اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ... اعلام خطير للبشرية وتنبيه لما يغفل عنه الانسان من واقع حياته فيمكن أن يكون الخطاب في قوله تعالى (اعلموا) للبشر عامة ويمكن اختصاصه بالمؤمنين لانهم المعنيون ابتداءا والمؤمل فيهم النجاة. ولا يخفى تناسب موقع الآية مع الغاية المتوخاة من السورة وهي الحث على الانفاق في سبيل الله تعالى حيث ان الامتناع من الانفاق ليس الا حبا في المال والملذات في الحياة الدنيا فلزم تنبيههم على كونها زائلة وغير مهمة بل مضرة بحالهم ومستقبلهم.
وقد مرّ سابقا الكلام حول افادة (انما) للحصر وقلنا ان الظاهر أن ذلك يتبع القرائن المكتنفة بالكلام وظاهر السياق هنا هو الحصر مع أن من الواضح ان الاعمال الصالحة التي يأتي بها الصالحون من البشر ويقصد بها وجه الله تعالى لا تدخل ضمن المذكورات وذلك لانها وان كانت مما تصدر في الحياة الدنيا ولكنها مقدمة للحياة الآخرة فالمراد بالحياة الدنيا في الآية الكريمة كل ما يطلب به شؤون هذه الحياة من دون قصد الآخرة. وليس المراد أن هذه الاعمال محرمة بل الغرض بيان أنها ليست مهمة في مقابل العمل للآخرة فلا ينبغي للانسان ان يصرف جلّ وقته في هذا المجال ويجعل العمل للآخرة في الهامش.
واللعب عمل لا يقصد به في الغالب هدف مطلوب لدى العقلاء ويقابله الجد. وربما يطلق على ما له هدف مطلوب كالعاب الرياضة من باب التشبيه. ولا يختص اللعب بالاطفال وان كان الغالب على اعمال الطفل هو اللعب الا أن كثيرا ما يلعب الانسان البالغ العاقل لهدف صحيح كالمداعبة الجنسية المحللة وقد ورد التعبير عنه باللعب في بعض الروايات منها ما رواه الكليني مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (كل لهو المؤمن باطل الا في ثلاث في تأديبه فرسه ورميه عن قوسه وملاعبته امرأته فانهن حق.. الحديث)[1] بل ربما يلعب الانسان البالغ العاقل لعبا خاصا بالاطفال ويكون له في هذا الحال هدف عقلائي كمداعبة الطفل او الترويح والتسلية اذا تعب من الجدّ ولا يقبح ذلك الا اذا أفرط فيه.
واللهو كل ما يشغل الانسان عن غيره ويطلق غالبا على ما يشغله عن أمر مهم وهو بذاته ليس مهما او ليس بتلك الاهمية.
والزينة اسم لما يتزين به فلا بد من تقدير فعل كاتخاذ الزينة او استعمالها او يقال بانها اطلقت واريد بها الفعل مجازا.
والتفاخر تفاعل من الفخر وهو المباهاة واستعظام الانسان ما لديه من مزايا. والفخر قد لا يقع بين اثنين بل يتبجح به شخص واحد واما التفاخر فهو بين اثنين او اكثر كل يفخر على الآخر ولذلك قال (وتفاخر بينكم) والظاهر ان المراد بالتفاخر هنا ليس خصوص التفاخر بالباطل بل حتى لو كان بالحق فانه قبيح الا في ما اذا اريد به استعلاء الدين وحتى لو لم يكن قبيحا فان الغرض من الآية – كما مر – ليس هو النهي او التحريم.
والظاهر ايضا أن المراد به ليس نفس التفاخر كعمل بل كونه هدفا لعمل الانسان فاذا كان غرضه من عمله الفخر على الآخرين فهو من شؤون الدنيا وان كان بظاهره عملا صالحا فربما يتعلم الانسان علم الدين ويجتهد في تفقه احكام الشريعة ويقصد بذلك التفاخر على الاقران. ولذلك لا يهتم الرجل بما هو دخيل واقعا في الوصول الى الواقع بل ما يكثر البحث حوله في المحافل العلمية. وهكذا في سائر المجالات.
