مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ...

استفهام انكاري واستغراب من بقائهم على الكفر والشرك مع أنهم يرون آيات الله التي تدل على عموم ربوبيته تعالى وكأنهم لا يرونها او يتعمدون عدم التأمل فيها فالاستنكار من عدم نظرهم الى الآيات.

وكما يستنكر تجاهلهم لآيات الله المتمثل في شركهم يستنكر ايضا تجاهل الملحدين لآيات الله تعالى بل هم أكثر بعدا عن الحق.

والفاء للترتيب فان هذا الاستنكار يترتب على ما ورد في الآيات السابقة من التحذير من الغاشية وما يغشى وجوه الناس في ذلك اليوم من نعمة او مذلة.

وهو في نفس الوقت تنبيه للانسان حتى يستعد لذلك اليوم ويتجنب غشيان المذلة على وجهه فيوجهه القرآن الى مظاهر ربوبيته تعالى في الكون وفي حدود بيئة المخاطب ليدرك أن عليه واجبا تجاه الخالق المدبر وأنه اذا تقاعس عن وظيفته تجاهه فعليه ان ينتظر مستقبلا مفجعا.

وتبدأ هذه الآيات بتوجيه أنظار المخاطبين في ذلك العصر وهم عرب البادية الى ما حولهم من عجيب تدبيره تعالى لشؤون حياتهم فاول أمر يوجههم اليه خلقة الابل كيف خلقها الله مناسبة لحاجة الصحراء فهي تتغذى بالاشواك النابتة فيها مما لا يرعاه حيوان آخر.

وهذه الاشواك تنبت في فصل المطر وتبقى محتفظة بمائها الذي استقته طول ايام الجدب فتموت كل الزرع الا هذا الشوك الذي تحتاج اليه الابل لغذائها في اسفارها الطويلة.

وهو ايضا يمده بالماء ويكفيها ذلك مضافا الى ما خلقه الله تعالى في منخريها من الجهاز الذي يكثف البخار الخارج من جوفه الى ماء وهذا لا يوجد في حيوان اخر فالانسان وسائر الحيوان يفقد ما في جسمه من الماء بالتنفس حيث يتبخر الماء ويخرج البخار اما الابل فتستعيد الماء بعد تكثف البخار. ومضافا الى ما خلقه في سنامها من الدهون التي تمدها بالطاقة مدة طويلة اذا لم تلق ما تتغذى به.

ومن عجيب امر هذا الشوك ايضا انه يحتوي على مادة تزيل الرواسب البولية وهذا ما يستخرجه البشر ايضا منه لعلاج حصى الكلية ويبدو أن الابل بحاجة الى هذه المادة ايضا لقلة شربها للماء في الصحراء فهل وجدت كل هذه العناصر التي تحتاج اليها الابل اتفاقا وصدفة ام ان خالقها ورازقها لم يغفل امرها كما لم يغفل امر كل ما خلق؟!

ومن عجيب امر الابل ايضا طول عنقها مما يسهل عليها البروك لتحمل عليها الاثقال ثم تقوم بكامل حملها وغير ذلك مما كان المخاطبون يشعرون به اكثر من غيرهم.

ولعل أعجب ما فيها أنها مع قوتها وشدة بأسها ذليلة للانسان حتى انها تسلم قيادها لطفل.

وانما اختار الابل من بين انواع الحيوانات التي يستفيد منها الانسان لان المخاطبين كانوا مهتمين بها ولان خلقها يشتمل على غرائب حتى في ثقافة الانسان البدوي.

والله تعالى لم يقل (لماذا خلقت) او (ماذا تفيد) بل قال (كيف خلقت) ليهتم الانسان بمعرفة الخالق فانه اذا تأمل المخلوق من هذه الزاوية فانه لا محالة يصل الى الخالق الحكيم.

وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ...

ويوجه ايضا انظارهم الى السماء كيف رفعت على الارض؟

ويمكن ان يكون المراد بالسماء كل ما نجده فوقنا من النجوم والكواكب. ولكن الظاهر ان المراد بها هذا الغلاف الجوي المحيط بنا فهذا هو السماء التي نجدها فوقنا وهي ما تزيننا ولولاها ما كنا نجد الكواكب والنجوم بهذه الصورة. ومن هذه السماء ينزل المطر وهي التي رفعت على الارض واما سائر الافلاك والنجوم فكوكبنا جزء صغير منها.

والنظرة البدائية المتوقعة من اهل ذلك العصر تكفي لاستخلاص النتيجة المطلوبة: كيف رفعت هذه السماء؟ ومَن رفعها على رؤوسنا؟ ومَن زيّنها بزينة الكواكب؟ اهذا مجرد صدفة ام ان هناك يدا خالقة هادفة حكيمة؟!

