إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا... الظاهر أن الآيات بصدد ربط المؤمنين المجاهدين بالله تعالى مباشرة ليستشعروا عظمة الموقف وضخامة المسؤولية الملقاة على عواتقهم ولا يظنوا أنهم يواجهون مسؤولية بشرية أمام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كالمسؤولية أمام أي زعيم اجتماعي فالموقف هنا خطير جدا والبيعة التي بايعوها انما بايعوا فيها الله تعالى مباشرة ودور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه البيعة دور الوسيط بالرغم من عظمة مقامه كوسيط بين الله تعالى وخلقه. وفي المقابل توهم بعض المفسرين أن السياق هنا بصدد تضخيم دور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبيان عظمته وعلو مقامه ليشعر المؤمنون خطورة الموقف من هذه الجهة وليعلم المعترضون على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فداحة خطأهم في التعامل معه. وهذا الاختلاف يؤثر في فهم معنى الآية كما سيأتي.
وقد وصف الله تعالى رسوله الكريم هنا بثلاثة أوصاف: الشهادة والبشارة والانذار. والمراد بالبشارة والانذار واضح فالرسالة الالهية دائما تحوم حول هذين الركنين والأهم منهما هو الانذار حيث ان البشرية كالقطيع الغافل لما حوله من أخطار لا يرى الا زينة هذه الحياة وآلامها وواجب الرسل في الاساس هو تنبيههم على أخطار الحياة الآخرة وعواقب امورهم ونتائج أعمالهم. انما الكلام في المراد بالشهادة وقد مر بعض الكلام في تفسير قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)[1] وقلنا ان الاحتمالات في معنى الشهادة ثلاثة:
1- شهادة القائد السياسي والإمام لاعمال الناس الظاهرة مما تنبئ عن خبايا اسرارهم واتجاهاتهم وايمانهم به وبرسالته اوكفرهم اونفاقهم. وعلى هذا الاحتمال فالرسول كغيره من زعماء المجتمع يلاحظ من اعمال كل احد وجهة تاثيره الاجتماعي. و ربما يحمل قوله تعالى (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)[2] على ذلك بقرينة ان رؤية المؤمنين ليست الا على هذا الوجه.
2- أن الملائكة تعرض اعمال العباد على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك على الائمة من بعده عليهم السلام فهم شهود على خبايا اعمالهم لا على ظواهرها وتاثيراتها الاجتماعية فحسب. وبهذا المعنى وردت روايات تدل بعضها على ان الاعمال تعرض على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى بعد وفاته وبعضها على انها تعرض بعده على الامام وان المراد بالمؤمنين في الاية المذكورة هو امير المؤمنين عليه السلام او الائمة كلهم عليهم السلام[3] ونحن لا نعلم حقيقة هذا العرض ولا كيفيته وحدوده.
3- الشهادة بمعنى كونه مثلا يحتذى به ومقياسا للصلاح والعبودية فالرسول او الامام بعمله وسيرته شاهد في الدنيا يقتدى بهم وفي الاخرة تقاس بهم الاعمال ومنه ما ورد في الزيارة الجامعة (انتم الصراط الاقوم وشهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء) ويدل على كون الامام شاهدا بمعنى كون عمله مقياسا يوم القيامة قوله تعالى (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا)[4] ويفهم من فاء التفريع ان دعوة الامام يوم القيامة لتمييز من تبعه واقتدى به ليؤتى كتابه بيمينه ومنه يظهر أن المراد بالامام في الآية الامام الحق والله العالم.
ويستفاد من بعض الآيات أن شهادة الرسل تختص بحال حياتهم كقوله تعالى في حكاية كلام عيسى عليه السلام يوم القيامة (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[5] ولعله يستفاد ايضا من قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[6] وأوضح منه قوله تعالى (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا[7]) وقوله تعالى (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ..)[8] بلحاظ أن الاشارة لا تكون الا الى الموجودين فالمراد بقوله (هؤلاء) المؤمنون بالرسالة في عصرها.
