مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ... استفهام انكاري واستبطاء من خشوعهم لذكر الله تعالى وقوله (يأن) من أنى يأني اذا أدرك إناه اي وقته ومثله في المعنى آن يئين اي حان يحين وعليه ورد في بعض القراءات (ألم يئن) بكسر الهمزة. ومن الواضح أن الآية تأتي في نفس السياق السابق وهو الحثّ على الانفاق في سبيل الله تعالى وفي هذه الآية يأتي الحثّ من جهة التنبيه على لزوم التورع والخشوع اذا ذكّروا بالله تعالى وبآياته.

وقيل ان الآية مكية لرواية رواها مسلم عن ابن مسعود يقول فيها انه لم يكن بين اسلامنا ونزول الآية الا اربع سنين[1] والقوم لا يسعهم الترديد في احاديث ما يسمى بالصحاح وقد مرّ أن سياق الآيات يأبى عن تفريق زمان النزول فهو سياق متحد يهدف الى التحريض على الانفاق في سبيل الله تعالى وتمويل الحرب الدفاعية المفروضة على المسلمين.

مضافا الى استبعاد هذا الاستبطاء والعتاب بعد مرور اربع سنين من اسلامهم فقط ومضافا الى أنهم كانوا في مكة بعيدين عن الاشتغال بغير ما انزل عليهم من ربهم وانما حدث هذا التباطؤ بعد دخول الناس افواجا في الدين وبعد توالي الانتصارات والاستيلاء على الغنائم والوصول الى بعض الرفاه والرخاء في العيش كما هو مقتضى طبيعة الانسان اذا توغل في المادة وتوجه الى الدنيا. فالصحيح كما أسلفنا أن السورة مدنية بتمامها.

وقيل ان المراد بالذين آمنوا المنافقون اذ يبعد مثل هذا الخطاب للمؤمنين. وانما استبعد هذا القائل ذلك لحسن ظنه بالصحابة بأجمعهم وهو خطأ واضح فهم ايضا كغيرهم مختلفون في درجات الايمان وهذا الاستبطاء لا ينافي الايمان ولا وجه للحمل على المنافقين بتاتا نعم لا شك أن المراد به بعضهم لا الجميع الا أن الخطاب يدلّ على تفشّي الابتعاد عن الدين نوعا ما.

ومهما كان فالآية تحثّ المؤمنين على استشعار الخشوع والخوف من الله تعالى كلما ذكر اسمه وكل ما تليت آياته وهذا بالطبع مقتضى الايمان بالله تعالى الا أن الانسان ربما لا يتأثر من ذلك اذا توغل في الامور المادية واشتغل بالدنيا خصوصا اذا كان اشتغاله بالملاهي والمنكرات فان ذلك يميت القلب ويبعد الانسان عن الله تعالى كثيرا وربما يجرّه الى الكفر وانكار المعاد كما قال تعالى: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ).[2]

والظاهر أن الآية – كما قال العلامة الطباطبائي قدس سره – عتاب وتوبيخ للمؤمنين بأنهم مع مرور زمان طويل على الرسالة ونزول الوحي لم يصلوا الى حدّ مطلوب من التورع والتقوى وليس كما يقول بعض المفسرين من أنه تحذير لهم حتى لا يكونوا كذلك فان هذا المعنى لا يناسب استنكار عدم وصول زمان الخشوع كما هو صريح الآية المباركة.

ولا يستبعد ذلك من المجتمع الاسلامي في ذلك العهد وان كان كثير منهم او اكثرهم مجاهدين في سبيل الله فان لسان الآية في تربية المجتمع نظير ما ورد بشأن تحريم الخمر والميسر حيث كان العرب مولعين بهما كما يظهر من قصة الاعشى حيث ترك الاسلام ليعود الى اهله ويشرب ما بقي لديه من الخمر فاذا انتهى منه عاد الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فلم يمهله الاجل وسلب عنه التوفيق وكما يظهر من رفض بعض الصحابة من الانصياع لتركه بالرغم من الآيات النازلة حتى نزل قوله تعالى (إِنَّما يُريدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون‏)[3] فانتهوا لما رأوا العتاب الشديد من ربهم والظاهر أن ذلك كان في أواخر عهد الرسالة فان سورة المائدة من أواخر ما نزل.

