سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ... هذا خبر غيبي آخر والمراد بالمخلفين هنا من سبق ذكرهم والمعروف ان المراد بالمغانم ما حصل للمسلمين من مغانم خيبر ولم يرد فيه خبر وربما يشهد له استخدام حرف السين في قوله تعالى (سيقول) مما يدل على المستقبل القريب وأن غزوة خيبر كانت أقرب المغانم بعد الحديبية. ويبدو من الآية حيث لم يقل (اذا انطلقتم الى حرب او الى عدو) بل قال (الى مغانم لتأخذوها) أن غزوة خيبر كان الامر فيها محسوما من قبل والنتيجة واضحة والغلبة قطعية فالسفر لم يكن لصدّ العدو بل لاخذ غنائمه كما هو مذكور في كتب التاريخ ايضا. و(مغانم) جمع مغنم وهو مصدر ميمي اي الغنيمة ويطلق على ما يغنم. ويظهر من قولهم المنقول (ذرونا نتبعكم) أنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم سيمنعهم من اللحوق بالمؤمنين لأن هذه المغانم مما وعد الله تعالى من شارك في الحديبية خاصة بهم كما يظهر من الجملة التالية ايضا.
يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ... يظهر منه ــ كما مر ــ أن الله تعالى كان قد أخبر أنه يعوض المؤمنين عن ما أصابهم من الاسف والاذى ــ لعدم تمكنهم من الاعتمار وغير ذلك مما أصابهم في قضية الصلح ــ بغنائم يأخذونها ولعلها غنائم خيبر فالوحي النازل بذلك كان أمرا من جهة وإخبارا من جهة اخرى فأمر الله تعالى أن لا يشاركهم فيها أحد وأخبر أنه لا يشاركهم فعلا وانها تخصهم ويبدو أنّ المخلفين كانوا قد سمعوا بذلك فأرادوا مشاركتهم لوجهين: الحصول على الغنائم الكثيرة السهلة الميسورة وتبديل كلام الله تعالى بأن يعملوا على خلاف ما أخبر به الله تعالى ليكون بذلك شاهدا على نفي الرسالة. وبهذا يتبين أنهم كانوا منافقين ويعادون الرسالة فقوله تعالى (يريدون ان يبدلوا) يدلّ على أنّهم كان لهم في ذلك غرض منشود. وبذلك يظهر ايضا أن ما ورد في السيرة من تخصيص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تلك الغنائم بمن كان معه في الحديبية لم يكن لاختياره ذلك بل بامر من الله تعالى.
قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ... قيل: ان المراد بالنفي المؤبد التأكيد على النهي وهو أمر متعارف فان النهي اذا اُتي به بصيغة النفي أفاد التأكيد بذاته فهناك فرق بين ان تقول لاتفعل وان تقول انك لا تفعله وانت تريد نهيه عن ذلك فان النفي هنا يدل على انك لا تصدق انه يفعل ذلك فاذا اتيت بالنفي المؤبد كان ذلك آكد فالمعنى نهيهم نهيا باتا وعليه فمعنى الجملة التالية ان الله تعالى نهى عن ذلك مؤكدا. ولكن اذا لاحظنا ما مر في تفسير قوله تعالى (يريدون ان يبدلوا كلام الله) من أنه تعالى أخبر بأنهم لن يتمكنوا من اللحوق بهم تبين ان النفي هنا ليس بمعنى النهي بل بمعناه الحقيقي اي انكم لا تستطيعون ان تفعلوا ذلك ابدا لان الله تعالى أخبر بذلك فلا يمكن ان يحدث لا محالة.
فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا... اي ان المخلفين لجشعهم ونفاقهم معا سيكذّبون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويردّون عليه بان الله تعالى لم يقل ذلك وانما تمنعوننا منها لحسدكم ورفض نفوسكم أن نشارككم في الغنائم.
بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا... وهذا ردّ عليهم بانهم لا يفقهون الا قليلا من امور الدنيا وذلك لانهم لا يهمهم الا المال والغنائم كقوله تعالى (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)[1] وهكذا أبناء الدنيا حيث يفسرون كل ما يواجهونه من حقائق بتفسير مادي حتى الرسالات واعمال الرسل وكراماتهم ولا يشعرون اي فرق بينهم وبين غيرهم ممن هو على شاكلة انفسهم من عشاق المال.
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ... تكرار التعبير عنهم بالمخلفين وعدم الاكتفاء بالضمير للتركيز على التنديد بهذه الصفة التي تشتمل على القدح والتحقير حيث إنّ المخلّف هو الذي تُرك مع أنّهم كانوا متخلّفين ولم يُتركوا لعدم الاعتناء بهم الا انهم حيث تركوا الواجب وأخلدوا الى الارض وقدّموا الدنيا على الآخرة استحقوا هذا التحقير فاعتبروا كأنّهم تُركوا لعدم الاهتمام بشأنهم. وايضا التأكيد على كونهم من الاعراب فيه نوع تحقير لهم وانتقاص من ثقافتهم.
