مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة الحديد مدنية بشهادة آياتها وسياقها حيث ان الغرض البيّن منها هو الحثّ على الانفاق في سبيل الله تعالى من اجل الجهاد وكذلك مساعدة الفقراء ولعله لذلك قدّم التسبيح والتنبيه على الصفات الحسنى لدفع توهم الحاجة – كما في الميزان – وقد توهم ذلك بعض الغفلة الجاهلين كما قال تعالى (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ..)[1] والمراد بهم طائفة من اليهود.

ومن مميّزات هذه السورة ستّ آيات في أولها اشتملت على مجموعة من أسماء الله الحسنى وصفاته وأفعاله. وقد ورد في صحيحة عاصم بن حميد قال: (سئل علي بن الحسين صلوات الله عليه عن التوحيد فقال: ان الله عز وجل علم انه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والآيات من سورة الحديد الى قوله «وهو عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» فمن رام وراء ذلك فقد هلك).[2]

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... التسبيح تنزيهه تعالى عن كل ما لا يليق به واللام لتأكيد تعلق الفعل بمتعلقه لان التسبيح يتعدى بنفسه قال تعالى (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[3] فهو مثل ما يقال نصحته ونصحت له. والسماوات والارض تعبير عن الكون كله اي ان كل ما في الكون يسبّح لله تعالى. و(ما) تشمل ذوي العقول وغيرهم. والفعل ورد في بعض السور بصيغة الماضي كما هو هنا وفي بعضها بصيغة المضارع كسورة الجمعة، فالمضارع للدلالة على الاستمرار وأن هذا دأبهم وديدنهم والماضي يدل على القدم وأن هذا ليس أمرا حادثا تحت تأثير الاديان ونحوها بل هو مقتضى طبيعة الاشياء وفطرة الانسان.    

وقد وقع الكلام في أن المراد به التسبيح القولي والاعتقادي او الدلالة التكوينية للشيء على خالق مدبر منزه عن النقص ولا شك أن ظاهر التعبير هو الاول بل الامر الثاني لا يعد تسبيحا لان التسبيح في الحقيقة أمر انشائي يتوقف على القصد.

مضافا الى دلالة بعض الآيات على وجود نوع من الادراك في الاشياء لا تصل اليه أفهامنا كقوله تعالى (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..)[4] وحيث ينفي فهم الانسان وادراكه لتسبيحهم فلا يمكن حمله على التسبيح التكويني الذي تدل عليه الاشياء لانه امر معلوم مفهوم وكقوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)[5] فان التعبير بالطاعة يدل على نوع من الادراك في الاشياء خصوصا مع المقابلة للكره وكقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ...)[6] وقوله تعالى (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ)[7] وغير ذلك.

وأما الروايات التي تدل على ذلك بل على الشهادة بالرسالة والولاية لاهل البيت عليهم السلام فهي كثيرة.

وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ... العزيز فعيل من العزة بمعنى الشدة والغلبة والقوة واصله من الارض العزاز اي الصلبة والمقصود هنا الغالب على أمره او الذي لا يؤثر فيه شيء ولا يمنعه شيء من تحقيق غرضه والحكيم من الحكمة بمعنى المنع يقال حكمت الدابّة اي الجمتها والحكمة ما يمنع صاحبه من السفاهة والعمل بما لا يليق. وإتباع العزة بالحكمة يفيد أن عزته وغلبته لا تستوجب أن يفعل ما لا ينبغي او يظلم أحدا حيث إنه لا يمنعه مانع فيفعل ما يشاء فان الله تعالى لا يفعل الا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.

لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... (السماوات والارض) كناية عن الكون باكمله كما مر والملك هو التمكن من التصرف وقد تعارف التعبير عن السلطة العامة بالملك بضم الميم وعن السلطة الشخصية على ما تحت اليد بكسره. والتمكن قد يكون تكوينيا وقد يكون اعتباريا وقانونيا فالانسان يملك اطرافه تكوينا ويملك ما تحت يده قانونا بمعنى ان المجتمع يعترف بحقه الخاص في التصرف ومنع غيره عن التجاوز اليه ويدافع عنه.

