آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ... اعتبر بعضهم[1] هذه الآية وتاليتها مكيتين باعتبار أنه أمر بالايمان بالله ورسوله بل عاتب المخاطبين بعدم ايمانهم بالله فلا بد من كون الخطاب موجها الى المشركين في مكة ولا يمكن أن يؤمر المؤمنون في المدينة بذلك.
والجواب عنه أولا: أن الخطاب يمكن أن يكون موجها الى المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمستسلمين للاسلام من دون اعتقاد قلبي كما قال تعالى (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ...)[2] فان هؤلاء كلهم كانوا من المجتمع الاسلامي بل يعتبرون من الذين آمنوا كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[3] فان قوله (ومن يتولهم منكم) يدل على ان الذي يتولى اليهود والنصارى من المخاطبين بقوله (يا ايها الذين آمنوا).
وثانيا ان الايمان له مراتب مختلفة جدا فهناك من يؤمن بالله تعالى ورسوله ما درّت معايشه فاذا ابتلي في الدين نكص على عقبيه وهناك من يؤمن ويصلي ويصوم ولا ينفق في سبيل الله تعالى لما رسخ فيه من شح النفس وهناك من ينفق ايضا ولكنه لا يبذل نفسه في سبيل الله تعالى بل ربما لا يتحمل قليلا من الشدائد وهناك من يزداد نورا وايمانا كل ما زيد في بلائه. وعليه فلا مانع من أن يخاطب المؤمنون عامة بلزوم بذل الجهد لتحصيل أعلى مراتب الايمان.
ثم ان الآية تدلّ على عدم كفاية الايمان بالله تعالى كما ربّما يتوهمه كثير من المدعين للايمان بل لا بد من الايمان بالرسول وقد تكرر الامر في الكتاب العزيز بالايمان بالرسول بل صرّح بانه لا يعتبر الانسان مؤمنا حتى يسلّم أمره الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ولا يشعر بحرج في نفسه قال تعالى (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).[4]
ومما يلاحظ في هذا الباب أن الله تعالى قرن اسم رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلّم باسمه المتعالي جلّ شأنه في موارد كثيرة جدا بل اعتبر في بعضها ما يخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من الامور مرتبطا به كقوله تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ..)[5] فان المهاجرة واقعا كانت الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ولكن الله تعالى اعتبرها مهاجرة اليه ايضا. وكقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ..)[6] ونحو ذلك والله تعالى لا يتأذى من شيء ولا يؤثر فيه شيء. ومن لطيف هذا الباب قوله تعالى (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ)[7] فالاغناء من الله تعالى ولذلك اتى بضمير المفرد في قوله (من فضله) الا ان الرسول صلى الله عليه واله وسلم حيث كان الواسطة اسند الاغناء اليه ايضا. ومثله قوله تعالى (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ..)[8] فاتى بضمير المفرد في قوله (ليحكم) لان المباشر للحكم هو الرسول صلى الله عليه واله وسلم ولكنهم مدعوون الى الله ورسوله وغير ذلك من الموارد.
ويلاحظ ايضا اهتمام القرآن بتكريم سائر الانبياء عليهم السلام والتنويه على عظمة مقامهم وقربهم لدى الله تعالى فوصف ابراهيم عليه السلام بأن الله اتخذه خليلا وموسى عليه السلام بأن الله تعالى كلّمه تكليما وعيسى عليه السلام بأنه كلمته وروح منه وهكذا. ومع ذلك فانا نجد بعض من يدعي الاسلام والتشدد فيه يقلّل من شأن الانبياء عامة بدعوى أنهم بشر لا يختلفون عن سائر الناس ويعبّرون عنهم عليهم السلام بتعابير نابية لا يناسب مقامهم الرفيع ويعتقدون أن ذلك من شدة الايمان بالله وتوحيده. وهذا هو نتيجة التأثر بالفكر الوهابي الذي يفتخر بعض معتنقيه أنه دخل مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عشرين سنة ولم يسلّم عليه مرة واحدة. وان كان هؤلاء الاتباع لا يقرون بتبعيتهم لذلك التطرف.