وفي مقابل ذلك ما ربما يدل على شهادتهم بعد الموت ايضا ــ كما دلت عليه بعض الروايات[9] ــ كقوله تعالى بشأن عيسى عليه السلام (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا)[10] بناءً على ان الضمير في (موته) يعود الى (احد) فان التقدير (وان احد من اهل الكتاب) وبناءً على ان هذه الآية تشمل اهل الكتاب الباقين بعد وفاته عليه السلام سواء قلنا بانه الآن حي او ميت فانه سيموت لا محالة. ولعل وجه الجمع بين المجموعتين من الآيات اختلاف معنى الشهادة فالرسول ما دام حيا يعتبر مسؤولا عن قومه ان لم يتم تبليغ الرسالة وبهذا المعنى يسأل الله المرسلين يوم القيامة كما قال تعالى (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)[11] ولا يكون مسؤولا عما يحدث بعده من ارتداد او تحريف ولكنه يعتبر شاهدا على الجميع بالمعنى الثالث فهو الاسوة والمثل وأعماله وسيرته شاهد وامام ومقياس. فالجمع بين الآيات ان الرسول ليس شاهدا على الامة بعد وفاته بالمعنى الاول ولكنه شاهد بالمعنى الثالث.
ويشهد لذلك ما ورد في مساءلة عيسى عليه السلام يوم القيامة وجوابه قال تعالى (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[12] ومعناه انه ليس مسؤولا عن ارتدادهم بعده.
ويستفاد ايضا من بعض الآيات أن الشهادة لا تختص بالرسل كما هو صريح الآية المذكورة آنفا (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا..) ومثلها قوله تعالى (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)[13] وقد ورد في بعض الروايات[14] ان المراد بهؤلاء الشهداء الائمة عليهم السلام ولو فرض عدم الاختصاص فيمكن ان يكون المراد بالآية حثّ المخاطبين على الجهاد في سبيل الله حق جهاده واقامة الصلاة وايتاء الزكاة والاعتصام بالله ليكونوا اسوة لمن بعدهم ولسائر الامم في اصل الالتزام باحكام الشرع وليس معناه انه تعالى جعلهم شهداء على الناس كالمعصومين ليكون عملهم او قولهم حجة.
وليس معناها ايضا أن الشهادة صفة لكل من كان في عهد الرسالة وان لم يجاهد في سبيل الله بل حتى لو غيّر وبدّل لتكون دليلا على عدالة جميعهم كما يتوهم فانه يستلزم التناقض وجواز التأسي بالمجاهدين والقاعدين على حد سواء وهذا غير صحيح قطعا. وصريح قوله تعالى (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[15] أن ذلك شأن بعضهم حيث يتخذ منهم شهداء وهو في حد ذاته أمر واضح اذ منهم المنافقون ومنهم ضعفاء الايمان ومنهم الذين آذوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ونزلت فيهم آيات الارتداد والنفاق فكيف يمكن ان يكونوا اسوة؟!
وربما يتوهم التنافي بين الشهادة يوم القيامة وبين قول الرسل (لا علم لنا) كما ورد في قوله تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)[16] والجواب أنه لعل المراد عدم علمهم في مقابل علمه تعالى فهم لا يعلمون الا ظاهرا منهم وأما البواطن فلا علم لهم بها الا بالمقدار الذي أعلمهم الله تعالى بالوحي وهذا لا ينافي الشهادة بمقتضى علمهم والا لم يكن وجه للسؤال كما يدل على ذلك قوله تعالى (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا)[17] بناءً على عدم اختصاص القوم بالموجودين في ذلك الزمان وبناءً على أن هذا القول يحكي عن شكواه صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة عن امته. هذا وأما الشهادة بمعنى كونه مقياسا يوم القيامة فلا علاقة لها بجواب الرسل في سورة المائدة كما لا يخفى.
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا... أي ان الغرض من ارسال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شاهدا ومبشرا ونذيرا هو ايمان الناس بالله وبالرسول. ومن هذا التعبير واعتبار الايمان بالرسول جزءا من هدف الرسالة تتبين عظمة مقام الرسول وسخافة قول من يقلل من شأنه ويقول انه مجرد واسطة ومخبر ومن يقول بكفاية كتاب الله تعالى فالايمان بالرسالة ليس من باب انه طريق للايمان بالله تعالى كما يتوهم البعض بل هو هدف وغرض أساسي فالله تعالى يريد من الناس أن يعبدوه عن طريق متابعة الرسول وليس الايمان به تعالى كافيا حتى لو كان عن طرق اخرى كالايمان عن طريق العلم والفلسفة وهناك من الحكماء والفلاسفة والعرفاء من يحكى عنهم القول بعدم احتياجهم الى الرسالات وانهم يصلون الى الله عن طريق العلم او تزكية النفس من دون حاجة الى متابعة رسول وكتاب سماوي. وهذا ــ مع أنه باطل في نفسه ــ ايمان غير مقبول عند الله تعالى كما هو صريح آيات الكتاب العزيز.