والتعبير في الآية بتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر وأن الملك في الكون ليس الا له تعالى. وأما غيره فلا يتمكن من كل تصرف وانما هو سلطة محدودة وهناك شؤون لا يمكنه التحكم فيها حتى تسلط الانسان على جسمه بل على نفسه فانه ناقص فضلا عن التسلط على الغير فالملك حقيقة لله تعالى فقط بالنسبة لكل شيء لا بالنسبة للمجموع كما ظن بعضهم حيث وجّه الحصر في الآية بأن ملك غيره تعالى ليس على كل شيء وانما هو بالنسبة لما تحت سلطته فحسب فالسلطة العامة ليست الا لله تعالى والصحيح أن غيره تعالى لا يملك السلطة حتى على نفسه سلطة مطلقة. مضافا الى أن تمكنه ليس من ذاته فان كل قدرة وقوة تنتهي اليه تعالى فتسلط الانسان على نفسه وعلى اطرافه ليس الا بتمكين منه تعالى ولو شاء لسلب منه القوة فلا يسيطر حتى على نفسه فضلا عن غيره.

والحاصل أن السلطة الذاتية المطلقة في جميع الكون لله تعالى لان وجود الموجودات بلا استثناء وكيانها وبقاءها وكل شؤونها متقومة بارادته تعالى. واما غيره فلا يملك سلطة مطلقة ولا ذاتية ولا عامة.

يُحْيِي وَيُمِيتُ... الحياة من أعجب أسرار الكون ولم يصل الى كنهها البشر حتى الآن. وقوله تعالى (يحيي ويميت) بعد قوله (له ملك السماوات والارض) من دون الاتيان بعاطف يشعر بأن الاحياء والاماتة من شؤون الملك المطلق فهو تعالى حيث انه ما من دابّة الا هو آخذ بناصيتها ويملك امرها فهو الذي يمنحها الحياة وهو الذي يسلبها اياها. وليس معنى ذلك أنها لا تتبع العوامل الطبيعية بل كل ما في الطبيعة من فعله تعالى. وانما ذكرهما باعتبار أنهما شأن من شؤون الربوبية.

والفعل المضارع يدل على الاستمرار فما من لحظة الا ويحيي الله تعالى فيها ما لا يحصي عدده غيره من مختلف أنحاء الاحياء ويميت ايضا فيها ما لا يحصيه احد غيره ولا يمكن احصاؤه. هذا مع أن منحه للحياة ليس هبة وتمليكا بل الحياة كغيرها من الشؤون قائمة بارادته ومستمرة بمنحه وعطائه فهو يحييها مستمرا ويميتها متى شاء. بل استمرار وجود الشيء حيا كان او ميتا جمادا كان ام حيوانا متقوم بارادته تعالى.

وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ... فليس أمام القدرة المطلقة أمر عجيب واذا تعجبنا من أمر كمنح الحياة فانما هو بالقياس الى القدرة المحدودة التي نتصورها ونفهمها واما القدرة المطلقة التي لا يصل الى كنهها فهم البشر فلا استغراب هناك ولا تختلف الامور فلا شيء أصعب من شيء ولا شيء أهون من شيء.

والشيء واحد الاشياء قالوا انه بمعنى ما يخبر عنه ولذلك يطلق على الله تعالى ايضا كما ورد في الكتاب العزيز (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ..)[8] وبناءا عليه فالمراد بالشيء هنا معنى خاص وهو كل امر ممكن فان الشيء يطلق على المستحيل ايضا يقال هذا شيء محال فالشيء امر مبهم. وقيل انه مصدر كالمشيئة من شاء يشاء بمعنى المفعول اي المشيء وأن اطلاق الشيء على الله تعالى بمعنى اسم الفاعل لانه الذي يشاء فان صح ذلك فالمعنى في هذه الجملة أنه قادر على كل ما يشاؤه. والقدير مبالغة في القدرة.

هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ... الاول أفعل من الأَوْل او الوَوْل على ما اختلفوا فيه ومهما كان فالاول هو ما تبدأ به المجموعة أي مجموعة كانت والآخر اسم فاعل من أخر وهو ما تنتهي به المجموعة. ومن هنا يتبين أنهما أمران نسبيان فقد يكون الاول في مجموعة آخرا في مجموعة اخرى وأنهما لا يمكن صدقهما على فرد واحد في مجموعة واحدة.

