مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ... الآية مرتبطة بصلح الحديبية ولا وجه لتخصيصها من بين ايات السورة بفتح مكة. وتقديم الضمير المسند اليه للتركيز على الفاعل اي ان الله تعالى هو الذي فعل ذلك ولم يكن الامر من تدبيركم وهو الذي تولى اموركم ليتم الفتح المبين لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم. والكف هو المنع فالله تعالى بتصرفه في القلوب ــ وهو يحول بين المرء وقلبه ــ منع كلا من الفريقين ان يهاجم الآخر مع أن الوضع بصورة اعتيادية كان يستلزم المواجهة فالثأر والعداء بينهما راسخان والمسلمون قلة لم يستعدوا للحرب وهاهم بلغوا مشارف مكة والتعبير بأنهم في بطن مكة اما للمبالغة او باعتبار اطلاق الاسم على المدينة المقدسة وما حولها من الضواحي كما هو المتعارف والحديبية اول الحرم الشريف. والبطن يطلق على داخل الشيء بخلاف الظهر ومثلهما الباطن والظاهر. ومع كل ذلك لم تحصل اي مواجهة ولم يمنع منها الا قدرة الله تعالى حيث منع كلا منهما ان يقصد الآخر ليبلغ الغاية المتوخاة وهو فتح مكة بدون قتال ليبقى حرم الله تعالى مصونا من سفك الدماء فيه والله بالغ امره.   

وأما قوله تعالى (من بعد أن أظفركم عليهم) فالظاهر أن المراد به الظفر على المشركين عامة من جهة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تمكن من دخول مشارف مكة بجمع قليل ومن دون ان يحملوا عتاد الحرب وأن يرغمهم على قبول الصلح وكان هذا بنفسه فوزا عظيما ولذلك عده الله سبحانه فتحا مبينا. ولكن كثيرا من المفسرين رووا روايات تدل على ان الآية نزلت في شأن قوم خاص من المشركين أرادوا الفتك بالمسلمين فأمكن الله منهم وقبضوا عليهم وأطلقهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والروايات متخالفة ولا اعتبار باسنادها وبعضها واضح الكذب لاشتمالها على أن خالد بن الوليد هو الذي أسرهم بامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع انه لم يكن مسلما ذلك اليوم فكأن الواضع خانته ذاكرته.

وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا... لا شك أنه تعالى بصير بكل شيء وانما القصد هنا التنبيه على ان الامور كانت تحت عنايته الخاصة كما قال تعالى خطابا لموسى عليه السلام (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)[1] فالمراد ان الامور ما كانت تسير سيرها الطبيعي المتوقع بل كانت عناية الله سبحانه وتأييده ولطفه تسيّر الامور على الوجه الخاص بحيث ينتهي الامر الى ما يريده تعالى وهو الصلح المستتبع لفتح مكة من دون قتال والله غالب على امره.

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ... هذه الآية تثبت استحقاق المشركين لان يعذبهم الله تعالى بايدي المؤمنين بل يبيدهم عن آخرهم وتبين السبب في تأخير ذلك. أما وجه استحقاقهم للعذاب فامور ثلاثة: الكفر وهو بنفسه يكفي مبررا للعقاب اذا تمت الحجة عليهم وقد تمت بالفعل، والثاني انهم منعوا المسلمين من دخول المسجد الحرام، والثالث منعهم الهدي من ان تبلغ محلها وتذبح او تنحر. فقوله تعالى (والهدي) عطف على الضمير المنصوب في (صدّوكم) اي وصدّوا الهدي. والصدّ: المنع. والمعكوف اي المحبوس ومنه الاعتكاف حيث يحبس الانسان نفسه في المسجد. والهدي ما يهدى الى الكعبة من النعم قربة الى الله تعالى. والمحل اي الموضع الذي يحل فيه ذبحه او نحره وهو مكة في العمرة المفردة حيث يستحب فيها الهدي. وكان منع الهدي من بلوغ مكة يعتبر جريمة في عرف العرب الجاهلي بل كانوا يُشعرون الهدي او يقلدونه فلا يتعرض له احد باذى الى ان يبلغ مكة للذبح او النحر.

وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ... وهذا بيان للسبب في تأخير العقوبة وهو ــ على ما هو المعروف في تفسير الآية ــ وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات في مكة لا يعرفهم المسلمون بأشخاصهم فينالهم سوء بسبب الحرب وينتهي الامر بما يوجب حرجا على المسلمين. وقوله (لم تعلموهم) جملة وصفية للرجال والنساء اي لم تعرفوهم و(ان تطئوهم) بدل عن (رجال ونساء) اي لولا ان تطئوا هؤلاء. والوطء هو الدوس بالارجل وهو كناية عن الاهلاك كما قيل. والمعرّة المكروه وما يصيب الانسان من الاثم كما في العين واصله العرّ بمعنى الجرب واللطخ بالقذارة والعيب. والمراد به ــ على هذا التفسير ــ انكم اذا قتلتم مؤمنا خطأً فانكم تصابون بالاسف كما انه يستلزم عارا ومسبّة فيقال ان اتباع دينهم ايضا لم يسلموا منهم. وقوله (ولولا) شرط جوابه محذوف اي لولا ذلك لسلطكم الله عليهم.

وهناك اختلاف في متعلق قوله (بغير علم) فقال في الكشاف انه متعلق بـ (أن تطئوهم) يعني أن تطئوهم غير عالمين بهم. ولكنه يكون تكرارا لقوله (لم تعلموهم). وقيل ان المراد بهذا العلم العلم بلحاق المعرة فيختلف عن العلم في (لم تعلموهم) المتعلق بايمانهم. ولكنه قيد لا فائدة فيه فان اصابة المعرة محذور سواء علم بها ام لم يعلم مضافا الى ان المعرة انما تصيبهم بعد تبين ايمانهم وهم حينئذ يعلمون بالاصابة فلا تصيبهم من غير علم.

وقيل ان المراد بالعلم الاول العلم بالوطأة اي تقتلونهم من دون شعور بهم والعلم الثاني متعلق بايمانهم وكلاهما غير صحيح فان العلم الاول تعلق بهم لقوله (لا تعلمونهم) فلا يمكن ان يتعلق بالوطأة والثاني لا علاقة له باعتبار الايمان وقيل ان المراد بالثاني عدم علم من يعترض عليكم بانكم معذورون في قتلهم لعدم العلم بهم وهو ابعد من الجميع. ومن الواضح ارتباك التفاسير في توجيه هذه الكلمة واكثرهم مر عليها مرور الكرام.

والسر في ذلك هو أنهم لم يتعرضوا لسؤال واضح هنا او لم يتأملوا في ما هو الجواب الصحيح وان اشار اليه بعضهم. والسؤال البارز هنا انه من هم هؤلاء الرجال والنساء وكيف لم يعرفهم المؤمنون وفيهم كثير من اهل مكة؟ ولم يرد في تفاسير القوم شيء مأثور الا ما ورد في الدر المنثور قال (أخرج الحسن بن سفيان وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن قانع والباوردي والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم بسند جيد عن أبي جمعة حنيبذ بن سبيع قال قاتلت النبي صلى الله عليه وسلم أول النهار كافرا وقاتلت معه آخر النهار مسلما فينا نزلت "وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ" وكنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتين). وعلى ضوء هذه الرواية ورد في بعض تفاسيرهم انهم هم المراد بالآية. وهو بعيد جدا اولا من جهة ان ظاهر الآية ان تكون النساء اكثر من اثنتين وثانيا لان الرواية تشتمل على ما هو خلاف الواقع من حدوث حرب بين المسلمين والمشركين وثالثا انه وفقا لهذه الرواية لم يكن الراوي قبل الحرب من المسلمين فلا تشمله الآية. وعدّ بعضهم من هؤلاء جمعا من الذين اسلموا ولم يهاجروا كابي جندل بن سهيل بن عمرو. ولكن هؤلاء قوم معروفون!! ولذلك اكتفى أكثر المفسرين بالاشارة الى احتمال وجود مؤمنين غير معروفين بين المشركين.

ويبدو أن الآية كانت مثار هذا السؤال في تلك الاعصار ايضا كما نجده في عدة من رواياتنا وورد فيها ان المراد بهم من هم في اصلاب الرجال فقد روى الصدوق رحمه الله بسنده عن ابن ابي عمير عمّن ذكره عن ابي عبدالله عليه السلام قال (قلت له ما بال امير المؤمنين عليه السلام لم يقاتل مخالفيه في الاول قال لآية في كتاب الله تعالى "لو تزيّلوا لعذّبنا الذين كفروا منهم عذابا اليما" قال قلت وما يعني بتزايلهم؟ قال ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين وكذلك القائم عليه السلام لن يظهر أبدا حتى تخرج ودائع الله عزّ وجلّ فاذا خرجت ظهر على من ظهر من أعداء الله عزّ وجلّ فقتلهم).[2] وروى مثله ايضا عن طريق اخر وروى ايضا في نفس الباب عن منصور بن حازم عن ابي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ "لوتزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا اليما" لو أخرج الله عزّ وجلّ ما في أصلاب المؤمنين من الكافرين وما في أصلاب الكافرين من المؤمنين لعذّب الذين كفروا).