والتكاثر تفاعل من الكثرة والمراد به محاولة كل أحد أن يكون ماله وولده أكثر من غيره فهذا التسابق يعتبر تكاثرا وهو مشهود في جهة المال دائما وفي كل مكان واما في الاولاد فقد خف بل ربما انتهى في اكثر المجامع البشرية والسبب أن كثرة الاولاد في العهود السابقة كانت مقصودة لغرض تكثير الجنود المدافعين عن الاسرة والعشيرة وتكثير العمال في حقول الزراعة ونحوها ولم يبق في هذا العصر مجال لذلك. ومع ذلك فهناك دوافع في بعض المجتمعات المتخلفة لتكثير النسل وربما يكون لبعضهم دوافع صحيحة ومشروعة.
والغرض من الآية الكريمة ليس هو التنبيه على أن من عمل الانسان في الدنيا ما لا قيمة له لانه لعب الاطفال وما يشغله عن الامر المهم وهو لهو الشباب والمراهقين ونحو ذلك كما يظهر من كثير من تعابير المفسرين حيث اعتبروا الآية ناظرة الى مراحل من حياة الانسان فهو بصورة طبيعية يلعب في دور الطفوله ويلهو في دور الشباب ويهتم بالزينة في دور الكهولة بعد ما فقد زينة شبابه ويتفاخر بعد ذلك بماله وجاهه ويحاول تكثير المال والولد في دور الشيخوخة. ليس هذا هو الغرض بل الآية تنظر الى لعب الانسان البالغ العاقل ولهوه وزينته وتفاخره وتكاثره.
ولعل الغرض منها – والله العالم – التنبيه على أن الغالب من عمل الانسان في الحياة الدنيا يتسم بهذه السمات فهو:
إمّا لعب اي ليس له هدف منطقي صحيح ينبغي ان يشتغل به الانسان العاقل. وهذه هي سمة أكثر الاعمال في الحياة الدنيا مما يقصد به الدنيا لان كل هدف دنيوي فهو وهم اذا قيس بالحياة الابدية والانسان يتخيل أنه يسعد بما يعدّه لنفسه في هذه الحياة مع أنه يشقى به ويبتعد عن ما يفيده في الحياة الابدية فهو يخسر بما يظن انه ربح. واللعب هو كل ما كان الهدف منه امرا وهميا غير واقعي كالعاب الاطفال.
وإمّا لهو فله هدف ولكن الهدف منه مجرد الانشغال وصرف الوقت والابتعاد عن التفكير في الحقيقة المرة والاشتغال بما هو أهم وهو العمل والتخطيط للآخرة واللهو ايضا كثير في اعمال الدنيا حتى بالنسبة لمن يعتقد بالآخرة فلو لاحظنا أعمالنا بدقة لوجدنا أكثرها مضيعة للوقت اذا اخذنا بعين الاعتبار أن المطلوب من الانسان في هذه الحياة أن يعمل من أجل الآخرة.
وإمّا زينة وهي وان لم تكن بذاتها مرجوحة بل ربما تكون راجحة بل واجبة كالتزين للزوج بل الزوجة ايضا ولكن الغرض التنديد بمن يضحّي بشأن مهم يتوقف عليه حياته في سبيل ما يتعلق بالزينة كمن يصرف ماله في تزيين بيته بدلا من تحكيم اعمدته واساسه وهذا بعينه هو حال من لا يهتم بآخرته وهي الحياة الواقعية ويهتم بشؤون الدنيا وان كان في شؤونها الاساسية.
وإمّا تفاخر في المجتمع فليس هو محققا لغرض منطقي يفيد الانسان وانما يحاول الانسان بجهده ان يتمكن من الاستعلاء على الآخرين بمزاياه وان كان خاويا في واقع الامر فالانسان غالبا ما يفتخر بنسبه او بقومه وعشيرته او بعضلاته او بماله ونحوها وكل ذلك باطل تافه.