ويلاحظ أنه كان هناك من المؤمنين بالمعنى العام في عهد الرسالة من كان لا يؤمن بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم او لم يكن ايمانه بالدرجة المطلوبة فكان هناك من يعترض على توزيعه للصدقات كما قال تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ)[9] وكان فيهم من يعرّض بتكذيبه اذا نزلت آية تخصّصه بميزة كما حكي عن احدى النساء انها قالت له صلى الله عليه واله وسلم (أرى ربك يسارع في هواك) حينما نزل قوله تعالى (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ..).[10]
وكان هناك ايضا من يعتبر نفسه أعلم من النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وأورع وأقرب الى الله تعالى منه فكان بعضهم يعترض عليه في موارد كثيرة ومنهم من لم يقبل منه التمتع في الحج وأصر على ردّ كلامه حتى قال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم (أما انك لن تؤمن بهذا أبدا)[11] ووقف بعضهم في وجه الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في مواقف شتّى حتى في آخر أيام حياته الشريفة حيث منعوه من كتابة ما أراده من الوصية التي لا تضل الامة بعده أبدا واتّهمه بعضهم بالهجر والهذيان ورفعوا شعار الاكتفاء بكتاب الله تعالى.
وكم من مواقف في التاريخ الى زماننا هذا تمسّك فيها المضلّون بكتاب الله تعالى بل رفعوا المصاحف على الرماح لصدّ الحق وللتمويه على عامّة الناس؟! وسرى هذا المنع من التمسك بحديثه صلى الله عليه وآله وسلّم حتى منعوا من تدوين الحديث بحجة أنه يخاف أن يكتفى به عن كتاب الله تعالى واستمر المنع مائة عام تقريبا مما تسبب في حرمان الامة من تسجيل السنة المطهّرة وبالنتيجة حرمانهم من أوسع المصدرين للتشريع فان المصدر الاهم وهو الكتاب العزيز ليس واسعا بحيث يشمل كل موارد الحاجة الى التشريع ومن هنا نشأ هذا الخلاف العظيم بين المسلمين حتى في اوضح الشعائر والاعمال التي كانت تتكرر في المجتمع الاسلامي يوميا عدة مرات كالاذان والوضوء.
ثم ان مصنع الاحاديث سارع في وضع ما يدل على أن الوحي كان ينزل بموافقة رأي بعض الناس ومخالفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مما يؤيد النزعة النفسية لهؤلاء من كونهم أعلم وأورع وأقرب الى الله تعالى منه صلى الله عليه وآله وسلّم. ولذلك نجد بعض المسلمين يهتمون ببعض هذه البدع أكثر مما سنّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. ومن الغريب سراية هذه النفسية في بعض أتباع هؤلاء حيث نجد في عهدنا هذا او من قارب عهدنا من يعتقد وينشر أن دور النبي صلى الله عليه وآله وسلّم هو دور المبلّغ للقرآن فقط فاذا ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلّم تفسير للكتاب يخالف ما وصلنا اليه أخذنا بما نراه!!!
وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ... (من) في قوله (ممّا) للتبعيض اي انفقوا بعض ما جعلكم مستخلفين فيه. ومن هنا يبدأ بالحثّ على الانفاق في سبيل الله تعالى والظاهر أن الاهتمام الاول في الآيات بالانفاق من أجل الجهاد والقتال بقرينة ما سيأتي من الفرق بين الانفاق قبل الفتح وبعده وبقرينة قوله (في سبيل الله). ومن هنا يتبين بوضوح أن الآيات مدنية وأن الخطاب للمؤمنين اذ لم يرد أمر بالجهاد في مكة ولم يمكن ذلك.
وقد مرّ احتمال ان يكون الغرض الاساس من هذه السورة الحثّ على الانفاق وأن تقديم آيات التمجيد والثناء على الله تعالى وذكر صفاته الجلالية والجمالية ربما يكون كالمقدّمة لهذا الترغيب وقصد به التأكيد على غناه تعالى عن انفاق الناس وانما أراد حثّهم على ما يوجب استحقاقهم للاجر والثواب واتصافهم بما يوجب الفلاح والسعادة كما قال تعالى (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[12] ولتكميل نفوسهم بتنزّههم عن البخل والشّحّ فانه من أقبح الصفات النفسية.
