مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْميزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ... المقطع الاخير من السورة المباركة يتعرض لبيان الهدف من رسالات السماء وانزال الكتب والشرائع واختلف المفسرون في ارتباط هذا المقطع بالآيات السابقة ففي الميزان اكتفى بالاشارة الى ان هذه الآيات تعرضت لهدف الرسالات بعد ان اشار في الآيات السابقة الى فتور المؤمنين وتثاقلهم في قبول الدعوة والايمان بالرسول خصوصا في امر الجهاد والانفاق من اجله. وقال بعضهم إن الغرض تهديد المنافقين المعنيين بالذين تولوا في قوله تعالى (ومن يتول فان الله هو الغني الحميد) بالمواجهة والحرب. وهو امر بعيد غاية البعد عن سياق هذه الآيات. وبعضهم رأى ان هذه الآيات ترتبط بقوله تعالى (وسابقوا الى مغفرة من ربكم) وتبين طريق الوصول الى هذا الهدف وبعضهم اكتفى بان هذا المقطع لبيان وحدة الرسالات وهدفها وبعضهم اكتفى بتفسير الآيات من دون اشارة الى علاقتها بالسياق.    

ولا يبعد ان يكون وجه الارتباط أن الغرض الاساس من السورة كما مر هو الحث على الانفاق في سبيل الله وفي خصوص الجهاد وهذا الامر مع انه من الاصول المهمة في تاسيس المجتمع وتبليغ الدين والابقاء على أمن البلاد والعباد وكان من اللازم على المؤمنين التكاتف في ذلك في بدء تاسيس المجتمع الاسلامي الا أن الناس غالبا كانوا يعتذرون من المشاركة فيه ويبحثون عن الاعذار. والنفاق ايضا يواصل إلقاء الشبهات فلعل من شبهاتهم المؤثرة في تقاعس القوم هو السؤال عن سبب نشوب الحرب وأن الدين يجب ان يكون مسالما كما يقال في هذا العصر ايضا فهذا المقطع يرد على هذه الشبهة.  

توضيح الجواب ان الرسالات من اسباب الاختلاف بين الامم والذي بدوره يستوجب الحروب ويستدعي الجهاد قال تعالى (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ..)[1] فالبغي والاختلاف حصلا بعد ارسال الرسل وقال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ)[2] وهذه الآية ايضا تدل على ان الاختصام حصل بينهم بعد ارسال الرسول فجأة لقوله (فاذا هم فريقان) والمراد بمفاجأته أنه لم يكن متوقعا اذ لم يكن بينهم اختلاف.

والحاصل أن الحروب الدينية نشأت من اختلاف الناس في مواجهة الرسالة الالهية التي جاءت لمصلحتهم وهدايتهم وليقوم الناس بالقسط ولكن كثيرا من الناس لا يعجبهم العدل والانصاف ولا يهتدون بهدايات السماء ويحرضون العامة على مواجهة الرسالة ويقع الاختلاف ويشتد شيئا فشيئا الى ان تقوم الحرب بين الفريقين.

والمراد بالبينات الادلة الواضحة على الرسالة والباء للمصاحبة اي ارسلناهم مصحوبين بأدلة واضحة من البرهان العقلي والمعجزات التي تدل على أنهم مرسلون من الله تعالى. والمراد بالكتاب جنسه فيشمل كل الكتب السماوية ولعل الاتيان به بدلا عن الجمع للاشارة الى وحدة الهدف والمضمون. والكتاب بمعنى المكتوب وهو في الاصل بمعنى المجموع قال ابن دريد في الجمهرة (كتب الكتاب يكتب كَتْبا اذا جمع حروفه واصل الكتب ضمك الشيء الى الشيء) فيطلق الكتاب على كل مجموعة من الافكار والالفاظ والمعاني والمراد به هنا مجموعة من الحقائق الغيبية واخبار السماء وشرائع الدين والاخلاق الفاضلة.

والميزان ما يوزن به وهو اسم آلة ولكن ليس المراد هنا نفس آلة الوزن التي تستعمل في توزين البضائع كما توهمه بعضهم ومن الغريب ما قيل من أنه مما نزل مع آدم عليه السلام من الجنة بل المراد ما يميز به بين الحق والباطل وتتحدد به حقوق الناس في ما بينهم وهو الدين وشريعة السماء. والكتاب وان كان يشتمل على بعض الحدود او معظمها الا أنه لا يشتمل على الجميع والرسول يوحى اليه سائر الاحكام في مواضع الحاجة. ولعل الافراد هنا ايضا يدل على وحدة الميزان في اصوله بين الشرائع وان اختلفت الجزئيات. والقسط هو العدل وقد مر الكلام حوله في سورة الرحمن وقيام الناس بالقسط بمعنى اقامة العدل والعمل به في جميع شؤونهم.