وإمّا تكاثر في ما لا ينتفع به نفعا أساسيا ومصيريا بل في المال والولد مع أن كثرتهما لا يزيد الانسان الا مسؤولية وابتلاءا.
هذا هو واقع النشاط البشري في الدنيا وان كان العمل في الظاهر مما يهتم به العقلاء بل يعتبرونه من أهم ما يشغل بالهم فالانسان مثلا يهتم غاية الاهتمام بجمع اكثر مبلغ ممكن من المال ليدخل في قائمة الاثرياء وهذا الهدف ليس الا التفاخر. ولو لم يدخل في تلك القائمة فانه يجمع ويجمع حبا للمال كما قال تعال (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)[2] ولو لم يكن لحب المال فهو يجمع ليزيد من ترفه اكلا وشربا وثيابا ومركبا ومسكنا ونحو ذلك من زينة الدنيا وهو لا يشبع كلما توغل في ملذاته وشهواته ولا يصل الى بغيته.
بل ان ما يعتبر من الاعمال المفيدة للمجتمع البشري كالتطور العلمي والخدمات الطبية ايضا من هذا القبيل فان غاية ما تفيده هذه الاعمال هو اطالة عمر انسان او عمر الانسان بصورة عامة وتأمين متطلباته في الحياة الدنيا ورفع مستواه المعيشي ونحو ذلك مما يهتم به البشر في هذه الدنيا وكل ذلك ليس الا ضمن المجموعة التي وردت في الآية المباركة اذا قارنّاها بالعمل من أجل الآخرة وهذا هو الغرض الاساس من الآية.
والسر في ذلك أن الحياة هي تلك الحياة وهذه الحياة ليست الا ممرا ومعبرا والانسان فيها كمسافر تمنح له فرصة يسيرة ليتمكن فيها من جمع اكثر ما يمكن جمعه من الزاد لتلك الحياة كما قال تعالى (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[3] وقال ايضا (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي).[4]
ومن هنا فان كل ما يعمله الانسان في سبيل تطوير العيش في الحياة الدنيا يعد في نظر من يلاحظ الحياتين لعبا ولهوا اي لا هدف له اصلا او الهدف منه الاشتغال والالتهاء بامر تافه عن الامر المهم كمن يترك شأنا هاما من شؤون الحياة الدنيا كالدفاع عن النفس والاهل والوطن ويشتغل بالخمر والميسر ونحوهما فان هذا لا يقبل له عذر عند العقلاء.
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً... تشبيه للحياة الدنيا بنبات الارض وسرعة زواله وهو أمر مشهود في الحياة بنحو مستمر. والغيث هو المطر ولكن التشبيه ليس به في الواقع بل بالنبات وتحركه وتكامله السريع المنتهي الى زواله الا أنه حيث كان نزول المطر سببا لتكونه وكان هو الباعث للامل فهو يشكل اول مرحلة من هذه الحركة وحيث كان المراد تشبيه كل مراحل الحياة بمجموع مراحل النبات ذكر في المشبه به اول مراحله وهو الغيث.
ومثل هذه الآية في التشبيه بالمطر مع ان المشبه به هو مصير النبات قوله تعالى (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[5] وقوله تعالى (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً).[6]
والمعروف أن المراد بالكفار الزراع حيث يسترون البذر. والكفر هو الستر. وعليه فيمكن ان يكون اختيار هذا التعبير لايهام التناسب والاشارة الى أن الكفار هم اكثر الناس اعجابا بالمشبه وهو الحياة الدنيا لانها غاية افكارهم ومطمح انظارهم. وقد نسب القول به الى ابن مسعود. وقيل ان المراد هم الكفار بالمعنى المعروف وان كان الاعجاب بالزرع لا يختص بهم الا أنهم اكثر اعجابا بكل ما في الدنيا كما هو واضح والاول اظهر.