ويتبين أيضا بوضوح أن المراد بهما في الآية معنى آخر لانهما اطلقا معا على الله تعالى وبصورة مطلقة فهو تعالى أول في حال أنه آخر ومعنى الآية انحصار الصفة في ذاته تعالى فهو الأول لا أول غيره والآخر لا آخر غيره. وفي الكشاف ان الواو بين الاول والآخر للجمع لا للعطف وكذلك بين الظاهر والباطن فيكون المعنى ان الصفة المنحصرة فيه تعالى هو انه اول واخر معا وظاهر وباطن معا. وقد اختلفت كلمات المفسرين وغيرهم في معنى الاول والآخر ويكفينا فيه ما ورد في نهج البلاغة عن مولانا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

قال عليه السلام (الْحَمْدُ لِلَّهِ الْأَوَّلِ قَبْلَ كُلِّ أَوَّلٍ وَالْآخِرِ بَعْدَ كُلِّ آخِرٍ وَبِأَوَّلِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا أَوَّلَ لَهُ وَبِآخِرِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا آخِرَ لَهُ)[9] ولعل المراد بكونه تعالى أولا قبل كل أول اي قبل كل ما يفرض أولا وكذلك في الآخر فالاولية والآخرية فيه تعالى ليستا نسبيتين ولا تلاحظان بالنسبة الى مجموعة. والجملة التالية تفيد أن الاولية فيه تعالى ليست بمعنى أنه أول الموجودات وانه متقدم على جميعها زمانا بل بمعنى أنه لا أوّل له اي لا بدو له ومعنى آخريته المطلقة ايضا انه لا آخر له اي لا نهاية له وذلك لانه واجب الوجود ويستحيل عليه العدم.

وهذا ثابت بالدليل العقلي الواضح وهو أن الوجود لا بدو له ولا ختام اي لا يمكن عليه العدم فالوجود هو الحق الأزلي والأبدي والعدم باطل محض والله تعالى هو حقيقة الوجود وكل موجود غيره متقوم به في ذاته وكيانه ووجوده.

وقال ايضا عليه الصلاة والسلام (لَيْسَ لِأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ وَلَا لِأَزَلِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ هُوَ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَزَلْ وَالْبَاقِي بِلَا أَجَلٍ)[10] الظاهر أن مراده عليه السلام من الجملة الاولى أنّ أوّليته تعالى ليست بالابتداء وأن كونه تعالى اولا لا يعني انه اول موجود لانه يوهم الحدوث ولا يلازم الازلية بمعنى القدم الذاتي فان الابتداء من شؤون الزمان والزمانيات. وقوله عليه السلام ولا لازليته انقضاء لعله يقصد به أن أزليته ملازمة للابدية فكما أن العدم مستحيل عليه بدوا مستحيل ايضا استمرارا فلا انقضاء لأزليته.

وقوله عليه السلام (هو الاول ولم يزل) يؤكد ما سبق فان معناه انه تعالى لم يزل من الازل اولا وهو نفس ما افاده بقوله عليه السلام (ليس لاوليته ابتداء) اي ان اوليته ازلية وليست امرا حادثا كسائر الاوليات بل ولا امرا مرتبطا بزمان وان كان لا نهائيا فان الزمان اما امر موهوم او مخلوق له تعالى.

وقوله (والباقي بلا اجل) اي بلا غاية ونهاية وهذا يختلف عن القول انه باق الى ما لا نهاية بل هو منزه عن الاجل والنهاية لاستحالة العدم عليه. ومثل ذلك ايضا قوله عليه السلام (الْأَوَّلُ لَا شَيْ‏ءَ قَبْلَهُ وَالْآخِرُ لَا غَايَةَ لَهُ).[11] وقوله عليه السلام (الْأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْ‏ءٌ قَبْلَهُ وَالْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ لهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْ‏ءٌ بَعْدَهُ).[12]

والحاصل ان المراد بأوليته تعالى أنه واجب الوجود ويستحيل عليه العدم لا انه اول موجود ولو فرض أن المراد به القدم الزماني فالمعنى انه خارج عن حيطة الزمان والمكان ولا يعني انه موجود منذ اللانهاية من الزمان والى اللانهاية منه فان الزمان كما قلنا مهما فرض اما موهوم او مخلوق له تعالى فلا يمكن ان يتقيد به.