والظاهر أن المراد بذكر الله كل ما يذكّر بالله تعالى من التوجه القلبي والذكر اللساني واستماع ذكره تعالى من غيره سواء من تلاوة آيات الكتاب او الادعية او غير ذلك والمراد بما نزل من الحق القرآن الكريم فلا موجب للقول بانهما واحد كما قيل. 

وَلا يَكُونُوا كَالَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ... عطف على تخشع اي ألم يأن لهم ان تخشع قلوبهم وأن لا يكونوا... وهو تحذير لهم من أن تكون عاقبتهم كعاقبة اهل الكتاب. والمراد بالذين اوتوا الكتاب من قبل: اليهود والنصارى وغيرهم ايضا ممن اتبعوا الانبياء السابقين ثم جرفتهم التيارات المادية وانحرفوا عن دين الانبياء عليهم السلام واتبعوا الشهوات فقست قلوبهم بعد ما كانت خاشعة مطمئنة بذكر الله تعالى وباستماع آياته وتلاوتها.

والقسوة: الغلظ والصلابة والاصل فيه الحجر القاسي الذي لا تؤثر فيه المعاول وقساوة القلب كناية عن كون الانسان صلبا شديدا في مقابلة الحق فيرفض ما يقال له من النصح والارشاد. والسبب – كما في هذه الآية – هو أن طال عليهم الامد وهو – كما في العين – منتهى كل شيء وآخره. وفي معجم المقاييس انه بمعنى الغاية.

واختلفوا في المراد منه هنا فقيل انه الفاصل بينهم وبين أنبيائهم اي بَعُد العهد بينهم وبين الرسل فضَعُف تأثير الرسالة فيهم. وهذا غير بعيد في حد ذاته الا أنه يبعد التعبير عنه بالامد الذي هو بمعنى الغاية اذ لا يوجد هنا ما يفرض بقاؤه الى أجل فيتأخر أجله الا اذا امكن حمل الامد على مطلق الزمان ولو مجازا. وهو بعيد.

وقيل: ان المراد آجالهم الشخصية وامتداد أعمارهم. وهو بعيد في حد ذاته كما يبعد اعتبار ذلك مؤثرا في قسوة القلوب. وقيل: المراد طول توقعهم لنزول العذاب مما كانوا يعملون فحيث تباطأ عنهم العذاب أمنوا مكر الله تعالى وقست قلوبهم. وهو ايضا بعيد اولا من جهة اعتبار تأثيره في القسوة لانه يؤثر في الاغترار وهو غير القسوة وثانيا من جهة التعبير عنه بالامد بقول مطلق من دون قرينة.

وقيل: المراد طول الفاصل الزمني بينهم وبين الرسالة المتأخرة لانها أمد وغاية للرسالة السابقة لقوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ ميثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى‏ ذلِكُمْ إِصْري قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدين)[4] ويبدو أن أهل الكتاب كانوا ينتظرون الرسالة الاخيرة كما وردت بها البشارات في العهدين وورد ذكر ذلك في قوله تعالى (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِه)[5] فلما أبطأت الرسالة وبَعُد العهد ضَعُف ايمانهم وبذلك قست قلوبهم.

وهذا أقوى الاحتمالات ويؤيده ما رواه الصدوق قدس سره بسنده عن سماعة وغيره عن ابي عبدالله عليه السلام قال (نزلت هذه الآية في القائم عليه السلام)[6] فان الظاهر أن المراد بالحديث انطباق ما في الآية على انتظار الامام المهدي عجل الله فرجه وأنه يطول الانتظار كثيرا بحيث تقسى القلوب ويضعف الايمان به عليه السلام ونحن نلاحظ أن المؤمنين به يقل عددهم يوما فيوما وتكثر عند الناس الشبهات حول قيامه بالرغم من أنه مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بما ورد عنه متواترا وفي كتب الفريقين.‏

وربما يستبعد هذا الوجه من جهة أن الخطاب حينئذ لا يشمل المؤمنين المخاطبين في ذلك العصر اذ لم يتحقق طول الامد بهذا المعنى لهم. والجواب ان طول الامد باي معنى يفسر لا يشملهم فالمراد ليس منع تشبههم باهل الكتاب في هذه الجهة بل في اصل القسوة والفسق وان كان لسبب آخر.