والنبات اسم لما ينبت من الارض ولا يراد به المصدر هنا فالزراع لا تعجبهم كيفية النبت وانما يعجبهم ما نبت بذلك الغيث. وهيجان النبات بمعنى صفرته – كما قيل – او يبسه كما في معجم مقاييس اللغة وهو اولى بالنظر الى لفظ الآية حيث جعل الاصفرار مترتبا على الهياج فلا بد من اختلاف المعنى. والظاهر ان الهياج بمعنى الحركة او الثوران معنى آخر كما في المعجم ايضا ويبعد كونهما من اصل واحد فان الهياج بالمعنى الآخر ليس بمعنى الحركة التدريجية التي تنتهي الى اليبس والاصفرار بل بمعنى الحركة الدفعية.
والحطام ما تكسر من الشيء وهذا نهاية النبات والله تعالى يشبّه الحياة الدنيا بكل ما فيها من زينة واموال وبهاء وجمال وعلم وحضارة بهذا النبات الذي ينتهي في تطوره الى حطام يابس تذروه الرياح فيبقى الانسان في آخر حياته ينظر الى الرياح كيف تفرق هذه الحطام التي جمعها وهو يظن انه يجمع خيرا كثيرا فاذا به يرى وجهها الآخر في حياة اخرى قبيحا مقززا ويتمنى لو كان بعيدا عنها بعد المشرقين وأنى له الوصول الى ما يتمناه؟
وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَديدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ... يقابل واقع الحياة الدنيا التي تشبه نهاية النبات الذي يعجب الزراع وهي تبدله الى الحطام بواقع الحياة في العالم الآخر فالحياة هناك تنقسم الى قسمين: عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان. فالعذاب هناك شديد حتى في أدنى درجاته لا يتحمله الانسان الذي لم يتعود مثله وهذا اخبار من الله تعالى وهو خبير بما خلق. وفي الجانب الآخر مغفرة من الله ورضوان. وهذا هو حقيقة الثواب الجزيل فكل ما يذكر من الجنات والانهار فرع لهما بل لا يعد شيئا في مقابلهما ولا شيء اعظم وأهم للانسان منهما فالمغفرة وهي الستر تمحو كل ما يشينه ويعيبه ويؤذيه والرضوان من الله تعالى أعظم وأجل كل النعم في الدنيا والآخرة.
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ... الغرور: الغفلة. والغارّ: الغافل وكذلك المغرور. والغرر: الخداع. واضافة المتاع الى الغرور باعتبار أنه يوجب الغفلة والانخداع بظاهره والمراد أن زينة الحياة الدنيا ولذائذها ليست الا متعة عاجلة تخدع الانسان وتغفله عن الامر الاهم وهو الحياة الابدية.
والمتاع اسم لما يتمتع به اي ينتفع به مؤقتا والغرور والغفلة من جهة أن الانسان يتصور أنه متاع دائم او يتعامل معه كأنه دائم او يغترّ به لانه يراه طويل الامد مع أنه مهما طال فانه بالقياس الى الآخرة لا يعدّ شيئا. ولذلك قال تعالى (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَليلٌ).[7]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْض السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ... السبق هو التقدم على الاقران والمسابقة محاولة التقدم فالآية تحرّض على محاولة التقدم على الاقران لا مجرد المسارعة الى الخير وذلك من جهة أن الآية السابقة بيّنت أن الناس يتسابقون في تكثير المال والاولاد ويشتغلون باللعب واللهو فحثّهم في تاليتها بالتسابق في ما يؤول الى المغفرة والجنة. وهذا ايضا يأتي في سياق الحث على الانفاق في سبيل الله تعالى.
وقال بعضهم إن التقدير المسابقة الى اسباب المغفرة ولكن لا حاجة الى هذا التقدير بل المطلوب المسابقة الى نفس المغفرة وهي الغاية التي يحاول كل من المتسابقين الوصول اليها وبالطبع لا تتم المسابقة في الوصول اليها الا عن طريق العمل بموجباتها. وقدم ذكر المغفرة على الجنة اذ لا يستحق دخولها المذنب الا بعدها. وفي التعبير بربكم تطميع في رحمته الواسعة. والمراد بالعرض السعة لا ما يقابل الطول.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[8] الا ان المسابقة تزيد على المسارعة من جهة اشتمالها على محاولة كل أحد السبق على الآخرين وليس في المسارعة معنى المغالبة.