ولعله انما أتى بضمير الخطاب لان الايمان بالرسالة مطلوب من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ايضا ولذلك كان يشهد بذلك في مواضعه كتشهد الصلاة على ما روي ولعل من قرأ بالضمير الغائب (ليؤمنوا) استبعد وجوب الايمان بالرسالة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمشهور المتبع القراءة بالخطاب.
والتعزير قيل هو التفخيم والتوقير وقيل هو النصر بتوقير وتعظيم قال تعالى (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ..)[18] ويكثر استعمال التعزير في الضرب دون الحد وفي معجم مقاييس اللغة أنه أصل له معنيان. ولكن لا يبعد أن يكون التعزير في الاصل بمعنى المنع والردّ كما في تهذيب اللغة فيشمل التأديب لانه يمنعه بذلك من ارتكاب الجرم ويشمل النصر لانه يمنع عنه الاعداء ويردّهم. وتفسير التعزير بالنصر اولى من التوقير بنفسه لئلا يلزم التكرار مع قوله (وتوقروه).
والتوقير بمعنى التفخيم والتعظيم قال تعالى (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)[19] اي لا تطلبون له عظمة واحتراما في أعين الناس او في قلوبكم. وأصل الوقر الثقل قال تعالى (وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ)[20] والوقار السكون والحلم.
والتسبيح في اللغة التنزيه والتبرئة وفي معجم المقاييس انه في الاصل بمعنى الصلاة النافلة ثم اطلق على تنزيهه تعالى عما لا ينبغي له من الاوصاف ولم يقل بذلك غيره من اهل اللغة. وقال الازهري في تهذيب اللغة (ومعنى تنزيه الله من السوء تبعيده منه من قولك سبحت في الارض اذا أبعدت فيها). والظاهر انه لا يستعمل الا في تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به ولا يستعمل في تنزيه غيره. وقيل انه عام في اصل اللغة وروى ابن دريد في الجمهرة في ذلك بعض الاشعار وقال ان بعض ما ورد بمعنى البراءة كقول الاعشى (سبحان من علقمة الفاخر) ومعناه انه يتبرأ من فخره وبعضه بمعنى التعجب كقول الشاعر (سبحان من فعلك يا قطام). ولعله يقصد ان التقدير (سبحان الله) فانه يستعمل للتعجب. وفي الصحاح أن ما ورد في شعر الاعشى للتعجب ولا يبعد وعليه فلا دليل على ورود استعمال التسبيح في تبرئة غيره تعالى في اللغة كما قال آخرون ايضا.
والبُكرة: الغداة اي اول النهار والاصل في معناه اول الشيء وبدؤه ومنه البكر اول ما يولد للرجل. والأصيل: العشيّ ويطلق على آخر النهار واول الليل على ما يبدو من كتب اللغة. والمراد بالتسبيح في هذين الزمانين الاستمرار على التسبيح ليلا ونهارا.
ولا شك أن التسبيح هنا خاص بالله تعالى حتى لو كان في اصل اللغة عاما ولكن حيث كان التوقير والتعزير أنسب بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذهب جمع من المفسرين الى اختلاف مرجع الضمائر واستند بعضهم في ذلك الى أن الغرض من الآية التنبيه على عظمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما مر والظاهر أن بعضهم لم يجد من المناسب الامر بتعزير الله تعالى اي الدفاع عنه لانه لا يحتاج الى دفاع وأنه لم يرد في الكتاب العزيز التعبير به في مورده تعالى وبذلك رجحوا اختلاف الضمائر مع انه بعيد في نفسه. وقد تبين بما ذكرناه آنفا أن الغرض من الآيتين وما بعدهما التنبيه على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسيط في العلاقة بينكم وبين ربكم وأن التعامل انما هو مع الله سبحانه فلا مانع من إرجاع الضمائر كلها اليه تعالى. والتعزير وان كان في الاصل بمعنى المنع الا أن المراد به النصر وقد اتضح أن نصر الرسول ونصر الدين نصر لله تعالى.