والقدم بهذا المعنى ايضا خاص به تعالى وما يقال من ان المجردات المحضة والموجودات النورية العالية غير مقيدة بالزمان ايضا لان الزمان من خصائص الاجسام ومن اعراض حركتها فلعله مجرد اصطلاح اذ كما يمكن انتزاع الزمان من امتداد حركة الاجسام كما يقولون يمكن انتزاعه ايضا من امتداد بقاء المخلوق وانما ينزه منه الباري سبحانه لانه مخلوق له تعالى لو فرض كونه موجودا حقيقيا ولذلك ورد في الروايات انه تعالى كان ولا شيء غيره وبهذا يردّ على من يدعي قدم العالم.  

فمن الروايات صحيحة محمد بن مسلم عن ابي جعفر الباقر عليه السلام قال سمعته يقول (كان الله عز وجل ولا شيء غيره ولم يزل عالما بما يكون فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه)[13]

ومنها ما رواه الصدوق في مكاتبة للامام الصادق عليه السلام (كان الله عز وجل ولا شيء غير الله معروف ولا مجهول..).[14]

وروي عنه عليه السلام أنه قال (كان الله ولم يكن معه شيء) ولم اجد له مستندا في كتب الحديث. وهذه الجملة بالفاظ متقاربة مشهورة على الالسن وتنسب الى الرواية ولكن لم نجد رواية بهذا اللفظ في كتب الفريقين.

ومنها ما رواه الكليني مرسلا ورواه الصدوق عنه مسندا عن ابي الحسن الرضا عليه السلام أنه قال (لا شي‏ء قبل الله ولا شي‏ء مع الله في بقائه وبطل قول من زعم انه كان قبله أو كان معه شي‏ء وذلك انه لو كان معه شي‏ء في بقائه لم يجز أن يكون خالقا له لأنه لم يزل معه فكيف يكون خالقا لمن لم يزل معه).[15]

ومن هنا يتبين أن الاولية لو فسرت بمعنى القدم زمانا وكونه تعالى اول الموجودات فهي ايضا صفة خاصة به تعالى. وأما بالنسبة للأبدية بناءا على أن الآخر بهذا المعنى فقد يقال انها لا تنحصر فيه تعالى لان الانسان ايضا أبدي كما هو مقتضى الآيات الدالة على الخلود في الجنة والنار. وقد وقع الكلام في خلود اهل النار وأنكره بعضهم ولكن لا كلام في خلود اهل الجنة لقوله تعالى (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)[16] مع أن ظاهر الآية المباركة حيث وصفه تعالى بالآخر أنه وحده هو الابدي الباقي.

ويمكن أن يجاب عنه بوجوه:

الاول: أن ظاهر الآيات المباركات أن الكون يفنى تماما ثم يعيد الله تعالى الوجود ويمكن ان يستدل على ذلك بقوله تعالى (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ...)[17] فان ظاهر الآية أنه تعالى يعيد الخلق بعد الفناء تماما ليصدق أنه كالبدء بالخلق الاول. وايضا بقوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[18] بناءا على أن المراد بالهلاك الفناء ليصدق حمله على كل شيء لا الموت الخاص بالاحياء، وايضا بناءا على أن المراد به عروض الهلاك في آخر الامر ولا يقصد به أن كل شيء هالك بالفعل باعتبار ذاته فان كل موجود بذاته ليس شيئا وانما هو موجود بارادته تعالى.

وهذا هو الظاهر من روايات كثيرة منها ما رواه الصدوق في التوحيد باسناده الى على بن مهزيار قال: كتب أبو جعفر عليه السلام الى رجل بخطه وقرأته في دعاء كتب يقول: (يا ذا الذي كان قبل كل شي‏ء ثم خلق كل شي‏ء ثم يبقى ويفنى كل شي‏ء..)[19] بناءا على أن المراد به فناء الاشياء قبل يوم القيامة لا بعدها.

هذا ولكن هذا الجواب لو فرض كونه صحيحا لا يغني شيئا لان مقتضاه أن الكون بكامله يفنى قبل يوم القيامة ولكن لا يمنع خلود الانسان وابديته بعد الحشر والجزاء. كما أن قوله عليه السلام (ثم يبقى ويفنى كل شيء) لا يمنع من ذلك ايضا. 

