مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

مَنْ ذَا الَّذي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَريمٌ... (من) للاستفهام و(ذا) للاشارة اي من هذا الذي يقرض الله.. وانما يطلق هذا التعبير في مثل هذا المقام مع أنه لا يوجد من يشار اليه للمزيد من الحثّ والتحضيض فكأنه يفرض أن هناك من استجاب لدعوته قبل هذا الاعلان وأن المقرض موجود بالفعل فهو يشير اليه ليبشره بالجزاء.

والقرض: القطع. ويقال لمن دفع جزءا من ماله لاحد ليتقاضاه منه بعد ذلك انه اقرضه من ماله كأنه قطع له منه قطعة. ومن الواضح أن مورد الآية الكريمة الانفاق في سبيل الله اما من باب الصدقة او للانفاق في الجهاد ونحوه. ومن الخطأ المشهور الاستشهاد بهذه الآية للحث على اقراض الناس.

وقد تكرر في الكتاب العزيز التعبير عن الصدقة باقراض الله تعالى كأنه تعالى يقترض من المؤمنين بعض مالهم للفقراء ليرده عليهم أضعافا مضاعفة يوم القيامة. وهذا غاية اللطف والاحسان فالمال مال الله تعالى والعبد عبده وكل شيء له وانما يريد أن يبتلي الناس ليرى من يحاول أن يبلغ رضاه كما قال امير المؤمنين عليه السلام (وَاسْتَقْرَضَكُمْ وَلَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا).[1]

والحاصل أنه تعالى لجوده وكرمه ولطفه بعباده اعتبر المال مالا لعبده مع ان كل شيء منه ومع ان العبد لا يعمل عملا الا باذنه وبتوفيقه ولكنه تعالى لم يلاحظ هذا الامر بل اعتبر العمل عملا له بالاستقلال ووعده أحسن الجزاء وهو مع غاية الجود والكرم يستحيل عليه أن لا يفي بوعده فليستبشر المقرض له تعالى اذا خلصت نيته فانه سيستفيد من ذلك يوم القيامة مهما كان عمله.

والمشهور بينهم ان التوصيف بالحسن للتأكيد على أن الحكم لا يشمل ما اذا كان الانفاق للرياء والسمعة وطلب الجاه او مع المنة والتحقير للمستحق او مع ايذاء السائل كما يلاحظ في كثير من الموارد. ولكن هذا صفة الانفاق الحسن لا القرض الحسن ولعل المراد من هذا الوصف أنه قرض مضمون بل مضمون انه يعاد اليكم اضعافا مضاعفة لان المقترض هو الله الغني الحميد.

واما مضاعفة الجزاء فان كان بملاحظة ما تبرّع به وانفق في سبيل الله تعالى فهو واضح فان ما يدفعه الانسان في هذه الدنيا من مال وينفقه في سبيله تعالى لا يحسب شيئا اذا قيس بأدنى جزاء يوم القيامة لان ما يثيبه الله تعالى يوم القيامة من الجزاء دائم لا يخاف زواله ولا يشوبه أدنى مرارة وشقاء وتعب ولا يعرض على المستمتع به أدنى تخوف من سقم او علة فلا يقاس بما هنا من النعم التي لا تجد شيئا منها يخلو من ذلك.

ولكن لا يبعد أن يكون المراد بالاضعاف أضعاف ما يتصور له من الجزاء المناسب له وليس معناه أنه يثيبه ضعف ما دفع ولعل هذا هو المراد بقوله تعالى (وله اجر كريم) اي ان هذه الجملة تحدد كيفية الجزاء وأنه ليس من سنخ ما تصدق به بل هو كريم بمعنى كونه قيّما لا يمكن للانسان تحديد قيمته بما يعرفه من المقاييس وهذا ما يفهم من تنكير الاجر وتوصيفه بانه كريم.

وقد تكرر في الكتاب العزيز كون جزاء الصدقة اضعافا قال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً...)[2] وقال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ...)[3] فيكون الجزاء على هذا سبعمائة ضعفا. والغرض ليس هو التحديد بالعدد فالجزاء هناك لا يقاس بهذه المقاييس المادية لا من حيث الزمان فانه ابدي مع ان ما انفق في سبيل الله امر زائل ولا من حيث الكيفية فان ما يثاب به هناك ليس من سنخ ما انفق ولا علاقة له به اصلا.

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى‏ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْديهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ... ظرف لما ذكر في الآية السابقة من مضاعفة الجزاء وكونه أجرا كريما. وتوصيف الظرف وهو اليوم بما ذكر ليتناسب مع المظروف. وقوله: (ترى) اما خطاب للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم او خطاب لكل من يسمع او يتلو الآية. وفي الآية ايضا بيان لنوع من الاجر الكريم الذي يؤتاه المؤمنون والمؤمنات في ذلك اليوم فحيث يكون الناس كلهم في ظلام دامس تجد المؤمنين يسبقهم ويصاحبهم نور واضح يسعى اي يتحرك بسرعة.