ويمكن أن يكون التحذير من القسوة لطول الامد ولكن الذين يشبهون اهل الكتاب في ذلك ليسوا هم المؤمنين في ذلك العهد بل في المستقبل فيكون المراد بالآية أن المجتمع الاسلامي يجب أن يتقدم ويتطور بحيث لا يكون هذا مصيره كما كان ذلك مصير اهل الكتاب ولا شك أن هذا التحول انما يحدث في المجتمع تدريجا فالواجب في ذلك العهد هو منع ما يسبب ذلك في زمانه المتوقع. فالحاصل أن هذا الاحتمال هو الاقوى في الآية وبعده الاحتمال الاول.

وأما قوله تعالى (وكثير منهم فاسقون) فالظاهر أن المراد بالفسق الكفر وان كان الفسق في الاصل هو الخروج عن الطاعة الا أن اكثر موارد استعماله في القرآن في مقابل الايمان فالغرض التحذير من أن ينجر المجتمع الاسلامي الى مجتمع ينتشر فيه الكفر والتخلي عن العقيدة كما هو نتيجة التوغل في المعاصي على ما مر من دلالة الآيات عليه.

وربما يقال انهم جميعا في عهد الرسالة كفار لانهم لم يؤمنوا بالرسالة الجديدة فاسناد الفسق الى كثير منهم دون الجميع لا يناسب تفسيره بالكفر. والجواب ان اسناده الى الكثير دون الجميع لعله باعتبار أن كثيرا منهم فسقوا عن دينهم الذي يعتزّون به ويدّعون اعتناقه كما نجدهم اليوم ايضا قد تخلوا عن عقيدتهم نتيجة توغلهم في الفساد والمعاصي.     

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها... تقديم الامر بالعلم لتنبيه المخاطبين باهمية ما يراد اعلامهم به مع انه من الواضح أن الله تعالى يحيي الارض بعد موتها وهذا أمر طبيعي يتكرر دائما وبمرأى من الجميع فلم يكن الامر بحاجة الى التنبيه وتصدير الكلام بقوله (اعلموا) فيتبين بذلك أن هناك أمرا آخر يقصد من ذكر هذا التنبيه تشبيها وهو احياء القلوب القاسية فيكون الغرض بهذا التنبيه منع حصول اليأس للمؤمنين من الآية السابقة بالتنبيه على أنه حتى لو قست القلوب فمن الممكن أن تحيا بذكر الله تعالى كما تحيا الارض الميتة بالمطر. والامر بيد الله تعالى فهو الذي يحيي الارض الميتة والقلوب الميتة على السواء.

قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ... وهذا التعقيب ايضا للتنبيه على أن الجملة السابقة يراد بها معنى اخر من باب التشبيه وللاشارة الى لزوم الدقة لتعقل ما وراء ظاهر التعبير. ولعله لذلك لم يقل (لعلكم تؤمنون) بل (لعلكم تعقلون). والمراد بالآيات آيات الكتاب والمراد بتبيينها انزالها بيّنة واضحة ولا ينافي ذلك أنها تشتمل على كنايات وتشبيهات وأن الوصول الى الغرض الاسمى منها يحتاج الى دقة وتأمل اذ أن هذا هو شأن الكلام البليغ لئلا يتعامل معه كما يتعامل مع المحادثات العرفية.

إِنَّ الْمُصَّدِّقينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَريمٌ... عود على بدء للتأكيد على الغرض الاسمى من السورة المباركة وهو الحثّ على الانفاق في سبيل الله تعالى. وقوله (المصّدّقين والمصّدّقات) بتشديد الصاد والدال في الاصل (المتصدّقين والمتصدّقات) فابدل التاء صادا وادغم فيها. وعطف الجملة الفعلية (وأقرضوا الله..) على الجملة الاسمية بلحاظ المعنى فان قوله (ان المصدقين) بمعنى ان الذين اصّدّقوا.. فيكون عطف الاقراض لله تعالى عطفا تفسيريا قصد به بيان حقيقة التصدق عند الله وأنه بمنزلة إقراضه تعالى.