ويمكن الاعتراض على هذه الروايات بما يلي:

الاعتراض الاول: أن اسنادها ضعيفة.

والجواب أن رواية ابن ابي عمير لا اشكال في سندها الا في من يروي عنه الصدوق مباشرة وهو جعفر بن محمد بن مسرور ولم يذكر بمدح او ذم ولكن الصدوق رحمه الله ترحم عليه وذكره بخير وهذا وان لم يدل على التوثيق الا انه يعتبر ممدوحا ويكفي ذلك في التفسير واما ارسال ابن ابي عمير فلا يضر عند كثير من العلماء حتى في الفقه. واما رواية منصور بن حازم فكل رواة سنده من الاجلاء الا من يروي عنه الصدوق وهو ايضا ممدوح عنده. والحاصل ان الروايات المذكورة مما يمكن الاعتماد عليها في التفسير مع سلامة المتن.

الاعتراض الثاني: أن ظاهر الآية المباركة انهم رجال ونساء موجودون بالفعل ومؤمنون كما أن قوله تعالى (لو تزيلوا..) يدل ايضا على أنهم مختلطون لان التزيل التفرق.

والجواب انه ليس في مجرد التوصيف دلالة على انهم موجودون بالفعل فهو كقوله تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[3] وأما التزيل فسيأتي الكلام فيه ان شاء الله.

الاعتراض الثالث: انه لا يصح التعبير بالوطء والاهلاك لمن في الاصلاب فلا يقال ان من قتل احدا فقد قتل كل من كان بالامكان ان يولد منه فمن الواضح ان المراد بالآية وجود اناس بالفعل بين المشركين لا يعرفهم المسلمون باعيانهم فيقتلونهم جهلا.

والجواب أنه لم يعبر بالقتل والاهلاك وانما فسر الوطء بذلك ولعل اختيار هذا التعبير قرينة على أن المراد بهم من ليس موجودا بالفعل فالوطء اي الدوس بالارجل باعتبار أن قتل الآباء لا يبقي مجالا لوجودهم.

الاعتراض الرابع: ان هذا النوع من القتل لو صح التعبير لا توجب اصابة معرة فلا يلام احد اذا قتل احدا مستحقا للقتل بأنك منعت نسله من الوجود مع احتمال ان يكونوا مؤمنين! خصوصا انه امر غير معلوم ولا اثر للاحتمال.

والجواب أن هذا الاشكال انما ينشأ من تفسير إصابة المعرة بما ذكر ولكن الصحيح بناء على هذا التفسير أن إصابة المعرّة بمعنى النقص الوارد على المسلمين حيث ينقص عددهم والمعرّة تصدق على كل مكروه وعيب ولعله لهذا السبب اختير هذا التعبير غير الواضح.

الاعتراض الخامس: انه لو اريد بالآية مثل ذلك لزم المنع من قتل كثير من الكفار في كثير من الحروب اذ لو كان الكافر يبقى لكان من المحتمل ان يولد من نسله مسلم كما هو الغالب في المجتمع الاسلامي.

والجواب أن الآية لم تمنع القتل في الحرب وانما ذكرت السر في أن الله تعالى منع تكوينا تحقق الحرب في خصوص هذا المورد لانه كان يستوجب قتل كثير من الناس ولعله كان يفعل مثل ذلك في موارد اخرى ايضا مشابهة من دون ان يشعر به احد.

ومن هنا يتبين أنه ليس المراد بالآية الكريمة حسب هذا التفسير وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات في الاصلاب بقضاء حتمي من الله تعالى بل المراد قابلية الآباء لايلادهم وقابلية الاولاد المفترضين للاندماج في المجتمع الاسلامي كما هو الغالب حيث انهم لو ولدوا في هذا المجتمع وهذه الظروف فسيكونون مسلمين قطعا وايضا قابليتهم للوصول الى مرحلة الايمان الكامل وهذا امر لا يختص بهؤلاء بل هو سار في كل من كانوا في ذلك العصر وتلك المنطقة فالغرض من هذه الآية حسب تفسير هذه الروايات أن الله تعالى أراد أن يبقي على هذا النسل ويمنع من هلاك جمع كثير من الناس لانهم هم الذين يشكلون في المستقبل السواد الاعظم للمؤمنين رجالا ونساء.

لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ... اي أخّر الله في عذاب المشركين ومنع من نشوب الحرب بينهم ليفسح المجال امام من يريد الهداية منهم ومن الاجيال الآتية ليؤمن ويدخل في رحمته تعالى. والتعليق على المشية يراد به من اقتضت حكمته تعالى ان يدخله في رحمته اذ هو لا يشاء الا ما تقتضيه الحكمة والمراد صلاحيته للهداية. وهذا التعليل انسب بما ورد في الروايات من ان المراد بهم من في الاصلاب.

لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا... التزيل التفرق كما قال تعالى (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ)[4] اي فرقنا بينهم. والتفسير المعروف لهذه الجملة أنهم لو انفصل بعضهم عن بعض وأمكن عذاب الكافرين منهم من دون ان يصيب المؤمنين لعذبناهم عذابا اليما ولم يبين انه بايدي المؤمنين او بغيرها فيشملهما معا وهذا يدل على أن الله تعالى يدفع العذاب العام عمّن يستحقه اذا كان في البلد من لا يستحقه ويدل عليه ايضا ما جاء في الآيات من انه تعالى كان ينجي الانبياء والمؤمنين قبل نزول العذاب كقوله تعالى (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)[5] وقوله تعالى (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[6] وقوله تعالى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ...)[7] وغيرها من الآيات الكريمة.

ولكن الروايات المذكورة تدل على أن المراد بالتفرق تفرق المؤمنين من الجيل المتأخر عن آبائهم الكافرين وهو أمر لا يحدث الا بالتدرج فالواقع أن هذا التزيل وما يترتب عليه من عذاب الكافرين مما لا يحدث أبدا وانما المراد بيان استحقاق الجيل الحاضر وقت نزول الآية لعذاب الله تعالى ولعل المراد به عذاب الاستئصال كما هو ظاهر اللفظ عند الاطلاق فلا وجه لما قيل من ان المراد عذابهم بايدي المؤمنين فالمعنى حسب هذا التفسير أن الله تعالى لا ينزل العذاب على هذا القوم مع استحقاقهم بسبب وجود جيل مؤمن في ذريتهم.

ويؤيد هذا المعنى ما ورد في دعاء سيدنا نوح عليه السلام (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)[8] مما يدل على أنهم لو كان في اصلابهم مؤمن لم يدع الله عليهم ولعله عليه السلام علم بذلك من هذا الوحي حيث قال تعالى (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[9] اذ لو كان في ذريتهم مؤمن لكان من قومه ايضا. ومن هنا فان هذا التفسير هو الصحيح من بين كل ما قيل في تفسير الآية الكريمة فان الكافرين في مكة وقت نزول الآية لم يكن بينهم مؤمنون الا من كانوا معروفين باشخاصهم وكان بامكانهم الهجرة خصوصا بعد توسع الاسلام وسيطرته على الجزيرة العربية.

وبهذا التفسير يتبين الجواب عن عدة اسئلة في الآية الكريمة:

السؤال الاول: وجه التعبير بقوله تعالى (لا تعلمونهم) بدلا من (لا تعرفونهم) الذي هو المناسب لو كان هنالك اشخاص مؤمنون لا يعرفون بسيماهم فالتعبير بعدم العلم بهم من جهة ان اصل وجودهم غير معلوم.

السؤال الثاني: التعبير بالوطء بدلا عن القتل اذ لو كان هنالك اشخاص لكان التعبير بالقتل هو الاولى.

السؤال الثالث: التعبير باصابة المعرة وهو تعبير غامض ينطبق على امور كثيرة ولو كان المراد قتل الاشخاص لكان يعبر عما يوجب الاسف الشديد.

السؤال الرابع: التعبير بالتزيل ولو كانوا اشخاصا لقال (لو هاجروا) او (لو خرجوا).

وهكذا نجد أن تفسير الآيات المشكلة لا نجده الا في روايات ائمة اهل البيت عليهم السلام ولو كانت ابوابهم مفتوحة للناس لما وقعوا في متاهات الجهل. 

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ... يحتمل ان تكون (اذ) تعليلية وتكون لبيان علة استحقاق العذاب في الآية السابقة ويمكن ان تكون ظرفا لقوله (صدوكم) ولا حاجة الى تقدير (اذكر) ونحوه كما قيل. والحمية من الحَمْي وهو شدة الحر والمراد ثوران الغضب فان الانسان يشعر بحرارة شديدة اذا اشتد غضبه ثم فسّر الحمية بحمية الجاهلية والجاهلية صفة لمقدر اي حمية الملة الجاهلية او انها اضيفت الى صفته فالحمية التي جعلوها في قلوبهم هي التي ورثوها من الجاهلية. والجاهلية تطلق على عادات العرب قبل الاسلام وما يدعى بزمان الفترة.