ولا فرق بين الآيتين من جهة الاتيان بكاف التشبيه هنا دون الاخرى فانه على كلا التعبيرين تشبيه للجنة من حيث السعة بعرض السماوات والارض وليس المراد أنها تملأ الكون بناءا على أن هذا التعبير يراد به الكون المادي بل المراد تشبيه سعته في ذلك العالم بما ذكر وهو خارج عن هذا الكون المادي الذي نشاهده. كما لا فرق بينهما من جهة ذكر السماوات هناك والسماء هنا اذ المراد بها جنس السماء وليس سماءا بعينها كما هو واضح. ولا فرق ايضا من جهة اعداد تلك الجنة للمتقين وهذه للذين آمنوا بالله ورسله فان الايمان لا يستوجب دخول الجنة ان لم يستتبع التقوى.
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظيمِ... اشارة الى الثواب المذكور اي المغفرة والجنة. وهذا التذييل لدفع توهم أن السابق في هذا السباق يحصل على ما ذكر بفضل جهوده كما هو الحال في السباق على الامور المادية في الدنيا بل انما يحصل عليه بفضل من الله تعالى والفضل هو كل ما يمنح لاحد فوق ما يستحقه فاذا زاد المستأجر على الاجرة المسماة للاجير كان فضلا منه وحيث انه لا يستحق أحد على الله شيئا فكل ما يمنحه فضل منه تعالى.
وقوله (يؤتيه من يشاء) لا يقصد به أنه يمكن أن يؤتيه من لا حكمة في اتيانه فيطمع الظلمة والجبابرة في فضله يوم القيامة بل المراد أنه تعالى لا يُغلب في ارادته ومشيئته ولا يلزمه شيء حتى ما وعد به وما سنّه من القوانين الطبيعية والجزائية فيداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ولا يخرج شيء عن سلطته ومشيئته وهو العزيز الغالب القهار ولكنه مع ذلك ذو الفضل العظيم وكل ما في الكون من سعة فضله وعظمته.
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا... السياق مستمر في الحث على الانفاق في سبيل الله تعالى والتنديد بالبخل. والاصابة – على ما في معجم المقاييس – نزول شيء واستقراره قراره. ومنه الصوب بمعنى المطر وهي تستعمل في الخير والشر قال تعالى (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقي أَنْ يُصيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِح...)[9] وقال ايضا عن المطر (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)[10] ولكن المصيبة لا تستعمل غالبا الا في الشر وان كانت في الاصل بمعنى ما يصيب الشيء من خير وشر.
والمراد بالمصيبة في الارض الحوادث الطبيعية وبمصيبة الانفس ما يصيب الانسان من الامراض والموت وفقدان الاحبة والفقر وسائر مشاكل الحياة. والآية تفيد الحصر بوضوح وأنه ما من حادثة الا وهي مسجّلة في كتاب قبل خلق الحادثة وايجادها. والبرء هو الخلق. والضمير في (نبرأها) يعود الى المصيبة.
والغرض من الآية تطييب خاطر المنفق في سبيل الله تعالى بان لا يخاف الفقر والعَوَز، والتنديد بمن يبخل بماله فرحا بما نال من ثراء كل ذلك من جهة أن كل ما تجدونه من خير او شر فهو مكتوب مقدر من عند الله تعالى ولا يوجد شيء صدفة لسوء حظ او حسن حظ وانما الكون سلسلة من العلل والمعاليل فكل حادث في زمانه لا بد من وجوده نتيجة لهذه السلسلة التي تفرض وجوده.