وقرئ الوصفان بدون تشديد الصاد فيكون من التصديق وعلى ذلك فعطف الاقراض على التصديق تطبيق لما مر في اوائل السورة من قوله تعالى (آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا..). واما عطف المصدقات على المصدقين فهو كعطف المؤمنات على المؤمنين والمنافقات على المنافقين للتأكيد على عدم الفرق بين الرجال والنساء في موجبات الخير والشر. وقد مرّ الكلام في معنى القرض الحسن ومضاعفة الاجر والاجر الكريم في تفسير الآية 11 من هذه السورة.

وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ... لا يبعد أن يكون الغرض من هذه الآية تطييب خاطر المؤمنين الفقراء الذين لا يملكون ما يتصدقون به فتنطبق عليهم آيات الانفاق فهذه الآية تؤكد لهم أن مقامهم محفوظ عند الله تعالى لايمانهم به وبرسله. ولم يقل (برسوله) لان المطلوب هو الايمان بكل الرسالات وهذا هو الفارق بين اهل الكتاب والمؤمنين بهذه الرسالة فلا يكفي عندنا الايمان برسول دون رسول كما قال تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ..)[7] وأهل الكتاب رفضوا الايمان بالرسالة المتأخرة فلا يقبل ايمانهم.

وأكّد الحكم باتيان اسم الاشارة وضمير الفصل والالف واللام مما يدل على الحصر وأنهم هم الصديقون فحسب. وبالطبع لا يراد بهم من آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم او لم يلتزموا بمقتضى ايمانهم في مقام العمل. والصدّيق مبالغة في الصدق او التصديق ففي مثل قوله تعالى (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ)[8] يقصد به المبالغة في الصدق فانه من كلام صاحبي سجنه عليه السلام وحيث لم يسمعوا منه الا الصدق وصفوه بذلك. وأما هنا فلا يبعد أن يكون المراد المبالغة في التصديق وهو في حد ذاته ليس مدحا اذ لا ينبغي للعاقل أن يصدّق كل ما يقال الا انه مدح لمن يصدّق الرسل والكتب ويصدّق الوحي ورسالات السماء دون استثناء فان المبالغة في هذا التصديق لا تكون الا ممن قوي ايمانه ورسخ في قلبه. ويقابله المنافق والذي في قلبه مرض وهو مرض الشك والريب والتردد.

و الظاهر أن قوله تعالى (والشهداء عند ربهم) عطف على قوله (الصديقون) فالمعنى أن الذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرّقوا بينهم هم الصديقون والشهداء عند ربهم اي ان الله تعالى يعتبرهم شهداء. وهو جمع شهيد بمعنى الشاهد. والشهداء يوم القيامة على الظاهر هم الذين تتم بهم الحجة على الخلق فيستشهد بهم وبسيرتهم على كل من تهاون في أمر دينه بحجة عدم امكان حفظ الدين ومتابعة الشريعة في ظروف الحياة الدنيا وهذا العنوان يشمل الانبياء والاولياء والصالحين من الامة على اختلاف درجاتهم في الايمان والصبر على الطاعة.

ولعل التعبير عن الذين قتلوا في سبيل الله بالشهداء ايضا من هذا الباب فانهم اكبر شاهد في مقام الاحتجاج لانهم من عامة الناس وليسوا معصومين وقد ضحّوا باغلى ما عندهم في سبيل الدين فيحتج بهم الله تعالى على الناس اجمعين.

والضمائر في قوله تعالى (لهم اجرهم ونورهم) تعود الى الذين آمنوا ومعنى ذلك أنهم لا يبخس من حقهم شيء فلهم أجرهم المناسب لهم ونورهم الذي صنعوه بأعمالهم. وهذا التعبير يؤتى به في مقام الاعجاب بالشيء فيقال فلان له مقامه ومنزلته او له علمه وفضله. والمراد هنا أن لهم ذلك الاجر الجزيل والنور الباهر.