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ... يأتي هذا التعبير ايضا في سياق التنبيه على خطورة الموقف فالبيعة مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليست كالبيعة مع غيره من زعماء البشر كما يظن بعض الناس ولعل بعض المسلمين حدثته نفسه بالخذلان فالآية الكريمة تنبههم على أن البيعة ليست في الواقع مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وانما هي بيعة مع الله تعالى. والتعبير بالفعل المضارع من جهة أن الحكم لا يختص بالبيعة في الحديبية وان كان هو محطّ النظر الا أن الحكم عام.
والبيعة كانت في ذلك العهد تعني الالتزام بالطاعة للزعيم والدفاع عنه وعن مبادئه وعبر عنه بالبيعة كأنه باع نفسه للزعيم وكانت تتحقق البيعة عندهم بالمصافحة باليد كما أن البيع كان كذلك والمروي ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان اذا بايع وضع يده على يد المبايع فالمبايع هو الذي يمد يده اولا ثم يضع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يده على يده ولذلك جاءت الآية بهذه العبارة (يد الله فوق ايديهم). اي ان اليد التي تبايعهم بها حال كونها على ايديهم ليست هي يدك بل يد الله تعالى وهذا نوع من الاعتبار نظير ما ورد من أن الحجر الاسود يمين الله في الارض ولذلك يستحب ان يستلم ويقبّل وتمسح به اليد او يشار اليه بها.
وقد عبر الله تعالى عن هذا البيع بقوله (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[21] ولعل التصريح بالاشتراء والبيع في هذه الآية انما هو بالنظر الى الاعتبار الذي ورد في سورة الفتح من كون يد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يده تعالى فالذي بايعهم في الواقع هو الله فالاشتراء وقع منه تعالى حقيقة.
فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ... النكث: نقض العهد والبيعة. والفاء للتفريع يعني حيث كانت البيعة مع الله تعالى وهو غني عن عباده فلا يضره نكث من نكث البيعة وانما يضر الناكث نفسه.
وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا... وعد جميل من رب الكون والملفت فيه انه لم يحدد الاجر ولم يذكر انه جنات تجري من تحتها الانهار وانما وصفه بالعظمة ويكفيه عظمة ان يصفه رب الكون بالعظمة فلا يعلم قدره الا الله تعالى. وقرأ حفص الهاء في (عليه) بالضم وهي القراءة المشهورة وهو مخالف للمشهور في التلفظ العربي وقد حاول بعضهم توجيهه بانه يسبب قراءة اسم الجلالة بالتفخيم فيناسب المعاهدة وهو وجه ضعيف جدا ولم اجد له وجها آخر ولكنه على كل حال صحيح لانه القراءة المشهورة بين الناس وقد أمرنا الائمة عليهم السلام باتباعها.
[1] الاحزاب: 45
[2] التوبة: 105
[3] راجع الكافي ج1 ص219 باب عرض الاعمال على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم. وبصائر الدرجات ص447 باب عرض الاعمال على الائمة عليهم السلام
[4] الاسراء: 71
[5] المائدة: 117
[6] البقرة: 143
[7] النساء: 41
[8] النحل: 89
[9] منها رواية سماعة عن ابي عبدالله عليه السلام قال سمعته يقول (مالكم تسوءون رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلّم فقال رجل كيف نسوءه؟ فقال اما تعلمون ان اعمالكم تعرض عليه فاذا راى فيها معصية ساءه ذلك فلا تسوءوا رسول الله وسرّوه) الكافي ج1 ص219
[10] النساء: 159
[11] الاعراف: 6
[12] المائدة: 116- 117
[13] الحج: 78
[14] راجع الكافي ج1 ص191 باب ان الائمة شهداء الله على خلقه ح4 والسند صحيح
[15] آل عمران: 140
[16] المائدة: 109
[17] الفرقان: 30
[18] المائدة: 12
[19] نوح: 13
[20] فصلت: 44
[21] التوبة: 111