وقال بعضهم ان الآية تدل على أن الهدف من الرسالات هو قيام الناس بأنفسهم بالعدل من دون ولاية لاحد عليهم فانه لم يقل ليقيموا القسط بين الناس بل ليقوموا هم بانفسهم بالقسط.

وهذا الاستنتاج غير صحيح بالنسبة الى الرسل فانه تعالى قال (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ..)[3] وانما نسب القيام بالقسط الى الناس لعدم اختصاص العدل والقسط بالامور العامة التي يتولاها ولي الامر فالمطلوب من كل انسان أن يراعي العدل في كل افعاله تجاه الآخرين واكثر ما يتحقق من الظلم بين الناس انما هو من قبيل الاعتداءات الشخصية والتي قلما تصل اليها سلطة القانون كما نشاهده في العلاقات الزوجية والاسرية وغيرها.

وَأَنْزَلْنَا الْحَديدَ فيهِ بَأْسٌ شَديدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ... في هذه الجملة إشارة الى الحروب التي تستوجبها الرسالات وتتوقف على استخدام الحديد لصنع الاسلحة ومما لا شك فيه أن الرسل ما كانوا يبدأون الحروب ولا يحاولون نشر الاديان بالقوة بل بالتبليغ والدعوة والانذار والتبشير وانما كانت الحروب تنشأ من صدّ الطغاة والظلمة عن سبيل الله ومنعهم من انتشار الرسالة وقتلهم الانبياء والمؤمنين. وهذا واضح لمن يلاحظ تاريخ الرسل وسننهم.

ومعنى انزال الحديد هو خلقه كما ورد في الحديث عن امير المؤمنين عليه السلام[4] والسبب في هذا التعبير أن كل ما يخلق ويتكون فهو بأمر الله تعالى ومن السماء اي من جهة العلو المعنوي ولذلك قال تعالى (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ..)[5] ومن المضحك ما قاله بعضهم من أن السيف ايضا مما أتى به آدم عليه السلام من الجنة!! والحديد معدن معروف واصل الحد بمعنى المنع وسمي بذلك لصلابته وامتناعه من الليّ والكسر.

والبأس يستعمل في معان كثيرة ولعل الانسب ان يكون بمعنى القوة اي فيه قوة وصلابة شديدة كما قال تعالى (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)[6] ويمكن ان يكون بمعنى العذاب باعتبار انه آلة القتل فيتسبب في عذاب الناس وقتلهم بايدي اعدائهم في الحروب وغيرها وأما منافع الحديد فكثيرة جدا وباكتشافه تحققت ثورة عظيمة في الحضارة البشرية منذ أقدم العصور.

وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ... الواو في اول الجملة للاشارة الى معطوف مقدر اي لينتفعوا به في مجالات كثيرة من حياتهم وليعلم الله.. والمراد أن الحديد والسلاح مما يستخدم في الحروب هجوما ودفاعا فان قام بعض المعاندين بحرب ضد الرسول قام بنصره المؤمنون واستخدموا السلاح لصدّ الاعداء فيتبين بذلك من ينصر الله وينصر رسله ويتميز عن غيره فوجود السلاح يهيء الارضية الصالحة لبروز المجاهدين والمدافعين عن الحق وتميّزهم عن غيرهم وهذا من منافع الحديد. والله تعالى يعلم حال الناس قبل ان يبرز منهم شيء ولكن لا أثر للعلم بما سيحصل وانما الاثر للجهاد المتحقق على ارض الواقع فمعنى قوله (ليعلم الله) اي ليتحقق في واقع الامر.

والمراد بنصرة الله تعالى نصرة دينه وشرايعه ورسله والله تعالى يعتبر كل امر يتحقق بالنسبة الى الرسول بما هو رسول منتسبا اليه وامثلة ذلك في القرآن كثيرة فيلاحظ أن البيعة للرسول اعتبرها بيعة له وايذاءه ايذاءا له واطاعته اطاعة له ومعصيته معصيته واعطاء الرسول لهم اعطاءه وغير ذلك.

وقوله بالغيب بمعنى أنهم ينصرون الله تعالى ولا يرونه بام عينهم مراقبا لهم ولعملهم. وفي ذلك اشارة الى الغاية من خلق الانسان وهو ايمانه بالغيب كما قال تعالى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ..)[7] فالكمال البشري لا يتحقق الا بارتباطه بالغيب وعدم اخلاده الى الارض كما قال تعالى (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ..)[8] وكلما زاد من تعلقه بالغيب وارتباطه بالسماء زاد كمالا وزادت نفسه سعة وعلوا وكلما توغل في الاخلاد الى الارض وتشبث بالدنيا وزاد من تشبثه بها زاد تخلفا ونقصا وبعدا عن الكمال.

إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزيزٌ... المعروف بين المفسرين أن هذه جملة مستقلة والغرض منها دفع توهم أنه تعالى بحاجة الى نصرة الناس له ولرسله ولدينه وشرائعه ولذلك يطلب منهم النصر فهذه الجملة ترد على هذا الوهم بأنه تعالى لا يحتاج الى نصرة أحد لأنه قوي ولا قوة في الكون الا به وهو عزيز اي لا يؤثر فيه شيء فطلب النصرة والحث على الجهاد يعود بالنفع الى العباد وهو واضح.

ولكن هذا التقرير يتنافى مع ظاهر الجملة حيث ان البدء بـ (ان) ظاهر في كونها تعليلية ولذلك عمد بعضهم الى تفسيرها بانه تعليل لاصل ارسال الرسل والميزان ولكنه ايضا خلاف ظاهر السياق والظاهر أنه تعليل لاختصاص التعليل في الجملة السابقة بالعلم والتبين حيث ان معناه أنه تعالى لم ينزل الحديد لتنصروا دينه ورسله بل ليتبين من ينصره وينصر رسله فهو ليس بحاجة الى اصل النصرة لانه قوي عزيز.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهيمَ وَجَعَلْنا في‏ ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ... المعروف بين المفسرين أن هذه الآية تفصيل للاجمال المذكور في الآية السابقة. ولكن لا يبعد بناءا على ما ذكرنا في الآية السابقة أن يكون الغرض من هذه الآية الاشارة الى تعامل الناس مع الرسالات طيلة تاريخها حيث ان هذا الامر هو الموجب للاختلاف بين الامم وحدوث الحروب الدينية.

وانما خصّ نوح وابراهيم عليهما السلام بالذكر لان العرب وهم المخاطبون يعلمون أنهم من ذريتهما ويفتخرون بذلك وابراهيم من ذرية نوح عليهما السلام ايضا لقوله تعالى (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ)[9] فذكره بالخصوص من جهة أن الرسالات المعروفة بعد نوح كانت في الغالب في ذريته. والمراد بالكتاب ما كان يوحى اليهم من المعارف والاحكام والسنن كما مر آنفا.

فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ... الضميران يعودان الى الامم المرسل اليهم لا الذرية كما ذكره بعضهم لأن المراد بالذرية الرسل ولأن الغرض على ما ذكرنا الاشارة الى تعامل الناس مع الرسل الذي استتبع الحروب. والتعبير عن الفساق بالكثير في مقابل المهتدي الذي ذكره بالافراد وبـ (من) التبعيضية مما يدل على قلته للاشارة الى أن الاغلب من بين الامم كانوا كفرة. وعبّر بالفسق ليشمل من يخرج عن طاعة الرسول وان آمن بالله تعالى والفسق هو الخروج عن الطاعة وهو منشأ الحرب.

ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى‏ آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجيلَ... التقفية جعل شيء قفو شيء آخر اي بعده مأخوذ من القفا وهو وراء العنق. والآثار جمع أثر وهو في الاصل ما يبقى على الارض من أثر السير. والمعنى ثم أتبعنا بعدهم رسلا على نفس الطريقة والشاكلة اي من جهة تعاملهم مع الناس حيث أتوهم بالكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ومن جهة تعامل الناس معهم حيث فسق الغالب منهم.   

والظاهر أن ذكر عيسى عليه السلام بالخصوص لدفع توهم ينشأ من ذكر الرسل والانبياء واستيجاب دعوتهم للحروب وهو أنه عليه السلام أورث في امته الرهبانية وترك الدنيا مما أبعد عنهم شبح الحرب فلماذا لا نتبعه في ذلك ونترك الحروب المذهبية؟

فالجواب أنه ايضا اتبع أثر الرسل السابقين وهذا يظهر من التعبير بالتقفية وأما الرهبانية فهي من بدع أتباعه عليه السلام بعد وفاته وليس مما كتبه الله تعالى عليهم. ولم أجد من ذكر وجها لتخصيصه عليه السلام بالذكر ولا لذكر الرهبانية. والظاهر أن الغرض من ذكر الانجيل هنا أنه عليه السلام ايضا أتى بكتاب يشتمل على ما قد لا يروق لبعض الناس متابعته فكان يستوجب الاختلاف والحروب المذهبية.

وَجَعَلْنا في‏ قُلُوبِ الَّذينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها... وهذا هو الفارق الاساس بين أتباعه عليه السلام في ذلك العصر وغيرهم من الناس مما خفف من حدّة الاختلاف ومنع من نشوب الحروب الدينية. وهو أمر تكويني لا علاقة له بالتشريع الالهي وهو أنه تعالى جعل في قلوب أتباعه الرأفة والرحمة. وقد مر في هذه السورة في تفسير الآية (9) وجه الفرق بين الرأفة والرحمة.