الثاني: أنه يمكن أن يراد بالخلود والابدية للانسان بعد الحشر البقاء الطويل جدا وهذا المعنى مما يطلق عليه الخلود والابدية حتى في هذه الحياة كالقول بأنّ فلانا حكم عليه بالسجن المؤبد ومثله ما يعبر عنه بالوقف المؤبد وغير ذلك. وربما يؤيد ارادة هذا المعنى قوله تعالى (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا)[20] مما يدل على أن للنار نهاية. ولا ينافي ذلك قوله تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ)[21] لاحتمال أن ينتهي الامد بفناء النار ومن فيها. ومثل ذلك يمكن أن يقال في قوله تعالى (عطاءا غير مجذوذ) فان الجذ هو القطع وعدم انقطاع النعمة عنهم لا ينافي فناءهم وفناء النعمة معهم.

ولكن ذلك ينافي الآيات الظاهرة والروايات الصريحة في أبدية النعمة والعذاب يوم القيامة بل الظاهر أن خلود المتقين والصالحين في الجنة مما اتفقت عليه كلمة المسلمين بل اتباع الشرايع السماوية جميعا. والله العالم.

الثالث: أنه يمكن أن يحمل الاول والآخر على معنى آخر غير الازلية والابدية. قال العلامة الطباطبائي في الميزان: (لما كان تعالى قديرا على كل شي‏ء مفروض كان محيطا بقدرته على كل شي‏ء من كل جهة فكل ما فرض أولا فهو قبله فهو الأول دون الشي‏ء المفروض أولا وكل ما فرض آخرا فهو بعده لإحاطة قدرته به من كل جهة فهو الآخر دون الشي‏ء المفروض آخرا وكل شي‏ء فرض ظاهرا فهو أظهر منه لإحاطة قدرته به من فوقه فهو الظاهر دون المفروض ظاهرا وكل شي‏ء فرض أنه باطن فهو تعالى أبطن منه لإحاطته به من ورائه فهو الباطن دون المفروض باطنا فهو تعالى الأول والآخر والظاهر والباطن على الإطلاق وما في غيره تعالى من هذه الصفات فهي إضافية نسبية. وليست أوليته تعالى ولا آخريته ولا ظهوره ولا بطونه زمانية ولا مكانية بمعنى مظروفيته لهما وإلا لم يتقدمهما ولا تنزه عنهما سبحانه بل هو محيط بالأشياء على أي نحو فرضت وكيفما تصورت. فبان مما تقدم أن هذه الأسماء الأربعة الأول والآخر والظاهر والباطن من فروع اسمه المحيط وهو فرع إطلاق القدرة فقدرته محيطة بكل شي‏ء).

وحاصل هذا الوجه أن المراد بالاسماء الاربعة أنه تعالى قادر على كل شيء والتعبير عن ذلك بالاول من جهة أن كل شيء فرض اولا فالله تعالى محيط عليه قبله احاطة قدرة فهو الاول دونه والتعبير عنه بالآخر من جهة أن كل شيء فرض آخرا غيره تعالى فهو محيط عليه بعده احاطة قدرة فهو الآخر دونه.

ومعنى ذلك أنه يمكن أن يفرض غيره تعالى ازليا او ابديا وذلك لا يمنع من كونه تحت سلطانه وقدرته تعالى فلو فرض العالم ازليا وقديما كما يعتقده بعض الفلاسفة اوقلنا بأن هناك شيء ازلي غيره تعالى فهو مخلوق له وهو قادر على افنائه وهذا معنى احاطته به قبله فيكون تعالى هو الاول فحسب وان كان ذلك الشيء ازليا وليس معنى عبارة العلامة رحمه الله التسليم بأزلية شيء غيره تعالى بل المعنى أن فرض الازلية للشيء لا ينافي كونه مخلوقا له تعالى وتحت سلطته وقدرته.

وكذلك يمكن أن يفرض غيره تعالى ابديا وذلك لا يمنع من قدرته تعالى على افنائه فالله تعالى هو الآخر لانه المحيط على ذلك الابدي بعده. وبناءا على هذا التفسير فلا مانع من كون الانسان في الآخرة ابديا ولكن الآخر هو الله تعالى لانه قادر على افنائه.

ويلاحظ على ما ذكره رحمه الله اولا انه مخالف لما ذكرناه وما لم نذكره من الروايات التي يستفاد منها أن المراد بالاولية الازلية وأنه ليس قبله ولا معه شيء وأنه لا قبل له تعالى ومخالف لظاهر الآية المباركة ايضا فان حمل الاولية على احاطة القدرة تأويل بعيد وظاهرها الازلية الذاتية كما مر وهو ايضا تأويل ولكنه مما لا بد منه اذ حمل الاوصاف المشتركة عليه تعالى لا يمكن بدون تأويل ولكن ما في الروايات تأويل مناسب للمعنى المتعارف بالنسبة لغيره تعالى.

