سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ... المخلَّف هو الذي تُرك خلف القوم. والأعراب على ما يبدو جمع لا مفرد له وليس جمع العرب لانه اسم جنس وانما ينسب اليه المفرد فيقال (أعرابي) ويطلق على أهل البداوة من العرب الذين لم يتحضروا ويسكنوا المدن وفي التهذيب انه يطلق على غير العرب ايضا من الموالي اذا كانوا اهل بداوة. وقولهم (شغلتنا اموالنا واهلونا) اي شغلتنا عن النفير معك والظاهر ان المراد بالاموال الابل والماشية فانها تحتاج الى حفظ ورعاية او مطلق الاموال خوفا من اغارة الاعداء. والاهلون جمع اهل على غير قياس والاتيان بالجمع باعتبار ان كل واحد منهم له اهل.
والمراد بهم هنا جمع من القبائل الساكنة في اطراف المدينة ممن اسلموا ظاهرا ولم يتمكن الايمان من قلوبهم فكانوا يتحينون الفرص للمشاركة في الغنائم دون الحروب بل تدل الآية على أنهم كانوا منافقين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فهذا تصريح بنفاقهم وعدم ايمانهم واقعا بالرسالة وبلزوم الاطاعة وبأن قلوبهم لا تعترف بلزوم الاعتذار ولا الاستغفار وستأتي شواهد اخرى على نفاقهم في الآيات التالية ولكن بعض المفسرين يحاول توجيه كلامهم بانه لا يدل الا على ضعف الايمان دون النفاق.
ولما خرج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه الى مكة عام الحديبية مع اعلام انه يريد العمرة استنفرهم ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدّوه عن البيت وأحرم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وساق معه الهدي ليعلم أنه لا يريد حربا ورأى أولئك الأعراب ــ على ما في التفاسير وكتب السيرة والتاريخ ــ أنه صلى الله عليه وآله وسلّم سيواجه عددا كبيرا من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة والأحابيش فلم يخرجوا معه وقالوا: نذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم؟! وقالوا: لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة.
ولما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في طريق العودة أخبره الله تعالى بهذه الآيات ــ وهو من الاخبار الغيبية ــ أن الاعراب المذكورين سيعتذرون اليه عن تخلفهم بهذه المعاذير وهو الاشتغال بالاهل والمال بمعنى أنهم كانوا يخافون على أهلهم وأموالهم من الاعداء وانه لم يكن عندهم من يحافظ عليهم وأنهم يطلبون منه صلى الله عليه وآله وسلّم أن يستغفر لهم عن تخلفهم وفي ذلك إظهار للندم على ما بدر منهم ولكنهم يكذبون في ذلك فما كان لهم من عذر أوّلا وهم لا يطلبون الاستغفار بصدق ثانيا بمعنى أنهم يكذبون في طلب الاستغفار وانما يطلبون ذلك ليظهروا الندامة ويحافظوا على مكانتهم بين المسلمين وهم غير نادمين واقعا. وطلبهم الاستغفار يدل على اعترافهم بان العذر ليس موجها وهو واضح فالمحافظة على الاهل والاولاد لا يبرر التقاعس عن الخروج لنصرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولو فرض كونه عذرا لكان الواجب ان يعرضوا حالهم عليه قبل الخروج.
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا... ردّ عليهم وعلى كل من يظن نفس الظن في المواقف المشابهة فالانسان يحاول دفع الضرر عن نفسه ويتشبّث بكل وسيلة حتى لو كانت غير مبرّرة وهو غافل عن ان النفع والضرر بيد الله تعالى فهناك من الناس من أوكلوا أمرهم الى الله تعالى وخرجوا لطاعته فدفع الله عنهم الشر بعنايته وكثير منهم عصوا ربهم وحاولوا الابتعاد عن الشر فوقعوا فيه من حيث لم يتوقعوا وقد وجدنا لذلك امثلة كثيرة في حياتنا. وقد حكى لي أحد المجاهدين في الحرب التي أشعلها صدام ضد ايران الاسلامية أن جماعة منهم خرجوا لأداء مهمة في الحرب ولما اقتربوا من مواضع إلقاء القذائف وسمعوا الاصوات المخيفة والقذائف تقترب منهم خاف احدهم والتجأ الى غار هناك ولم يتقدم مع اصحابه ولم يفد في إقناعه كل حديث وذهب الجمع وأدّوا مهمتهم ورجعوا بأجمعهم سالمين غانمين ووصلوا الى الغار واذا بصاحبهم قتلته قذيفة وهو في ملجئه.