واذا دققنا النظر وراجعنا ما اكتشفه العلم فسوف نجد انه لولا هذه السماء ما كان للحياة على هذا الكوكب عين ولا اثر واذا لم يترك البشر تعرضه لسلامة عناصر هذه السماء فان الحياة مهددة بالخطر فهل ينتبه الناس؟! قال تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ..).[1]

والمطلوب هنا ايضا ليس هو التامل في فوائد السماء بل في انها كيف رفعت على الارض لينتقل الانسان الى اليد التي رفعتها.

وقوله تعالى (رفعت) قد يكون بمعنى خلقها مرفوعة على الارض كنصب الجبال وهذا هو المتعين لو كان المراد الافلاك والنجوم.

ويمكن ان يكون بمعنى انها لم تكن على الارض وانما استخرجت منها وارتفعت وهذا ينطبق على الغازات المتصاعدة من الارض والتي بقيت بفعل الجاذبية مرتفعة عليها وتشكل منها الغلاف الجوي للارض.

وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ...

النصب اقامة الشيء ورفعه قائما مستويا كما ينصب العلم ونحوه. وهنا ايضا يمكن ان يكون المراد خلقها منصوبة كالاعلام ويمكن ان يكون بمعنى ايجادها من العناصر الارضية ورفعها كالنُصُب.

والجبال الشاهقة رموز للعظمة والصلابة والاستقامة ولها آثار كثيرة في تغيير الجو وحفظ السحب على مناطق خاصة وفي جمال الطبيعة وهي مراكز للمعادن والاحجار الكريمة ومخازن للمياه والثلوج النازلة من السماء حيث تزود الاراضي القاحلة بالماء طيلة السنة من خلال الانهار والآبار والقنوات.

وهي ايضا اوتاد الارض كما قال تعالى (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)[2] وقلنا في تفسيرها أن المراد بالاوتاد كونها تحفظ الكرة الارضية من الميدان كما قال تعالى (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ..)[3] اي مخافة ان تميد بكم.

ولعل المراد انحراف الارض عن مسارها الطبيعي. وقال أمير المؤمنين عليه السلام (ووتّد بالصخور مَيَدان أرضه..) و(ميدان) مصدر بمعنى الانحراف والعلم لم يكتشف حتى الآن على ما يقال ارتباطا بين الجبال وعدم انحراف الارض عن مدارها ولعله يظهر مستقبلا فما اقل معلومات البشر بالنسبة لحقائق الكون؟!

ويمكن ان يكون المراد منعها من حدوث بعض الاضطرابات والزلازل وحركة سطح الارض فان هذه القشرة التي نسكنها ونعتمد عليها تتغير وتتحرك ولعل الثبات النسبي الموجود الذي نحتاج اليه في حياتنا على هذا الكوكب يستند الى وجود الجبال الرواسي وقال بعض المفسرين ان هناك من النظريات العلمية ما يؤيد ذلك. والله العالم.

ومهما كان فالقرآن يحثّ الانسان في كل عصر مهما كانت معلوماته ان يلاحظ ما حوله مما خلقه الله تعالى من عناصر الطبيعة ويلاحظ الحكمة في وجودها وما ينتفع به الانسان منها لينتقل بذلك الى ربوبية الخالق فلا يعبد غيره ولا يتوهم أنه هنا وحده وانه لا يوجد وراء هذا الكون يد مدبرة وانه اذا مات فقد فات.

فليس المهم ان يعرف فوائد الجمل او الجبل بكاملها بل المهم ان يصل الى هذه النتيجة من خلال تأمله في ان هذه العناصر كيف وجدت؟ ومن اوجدها ونصبها؟

وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ...

السطح: البسط والمدّ. كما قال تعالى (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا)[4] وقال ايضا (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا..).[5]

والمراد أن الله تعالى بسط ظاهر الارض بحيث يتمكّن الانسان من استخدامها في حاجاته وما ورد في سورة نوح يبين ان احدى آثار هذا التسطيح تمكن الانسان من سلوك طرق واسعة وهي الفجاج للوصول الى الاماكن البعيدة.

والسؤال عن كيفية السطح ينبه ايضا على التأمل في حالة هذا البساط حيث فرش ظاهره بالرمل او التراب ليسهل على الانسان افتراشه والبناء عليه والتنقل والزراعة وغير ذلك ولم يكن الامر سهلا لو كان وجه الارض كلها حجرا صلدا. 

 


[1] الروم: 41

[2] النبأ: 7

[3] النحل: 15, لقمان: 10

[4] نوح: 19- 20

[5] ق: 7<