وقيل: ان الظرف متعلق بمقدر اي اذكر يوم.. وذلك لان كون الجزاء يوم القيامة امر واضح. وهذا غير صحيح بل ربما يتوهم حتى الآن كثير من الناس أن الانفاق في سبيل الله يزيد في اموالهم وسعادتهم في الدنيا او هكذا يتوقعون وكثيرا ما نجد بعض الناس تركوا الانفاق بعد ان خسروا اموالهم مع أنهم أدّوا الحقوق الشرعية المتعلقة بها. ونسمع ايضا كثيرا منهم يتصور أن الزيادة في ماله انما نشأ من أداء تلك الحقوق. والآية الكريمة تردّ على كل هذه الاوهام وتعلن للمؤمنين أن الجزاء المتوقع انما هو يوم القيامة وهذا لا ينافي كون الانفاق مؤثرا في الحياة الدنيا ايضا الا أنّ ما وعده الله تعالى ليس ذلك.

وليس المراد بالنور نور محسوس من قبيل ما نجده في الدنيا كما قاله بعضهم بل هو امر آخر ناشئ من العمل الصالح والتقوى يعبر عنه بالنور. وهذا لا ينافي كونه واضحا مرئيا للجميع او كالمرئي بل اوضح منه فان الحقائق المعنوية تشاهد يوم القيامة أوضح مما تشاهد المحسوسات في هذه النشأة فالبصر هناك ليس كما هنا قال تعالى: (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).[4] والامور ايضا ليست كما هنا.

ويدل على ذلك قوله تعالى: (يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى‏ بَيْنَ أَيْديهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا..)[5] فان دعاءهم يدل على أن هناك نقصا في نورهم فيطلبون من الله تعالى ان يتمه بغفران الذنوب ليستحقوا الجنة او يتمّ أعمالهم الناقصة ويغفر الذنوب التي تستوجب الظلمات. كما أن ذلك مقتضى اضافة النور اليهم في الآيتين وحتى في تعبيرهم في الدعاء فان معنى ذلك أن هذا النور شيء أحدثوه بعملهم او هو نفس العمل يتمثل في تلك النشأة بصورة نور كما أن الاعمال السيئة تتمثل بما يناسبها.

والمعروف بين المفسرين أن المراد بالسعي سعيه بسعيهم فالمؤمنون هم الذين يسعون ابتداءا والنور يتبعهم في السعي قال بعضهم: ولولا ذلك لبقوا بلا نور. ولكن الذي يبدو بملاحظة كون النور هو العمل الصالح والتقوى ان الامر بالعكس والنور هو الذي يسعى بهم الى الجنة. وهو المناسب ايضا لكون النور بين ايديهم اي امامهم فكأنه يقودهم الى الجنة والتعبير عن حالته بالسعي وهو التحرك السريع لانهم يمرون على الصراط كالبرق الخاطف كما في الروايات وأما كونه بأيمانهم فلعله كناية عن كونه منشأ سعادتهم لان العرب تعبر عن السعادة باليمن ولذلك كانت تتفأل بما يمر عن الايمان. والتعبير بالمؤمنين يشمل المؤمنات من باب التغليب كما في سائر الموارد ولكنّه أكّد بذكرهنّ مستقلا للتأكيد على عدم الفرق في نتيجة الاعمال والتقوى بين الرجال والنساء.

بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدينَ فيها... البشرى: الخبر السارّ وعليه ففي الجملة تقدير او تجوز في الاسناد فان الجنات مورد للبشرى وليست هي نفس الخبر السارّ. والمذكور في التفاسير ان هذه الجملة يخاطبون بها ذلك اليوم من قبل الملائكة بأمر من الله تعالى وعليه فيقع السؤال عن وجه تقييد البشرى بذلك اليوم مع سبق التبشير بالجنة في الحياة الدنيا. ويمكن أن يقال انه من جهة تبين استحقاقهم للجنّة اذ لا يتبيّن ذلك الا يوم القيامة فمادام الانسان في هذه الحياة يمكن أن يعرض عليه ما يمنع الاستحقاق. نعوذ بالله من سوء العاقبة.

ولكن لا يبعد أن تكون الجملة انشاءا لخطاب دنيوي والمراد باليوم اي ذلك اليوم لا يوم الخطاب والمعنى أن الجنات هي مورد استبشاركم ذلك اليوم والبشرى بناءا على ذلك ليس هو الخبر السار بل نفس ما يوجب السرور. فالمعنى أن ما يوجب استبشاركم وابتهاجكم في ذلك اليوم جنات...

ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ... اسم الاشارة يشار به الى دخولهم الجنات وخلودهم فيها او كل ما يتلقونه في ذلك الموقف ومنه النور الذي يسعى بين ايديهم والاتيان بضمير الفصل للتأكيد والحصر. والفوز هو الظفر بما يبتغيه الانسان ولا شك أن أعظم الظفر وأعلى الاماني هو نيل الجنة ولكن الانسان لا يشعر بهذه الحقيقة الا ذلك اليوم.

يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ... ظرف آخر لما ذكر في الآية السابقة يذكر فيه نعمة اخرى للمؤمنين وهي تحقير اعدائهم المنافقين واذلالهم والظرف هنا بدل عن الظرف السابق.

والآية تصور مشهدا عجيبا من مشاهد يوم القيامة فان المنافقين كانوا يجاورون المؤمنين في مدنهم ويستفيدون من كل ما يستفيد منه المؤمنون وربما كانوا يشاركونهم ايضا في الظاهر في الدفاع عن البلد كما كانوا يحضرون مجامعهم كصلاة الجماعة وغيرها ومع ذلك فكانوا يعيشون في معزل عن عقائدهم وعن دوافعهم ونياتهم فكانوا في الظاهر من المجتمع الاسلامي وفي الباطن يوادّون المشركين وأعداء الدين. وهذا الاختلاف بين الظاهر والباطن يظهر بوضوح في لقائهم مع المؤمنين يوم القيامة. وحيث يرى المنافقون نور المؤمنين يسعى بين ايديهم وبأيمانهم ويجدون أنفسهم في ظلمة حالكة لا يهتدون طريقا يتشبثون بهم كما كانوا يفعلون في الدنيا.

والقرآن ينقل لنا مواقف في الآخرة يبدو فيها بعض الناس يتعاملون مع الوضع السائد هناك كما كانوا يتعاملون في الدنيا ولا يعلمون أن ما يحكم هناك من القوانين والنظم ليس كما كان في الدنيا فتجد بعضهم يكذبون وينكرون أنهم كانوا مشركين قال تعالى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)[6] وقال تعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ).[7]

ومن ذلك ايضا أن بعضهم يطلبون من خزنة النار ان يشفعوا لهم عند الله تعالى ليخفف عنهم العذاب او ان يقضي عليهم فيموتوا. ومنه ايضا محاجّة المستكبرين والمستضعفين في مواطن عديدة حيث يطلبون من كبرائهم ان يتحملوا شيئا من العذاب عنهم لانهم كانوا لهم تبعا ونحو ذلك مما يدلّ على أنهم يتعاملون في تلك الحياة بمثل ما كانوا يتعاملون في الدنيا. فما تحكيه هذه الآية من كلام المنافقين وطلبهم النور من المؤمنين من هذا القبيل ايضا كما سيأتي في الآية التالية.

وهنا ايضا أضاف المنافقات الى المنافقين مع أن التعبير بالمذكّر يشملهن من باب التغليب لكي يؤكّد على عدم الفرق بين الرجال والنساء في الجانب السلبي ايضا. ومن المعلوم أن المنافقات لعبوا دورا هاما في تضليل الناس.

ثم ان المراد بالمنافقين هنا ليس – كما يتوهم – الجماعة الخاصة التي عرفت بالنفاق فان خطرهم كان أقل بكثير من خطر المنافقين الذين أخفوا أمرهم ولم يعرفهم أحد وهذا واضح في كل مجتمع وقد أشير الى ذلك في الكتاب العزيز ايضا قال تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ..)[8] وقال ايضا: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ..).[9] وفي حديث مشهور أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أخبر أباحذيفة رضي الله عنه بأسماء المنافقين او بعضهم وأن بعض الصحابة كانوا يسألونه هل اسمهم مذكور في القائمة أم لا مما يدل على أن بعضهم كان شاكّا في ايمانه.

والحاصل أن النفاق لا يختص بمجموعة خاصة كما لا يختص بمن كانوا يعيشون في ذلك العهد فكل من يرفض بعض احكام الدين ويقبل بعضها منافق لانه لا يؤمن واقعا وانما يظهر الايمان لمصلحة وربما يظهره لانه تربّى في بيئة مسلمة. والاعلان بترك دين الاسلاف مما يعاب عليه وأما المؤمن الحقيقي فلا يمكن أن يقبل حكما ويرفض آخر ونحن نجد في من حولنا من يستنكر بعض أحكام الله تعالى حتى لو صرح بها الكتاب العزيز لانها لا تعجبه او لا تناسب وضعه الخاص اويعتبرها ظلما لطبقة من الناس وغير ذلك وهذه صفة المنافق.

قال تعالى: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).[10]

ومن أنحاء النفاق بل من أوضحه انكار الولاية التي نزلت بها الآيات وصرح بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ولكنها لم تعجب كبراء القوم فأنكروها ورفضوا أن يعيّن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عليهم وليا من بعده او رفضوا ان تكون النبوة والامامة في بيت واحد كأنهم هم الذين يحدّدون الحكمة في ما يشرّعه الله تعالى كما رفض المشركون أن تكون النبوّة لسيد الرسل صلى الله عليه واله وسلم لانه لا يملك مالا واولادا.