ومن هنا فان المصيبة هنا لا يبعد ان تشمل الخير والشر لقوله تعالى بعد ذلك (ولا تفرحوا بما آتاكم) الا ان المفسرين فسروها بالنائبة لانها لا تستعمل غالبا الا فيها ولما قيل من انها لم ترد في القرآن الكريم الا في النائبة فيكون عدم ذكر الخير من باب التقدير اي ما أصاب من مصيبة ولا نال احد خيرا الا في كتاب. والحذف في مثل ذلك غير عزيز كقوله تعالى (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ).[11]
وربما يتوهم أن ما ذكر من التقدير والتسجيل يستلزم أن لا يحاول الانسان تغيير القضاء وأن يسلّم نفسه للحوادث فلا مناص له من تقبّلها والتسليم لها وذلك خلاف الواقع المشهود من سيطرة الانسان في نطاق قوانين الطبيعة على نفسه وعلى مستقبله وان كان بعض ما يحصل خارجا عن ارادته.
والجواب أن التسجيل والتقدير ليس بمعنى أن الله تعالى قدّر أن يتحقق الامر سواء تحققت علته وموجبه أم لا بل المقدّر هو تحقق الشيء بتحقق علته ومن العلل جهود الانسان في معالجة الموقف وتوسله بالاسباب الطبيعية وغيرها كالدعاء والصدقة ونحو ذلك ولكنه ليس عالما بكل المؤثرات وليس قادرا على كلها فكثيرا ما يبذل الانسان جهده ولا يتوصل الى ما يريد بل يقع ما ليس بالحسبان كما انه قد لا يفعل شيئا ولكنه يصل الى ما يريد بل الى ما لا يتوقعه من الخير من حيث لم يحتسب فما يفعله الانسان ايضا جزء من التقدير.
إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ... (يسير) صفة مشبهة من اليسر وهو بمعنى السهولة والخفة والانقياد والمراد أن التقدير والتسجيل يسير عليه تعالى لانه كما ذكرنا يتوقف على عموم العلم وشموله ولا شيء يعزب عن علمه تعالى.
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ... الجملة تعليل للاخبار عن هذه الحقيقة لا لنفسها اي اعلمناكم بذلك حتى لا تحزنوا على ما فاتكم فان ذلك كله مقدر مكتوب. والأسى: الحزن. والفوت يصدق في كل ما لم يدركه الانسان من منافعه وما يهواه. و(آتاكم) اي أعطاكم والفاعل هو الله تعالى.
ومن الطبيعي أن يأسف الانسان ويحزن لما فاته مما تعلق به قلبه من شؤون الدنيا من مال وجاه وأحبة ومن الطبيعي ايضا أن يفرح الانسان بما يؤتيه الله تعالى من نعم في هذه الدنيا خصوصا اذا لوحظ جانب كونه مما آتاه الله تعالى وهو ما تشير اليه الآية الكريمة بل ينبغي أن يفرح به بهذا اللحاظ ويشكر ربه على نعمه كما قال تعالى (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).[12] ومن هنا يتبين أن المراد ليس النهي عن مطلق الأسى والحزن او الفرح والابتهاج وانما القصد النهي عن الافراط في ذلك كما هو الحال في الغالب. فاذا فقد الانسان شيئا فليصبر وليحتسب بذلك أجرا من الله تعالى واذا اوتي شيئا من مال الدنيا فليتنبه الى أنه ابتلاء له وامتحان وليس اكراما كما يتوهم فلا يمتنع من انفاقه في سبيل الله تعالى ولا يبخل به حبا له.
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ... المختال اسم فاعل من الاختيال وهو الكبر والغرور والاعجاب بالنفس وهو مأخوذ من الخيال اي الظن والوهم كمن أوتي مالا كثيرا او سلطة او قوة جسميه فهو يتبختر ويتعالى وربما يتوهم أن له على الله كرامة ويخيل اليه نفسه اكبر مما هو عليه وأعظم. واذا بلغ منصبا دنيويا سواء بنصب او انتخاب او وراثة او قوة عسكرية فانه يتصور ان ذلك انما كان لميزة له على غيره بينما لم يميزه شيء عن غيره بل ربما يكون اقل علما وكمالا وامتيازا عن كثير من الناس وانما ساعدته الظروف او انتخبه الناس عن جهل كما هو ديدنهم فان اكثر الناس لا يشعرون.