ولعلك تسأل: لماذا ذكر الحمية اولا ثم ابدلها او بينها بحمية الجاهلية ولم يقتصر على حمية الجاهلية فقط وهي أخصر؟ والجواب أن هذا التعبير يفيد استقباح عملهم من جهتين الاولى أنه ليس بدافع العقل والمنطق بل الحمية والثانية أن هذه الحمية من تركة الجاهلية. 

والموصول فاعل (جعل) كما هو واضح فهم بانفسهم جعلوا في قلوبهم الحمية ولا وجه لما قيل من أن فاعله هو الله تعالى ولا تستقيم معه العبارة وانما قيل ذلك استبعادا لاحتمال جعلهم ذلك بانفسهم وانما لم يقل (جعل الله) ليدل الكلام على انهم اختاروا هذه الحمية وهذا النهج الفاسد بسوء اختيارهم فلم تكن هذه الحمية مودعة في قلوبهم رغما عليهم بل هم بانفسهم جعلوا ذلك في قلوبهم وأرسخوها وبنوا عليها نهجهم وما يتخذونه من موقف تجاه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه وعلى هذا الاساس الفاسد منعوهم من الطواف بالبيت ومن نحر الهدي في محله مع انه مخالف لسننهم حتى ان صاحب الثأر كان يجد قاتل ابيه في الحرم فلا يتعرض له ولكنهم استسلموا لعصبيتهم الجاهلية ورأوا ان دخول القوم في مكة لعله يعتبر عند بعض العرب ارغاما لآنافهم فمنعوهم وكان ذلك السبب في ان الله تعالى ارغم آنافهم في مدة قصيرة وفتح مكة لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين فتحا باهرا.

فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ... هذه السكينة في مقابل تلك الحمية ولذلك صدّر الجملة بفاء التفريع فالحمية من صنعهم ومن جعلهم، والسكينة من الله تعالى. والحمية ثورة لا تستند الى منطق وعقل وثقافة، والسكينة اطمئنان في القلب وحلم في السيرة. ومن هنا اتخذوا ذلك الموقف الهادئ بعد ان بايعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى الموت وقبلوا كل ما ابدى الجاهليون من اعذار واهية لتغيير مضمون الصلح وهم واثقون من ان ذلك لا ينتج الا الخير لهم وان العاقبة للمتقين. وانما كرر لفظة (على) لاختلاف السكينة النازلة عليه صلى الله عليه وآله وسلم عما نزل في قلوب المؤمنين كما ان ما نزل في كل قلب من قلوبهم ايضا من السكينة تختلف عن غيره فكل احد حاز منها ما هو المناسب لوعائه ولعل منهم من لم يشعر باي سكينة كالمنافقين.

وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى... قيل المراد بكلمة التقوى (لا اله الا الله) وقيل غيرها من الكلمات فكأنه يجب ان يكون كلاما ولكن الظاهر أن المراد بها روح الايمان كما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله فانه الذي يبعث بالتقوى في قلب الانسان والكلمة كل ما له تاثير قال تعالى (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)[10] ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ..)[11] فالايمان كلمة كتبها الله في قلوب المؤمنين. والالزام جعل الشيء لازما لشيء فالمراد انه تعالى جعل كلمة التقوى ملازمة لهم لا ينفكون عنها فان رعاية التقوى في بعض الحالات دون بعض ليست ميزة يمتازون بها.

وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا... اي كانوا اجدر بها من غيرهم حيث انهم ابلوا بلاءً حسنا واتقوا ربهم واطاعوه فاستحقوا أن يكتب الايمان في قلوبهم واما قوله (واهلها) فالمراد انهم لم يكونوا احق من غيرهم فحسب بل لم يستحقها احد في ذلك الزمان غيرهم حيث ان قوله (احق) ربما يوهم ان من الآخرين ايضا من يستحقها ولو بدرجة خفيفة فبهذا التعبير بيّن انهم لا يستحقونها ابدا بل المؤمنون هم اهلها فحسب.

وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا... فهو يعلم ما تخفيه الضمائر وما يجعله الانسان في قلبه من حب او بغض وما يستحقه من حمية او سكينة.

 


[1] طه: 39

[2] علل الشرايع ج1 ص147 كمال الدين وتمام النعمة ص641

[3] المائدة: 54

[4] يونس: 28

[5] النمل: 53

[6] الذاريات: 35

[7] الانفال: 35

[8] نوح: 26- 27

[9] هود: 36

[10] الكهف: 109

[11] المجادلة: 22