ما رواه الحاكم في المستدرك ج1 ص515 باب دعاء قضاء الدين

[24] ابراهيم: 36

[25] الحجر: 49

[26] الحج: 65

[27] الاسراء: 66

[28] الاحزاب: 24

[29] البيان ص431

[30] التوبة: 106

[31] التوبة: 102

[32]  الفرقان: 60

[33] يوسف: 42

[34] الانعام: 164

[35] الاعراف: 185

[36] السجدة: 5

[37] المعارج: 4

[38] نهج البلاغة ص84 الخطبة 42

[39] الحجر : 49 - 50

[40] المائدة : 98

[41] المجادلة : 8

[42] لقمان : 25

[43] الانعام : 150

[44] فصلت : 21

[45] طه : 112

[46] غافر : 16

[47] الانفطار : 17 - 19

[48] النحل :33

[49] جامع البيان ج 11 ص 536

[50] المزمل: 6

[51] الدخان: 43- 44

[52] الشافي في الامامة ج 4 ص 303

[53] فتح الباري ج9 ص 28

[54] تاريخ القران ص 78

[55] المصاحف ص120

[56] مستدرك الوسائل ج 4 ص 280

[57] البقرة: 158

[58] النساء: 24

[59] تفسير مقاتل الموجود في المكتبة الشاملة ج 1 ص 367

[60] المائدة: 89

[61] النساء: 40

[62] البقرة: 198

[63] البقرة: 196

[64] هود: 81

[65] الاسراء: 23

[66] الحج: 39

[67] الزخرف: 61

[68] ال عمران: 175

[69] الحج: 52

[70] ال عمران: 7

[71] البقرة: 137

[72] البقرة: 238

[73] الجمعة : 9

[74] صحيح البخاري ج6 ص184 باب انزل القران على سبعة احرف على ما في المكتبة الشاملة

[75] نفس المصدر والعنوان

[76] صحيح مسلم ج1 ص561 باب بيان ان القران انزل على سبعة احرف على ما في المكتبة الشاملة

[77] جامع البيان ج1 ص26

[78] صحيح مسلم ج1 ص561 باب بيان ان القران انزل على سبعة احرف على ما في المكتبة الشاملة

[79] الاضاة: الغدير.. مكان يجتمع فيه الماء

[80] نفس المصدر والعنوان

[81] جامع البيان ج1 ص43

[82] الواقعة: 29

[83] الشعراء : 148

[84] تفسير الطبري ج23 ص111 في تفسير قوله تعالى (وطلح منضود)

[85] تفسير الثعلبي ج9 ص207 في تفسير نفس الآية

[86] ق : 9

[87] الكافي ج2 ص630 كتاب فضل القران باب النوادر ح13

[88] نفس المصدر ح12

[89] الخصال ص 358

[90] مرجع الشيعة في هذا العصر السيد السيستاني حفظه الله

[91] نفس المصدر ح23

[92] نفس المصدر ح15

[93] يس: 30

[94] النور: 32

[95] الاسراء: 24

[96] الاسراء: 23

[97] الرعد: 36

[98] تفسير البيان ص458 في تفسير هذه الآية

[99] تفسير البيان ص470

[100] غافر: 60

[101] الكهف: 110

[102] هود: 123

[103] النحل: 36

[104] الزمر: 17

[105] ال عمران: 49

[106] المائدة: 110

[107] النساء: 59

[108] يس: 60

[109] المائدة: 60

[110] الزمر: 17

[111] غافر: 60

[112] الكافي ج2 ص466 باب فضل الدعاء

[113] الفروق في اللغة ص30

[114] غافر: 66

[115] وسائل الشيعة ج6 ص388 باب عدم جواز السجود لغير الله 27 من ابواب السجود

[116] يوسف: 100

[117] يوسف: 4

[118] الحجر: 29- 33

[119] ص: 72- 76

[120] البيان في تفسير القران ص474

[121] البقرة: 58 / النساء: 154 / الاعراف: 161

[122] البقرة: 30

[123] الاعراف: 11

[124] ال عمران: 43

[125] البقرة: 200- 202

[126] العروة الوثقى كتاب الصلاة فصل في النية

[127] النحل: 50

[128] الانبياء: 28

[129] النازعات: 40- 41

[130] نهج البلاغة باب الحكم 237

[131] الكافي ج2 ص84 باب النية

[132] الانبياء: 90

[133] الواقعة: 11- 15

[134] النجم: 13- 15

[135] الكافي ج1 ص98 باب ابطال الرؤية

[136] النجم: 11

[137] هود: 118- 119

[138] الذاريات: 56

[139] لقمان: 12

[140] الاعراف: 179

[141] النساء: 64

[142] صحيح البخاري ج2 ص98 باب ما جاء في عذاب القبر

[143] الاعراف: 79

[144] تفسير المنار ج 8 ص 452 على ما في المكتبة الشاملة

[145] القصص: 56

[146] الشورى: 52

[147] الانسان: 3

[148] النحل: 121

[149] ال عمران: 8

[150] مصباح المتهجد ص83

[151] طه: 114

[152] محمد صلى الله عليه واله وسلم : 17

[153] سبأ: 50

[154] الاسراء: 74

[155] محمد صلى الله عليه واله وسلم : 4 - 5

[156] الاحقاف: 30

[157] البقرة: 108

[158] ص: 22

[159] نهج البلاغة الخطبة 16

[160] الانشسقاق: 7

[161] معاني الاخبار ص32

[162] تفسير القمي ج2 ص66

[163] ال عمران: 51

[164] يس: 61

[165] المؤمنون: 73

[166] الانعام: 162

[167] الزخرف: 43

[168] الانعام: 153

[169] الانعام: 153

[170] الكافي ج2 ص18 باب دعائم الاسلام

[171] معاني الاخبار ص 36 باب معنى الصراط

[172] النساء: 69

[173] راجع الميزان في تفسير سورة الفاتحة

[174] المائدة : 16

[175] المائدة : 23

[176] الاحزاب : 37

[177] المائدة : 3

[178] البقرة: 90

[179] ال عمران: 112

[180] المائدة: 77

[181] الاستبصار ج1 ص319 باب النهي عن قول آمين

[182] النساء: 93

[183] الميزان ج9 ص376

[184] المنار ج1 ص57

[185] الانفال: 16

[186] ال عمران: 77

[187] التوبة: 72