والاستخلاف المذكور في الآية بأحد معنيين:
الاول استخلاف الانسان في الارض حيث ان الله تعالى جعله خليفته فيها كما قال تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً...)[13] ولعل المراد أنه جعله مختارا يفعل ما يشاء في اطار القانون الكوني وليس كسائر انواع الحيوان حيث انها مسيرة طبقا للغرائز المودعة فيها. وعليه فالمراد أن هذه الاموال وان حصلتم عليها بتعبكم ودهائكم فانها مما جعلها الله تعالى لكم واستخلفكم فيها فاذا أمركم الله تعالى بالانفاق منها فانما هو من قبيل امر صاحب المال الوكيل المستأمن بانفاق ماله فلا معنى لامساكه.
الثاني استخلافهم بعد الاجيال السابقة التي كانت تتحكم في هذه الثروات الطبيعية كما قال تعالى في حكاية قول هود عليه السلام لقومه (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ...)[14] وقال ايضا (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ...)[15] وعليه فالمراد حثّهم على الانفاق لان هذه الاموال لا تبقى لكم كما لم تبق لمن كان قبلكم فانتفعوا بها لحياتكم الابدية قبل ان تنتقل الى من بعدكم.
والانفاق من النفق بفتحتين اي نفاد الزاد اوالنفوق وهو التلف يقال نفقت الدابة اذا هلكت فالمراد بالانفاق مطلق الصرف فانه اتلاف له وان كان يحصل غالبا على بدل له سواء كان مالا او تمتعا او حاجة. والمراد به هنا كما يتبين مما بعده الانفاق في سبيل الله تعالى.
فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ... تكرار الموضوع والتأكيد مرة اخرى على الايمان مع أنه يخاطب المؤمنين بل التصريح بكونه منهم لعله من أجل التنبيه على أن الانفاق بذاته لا يستتبع الاجر الكبير وان كان المنفق مؤمنا بل لا بد من كون الانفاق مترتبا على الايمان بمعنى أن يكون الداعي للانفاق التقرب الى الله تعالى فكثيرا ما ينفق الانسان المؤمن في بناء المساجد والمدارس ولكنه يقصد بذلك منافع مادية ويشترط على من بيده الامر أن يكتب اسمه على البناء فهذا الحكم الجزائي لا يشمله. والاجر الكبير تعبير رفيع من الله العلي الكبير والتنكير يدل على أن عظمة هذا الاجر بحيث لا يعلمها الا الله تعالى.
وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ... اي ماذا حدث لكم حيث لا تؤمنون بالله والحال أن الرسول يدعوكم.. والاستفهام للاستنكار او ما يدعى بالانكار التوبيخي ومعنى ذلك أنه تعالى لم يكتف بالامر بالايمان والحثّ عليه كما في الآية السابقة بل وبّخهم لعدم ايمانهم مما يدلّ بوضوح على أن القوم كان فيهم من لا يؤمن بالله تعالى ايضا وهذا هو ما صرّح به في سورة الحجرات كما مر في تفسير الآية السابقة ويمكن ان يكون التوبيخ باعتبار عدم ايمانهم ذلك الايمان المستتبع للانفاق في سبيل الله وذلك لان عدم الانفاق كثيرامّا يستند الى ضعف الايمان.
وقوله (والرسول يدعوكم..) جملة حالية تكمل وجه الاستنكار فموضوع الاستنكار عدم الايمان بالله تعالى ايمانا واقعيا بعيدا عن النفاق او ايمانا قويا يستتبع الانفاق في سبيل الله مع ان الرسول صلى الله عليه واله وسلم يدعوكم الى الايمان بالله ومع انه اخذ منكم الميثاق باعتباركم مؤمنين حسب الظاهر فكل من يظهر الايمان بالله يعاهد الرسول صلى الله عليه واله وسلم على الالتزام بكل ما يستتبعه الايمان ومنه الانفاق في سبيل الله وفي سبيل اعلاء كلمة الدين.
