سورة الفيل مكية كما يظهر بوضوح من مضمونها. وموضوعها قصة اصحاب الفيل وهي قصة مشهورة والحديث عنه متواتر لا يدخل فيه الشك وقد اتخذه العرب مبدأ للتاريخ فقالوا وقع الحادث في عام الفيل او كذا سنة قبله او بعده.
ومن ذلك تحديد تاريخ مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بانه كان في عام الفيل ويقال بعد الواقعة بخمسين يوما وكانت الواقعة بمرأى من الناس وقد نظموا فيها الاشعار ويقال ان بعض آثار الجيش المهاجم بقي الى عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ومما يدل على أنّها غير قابلة للانكار انه صلى الله عليه وآله وسلم تلا هذه السورة على مسامع قريش فلم ينكره احد وهي من آيات الله الواضحة اذ لا يمكن تفسيرها الا بانها خرق للعادة كما سيتبين ان شاء الله.
ومجمل القصة ان حاكم اليمن في ذلك العهد كان يدعى أبرهة وكان عاملا لملك الحبشة بعد ان تسلط الأحباش على اليمن وخرج عن سيطرة الفرس وقام أبرهة ببناء كنيسة عظيمة لإرضاء الملك ودعا اليها العرب ليزوروها بدلا من الحج الى الكعبة المعظمة فأَنِفوا من ذلك فيقال ان بعضهم احرق الكنيسة ويقال لوثوها بالنجاسة فغضب ابرهة وسار بجيشه الى الكعبة ليهدمها. ونكمل القصة برواية صحيحة من الكافي الشريف.
روى الكليني رحمه الله بسند صحيح عن أبان بن تغلب قال: (قال أبوعبدالله عليه السلام: لما أن وجه صاحب الحبشة بالخيل ومعهم الفيل ليهدم البيت، مروا بإبل لعبد المطلب فساقوها، فبلغ ذلك عبدالمطلب فأتى صاحب الحبشة فدخل الآذن، فقال: هذا عبدالمطلب بن هاشم قال: وما يشاء؟ قال الترجمان: جاء في إبل له ساقوها، يسألك ردها فقال ملك الحبشة لاصحابه: هذا رئيس قوم وزعيمهم جئت إلى بيته الذي يعبده لأهدمه وهو يسألني إطلاق إبله، أما لو سألني الامساك عن هدمه لفعلت، ردوا عليه إبله، فقال عبد المطلب لترجمانه: ما قال لك الملك؟ فأخبره، فقال عبدالمطلب: أنا رب الابل ولهذا البيت رب يمنعه، فردت إليه إبله وانصرف عبدالمطلب نحو منزله، فمرّ بالفيل في منصرفه، فقال للفيل: يا محمود فحرك الفيل رأسه، فقال له: أتدري لم جاءوا بك؟ فقال الفيل برأسه: لا، فقال عبدالمطلب: جاءوا بك لتهدم بيت ربك أفتراك فاعل ذلك؟ فقال برأسه: لا، فانصرف عبدالمطلب إلى منزله فلما أصبحوا غدوا به لدخول الحرم فأبى وامتنع عليهم، فقال عبدالمطلب لبعض مواليه عند ذلك: اُعلُ الجبل فانظر ترى شيئا؟، فقال: أرى سوادا من قبل البحر، فقال له: يصيبه بصرك أجمع؟ فقال له: لا ولأوشك أن يصيب، فلما أن قرب، قال: هو طير كثير ولا أعرفه يحمل كل طير في منقاره حصاة مثل حصاة الخذف أو دون حصاة الخذف فقال عبدالمطلب: ورب عبدالمطلب ما تريد إلا القوم، حتى لما صاروا فوق رؤوسهم أجمع ألقت الحصاة فوقعت كل حصاة على هامة رجل فخرجت من دبره فقتلته، فما انفلت منهم إلا رجل واحد يخبر الناس، فلما أن أخبرهم ألقت عليه حصاة فقتلته).[1]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ...
الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والاستفهام للتقرير يطلب منه انكار عدم الرؤية. والرؤية يمكن ان يراد بها العلم مجازا، ويمكن أن يراد بها الإبصار وان لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاضرا حين الواقعة الا انه كان قريبا من عصرها بل ربما شاهد بعض آثارها وعاصر جمعا كثيرا ممن شاهدوها منهم جده وعمه عليهما السلام فكان كمن شاهدها.
وهو في الواقع تقرير من مشركي مكة الا انهم لا يستحقون الخطاب فخاطب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليشملهم.
وفي التعبير بقوله (كيف فعل) اشارة الى ان الآية ليست خصوص اهلاك القوم فحسب بل في كيفية اهلاكهم كما سيأتي ذكرها.
والتعبير بقوله (ربك) فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتهديد للمشركين لينتبهوا ان الذي قضى على اولئك الطغاة قادر على ان يهلككم وانهم دون جيش ابرهة في القوة والمقاومة.
وفي الخطاب مع ذلك منة على اهل مكة بما انعم الله عليهم وتنديد لهم حيث تركوا عبادة الله الذي انعم عليهم وعبدوا الاصنام ولا يمكنهم اسناد هذه النعمة اليها.
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ...
الكيد فسر في كتب اللغة بالمكر وبالخبث وبالتدبير بباطل او بحق. وفي معجم المقاييس انه معالجة لشيء بشدة. والمراد به هنا المؤامرة ومحاولة ايقاع الشر بالكعبة المعظمة.
والتضليل منع بلوغهم هدفهم كما ان الضال في الطريق لا يصل الى هدفه. وجعل كيدهم في تضليل بمعنى أنه محاط بالتضليل كأنه ظرف له فلا يمكنه ان يتخلص منه.
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ...
الطير جمع الطائر. وأبابيل صفة للطير وهي بمعنى جماعات متفرقة قال في العين (أبابيل اي يتبع بعضها بعضا إبّيلا إبّيلا اي قطيعا خلف قطيع وخيل أبابيل كذلك) وقال في معجم المقاييس (واحدها إبّالة وإبَّول). وقال الجوهري في الصحاح نقلا عن الاخفش انه جمع لا واحد له.
تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ...
ورد ذكر سجيل في عذاب قوم لوط قال تعالى (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ)[2] وهو معرب من الفارسية واصله (سنگ گل) اي الطين اليابس المتحجر.
ولعل الغرض من ذكره هو التأكيد على ان الامر خرق للعادة وليس امرا طبيعيا كما يقوله بعض الكتاب المتأخّرين فحجارة صغار كحجارة الخذف كما في الرواية وهو الرمي بالاصابع لا يمكن ان تقضي على جيش وقيل انها كانت اكبر من عدسة واصغر من حمصة خصوصا انها لم ترم بقوة بل رماها طيور صغار قيل انها كانت بحجم الخطاف وكانت تحمل الحجارة بمناقيرها او ارجلها فترميها عليهم من فوق.
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ... العصف ورق الزرع تاكله الطيور او الحشرات فتتفتت وتتقطع وهذا اشارة الى انهم لم يموتوا فحسب بل تقطعت اجسامهم.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد واله الطاهرين
[1] الكافي ج1 ص657 باب مولد النبي ص
[2] الحجر: 74<