وليس معنى ذلك ان الانسان لا يجب عليه ان يحافظ على نفسه وانما الكلام في انه لا يصح ان يبرر ترك الواجب لذلك بل لابد من المحاسبة فان كان الواجب أهم فلا يجوز تركه لحفظ الاهل والمال والا فلا شك ان الواجب هو المحافظة عليهم.
و(من) للاستفهام الانكاري اي لا يملك احد من الله شيئا. والملك في الاصل يدل على قوة في الشيء وصحّة على ما في معجم المقاييس والمراد به هنا القدرة اي لا يقدر أحد أن يفعل شيئا يمنعه تعالى من اي ضرر يريد ايقاعه عليكم. وقوله (لكم) اي لنفعكم ومصلحتكم ومنه يظهر أن الاستفهام الانكاري يتعلق بارادة الضر واستغني عن ذكر مماثله في ارادة النفع. والتقدير ومن يمنعه ان اراد بكم نفعا؟! ومثله قوله تعالى (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً..)[1] فان العصمة انما هي من السوء. فالتقدير ومن يمنعه ان اراد بكم رحمة.
بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا... التعبير يحمل تهديدا مبطّنا فالله تعالى كان عالما بما تضمرون في انفسكم من الشر وهو القادر على ان يجازيكم عليه. وانما اتى بفعل (كان) لان مورده مما مضى فالمعنى انكم اضمرتم شيئا ظنا منكم ان احدا لا يعلم به وكان الله تعالى خبيرا به كما هو خبير بكل شيء. والخبير هو العليم بالشيء على حقيقته قال العسكري في الفروق (الخبر هو العلم بكنه المعلومات على حقائقها ففيه معنى زائد على العلم..) ثم قال (هو من قولك خبرت الشيء اذا عرفت حقيقة خبره).
ويبدو من الآية انهم لم يكتفوا بترك الخروج مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل عملوا في الخفاء ما يدل على خيانتهم وهذا ما تقتضيه الظروف ايضا. ويبعد جدا ما ذكره بعضهم من ان المراد بعملهم ظنهم ان لن ينقلب الرسول.. كما في الآية التالية لعدم صدق العمل عليه. وما ذكرناه يحتمل ان يكون هو الوجه في الاتيان بـ (بل) لانها للاضراب ومعناها بناءً على ذلك أن الذي صدر منكم لم يكن مجرّد تخلّف عن نصرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بل صدر منكم من العمل ما يعلمه الله ويجازيكم عليه.
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا... اي لم يكن السبب في قعودكم وتخلفكم ما اظهرتموه بل هو هذا الظن وهذا هو ما جاء في الخبر عنهم حيث قالوا (لن يرجع محمد واصحابه من هذه السفرة) والانقلاب الرجوع الى المأوى. والاهلون جمع اهل كما مر و(لن) تفيد نفي الابد وأكده بقوله أبدا ويفهم منه أنهم كانوا جازمين بهذه العقيدة وهذه قرينة اخرى على نفاقهم وعدم ايمانهم باصل الرسالة وبأن الله تعالى هو الذي ارسل الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأنه سيحميه وينصره.
وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ... اي زين ذلك الظن في قلوبكم بمعنى انه تمكن من قلوبهم فاعتمدوا عليه واعتبروه امرا مسلّما لا ريب فيه او زين ذلك المظنون في قلوبكم بمعنى ان عدم رجوع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه الى المدينة اصبح امنية لهم فاخذوا يعدّون العدة لحياة جديدة يعودون فيها الى الجاهلية الاولى.
وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا... قيل انه تكرار للظن السابق وفي تفسير الميزان ان المراد به ظنهم بان الله تعالى لا ينصر رسوله فظن السوء هنا من سوء ظنهم بالله تعالى اما من جهة انهم لا يعتقدون انه تعالى يؤثر في الكون او انهم لا يعتقدون انه ينصر رسوله او يقدر على ذلك. والسوء بالفتح مصدر كما مر. ويمكن ان يكون المراد كل ما رتبوه في امانيهم على عدم رجوع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فكل منهم ربما كانت له اهداف وآمال لا يمكنه ان يصل اليها في ظل السلطة القائمة فكانوا يتوقعون ان تعود المياه الى مجاريها السابقة فيعودون الى اغراضهم الدنيئة. والبور مصدر بمعنى الفساد او الهلاك اطلق على الفاسدين مبالغة او هو جمع بائر بمعنى الفاسد او الهالك فالمراد انهم فسدوا او اهلكوا انفسهم بالكفر والنفاق. ولعل في التعبير بالماضي (وكنتم) اشارة الى امكان ان تتحولوا وتكونوا صالحين لئلا يشعروا بانسداد باب الصلاح عليهم ويمكن ان يكون بمعنى (صار) اي صرتم بذلك هلكى او فاسدين ويمكن ــ كما قيل ــ ان يكون بمعنى كونهم قبل ذلك فاسدين اوهلكى.
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا... بيان لنتيجة عملهم وموقفهم الذي يدل على كفرهم بالله ورسوله لينتبهوا ويعودوا الى رشدهم وفيه اشارة الى ان موقفهم من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ينبع من عدم ايمانهم بالله تعالى. ولعله لم يقل (أعتدنا لهم) بل قال (للكافرين) لامرين: لتوصيفهم بالكفر وهم يأبون عنه كغيرهم من المنافقين وللتنبيه على السبب وهو الكفر فربما يتوهم أن الكفر بنفسه ليس سببا للعذاب وأن الانسان انما يؤاخذ بظلمه للناس وليس الامر كذلك فان الكفر اكبر ظلم واقبحه. والسعير: النار الملتهبة ولعل التنكير للتهويل كأنه يقول انه سعير ايّما سعير.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... (السماوات والارض) تعبير عن الكون كله فكل الوجود ملكه تعالى والملكية هنا حقيقية بمعنى ان الكون كله متقوم في كيانه وذاته بارادته تعالى وحيث حذر المخلفين في الآية السابقة انهم يدخلون ضمن الكفار الى السعير فلعله يوجب استغرابا ويستبعد أن الله تعالى يدخلهم النار لتخلفهم عن نصرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويتوهم أن العقاب غير متناسب مع الذنب وهذا التوهم يحصل لكثير من الناس في كثير من الموارد ويصرح بعض الناس باستبعاده ان يدخل الله احدا النار لمجرد انه ترك الصلاة او افطر في شهر رمضان من غير عذر او ترك الحج او اتى بكل الاعمال فاقدا للولاية ونحو ذلك وكأن الانسان يتصور أن الله تعالى يحكم بمقاييس الناس وأنه يتبع القوانين الوضعية فهذه الآية تنبه الجميع أنه تعالى لا يتبع ارادة احد ولا يعمل وفقا لمنطق الناس وادراكهم فالكون كله له يفعل فيه ما يشاء فلو أراد أن يغفر لكل المجرمين العتاة المردة لم يكن لاحد الحق في الاعتراض ولا يمكن الاعتراض ولا اثر له وكذلك لو أراد أن يدخل الناس كلهم في النار ولكنه لا يفعل الا ما تقتضيه الحكمة.
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا... وهذه نتيجة حتمية للجملة السابقة فالمغفرة والعذاب وكل ما يحدث في الكون يرتبط بمشيئته تعالى ولا يتوقف على امر آخر الا ان المشيئة على اساس الحكمة والتدبير فهو لا يشاء أبدا ان يغفر للمشركين ان لم يتوبوا كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ..)[2] كما أنه لا يعذب أحدا الا بسوء عمله بل ان مغفرته ورحمته سبقت غضبه والمشاهد في الكون ان الغالب هو آثار رحمة الله تعالى وقلّ ما نجد في الكون آثارا لغضبه ولعله لذلك قدم الغفران على العذاب ثم أكد على كونه غفورا رحيما فلا يؤاخذ العباد بكل ما اقترفوا كما قال تعالى (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ..).[3]
[1] الاحزاب: 17
[2] النساء: 48 و116
[3] النحل: 61