وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ...
من هنا يبدأ ببيان حال المتقين.
وهنا سؤال: وهو انه لماذا ورد ذكر حال المتقين هنا من دون عطف بالواو بخلاف سائر موارد ذكر الفريقين كقوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ)[1] وقوله تعالى (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)؟[2]
فقال الاكثر ان الغرض الاشارة الى كمال البينونة بينهما فلا ينبغي العطف.
ولكنه بعيد اذ يقتضي عدم العطف في سائر الموارد ايضا.
وقيل ان الوجه التنبيه على أن المقصود من الاستفهام في (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) الإعلام بحال المعرّض بتهديدهم وهم أصحاب الوجوه الخاشعة فلما تمّ المقصود جاءت الجملة بعدها مفصولة استينافية جوابا عن سؤال مقدر عن حالة مغايرة لما مر.
وهذا الوجه يبتني على كون المراد بالغاشية العذاب ولم يثبت ذلك بل الصحيح كما قلنا انه امر مبهم تفصله الآيات التالية.
ولعل هذا هو الوجه في عدم العطف ليكون منبها على أن ذكر الفريقين لتفصيل بيان ما يغشى الوجوه ولعله لذلك ايضا اختار التعبير بالوجوه.
ووصف الوجوه بانها ناعمة اي يبدو عليها التنعم والرفاه وطيب العيش. قيل ويمكن ان يكون من النعومة واللين والظاهر ان هذا المعنى ايضا من نفس الباب كما في معجم المقاييس فان التنعم والتلذذ بوفور النعم يجعل الوجه ناعما لينا في الغالب.
لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ...
الرضا ايضا مما يغشى الوجوه ويبدو عليها كما ان النصب والتعب كانا باديين على وجوه الفريق السابق.
والضمير يعود الى الوجوه والمراد ان اصحاب هذه الوجوه راضون لما عملوا في الدنيا من الاعمال الصالحة حيث يرون آثارها الحسنة من الثواب الجزيل والشعور برضا الله تعالى. والرضا يتعدى باللام كما يتعدى بالباء وبـ(من).
ومع أن الانسان يتحسر ذلك اليوم حتى المؤمن الصالح حيث يرى بأن العمل الصالح كم له من آثار حسنة فيتحسر على انه لم يستزد منها ويتاسف على ما صرف من عمره وماله وشبابه وقوته في شؤون الدنيا ولم ينتفع بها في حياته الابدية الا أنه حيث لم يعلم في الدنيا بوضوح غاية النعمة واللذة التي سوف يحظى بها في تلك الحياة فانه يشعر بالطمأنينة والرضا لما يراه من الجزاء الذي ما كان يتوقعه ويتصوره.
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ...
اي وهم في جنة عالية.
والعلو قد يكون بمعنى الرفعة في المقام ومن جميع الجهات حيث انها لا تقاس بما نعرفه من جنان الدنيا.
او بمعنى العلو المحسوس فان من مزايا الجنة والبستان ان يكون في مكان مرتفع لسلامة هوائها وبعده من الملوثات ولانها مشرفة على سائر الامكنة ولانها تشاهد من بعد فتبعث البهجة في القلوب ونحو ذلك.
لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً...
صفة ايضا للوجوه باعتبار المعنى اي ان اصحابها لا يسمعون في الجنة لاغية وهي مصدر كالعاقبة والعافية او صفة لموصوف مقدر اي كلمة لاغية.
واللغو بوجه عام الامر التافه الذي لا يعتد به. واللغو من الكلام الباطل الذي لا ينتفع به.
وهناك آيات اخرى ايضا تنفي وجود اللغو في الجنة كقوله تعالى (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا ..)[3] وقوله (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا)[4] والاستثناء منقطع يؤكد عدم وجود اللغو نهائيا فهم لا يتبادلون حديثا يضرهم ويعكر صفو محبتهم وانما يتبادلون السلام كما ان الملائكة ايضا تسلم عليهم.