والفخور الذي يفتخر بما فيه وان لم يكن منه او بما ينسبه الناس اليه جهلا وخطأً وهو من الفخر اي التباهي واستحسان ما فيه من خصال والاعجاب به بل فسره بعضهم بالكبر. والمراد بالمختال الفخور هنا من بطر بكثرة ماله وفرح به فرحا شديدا ومرحا تسبب في بخله وامساكه عن الانفاق في سبيل الله تعالى.
وهذا تنديد بالبخل بعد الحث على الانفاق وبدأ بالتنديد بما يوجبه وهو الاختيال والكبر والفرح والفخر بالمال وانما يتسبب ذلك في البخل من جهة أن هذا الانسان يتصور أن المال هو أساس امتيازه على الآخرين وهو يختال ويفتخر به فيحاول بكل جهده الابقاء على ما به شرفه وميزته. ومن هنا يتبين مناسبة هذه الجملة لما قبلها وأن الاختيال والفخر من اسباب البخل كما أن الفرح الشديد بالمال والحزن الشديد على ما فات الانسان من عوائد الدنيا ايضا من اسبابه.
ونفي حبه تعالى لهؤلاء بمعنى نفي حبه للصفة اي انه تعالى لا يرضى لكم ذلك كما قال تعالى (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)[13] ومعنى حبه ورضاه تعالى بفعل علمه بحسنه وتناسبه للانسان وكونه صالحا له ونافعا فانه تعالى لا ينتفع بشيء.
الَّذينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ... بدل من المختال الفخور. ومن هنا ينتقل السياق الى التنديد بنفس البخل وهو امساك ما يقتنيه الانسان ومنع الغير من الانتفاع به وربما يطلق على الصفة النفسية التي تدعو الى هذا المنع في مرحلة العمل. وأقبح البخل أن يبخل الانسان بمال غيره وهو الذي يأمر الناس بالبخل وانما يأمرهم بذلك ليكون له من الناس شركاء في صفته المذمومة فيقل قبحه. وهذا لا يختص بالبخل ونحن نجد كثيرا من أتباع الهوى يحاولون نشر المفاسد الخلقية في المجتمع من أجل ذلك.
وأقبح منه من يمنع الناس أموالهم كالمتسلطين على الامة وأذنابهم ممن يسرقون المال العام ويخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع.
وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَميدُ... اي ومن يتولّ عن امر الله ويعرض عنه.. فالتقدير هنا التولّي عن الشيء من الوَلْي والاصل فيه القرب والتولي اذا تعدى بنفسه يفيد معنى الاقبال على الشيء او المتابعة كما في قوله تعالى (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُون)[14] واذا تعدّى بـ (عن) أفاد معنى الاعراض. فالمراد هنا من لم يأتمر بامره تعالى بالانفاق في سبيله.
و(من) شرطية والجواب مقدر وهو انه لا يضر الله شيئا والجملة المذكورة في الجواب تغني عنه لانه السبب وهو أنه تعالى غني عن عباده وانما يأمرهم بذلك لمصلحتهم ولتربيتهم. وهو الحميد اي المحمود فكل الحمد له. والحمد انما يكون على صفات الكمال وله الكمال المطلق فلا ينقصه شيء وهذا مكمل لمعنى الغنى ويبين أن غناه المطلق من جهة أن له الكمال المطلق فلا نقص فيه ليكمله بفعل غيره بل لا غير له يقابله فكل ما في الوجود متقوم به وبارادته في كيانه ووجوده.
[1] الكافي ج5 ص50 باب فضل ارتباط الخيل
[2] الفجر: 20
[3] العنكبوت: 64
[4] الفجر: 23- 24
[5] يونس: 24
[6] الكهف: 45
[7] التوبة: 38
[8] آل عمران: 133
[9] هود: 89
[10] الروم: 48
[11] النحل: 81
[12] يونس: 58
[13] الزمر: 7
[14] المائدة: 56