فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ...
الفاء للترتيب اي يترتب على ما مر من التنبيه ان يهتم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بتذكير الناس لتتم الحجة عليهم وهو لم يتوان عن أداء واجبه لحظة ولكن الغرض تشجيعه على الاستمرار حتى لو رأى من بعض الناس او اكثرهم عدم التأثر فهو ليس مأمورا بالتأثير وانما امر بالتذكير. وهذا معنى الحصر الذي ربما يستفاد من قوله (انما).
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ...
وهذه الآية تؤكد الحصر السابق وتدل على أن الحصر في مقابل السلطة على الهداية وليس في مقابل سائر وظائفه في الامة فهو صلى اللّه عليه وآله وسلّم رسول وامام وشفيع واسوة وقدوة وشاهد وبشير ونذير وسراج منير وحاكم تجب اطاعته على الخلق.
فهو مسيطر عليهم تشريعا وولاية ولكنه لا يتسلط على قلوب الناس فلا يمكنه الزامهم بالايمان كما قال تعالى (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).[1]
والآيات كثيرة في هذا المعنى.
و(مصيطر) في الاصل بالسين ابدلت الى الصاد لتناسب الطاء ويسهل التلفظ ومثله كثير في اللغة العربية كالصراط واصله السراط واضطرب واصله اضترب.
والمسيطر – كما في كتاب العين – الرقيب الحافظ المتعهد للشيء. وقال بعضهم انه بمعنى المتسلط. وفي معجم المقاييس انه معنى شاذ في (سطر). وفي المفردات (سيطر عليه اذا اقام عليه قيام سطر يقول لست عليهم بقائم). وقال بعضهم انه من السطر بمعنى الكتابة لان من يكون حفيظا على احد يكتب اعماله واقواله. والسطر مصدر وهو في الاصل بمعنى الصفّ ويقال سطر الكاتب اي كتب لانه يصفّ الكلمات.
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ...
التولي هو الاعراض والمراد به هنا من يعرض عن الايمان الذي يعرض عليه.
وقوله (كفر) مع انه كافر قبل التذكير ايضا يراد به الكفر عن عناد.
والاستثناء يمكن ان يكون متصلا من المفعول في قوله (فذكر) كما في الميزان اي ذكرهم جميعا الا من تولى وكفر عنادا فانه لا يجب الاستمرار في تذكيره فاتركه وشأنه.
وهذا تخفيف على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم فلعله كان يرى من اللازم عليه تكرار العرض حتى لو يئس من التأثير فاخبر بهذا الاستثناء انه لا يجب عليه التذكير في هذا الحال فهو كقوله تعالى (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى)[2] وغيرها من الآيات وهي كثيرة.
وعليه فقوله (فيعذبه) بيان لما يترتب على عناده.
ويمكن ان يكون الاستثناء منقطعا اي ولكن من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الاكبر. والعذاب الاكبر نار جهنم والمراد أن مثل هذا قد حقت عليه كلمة العذاب فلا تتعب نفسك في تذكيره.
والاحتمال الاول اقرب واوفق للسياق.
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ...
الاياب اي الرجوع. والتهديد والوعيد واضحان في التعبير مع التأكيد بـ (انّ) وتقديم الجار والمجرور لافادة الحصر فالى الله مرجع الخلق اجمعين.
والجملة تثبت أوّلا أن لهم مرجعا فهم بالموت لا يفنون بل يرجعون ومرجعهم الى الله فحسب.
و(ثم) للتراخي اي بعد رجوعهم الينا يحاسبون على كل ما عملوا. وحسابهم ليس الا على الله تعالى وهو سريع الحساب وشديد العقاب.
هذا وربما يتوهم التنافي بين هاتين الآيتين وما ورد في زيارة الجامعة حيث قال عليه السلام (واياب الخلق اليكم وحسابهم عليكم).
ولكن لا منافاة بينهما فان الله تعالى لا يباشر محاسبة الاعمال فكما يمكن ان يتولى الملائكة محاسبة الناس كذلك يمكن ان يتولاها بشر رفع الله قدرهم.
وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذيراً)[3] أن احد معاني الشهادة كونه مثلا يحتذى به، ومقياسا للصلاح والعبودية، فالرسول او الامام بعمله وسيرته شاهد في الدنيا يقتدى به، وفي الآخرة تقاس به الاعمال.
قال تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا)[4] فالتفريع في قوله (فمن اُوتي..) يدلّ على أنّ دعوة الامام لتمييز من يؤتى كتابه بيمينه.
وهناك شواهد اخرى على ذلك ايضا.
وهذا المضمون ورد في روايات كثيرة وان كان بعضها ضعيفة السند.
ومهما كان فهذا معنى صحيح ورد اصله في موارد من الكتاب العزيز منها قوله تعالى (وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمينَ * وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهؤُلاءِ الَّذينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)[5]
والروايات تقول ان رجال الاعراف هم ائمة اهل البيت عليهم السلام.
روى الكليني في الكافي عن ابي عبدالله عليه السلام قال (جاء ابن الكواء الى امير المؤمنين عليه السلام فقال يا امير المؤمنين "وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم" فقال نحن على الاعراف نعرف انصارنا بسيماهم...)[6]
ورواها الصفار في بصائر الدرجات وروى غيرها ثمانية عشر حديثا كلها بهذا المضمون.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد سيد الاولين والآخرين وآله الطيبين الطاهرين.
[1] القصص: 56
[2] الاعلى: 9
[3] الاحزاب: 45
[4] الاسراء: 71
[5] الاعراف 46- 49
[6] الكافي ج1 ص184 باب معرفة الامام