والآية الكريمة تفتح لهم مجالا للعودة والتوبة ولكن لا يمكن ذلك مع الخلود الى الراحة وانتهاز الفرص للسيطرة على الغنائم وانما تقبل منهم التوبة اذا فازوا في امتحان أصعب مما مضى حيث يُدعون لمقاتلة قوم اولي بأس شديد فليسوا كاليهود متسترين بالحصون للمحافظة على اموالهم ومن جهة اخرى لا يكفي في القتال ان يستسلم القوم او يهربوا او يدفعوا الجزية بل عليهم ان يقاتلوهم الى ان يسلموا فهو امتحان صعب. وهكذا يبتلي الله تعالى عبده بمحنة فان تهرب عنها وقع في محنة اصعب ليتبين صفاء روحه وقوة ايمانه ومدى تسليمه لامر الله تعالى.
وقد وقع الخلاف في المراد بهذا القوم فقيل هم هوازن في غزوة حنين وقيل ثقيف في غزوة الطائف وقيل مشركو مكة في فتح مكة وقيل الروم في غزوة مؤتة وقيل المراد دعوتهم الى حروب المسلمين بعد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كالمرتدين مع مسيلمة او الفرس وكل منهم أشداء ذوو بأس شديد الا أنه يبعد ارادة الروم لانهم كانوا أهل كتاب والحرب معهم لا يستمر الى الاسلام بل تقبل منهم الجزية فقوله تعالى (تقاتلونهم او يسلمون) يدل على أنهم مشركون وكذلك لا يصح ارادة الفرس لانهم كانوا مجوسا وحكمهم في الحرب كاهل الكتاب ويبعد ارادة اهل مكة لان ظاهر الآية انهم قوم غير من دعوا الى محاربتهم في هذه القضية والا لقال ستدعون الى قتال هؤلاء مرة اخرى وظاهر قوله (ستدعون) انه يتم في المستقبل القريب فيبعد ايضا حمله على ما بعد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم فالصحيح أن المراد بهم هوازن او ثقيف او كلاهما.
فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا... الغرض من هذا البيان أن الامتحان لا يتم الا بالابتعاد عن الجشع والمطامع المادية والا فانتم باقون على النفسية السابقة فان وطنتم أنفسكم على قتال عدو شديد البأس لا تتركونهم حتى يسلموا من دون أن يكون لكم مطمع في مال بل يكون هدفكم بلوغ رضوان الله تعالى ونيل ثوابه واجتناب عذابه يوم القيامة فقد فزتم والا فان الله تعالى يعذبكم عذابا اليما ولعله لذلك لم يفصل ذكر الاجر ايضا بل أبهمه ليكون قصد التقرب اليه وامتثال أمره هو الهدف الاساس.
ومن الغريب أن بعض من يصرّ على أنّ هؤلاء قوم مؤمنون فسّر هذه الآية بانها نزلت للتخفيف عنهم بأنكم ستنالون غنائم في حروب آتية وانما كان المنع في غنائم خيبر لمصلحة خاصة مع أن الآية لا تدل على ذلك وانما وعدوا بالاجر الحسن. والاجر الحسن لم يكن في الدنيا بل في الآخرة.
وقوله تعالى (كما توليتم من قبل) اي في الحديبية وفيه تهديد لهم بأن ذلك التولي يستلزم العذاب الاليم ولكن الله تعالى يعفو عنهم اذا أطاعوا في غزوة اخرى. والتولّي عن الشيء الادبار والاعراض عنه فلا بد من تقدير اي تتولوا عن الاطاعة ولذلك يعبّر به عن العصيان.
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا... يبدو أن المعوقين كالاعمى والاعرج وكذلك المرضى ممن تخلفوا وربما شاركوا الاصحاء في ظن السوء وبث الدعايات ضد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لمّا رأوا أن التوبة والرجوع اُنيط بالدعوة الى القتال أصابهم الهلع والخوف من أنهم لا يقدرون على ذلك فكيف يضمنون قبول التوبة فنزلت الآية الكريمة تعفيهم عن القتال ولكنها في نفس الوقت تطالبهم باطاعة الله ورسوله فمجال الاطاعة واسع ومن لا يستطيع القتال يمكنه بذل النصح للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وللامة ولذلك عقبه بقوله تعالى (ومن يطع الله ورسوله..) وعبّر عن العاصي بنفس التعبير الوارد في من ترك القتال (ومن يتول..) للتنبيه على أن دور العاجز خلف جبهات القتال لا يقصر عن دور المقاتل.
[1] الروم: 7