يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ... عود على بدء كما هو طريقة القرآن في كثير من السور فحيث كان الحديث في السورة حول الانفاق في سبيل الله تعالى وهو يتوقف على الايمان العميق بالرسالة فان الغالب على الانسان اذا طلب منه المال أن يشك في موجبات الدعوة لذلك أمرهم في الآية (7) بالايمان بالله ورسوله والانفاق وعاد في آخرها ليؤكد على الايمان بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وربط ذلك بتقوى الله تعالى فان الشك في نزاهة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ينشأ من الشك في الله الموجب لضعف التقوى فعلى من آمن بالله تعالى أن يتقي الله في رسوله ويحسن الظن به ويطيعه في جميع شؤون الحياة.
وحيث وصف المخاطبون في الآية بالايمان وامروا ايضا بالايمان ذهب بعض المفسرين الى أن المراد بالذين آمنوا هنا أهل الكتاب وقالوا ان ذلك يتأيد بملاحظة الآية السابقة حيث وصف جمعا من أهل الكتاب بالايمان فمعنى هذه الآية يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب آمنوا بالرسول.
ولكن الظاهر ان المراد بالذين آمنوا في القرآن على ما يفيده التتبع هم الذين آمنوا بالرسول ظاهرا ويشمل ذلك حتى المنافقين ما لم تكن قرينة على خلافه مضافا الى أنه ينافي ما سنذكره في الآية التالية حيث جعل علم أهل الكتاب مترتبا على هذا الايمان فلا يمكن أن يراد بهم أنفسهم او بعض منهم.
وأما الأمر بالايمان فلا ينافي توصيف المخاطبين به كما ورد في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ...)[1] فلا بد من حمل الايمان المأمور به على الايمان الواقعي الذي يستتبع الاطاعة التامة والعمل بما يأمر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم برحابة صدر فهو يضاهي قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ...)[2] وغيرها من الآيات التي تأمر باللوازم البينة للايمان بل ينفي الايمان عن من لم يتمكن من قلبه كما قال تعالى (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).[3]
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحيمٌ... جواب للامر بالايمان اي ان آمنتم بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فانه تعالى يجازيكم بهذه الامور الثلاثة. والكفل: النصيب، وقيل انه بمعنى الضعف. والظاهر ان المراد بالتثنية هنا التكرر اي يكرر عليكم الرحمة فلا تنقطع عنكم وقد مر بعض الكلام حول ذلك في تفسير قوله تعالى (فبأي آلاء ربكما تكذبان). وعليه فلا حاجة الى التأويل بكون احد الكفلين في الدنيا والاخر في الآخرة او أن احدهما للايمان بالله والاخر للايمان بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ونحو ذلك مما قيل في التفاسير.
والظاهر أن المراد بالرحمة المتواصلة الرحمة في الدنيا وان كان الجزاء الاخروي هو الجزاء واقعا ولكن الغرض هنا هو التوفيق والنجاح في الدنيا وهذا الامر محبوب ومطلوب للانسان حتى الذين يؤمنون بالآخرة ويعلمون أن الفلاح والنجاح الواقعي لا يحصل الا هناك وأن هذه الحياة شأنها حقير والسرّ فيه أن الانسان خلق عجولا والله تعالى لم يندّد بهذا الاستعجال قال تعالى (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ..).[4] والقرينة على ذلك الآية التالية اي كون ذلك منبها لاهل الكتاب وهم المنافسون للمسلمين منذ ذلك اليوم الى عصرنا هذا فإنّ ترتب علمهم على ذلك لا يكون الا اذا تحققت الرحمة المتكررة للمؤمنين في هذه الحياة.
كما أن المراد بالنور الذي يمشون به على الظاهر هو النور في هذه الدنيا ولعله لذلك وصفه بالمشي به الذي هو تعبير عن انحاء النشاط في الدنيا فهو نظير قوله تعالى (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[5] ولا وجه لحمله على النور في الآخرة ولم نجد في القرآن التعبير بالمشي في تلك النشأة.
بل لا يبعد أن يكون المراد به ما يشمل معرفة الامور المادية في الدنيا مما يتوقف عليه شؤون هذه الحياة لنفس القرينة ايضا فان التقدم في هذه الشؤون أبلغ تأثيرا في نفوس المناوئين بل والموافقين ايضا فالتقدم في شؤون الحياة الدنيا يكون سببا واضحا ومؤثرا في تنبه أهل الكتاب لهذه الحقيقة وهي أن التوفيق الالهي والرحمة الالهية لا تختص بهم.
ومن هنا يمكن ان يقال ان الامرين الاولين جزاء دنيوي والاخير اخروي بل الاخير ايضا يفيد في النشأتين فان الغفران هو الستر وستر الذنب بمعنى منعه من التأثير السلبي يفيد في الدنيا ايضا. والجملة الاخيرة تعليل لكل ذلك وتنبيه على أن ما ذكر من الجزاء سببه غفران الله تعالى ورحمته وليس لاستحقاق العبد شيئا على الله تعالى.
وهذا التفسير هو المناسب لسياق الآيات ولغرض السورة المباركة وللقوم في الآية وجوه من التفسير آثرنا الاعراض عنها.
لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ... الظاهر أن اصح الوجوه في تفسير الآية أن تكون (لا) في (لئلا) زائدة اي لأن يعلم اهل الكتاب اي لكي يعلموا ألا يقدرون على شيء من فضل الله ولعل المراد أن هذا العلم والتنبه من أهل الكتاب يترتب على ايمان المؤمنين بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ايمانا كاملا يستتبع متابعتهم لاوامره وانفاقهم في سبيل الله تعالى لاقامة الدين واقامة النظام الاسلامي الصحيح حسبما أراده الله تعالى لهذه الامة فلو فعلوا ذلك قويت شوكتهم وغلبوا على أعدائهم وتبين لاهل الكتاب أن دعواهم الاختصاص برحمة الله تعالى وفضله توهم باطل، فمعنى ألا يقدرون على شيء من فضل الله اي انهم لا يستطيعون أن يمنعوا أحدا من نيل فضله ونعمته.
وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظيمِ... اي وليعلموا أن الفضل وهو كل ما ينعم الله تعالى به على خلقه بيده تعالى وتحت سلطته وقدرته وليس هناك ما يمنعه تعالى من تفضله على اي قوم واي احد وفضله عظيم لا يتحدد بحدود ولا يتقيد بقيود الا بارادته تعالى وان كانت ارادته تتبع حكمته.
وهنا ايضا اختلفت كلمات المفسرين اختلافا عظيما ولم أجد فيها ما يشفي الغليل والظاهر ان ما مر ذكره هو الاولى.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله الامين وآله الميامين.
[1] النساء: 136
[2] الانفال: 24
[3] النساء: 65
[4] الصف: 13
[5] الانعام: 122