وقيل ان الضمير في قوله (لهم) للذين آمنوا وفي قوله (اجرهم ونورهم) للصديقين والشهداء وان معنى الآية أن الله تعالى يعطي الذين آمنوا به وبرسله أجر الصديقين والشهداء وأن المراد بقوله اولئك هم الصديقون أنهم بمنزلتهم عند الله والتنزيل يستلزم التغاير فهم ليسوا من الصديقين والشهداء ولكنهم بمنزلتهم عند الله تعالى ولذلك يؤتون نفس الاجر ونفس النور. وحيث يستبعد أن يكون أجر المؤمنين عامة كأجر الصديقين والشهداء قالوا ان ذلك انما يتم بعد ان يضاعفه الله تعالى.

وهذا لا يرفع الاستبعاد فالصديقون ايضا يضاعف اجرهم ونورهم فلا يتساوون وتبقى الآية غير واضحة. وأما بناءا على التفسير الاول فان عنوان الصديقين والشهداء شامل وعام ولكنه من العناوين التي تختلف أفرادها شدة وضعفا فيشمل المؤمنين الصالحين الملتزمين في مقام العمل وان لم يكونوا بدرجة الانبياء والاولياء والشهداء بالمعنى المعروف.

ومثل هذه الآيات لا تحدّد العناوين بدقة بحيث يمكن تشخيص مصاديقها بسهولة وتطبيق الاحكام عليها فان ذلك نقض للغرض الذي هو عبارة عن بعث الامل والرجاء مشوبا بالحذر والخوف في نفوس المؤمنين وليست هذه العناوين مرتبطة بالشريعة ومقام العمل فتحتاج الى تحديد.

وقيل ان قوله (والشهداء) مبتدأ خبره عند ربهم وما بعده خبر ثان فتكون جملة مستقلة عطفت على الجملة السابقة.

وهذا يستلزم تفكك السياق وعدم ارتباط الجمل فكأن الآية جاءت لتقسّم الناس على ثلاثة أقسام فحسب: الذين آمنوا، والشهداء، والذين كفروا. ولا يعلم وجه لهذا التقسيم ولا حكمة مترتبة عليه في المقام ولا ارتباط بالموضوع الذي يبحث عنه في هذه السورة والآيات السابقة.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ... الظاهر أن المراد بالكفر كفرهم بالله تعالى اما بانكار وجوده او بانكار ربوبيته والكفر هو الانكار والمراد بالآيات ما أنزله الله تعالى على رسله من الاحكام والشرائع كل ذلك بقرينة مقابلته بالذين آمنوا بالله ورسله وتوصيفهم بالصديقين فيقابل الكفر بالله الايمان به ويقابل تكذيب الآيات الايمان برسله.

ويحتمل أن يتعلق الكفر والتكذيب بالآيات ويراد بها آيات الكتاب والتكوين وحينئذ فيمكن أن يكون التكذيب عطف تفسير للكفر ومعناهما انكار دلالة الآيات على وجوده او ربوبيته تعالى ويمكن أن يكون الكفر متعلقا بالآيات الكونية بمعنى انكار دلالتها فيتحد مع الكفر بالله والتكذيب متعلقا بآيات الكتاب بمعنى تكذيب استنادها اليه تعالى ومعناه تكذيب الرسالات.

ومهما كان فتعقيب الآية السابقة بحكم الكفار ربما يكون قرينة على ما مر من أن المراد بعنوان (الذين آمنوا بالله ورسله) ما يشمل مختلف درجات الايمان بحيث يقابله الكفر والتكذيب. ولعل الغرض من هذه الجملة افادة هذا المعنى.

 


[1] صحيح مسلم ج4 ص 2319 باب في قوله تعالى الم يأن (على ما في المكتبة الشاملة)

[2] الروم: 10

[3] المائدة: 91

[4] آل عمران: 81

[5] البقرة: 89

[6] كمال الدين ص668

[7] البقرة: 285

[8] يوسف: 46<