وقوله (انظرونا) الظاهر انه بمعنى الانتظار كقوله تعالى (إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ)[11] فالمراد انهم يطلبون منهم التريث لكي يستضيئوا بنورهم. وقيل انه بمعنى النظر بالعين وأن الموجب لذلك الاقتباس من نورهم بلحاظ أن نظرهم يستلزم التوجه اليهم فيقابلونهم بوجوههم بما لها من نور فيستضيئون بنورهم لا محالة. ولكنه بعيد بل غير صحيح اذ يتوقف على كون النور محسوسا مع كون منبعه وجوههم.

والاقتباس اخذ القبس وهو الشعلة من النار كما في كتاب العين وغيره ولكن المراد هنا قطعة من النور والظاهر ان المراد به كما قلنا امر معنوي فليس الغرض من الاقتباس الاستضاءة لرؤية الطريق كما يقال وانما هو اقتباس معنوي ايضا فلعل المراد به الاستشفاع بهم لما لهم من القرب لدى الله تعالى.

قيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً... القائل من الملائكة او بعض المقربين من البشر وهو الاقرب ولعله من اصحاب الاعراف لانهم هم الذين يأذنون لاصحاب الجنة بدخولها كما قال تعالى (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)[12] ومنهم من هو الذي يؤذن بين الناس ان لعنة الله على الظالمين كما قال تعالى (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)[13] وفي الحديث[14] أن المؤذن هو امير المؤمنين عليه السلام وقلنا في موضعه أن هذا الاذان ليس اعلانا بل هو صبّ اللعنة عليهم باذن الله تعالى.

والمراد بالوراء على الظاهر هو الدنيا فالمعنى أن النور الذي تجدونه لدينا انما اكتسبناه بالعمل الصالح والايمان في الدنيا فان امكنكم فارجعوا اليها واكتسبوا النور بهما وأنّى لكم ذلك وهذا أمر تعجيزي كما في قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ* خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ)[15] وهو شماتة بهم وعذاب لهم. ويمكن ان يكون ذلك على وجه الاستهزاء بهم.

وقيل ان المراد الرجوع الى ما وراءهم في نفس الموقف حيث قسم النور وناله المؤمنون فيرجعون ولا يرون شيئا. وهو بعيد. وقيل انه من باب الخدعة كما قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ..)[16] ولكنه غير محتمل لانه كذب ولا يمكن اسناده الى الله وهذا القول منه تعالى وباذنه وان قاله ملك او بشر والله تعالى يخدعهم في الدنيا من دون كذب.

والالتماس: الطلب.قال ابن دريد في الجمهرة (اللمس اصله باليد ليعرف مسّ الشيء ثم كثر ذلك في كلامهم حتى صار كل طالب ملتمسا).

فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ... السور كل شيء مرتفع والمراد به هنا حائط حاجز يفصل بين الفريقين بعد تجمعهم وهذا التجمع ثم التفرق لهما مدلولهما فما يظهر هناك انعكاس لما هنا والقوم كانوا مجتمعين في الدنيا تجمعهم شؤون دينية ودنيوية فكانوا جميعا يؤمنون على الظاهر بدين واحد ورسولهم واحد وكتابهم واحد وقبلتهم واحدة ويتعايشون في بلد واحد وتحت ظل حكومة واحدة ويجتمعون في المساجد والمجامع بل ربما يجمعهم بيت واحد واسرة واحدة وقد تكون بينهم علاقة الزوجية او الاخوة او البنوة والابوة ونحو ذلك ومع كل هذا يفترقون قلبا وعقيدة ومقصدا.

والامر – كما مر – لا يختص بعهد الرسالة والمنافقين والمؤمنين في ذلك العصر بل هو مستمر في القرون المتتالية. والنفاق كما قلنا لا يختص بمن وصفوا في القرآن بالنفاق في ذلك العصر بل كان هناك نفاق أخطر وأشد وأعمق في صفوف من عرفوا بالايمان والتقوى وهو قائم الى يوم القيامة.