وثانيا أن فرض ازلية شيء غيره تعالى فرض باطل في نفسه واذا فرض شيء ازليا فلا يمكن فرض كونه مخلوقا كما ورد في الحديث المنقول عن الامام الرضا عليه السلام. نعم يمكن فرضه منتسبا الى العلة غير المريدة وهو ليس خلقا.

واما تفسير الآخر بما ذكره رحمه الله فيرد فيه ما ذكرناه من مخالفة الظاهر والروايات فان ظاهر التعبير هو كونه آخرا بمعنى أنه تعالى ليس له نهاية وقد مر في كلام امير المؤمنين عليه السلام (والآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده).

الرابع: يمكن أن يقال على ضوء ما قاله العلامة رحمه الله إن المراد بالآخر الابدي الذي أبديته بالذات وهو الله تعالى لانه يستحيل عليه العدم وأما غيره لو فرض كونه ابديا فانما يبقى بارادته تعالى ولا يستحيل عليه العدم بذاته فيرتفع الاشكال.

وورد تفسير الاول والآخر بوجوه اخرى كثيرة في عبارات المفسرين لا دليل على شيء منها.

وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ... في تفسير الظاهر وجهان مرويان:

الاول ما عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة (وَالظَّاهِرِ فَلَا شَيْ‏ءَ فَوْقَهُ وَالْبَاطِنِ فَلَا شَيْ‏ءَ دُونَهُ) وعليه فالظهور بمعنى العلو ومنه قوله تعالى (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا)[22] والمراد به السلطة المطلقة على كل شيء. وفي خطبة اخرى مروية في الكافي وتوحيد الصدوق عنه عليه السلام (الظاهر على كل شي‏ء بالقهر له).[23] وظاهر الآية الكريمة هنا ايضا هو الحصر وانه لا ظاهر غيره وبناءا على هذا التفسير فالوجه واضح اذ السلطة المطلقة والعلو بالذات ليس لاحد غيره تعالى.

الثاني ما عن امير المؤمنين عليه السلام ايضا في الكافي (الذي بطن من خفيات الأمور وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير..)[24] فمعنى الظاهر بناءا على هذا هو ما يتبادر الى الذهن من ظهور آيات قدرته وحكمته بحيث لا ينكره الا مكابر او متبع لهواه.

وقد ورد المعنيان معا في رواية مرسلة رواها في الكافي عن الامام الرضا عليه السلام: (واما الظاهر فليس من أجل انه علا الأشياء بركوب فوقها وقعود عليها وتسنم لذراها ولكن ذلك لقهره ولغلبته الأشياء وقدرته عليها كقول الرجل ظهرت على أعدائى وأظهرني الله على خصمي يخبر عن الفُلْج والغلبة، فهكذا ظهور الله على الأشياء. ووجه آخر انه الظاهر لمن أراده ولا يخفى عليه شي‏ء وانه مدبر لكل ما برأ قال: فأيّ ظاهر أظهر وأوضح من الله تبارك وتعالى لأنك لا تعدم صنعته حيثما توجهت وفيك من آثاره ما يغنيك والظاهر منا البارز لنفسه والمعلوم بحده فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى...)[25] الفلج – بضم الفاء وسكون اللام – الفوز والظفر.

وبناءا على هذا التفسير فكون الظهور منحصرا فيه تعالى يمكن أن يكون مبنيا على نحو من الادّعاء من جهة أن غيره تعالى وان كان ظاهرا الا أن ثبوت كل شيء حيث كان به تعالى وظهوره فرع ثبوته فظهور كل شيء مستند الى ارادته تعالى والظهور بالذات ايضا منحصر فيه.

وحديث الامام الرضا عليه السلام يفيد وجها آخر في الحصر وهو أن ظهور غيره تعالى يختلف عن ظهوره فظهور كل شيء ببروزه بذاته ومعلوميته بحدوده وأبعاده والله تعالى ليس محدودا ولا جسما فتكون له ابعاد الا أنه تعالى يظهر ويبرز في كل شيء ببديع صنعه وتدبيره وحكمته قال تعالى (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..)[26] ولذلك قال عليه السلام (فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى) اي ان معنى الظاهر فيه تعالى يختلف عنه في غيره.