وهنا يحدث تساؤل في النفس وهو أن الاستنكار حسب ظاهر الآية يبتني على أن عدم الايمان غير متوقع منهم بلحاظ أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم يدعوهم الى الايمان بالله تعالى وهذا لا يستوجب استنكارا بل هو أمر طبيعي فكل واحد من الرسل يدعو الى ذلك والناس قد يستجيبون وقد لا يستجيبون ودعوة الرسول بذاتها لا تستلزم الايمان بالله تعالى فما هو الموجب للاستنكار وما هو المستغرب هنا؟!
الجواب عن ذلك بوجهين:
الوجه الاول: ما يظهر من التفاسير من أن سبب الاستغراب هو وجود الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بين أظهرهم يسمعون كلامه وبراهينه ويرون معاجزه وآياته فعدم الايمان في مثل تلك الظروف وهم يلمسون وجود الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بينهم ويشعرون نزول الوحي في كل صغيرة وكبيرة أمر يدعو الى الاستنكار الشديد. والمراد بالايمان بناءا على ذلك الايمان الكامل الذي ينافي النفاق ومرض القلب. فتلك الحقبة من الزمان بالرغم من قداستها لحضور الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ونزول الوحي وبالرغم من كرامة تلك الجماعة وما ورد بشأنهم في الكتاب والسنة من الاكرام والتقدير الا أن مسؤوليتهم ايضا كانت عظيمة وخطيرة وما يتوقع منهم أكثر مما يتوقع من غيرهم. وهكذا الامر في كل من يكون أقرب الى الوحي والرسالة كأهل البيت وزوجات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والاقربين من قومه وأصحابه.
ومن هنا نزلت الآية الكريمة بشأن زوجاته صلى الله عليه وآله وسلّم (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ...)[16] وورد في بعض أحاديثنا أن هذا الحكم يسري في قرابته صلى الله عليه واله وسلم [17] فكل ذلك من جهة القرب من الرسول ومن جهة تمامية الحجة عليهم فكل ما كانت الحجة أتم وأكمل كانت المسؤولية أعظم كما أن النعمة كل ما كانت أتم وأكبر كان الشكر المطلوب عليها أهم وأعظم.
ومن هنا ايضا ورد في عدة من الروايات المروية في كتب العامة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم كان يتباهى بمن يأتون بعده ويؤمنون به وهم لم يروه ولم يسمعوا كلامه ولم يشاهدوا آياته ومعاجزه وانما يؤمنون بحبر على ورق وهذه الروايات بمضامين مختلفة جمعها السيوطي في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ...).[18]
فمنها ما رواه عن أحمد والدارمي والباوردي وابن قانع معا في معجم الصحابة والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي جمعة الأنصاري قال: (قلنا: يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجرا آمنا بك واتبعناك؟ قال: ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم الوحي من السماء بل قوم يأتون من بعدي يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجرا).
ومنها ما رواه عن أحمد وابن حبان عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ان رجلا قال: يا رسول الله طوبى لمن رآك و آمن بك قال: طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني).
ومنها ما رواه عن ابن أبي شيبة في مسنده عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ليتني قد لقيت إخواني قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك وأصحابك قال بلى ولكن قوما يجيئون من بعدكم يؤمنون بي ايمانكم ويصدقوني تصديقكم وينصروني نصركم فيا ليتني قد لقيت إخواني).
ومنها ما رواه عن ابن عباس ـ في حديث ـ قال: (قالوا فاصحابك يا رسول الله فقال وكيف لا يؤمن أصحابي وهم يرون ما يرون ولكن أعجب الناس ايمانا قوم يجيئون بعدي يؤمنون بي ولم يروني ويصدقوني ولم يروني أولئك إخواني) وغير ذلك من الروايات.
وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال في تفسير هذه الاحاديث أنها تنطق عن مضمون الآية الكريمة (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ...).[19] وبناءا على هذا الوجه من تفسير الآية وتأويلها يكون قوله تعالى (وقد أخذ ميثاقكم ان كنتم مؤمنين) وجها آخر للاستغراب ولذلك ترددوا بين أن يكون الضمير في (اخذ) راجعا الى الله تعالى او الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. ومن هنا ايضا احتمل بعضهم أن يكون المراد بالميثاق ميثاق عالم الذر.
الوجه الثاني: أن الآية الكريمة جاءت لتستنكر عدم انفاقهم في سبيل الله تعالى وحيث انه ينشأ بالطبع من ضعف الايمان بالله تعالى فالامر المستنكر في الواقع هو عدم الايمان بالله تعالى وبما وعد من الاجر على الانفاق في سبيله بحيث يستتبع عدم الانفاق كما هو الغالب في ترك الانفاق فانا نجد أن من البشر من لا يتصف بالبخل ولكنه مع ذلك يتوقف عن الانفاق في سبيل الله تعالى حتى بالنسبة للواجب منه كالخمس والزكاة الواجبة. وليس ذلك الا لضعف الاعتماد على ما ورد من الامر به والحث عليه وأن الله تعالى يضاعف أجره أضعافا مضاعفة فكأن هذا الانسان يخشى أن يكون مخدوعا في ماله.
ويبدو من الآية الكريمة ان ذلك كانت ظاهرة منتشرة في المجتمع آنذاك والا لم يستوجب هذا الانكار الشديد واتهامهم بعدم الايمان بالله تعالى مع أنهم مؤمنون به ظاهرا ولكن الى حد الصلاة والصيام ونحوهما فحسب كما قال تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا).[20]
وهذا أمر طبيعي في البشر عموما حتى في تلك الجماعة الممتازة وذلك المجتمع المشرق بنور الايمان والحافل بالآيات والمعجزات فهناك من الناس من تجذبه الظواهر والشعارات ويؤمن بالله تعالى ولكنه ليس مطمئنا في قرارة نفسه بدرجة عالية حتى ان منهم من كان يتجسس للمشركين ويخبرهم عن أسرار دار الاسلام العسكرية ولم يكن ذلك الا تحسبا ليوم ربما ينقلب فيه الامر ويعود المشركون الى زعامة المجتمع فكان الرجل يخدمهم بذلك ليكون له يد عندهم.
ومن هذا القبيل ما يلاحظ من بعضهم أنه لم يظهر منه أي تشدد بالفعل في مقابلة المشركين ولم يرم أحدا منهم بحجر في كل غزوات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بالرغم من الحضور في جميعها او اكثرها وكان في المقابل يتبجح بضرب اعناق بعض الاسارى حيث كان يعلم أن الرسول صلى الله عليه واله وسلم لا يأذن به. ولا غرابة في ذلك فضعف الايمان بين المؤمنين أمر شائع ونحن نجده في أوساطنا ايضا بوضوح.
أليس كل معجزة وحديث شيّق عن القرآن والوحي والرسالة والامامة يبعث فينا قوة للايمان واطمئنانا أكثر؟! فلو كنا قد بلغنا الى مرحلة نؤمن بالله تعالى كما نصدّق الامور المحسوسة كالشمس في رائعة النهار لم نستزد ايمانا بهذه الامور وليس منا أحد لا يستزيد ايمانا بذلك بل اننا نستزيد ايمانا بأقل شيء كما لو صادف في الاستخارة بالقرآن الكريم أن خرجت لنا آية واضحة كأنها نزلت في هذا الشأن فتجد قلوبنا تخشع لها وتطمئن بها أكثر مما تطمئن بمضمون الآيات والادلة والبراهين العقلية والعلمية.