وجلّ حديثهم تسبيح الله وحمده قال تعالى (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).[5]
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ...
مجموعة اوصاف للجنة فاولها ان فيها عينا جارية والجريان صفة للماء تنسب الى العين مجازا قيل ان المراد بها جنس العين لان في الجنة عيونا.
وقد تكرر ذكر عيون الجنة في القرآن منها قوله تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)[6] وذكر في سورة الانسان اسم عين الكافور والسلسبيل وفي سورة المطففين عين التسنيم.
ولكن لا حاجة الى الحمل على الجنس فلعل فيها مضافا الى العيون المتفرقة عين جارية تجري في جميع الجنان.
ولعل المراد بهذه العيون معان اخرى فوق فهمنا وادراكنا فربما تكون هناك نعمة معنوية عامة يتنعم بها الجميع وتكون ايضا نعم خاصة يختلف فيها اهل الجنة باختلاف مراتبهم.
والسرر جمع سرير وهو موضع الجلوس والاصل في هذه المادة الاستقرار وحيث انها بطبعها مرتفعة عن سطح الارض فتوصيفها بانها مرفوعة إمّا بمعنى انها مرفوعة اكثر مما هو متعارف مما يقتضي اشرافا اكثر كما قيل. وإمّا بمعنى رفعها معنويا بمعنى انها ليست كالسرر المعروفة في الدنيا بل هي مرفوعة قدرا ومقاما.
ولعل في ذلك اشارة الى ارتفاع قدر من يجلس عليها عند الله تعالى كما أشار اليه العلامة الطباطبائي قدس سره بقوله (وفي ارتفاعها جلالة القاعد عليها).
ويمكن ان يستفاد ذلك من قوله تعالى (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)[7] فان المقعد بمعنى موضع القعود وهو في مقابل القيام كناية عن الاستقرار والثبات وكونه مقعد صدق من الاضافة الى الوصف. والصدق بمعنى الصادق اي هو في غاية الاستقرار والثبات فان الصادق بمعنى كون الشيء مؤديا لكل ما يطلب منه كالسيف الصادق اذا كان سريع القطع.
وهذا مع كونه متشرفا بالحضور عند المليك المقتدر الذي يملك كل شيء وقادر على كل شيء يفيد أنه مستقر وثابت في هذا التشرف وهذا غاية ما يمكن ان يصل اليه الانسان من المقام. ولعله المراد ايضا من قوله تعالى (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ).[8]
والاكواب جمع كوب وهو ابريق لا عروة له ولا خرطوم. ويتداول استعماله في محافل الشاربين لادارة الخمر وملء الكؤوس منه. ووصفها بانها موضوعة بمعنى انها معدّة ومهيّأة لاستخدامهم. وانتخاب هذا التعبير ليناسب وصف المرفوعة فان الرفع خلاف الوضع.
والمراد بهذه الاكواب اكواب الخمر التي هي لذة للشاربين وهي الشراب الطهور الذي يسقيهم ربهم من حبه وعطفه ورضاه وهي النعمة الكبرى.
والنمارق جمع نُمرُقة بضم النون والراء اي الوسادة وتوصيفها بالمصفوفة بمعنى كثرتها ووضعها في صف واحد لراحتهم.
والزرابي جمع زربية بضم الزاي والكسر والفتح وكسر الباء نوع من البساط المصنوع من الصوف الناعم يستخدمه المترفون للجلوس. ومبثوثة بمعنى كثيرة ومتفرقة في مواضع مختلفة ليستخدمها اهل الجنة كما شاءوا.
كل هذه الصفات يقصد بها اضفاء صبغة الراحة والترف على حياتهم كما قال تعالى (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا).[9]
[1] عبس: 38- 41
[2] الشورى: 7
[3] مريم: 62
[4] الواقعة: 25- 26
[5] يونس: 10
[6] الحجر: 45 الذاريات: 15
[7] القمر: 55
[8] الواقعة: 34
[9] الانسان: 20