والرهبانية مصدر جعلي من الرهبان وهي صيغة المبالغة من الرهب وهو الخوف فتدل على المبالغة والغلو في التخوف والحذر وهي اصطلاحا نوع تعبّد شائع بين النصارى يبتني على اعتزال المجتمع والسكنى في الصومعة وترك التزوج ومنهم من كان يختصي ويعلق على نفسه السلاسل كل ذلك خوفا من الله تعالى ومن الوقوع في معصيته ويلازمه بالطبع ترك الجهاد في سبيل الله تعالى. والاسلام منع عن ذلك وأعلن أن المطلوب من الانسان أن يمتنع من المعاصي مع بقائه في المجتمع وابتلائه بما يدعوه الى المعصية وأن يجاهد في سبيل الله مع الكفار ومع نفسه وهو الجهاد الاكبر.

واختلفوا في تفسير هذه الجملة وتركيبها ونظمها على أقوال مختلفة لعل الاشهر بينهم أن الرهبانية ليست معطوفة على ما قبلها بل هي منصوبة بفعل مقدر يفسره قوله (ابتدعوها) اي وابتدعوا رهبانية وقوله (ما كتبناها عليهم) يفسر الابتداع وأما الاستثناء فهو منقطع وأصله لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ومع ذلك كان عليهم أن يراعوها ولا يفرطوا فيها فما رعوها بل أفرطوا وخرجوا فيها عن الحدود المسموحة شرعا.

ولكن الاقرب الى الصواب وظاهر اللفظ أن يقال ان الرهبانية عطف على ما قبلها والمراد بها نفس المعنى المصدري وهو الرهبة والخوف من الله تعالى فانه هو ما يجعل في القلب دون الرهبنة المتعارفة التي هي عمل خارجي وليست أمرا قلبيا. وقوله تعالى (ماكتبناها عليهم) على ظاهره ولكنه لا يفسر معنى الابتداع وهو احداث أمر في الدين ليس منه ولم يأمر به الله تعالى لان الضمير لا يرجع الى الرهبانية التي ابتدعوها بل الى الرهبانية بالمعنى الاول اي ما كتبنا عليهم الخوف من الله تعالى الا لابتغاء رضوانه والكتابة هنا ليست بمعنى التشريع بل بمعنى الجعل التكويني كما هو الحال في جعل الرأفة والرحمة ايضا. وجملة (فما رعوها..) على ظاهرها اي انهم لم يراعوا حق الرهبة والخوف من الله تعالى فابتدعوا من انفسهم امورا باطلة ونسبوها الى الشرع من ترك التزوج واعتزال المجتمع وغير ذلك.

والذي يرتكب في هذا التفسير من مخالفة الظاهر أن الضمير في (ابتدعوها) وهي جملة وصفية لا يرجع الى الرهبانية بنفس المعنى المقصود في الجملة السابقة بل بالمعنى الآخر وهو ما تعارف اطلاق لفظ الرهبنة عليه مما يرتكبه الرهبان. ويمكن أن يقدر مضاف الى الرهبانية كما قيل من أن المقدّر حب الرهبانية. فيكون حاصل معنى الآية وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبة اي خوفا من الله ما كتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله ولكنهم ما رعوها حق رعايتها بل ابتدعوا رهبانية من عندهم.

فَآتَيْنَا الَّذينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ... الضمير في (منهم) يعود الى الذين اتبعوه والمراد الاتباع في الظاهر كما يدعى كل من يدعي الاسلام متبعا للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مع أن كثيرا منهم خالفوا أمره في كثير من الموارد أهمها الولاية. والمراد بالايمان هنا التسليم للشريعة التي جاء بها عيسى عليه السلام بحذافيرها ومنها البشارة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فمن رفض الايمان بذلك كان من الفاسقين. والفسق هنا يشمل الكفر بالرسالة كما يشمل الخروج عن طاعة الله ورسوله عملا.

وكرر التعبير بكثرة الفاسقين فيهم كما مر ذكره في الامم السابقة عليهم للتنبيه على أنهم لم يختلفوا عن سائر الامم في أن الغلبة فيهم كان للفاسقين. وفي ذلك تحذير للامة المسلمة أن لا يحذوا حذوهم. وفي القرآن الكريم موارد عديدة تنبه على أن ما حدث في الامم السالفة يحدث في هذه الامة ايضا.

 


[1] البقرة: 213

[2] النمل: 45

[3] النساء: 64

[4] الاحتجاج ج1 ص 372

[5] الزمر: 6

[6] الفتح: 16

[7] البقرة: 3

[8] الاعراف: 176

[9] الصافات: 77