وهذا السور يمنع اختلاطهم في تلك النشأة وذلك لانه يوم الفصل كما قال تعالى في عدة موارد ومن أعجب ما نزل فيه قوله تعالى (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ)[17] حيث جمع بين الفصل والجمع ومعنى ذلك أن كل البشر في القرون المتعاقبة يجتمعون ومع ذلك فان بينهم الفصل ولا يختلط قوم بقوم بل يفصل حتى بين أفراد الاسرة الواحدة ولا يرغب أحد منهم في الآخر بل يفر منه (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ).[18]

وظاهر الآية أن هذا السور أمر يحدث بعد ما يجدون أنفسهم في ظلمة ويجدون الفرق بينهم وبين المؤمنين الذين يسعى نورهم بين أيديهم ويطلبون منهم النور فيؤمرون بالعود الى الوراء ثم يضرب السور ويفرق بينهم ومعنى الضرب أنه يحدث فجأة لا تدريجا. ولعل هذا هو السبب في قول من قال انه غير الحجاب المذكور في سورة الاعراف قال تعالى (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ..)[19] حيث يظهر منه أن هذا الحجاب موجود بذاته وهذا السور حادث، ولكن مع ذلك لا يبعد كونهما واحدا.

ومهما كان فالظاهر أن السبب في حدوث هذا السور هو أن الله تعالى يجمع الفريقين ابتداءا ثم يفرق بينهم ويميز الصالحين من المجرمين كما قال تعالى (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ)[20] والمراد بأصحاب الجنة في هذا الموقف – على ما يبدو – هم الابرار وأصحاب اليمين الذين وصفوا في سورة الاعراف بأنهم لم يدخلوها وهم يطمعون دون المقربين الذين هم اصحاب الاعراف الذين يعرفون كلا بسيماهم والذين بأمرهم يدخل الجنة أصحابها فانهم لا يختلطون باصحاب النار بل ولا باصحاب الجنة.

ولعل وجود الباب للسور اشارة الى عدم الانقطاع التامّ بل هناك نوع من الارتباط كما كان بينهم في الدنيا ومن هنا ينادونهم ألم نكن معكم ومن هنا ايضا يتطلع بعض أهل الجنة الى النار فيجد صاحبه الكافر او المنافق في سواء الجحيم كما قال تعالى (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ)[21] ومن هنا ايضا يسأل المؤمنون المجرمين (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ).[22]

   باطِنُهُ فيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ... الظاهر أن الضمير في باطنه وظاهره يعود الى السور لا الى الباب وقوله من قبله اي من جانبه والضمير فيه يعود الى (ظاهره) وليس معناه – كما قالوا – من أن جانب المنافقين فيه العذاب بل معناه أن العذاب يأتيهم من قبل ظاهر السور بذاته فهو سور له تأثيران متناقضان.

ولعله تجسيم لما توافق الفريقان في انجازه من اعلاء كلمة الاسلام في الظاهر والجهاد في مواجهة أعدائه وبسط سلطانه ونشر معارفه واحكامه وكذلك الاعمال الفردية كالعبادات فان المؤمن والمنافق مشتركان فيها ولكن هذا العمل يوم القيامة له وجهان فهو رحمة للمؤمن وعذاب على المنافق وذلك بسبب اختلاف القصد والنية فالمنافق لا يصلي الا رياءا وسمعة وهذه الصلاة تتحول عذابا له فتركه لهذه الصلاة اولى وكذلك سائر الاعمال الفردية والاجتماعية. 

ويقع السؤال عن وجه اعتبار جانب المؤمنين باطنا وجانب المنافقين ظاهرا فقال في الميزان (ويظهر من كون باطن السور فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب أن السور محيط بالمؤمنين وهم في داخله والمنافقون في الخارج منه‏) ومعنى ذلك أن المنافقين غير محصورين في موضع فهم في خارج السور والمؤمنون محصورون في الجنة وهي التي أحاط بها السور وهو أمر مستبعد فان اهل النار اضيق مكانا قال تعالى (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا)[23] وأما الجنة فعرضها كعرض السماء والارض.

والاولى أن يقال ان الظاهر والباطن أمران نسبيان فكل جانب من السور ظاهر لمن يليه وباطن لمن وراءه ومن هنا فهذا التعبير يعبّر عمّا يشعر به المنافق فهو يشعر بأن السور من ورائه رحمة لمن هناك ولعله يرى ذلك او يشعر به بشعور أقوى من الرؤية كما أشرنا اليه مرارا وهو متألم من العذاب الذي يأتيه من هذا الجانب من السور ولا تتعرض الآية لما يشعر به المؤمن من باطن السور حيث يعذب المنافقون ولعل الله تعالى يخفيه عنهم وان كانوا يعلمون به حتى لا ينغص عيشهم بأقل شائبة خصوصا اذا لاحظنا أن فيهم من يرتبط بالمؤمنين بأقرب القرابات ولا شك أن الانسان يتأذى برؤية ابنه او ابيه او اخيه في العذاب.

وحيث ان المنافقين يرون أن عملا واحدا له وجهان من التأثير يستغربون من هذه الازدواجية ولا يجرؤون على الاعتراض على ربّهم فيسألون المؤمنين عن سرّ هذه المفارقة والبون الشاسع مع أنهم كانوا معهم ويشاركونهم في كثير من الشؤون الاجتماعية كما ورد في الآية التالية.

يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ... اي ان المنافقين ينادون المؤمنين من وراء السور فهو لا يمنع من التحدث معهم بل لا يمنع من الرؤية ايضا كما قلنا آنفا خلافا لما استظهره بعض المفسرين من الآية من أنه يمنع الرؤية. والتعبير بالنداء بدلا من القول اما من جهة وجود هذا السور الحاجز كما قالوا او من جهة الاستغاثة والاسترحام ولذلك جاء الجواب بالقول فقط. والجملة تحكي باختصار شديد عن كل ما كانوا يشاركون المؤمنين فيه (ألم نكن معكم) هكذا من دون اي قيد... معكم في السراء والضراء، في الحرب والسلم، في البيعة ورفع الشعار، في تعيين الخليفة والحاكم، وفي كل شأن من الشؤون الاجتماعية بل الفردية ايضا.     

قالُوا بَلى‏ وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ... (بلى) حرف جواب يأتي بعد النفي فيفيد الاثبات لان فيه معنى (بل) كقوله تعالى (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى)[24] أي بل انت ربّنا وهنا ايضا بمعنى أنكم كنتم معنا ولكن هناك عوامل لهذا الفصل بيننا:

1- أنكم فتنتم أنفسكم. والفتن – بفتح الفاء وسكون التاء – في الاصل الاحراق واستعمل بهذه المناسبة في اذابة الفضة والذهب وغيرهما وحيث انهما بالاذابة يتبين خلوصهما وتفصل عنهما الزوائد استعمل في كل اختبار وامتحان يتبين به خلوص الانسان وايمانه وتقواه وحيث ان الامتحان في الغالب لا ينتهي الى ظهور الحسن بل تظهر به خبايا الانسان من المفاسد والخبث اعتبر الامتحان خداعا ومن هنا استعملت الفتنة في الخداع وسمي الشيطان فتّانا واعتبر اضلال المضلين فتنة فالظاهر – بناءا على هذا – أن المراد بالفتنة هنا هذا المعنى اي خدعتم أنفسكم.

وخداع النفس من أوسع المفاسد الخلقية انتشارا في البشر وقلّما تجد انسانا يحكّم ضميره وعقله حتى في محاسبة نفسه بل قلّما يوجد من يحاسب نفسه فالغالب على البشر هو القناعة بما لديه من كمال وعدم الاعتراف بالنقص في نفسه حتى لو اعترف به في الظاهر. وهذا الامر اي القناعة – في اي مجال كان – يوجب تخلّف الانسان في ذلك المجال فاذا تصوّر الفرد او المجتمع أنه كامل في مجال الطبّ مثلا فانّه لا يحاول التقدّم في هذا المجال وكذلك اذا تصوّر كماله في العقيدة ومعرفة الكون فانه لا يحاول التغيير بل يحارب كل محاولة في هذا المجال وهذا هو السبب الاساس في عدم قبول البشر ما يأتي به الرسل من هدايات.

والمنافقون كانوا باقين على عقيدتهم الفاسدة أيام الجاهلية بل مصرين عليها بالرغم من تواجدهم في المجتمع الاسلامي وقربهم من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ومشاهدتهم للمعاجز والكرامات وكان هذا مما يزيد في شقائهم وبعدهم عن الحق وكل ذلك ينشأ من خداع النفس وفتنتها. ولكن المذكور في غالب التفاسير ان المراد بالفتنة اهلاك النفس ومحنتها بالنفاق وتعابير مشابهة اخرى.

2- وتربّصتم. التربّص: انتظار حلول خير او شر لاحد. وفي غالب التفاسير انه اشارة الى ترقّب الفرص لايقاع الشرّ بالمؤمنين او لنزول الشر عليهم مما ينمّ عن سوء سريرتهم او اشارة الى أنهم يتربصون موت الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم كما كان المشركون يظهرون ذلك علنا والمنافق بحكم تظاهره بالايمان يبطن هذا التربص وحكي عن ابن عباس أن المراد تربّصهم للتوبة وهذا ايضا ممّا يغترّ به الانسان في معاصيه فيسوّف التوبة اعتمادا على أن العمر يسمح له بالتسويف وأن الموت بعيد عنه وهو غافل عمّا قدّر له.

ويمكن أن يكون اشارة الى ترددهم وعدم استقرارهم على ايمان او كفر فهم دائما ينتظرون حدوث أمر يحدّد لهم المسار.

3- وارتبتم. الارتياب هو الشك وهو سمة المنافق الاولى فهو لا يؤمن واقعا بالله ولا بالرسالة ولا يختلف عن الكافر الا في اظهار الايمان قال تعالى (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ في‏ رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُون)[25] والمؤمن لايشكّ في سبيله ولذلك يضحّي بالنفس والنفيس من أجل دينه واعلاء كلمته. ولعل بعض الملاحظين يستغرب من كون الشك موجبا للعذاب وهو حالة نفسية وأمر غير اختياري. ولكن الواقع أنه كغيره من الحالات النفسية ليس دائما خارجا عن الاختيار حتى الحب والبغض مما يمكن للانسان أن يعقد النفس عليهما او لا يعقد. والشك ايضا مما يمكن للانسان أن يزيله عن قلبه الا من كان مريضا بالوسواس القهري.  