وقد مرّت عبارة العلامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير الاسماء الاربعة وأنها فرع اسمه (المحيط) بمعنى احاطة القدرة وهو يعود بنحو الى المعنى الاول مما ذكرناه الا أن تقييده باحاطة القدرة من فوق لتبرير التعبير عنه بالظهور لا وجه له بعد ما تبيّن أن الظهور بنفسه بمعنى السلطة والعلو.

وأما الباطن فقد ورد في العبارة السابقة المروية في نهج البلاغة (والباطن فلا شيء دونه) والمراد به القرب قال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)[27] وقال (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)[28] وقال (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[29] وعليه فالمراد بالباطن احاطته تعالى بخفايا الامور بحيث لا يختلف لديه الظاهر والباطن فكل الكون بكل زواياه وخباياه حاضر لديه.  

وعن الامام الرضا عليه السلام في الحديث السابق (وأما الباطن فليس على معنى الاستبطان للأشياء بأن يغور فيها ولكن ذلك منه على استبطانه للأشياء علما وحفظا وتدبيرا كقول القائل: أبطنته يعنى خبرته وعلمت مكتوم سره، والباطن منا الغائب في الشي‏ء المستتر، وقد جمعنا الاسم واختلف المعنى) والمعنى واضح.

وفي موضع آخر من نهج البلاغة قال عليه السلام (الحمد لله الذي بطن خفيات الامور ودلت عليه أعلام الظهور..)[30] وظاهر هذه الجملة هو نفس المعنى السابق اي انه تعالى علم بواطن الامور الخفية.

ولكن في الخطبة التي نقلناها من الكافي والتوحيد (الذي بطن من خفيات الامور وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير...) واحتمل فيه نفس المعنى السابق ومعنى آخر وهو أنه تعالى أخفى من خفيات الامور فان الامور الخفية التي لا تدرك بالحواس يمكن الاحاطة عليها بالعقول. والذات الالهية لا تمكن الاحاطة بها وادراكها لاحد. وورد في دعاء في مصباح المتهجد (بطنت في خفيات الامور وظهرت في العقول بما نرى من خلقك من علامات التدبير...)[31] ولعله ايضا يحتمل المعنيين.

والحاصل أن للباطن ايضا معنيين احدهما احاطته تعالى ببواطن الامور وخفياتها والاخر أن الاحاطة بحقيقته تعالى غير ممكن لاحد. وقد مرت عبارة الميزان وتفسيره للباطن بالاحاطة من وراء أي شيء فرض كونه باطنا فالله تعالى هو الباطن لا ذلك الشيء لانه محيط عليه من ورائه احاطة قدرة.

وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ... عليم صفة مشبهة تدلّ على ثبوت الصفة ودوامها. وهذه الجملة تناسب التعقيب لوصف الباطن على ما مر من أن المراد احاطته تعالى بكل شيء وبكل ذرة في السماوات والارض وكونه تعالى أقرب الى كل شيء من نفسه.

 


[1] ال عمران: 181

[2] الكافي ج1 ص91 باب النسبة

[3] الاحزاب:42

[4] الاسراء: 44

[5] فصلت: 11

[6] النور: 41

[7] ص: 18- 19

[8] الانعام: 19

[9] نهج البلاغة الخطبة 101

[10] نهج البلاغة الخطبة 161

[11] الخطبة 85

[12] خطبة الاشباح 91

[13] الكافي ج1 ص107

[14] التوحيد ج1 ص227

[15] الكافي ج1 ص120 والتوحيد ص186 والعيون ج1 ص145

[16] هود: 108

[17] الانبياء: 104

[18] القصص: 88

[19] التوحيد ص48

[20] النبأ: 23

[21] المائدة: 37

[22] الكهف: 97

[23] الكافي ج1 ص142 باب جوامع التوحيد / التوحيد ص33

[24] الكافي ج1 ص141 باب جوامع التوحيد / التوحيد ص31

[25] الكافي ج1 ص122 / التوحيد ص189

[26] ابراهيم: 10

[27] ق: 16

[28] الانفال: 24

[29] سبأ: 3

[30] نهج البلاغة الخطبة 49

[31] مصباح المتهجد ج1 ص33