4- وغرّتكم الأمانيّ. الغرور: الخداع. والاماني جمع أمنية وهي ما يقدّره الانسان لمستقبله. والمَنْي في الاصل بمعنى التقدير وهو في الغالب يبتني على أوهام وآمال لا تتحقق ولكن الانسان يخدع نفسه بها. وليس معنى ذلك توبيخه على تقدير مستقبله بل المراد توبيخه على تقديره مبنيا على آمال كاذبة فهي تضر الانسان وتمنعه من رؤية الواقع الذي يعيشه وتوجب تخلفه وبقاءه في موضعه الاول.

وفي حديث عن الامام الصادق عليه السلام (تجنّبوا المنى فانها تُذهب بهجة ما خُوِّلتم وتستصغرون بها مواهب الله – جلّ وعزّ – عندكم وتُعقبكم الحسرات في ما وَهَّمتم به أنفسكم)[26] ومعنى ذلك أن تمنّي الآمال البعيدة يضرّ من ثلاث جهات: فهو لا يتلذذ اولا بما لديه من نعمة بخلاف القانع بما خوّله الله تعالى من النعم وثانيا لا يشكر ربّه ويستصغر نعمه وثالثا يتحسّر ويتألّم حينما يجد أنّ ما تمنّاه لم يكن الا مجرد أوهام زائفة. والظاهر أن المراد بالأمانيّ هنا ما كان المنافقون يتمنّونه من زوال الدين والعود الى ما كانوا عليه أيام الجاهلية.

وقوله تعالى: (حتى جاء أمر الله) المراد به الموت اي بقيتم في تلك الآمال والاماني الكاذبة ولم تستفيقوا من غفلتكم الى ان جاء الموت بامره تعالى. وهذا شأن الانسان حيث يسوّل نفسه ويمنّيه بالتوبة اذا شاب وكبر ولا يعلم أن الموت قد لا يمهله. مع أنه يكبر وتكبر معه الاماني كما قيل: (يشيب ابن آدم وتشبّ فيه خصلتان الحرص وطول الامل) ونسب ذلك الى الحديث ولم أجده في كتب حديث العامة والخاصة الا في بعض الجوامع كالبحار بعنوان (وفي الحديث) مما ينبئ عن الاعتماد على الشهرة.

5- وغرّكم بالله الغرور... الغَرور صيغة مبالغة من الغرور وهو بمعنى الخداع مأخوذ من الغرة بكسر الغين اي الغفلة يقال غره اي اخذه على غفلة. والظاهر أن المراد به الشيطان وان أمكن تعميمه لكل من يغرّ الناس ويخدعهم من شياطين الانس والجنّ. وما أكثرهم؟! ومهما كان فالآية تقصد بذلك تنبيه الانسان أن لا يغترّ بأوهامه وأمانيه ولا بتسويل الشياطين فهو محاط بالاعداء وأعدى عدوّه نفسه التي بين جنبيه.

ومن الغريب ان يتم خداع الانسان وتغريره بالله تعالى لا بالمال والجاه والشهوات وذلك لان من وسائل الخداع ان يقال للانسان ان الله غفور رحيم فلا تبتئس واعمل ما شئت واعتمد على رحمته تعالى وعفوه والانسان كثيرا ما يخدع نفسه بذلك ايضا ولا يلاحظ انه تعالى شديد العقاب ايضا وسريعه فالاعتماد على عفوه تعالى ان كان في سبيل الرجوع والتوبة فنعم الاعتماد!! اما اذا اعتمد عليه في سبيل ارتكاب الاثم او الاستمرار فيه فهو غرور وخداع.

ويجب التنبّه الى أن هذه الامور التي يترتّب عليها الوقوع في الظلمات في تلك النشأة والانفصال عن المؤمنين لا تخصّ من عرفوا بالنفاق فلابدّ لكلّ مؤمن أن يراقب نفسه هل وقع في هذا الشراك أم لا وكثير ممن يدّعون الدين بل يدّعون الريادة والقيادة فيه تنطبق عليهم هذه الصفات فليكن الانسان على حذر.

فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذينَ كَفَرُوا... ظاهر السياق أنه من تتمة كلام المؤمنين وليس معنى هذا الخطاب أنهم لهم الحكم هناك وانما هو اخبار منهم يقصد به الشماتة بهم والغرض من بيان ذلك في القرآن تحذير المنافقين بأن أنواع العذاب في انتظارهم ومما يخافونه ويهتمون به هو شماتة المناوئين. ويحتمل أن يكون ذلك من كلامه تعالى تعقيبا لكلام المؤمنين. 

والفدية ما يدفع من المال لتخليص الاسير وقد ورد في عدّة آيات نفي الافتداء يوم القيامة وذلك لان التصوّر السائد في تلك المجتمعات هو امكان الافتداء بالمال حتى بعد الموت وأمام الله تعالى ولذلك يحكى عن بعض الملوك أنهم كانوا يوصون بدفن الذهب والجواهر معهم ليفتدوا بها هناك. ولعلّ التعرّض لنفي اخذ الفدية هنا ليناسب الامر بالانفاق فكأن الآية تقول أنفقوا في سبيل الله تعالى بأموالكم في هذه الحياة قبل أن يأتي يوم لا تقبل منكم انفاق وفدية. كما قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ..)[27] ولذلك قدّم الظرف اي اليوم فقال فاليوم لا يؤخذ منكم فدية اي ليس هذا اليوم كما كان سابقا حيث يقبل منكم الانفاق.

وأما عطف الكفار عليهم فقد قيل انه لدفع توهم الكفار أن هذا خاص بالمنافقين فلعل الفدية تقبل منهم وهو غير صحيح فان الآيات الرادة لهذا التوهم على الاطلاق كثيرة والسورة مدنية والظاهر أن الغرض منه تنبيه المنافقين بأنهم في ذلك اليوم يحشرون في صفّ الكفار وأن مصيرهم واحد وهذا ممّا يستبعده كثير من المسلمين ويتوهمون أن أهل القبلة يختلف حالهم عن الكفار وان فعلوا ما فعلوا حتى ان بعضهم يتصور أن جبابرة المسلمين الذين طغوا في الارض وبغوا وقتلوا الاولياء والابرياء وهدموا الكعبة ونشروا الفسق والفجور وشربوا الخمر في أقدس أماكن المسلمين يعاملون يوم القيامة معاملة المؤمنين الصالحين!!!

مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصيرُ... المأوى: المكان الذي يلجأ إليه الانسان من الحر والبرد وغير ذلك، فهو في الواقع محل أمنه واستراحته. والجملة تفيد الحصر اي لا مأوى لكم الا النار والتعبير عن النار بالمأوى من باب الاستهزاء بهم اومن باب التأكيد على انهم لا مأوى لهم ولا ملجأ من النار الا النار ومن الواضح أنها ليست بملجأ وملاذ فمعناه نفي المأوى مؤكدا.

وقوله (هي مولاكم) ايضا يفيد الحصر والمولى قد يكون بمعنى الناصر فيكون المراد نفي الناصر عنهم كما نفى المأوى بالجملة السابقة وكما نفى الفدية صريحا قبله. والبشر في هذه النشأة كثيرا مّا يتشبث بالفدية او الناصر للوصول الى مآربه كما أنه نفى في الآية التي مرّ ذكرها آنفا البيع والخلة والشفاعة فمعنى حصر الناصر في النار عدم امكان التوصل الى ناصر لوضوح أنها ليست ناصرة فهو كقوله تعالى (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ)[28] مع انه ليس طعاما فمعناه نفي الطعام مطلقا. ومثله كثير.

ويمكن أن يكون المولى – كما قال العلامة الطباطبائي قدس سره – بمعناه المعروف اي الذي يتولى اموركم وشؤونكم فاليها مرجعكم وفيها مأكلكم وهو الزقوم والضريع ومشربكم وهو الحميم وملبسكم وهو السرابيل من قطران وفيها مهادكم وغواشيكم وعلى كل حال فهو من باب التهكم والاستهزاء.

ويحتمل أن يكون المولى من الولي (بالفتح فالسكون) بمعناه الاصلي وهو القرب. والصيغة اسم مكان منه اي المكان الذي تقربون منه وهو كناية عن استقرارهم فيه. والمصير المكان الذي صاروا اليه ومنزلهم ومنتهاهم.

 


[1] نهج البلاغة الخطبة 183

[2] البقرة: 245

[3] البقرة: 261

[4] ق: 22

[5] التحريم: 8

[6] الانعام: 23- 24

[7] المجادلة: 18

[8] محمد: 30

[9] التوبة: 101

[10] النور: 47- 51

[11] الاحزاب: 53

[12] الاعراف: 48- 49

[13] الاعراف: 44

[14] الكافي ج1 ص426

[15] القلم: 42- 43

[16] النساء: 142

[17] المرسلات: 38

[18] عبس: 34- 36

[19] الاعراف: 46

[20] يس: 59

[21] الصافات: 55

[22] المدثر: 42

[23] الفرقان: 13

[24] الاعراف: 172

[25] التوبة: 45

[26] الكافي ج5 ص85 باب كراهية الكسل

[27] البقرة: 254

[28] الغاشية: 6