بل نجد ان بعض المؤمنين يتضعضع ايمانه ويتخلله الشك والشبهة بامور تافهة وطائف ضعيف من الشيطان وينسى كل ما رآه من الآيات والمعجزات وكل ما تعلمه من الكتاب والحديث بمجرد أن يسمع رجلا ضعيفا معقّدا ومقعدا لا يسمع ولا ينطق ولكنه يدعى عالما كبيرا في الفيزياء قد أنكر وجود الخالق لشبهة مضحكة وهي أنه كان يتصور قبل هذا أن الكون خلق من أجل الانسان وربط ايمانه بالله تعالى بهذا الامر ثم انكشف له أن هناك في الكون كواكب يحتمل أن يكون فيها موجودات كالبشر!!!
ومهما كان فانتشار ضعف الايمان بين المؤمنين في حد ذاته أمر طبيعي لا ينبغي أن نستوحش منه. ولكن المراد به هنا ايجابه للتقاعس عن أداء الواجب تجاه الدين ونشره والدفاع عنه في مقابل أعدائه المتمكنين مالا وقوة. فكان الواجب على النخبة المؤمنة التضحية بالمال في سبيل اعلاء كلمة الحق. وليس ذلك لحاجة فالله تعالى غني عن عباده الا أنه لا يكمل الانسان ولا يكمل المجتمع اذا لم يبادر الى الانفاق في سبيل العقيدة والدين.
ولو لم تتحقق هذه الظروف او كان الرسول صلى الله عليه واله وسلم مستغنيا عن اموالهم بصورة طبيعية بحيث لم يكن يطالبهم بالانفاق لبقوا على هذا المرض والضعف ولم تكمل نفوسهم و كمال النفوس هو الهدف الاسمى من الدين وارسال الرسل وانزال الكتب. وهذا ما تشير اليه الآية الكريمة وتحاول علاجه ومنشأ الاستنكار ليس وجود الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بين أظهرهم كما قيل في الوجه الاول بل كونه قد أخذ ميثاقهم حينما أخذ منهم البيعة. ومن هنا فان قوله تعالى (وقد أخذ ميثاقكم) مكمل لما يستوجب الاستنكار وليس وجها آخر للاستغراب.
فالمعنى – والله العالم – ما لكم لا تؤمنون بالله وبما وعدكم من الجزاء يوم القيامة فلا تنفقون في سبيله مع أن الرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ منكم الميثاق والعهد حين البيعة ان كنتم مؤمنين اي كنتم مبايعين الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم كما هو مقتضى الايمان. فالمراد بدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الى الايمان دعوته الى هذه الدرجة منه التي تستتبع الانفاق في سبيله بل التضحية. والمراد باخذ الميثاق أن بيعتهم له صلى الله عليه وآله وسلّم يستلزم تعهدهم بهذا الانفاق والتضحية.
وتبين بما ذكرناه أن التقييد بقوله (ان كنتم مؤمنين) لاحراز موضوع المبايعة وهي الميثاق المشار اليه قبل ذلك واما ان اريد به ميثاق عالم الذر كما قيل فانه لا يختص بالمؤمنين بل هو مأخوذ من كل انسان. وتبين ايضا أن الضمير في (اخذ) يعود الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم كما هو ظاهر السياق ايضا.
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ... هذه الآية تحثّهم ايضا على الايمان بالله تعالى ذلك الايمان الذي يستتبع الانفاق في سبيله. وذلك بالتنبيه على أنه تعالى هو الذي ينزّل هذه الآيات على الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأنه ليس الغرض من ذلك الا اخراج المؤمنين من ظلمات الجاهلية والكفر الى نور الايمان. فلماذا هذا التقاعس عن الايمان به والانفاق في سبيله وطلب مرضاته وجزائه؟
ومن اللطيف الذي لم أجد من تنبّه له التعبير عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم هنا بالعبد والاعراض عن التعبير السابق الدال على أنه رسوله تعالى فيهم. ويبدو لي أن السبب فيه هو التأكيد على ربط المخاطبين به تعالى مباشرة لانه لا يريد في هذه الآية أن يؤكّد على دور الرسول بل على قوة ارتباطهم به تعالى ليحثّهم على الايمان به والاطمئنان بمواعيده فيعتبر الرسول هنا عبدا يرتبط بربه ليبلّغ عنه الى الناس ما يخرجهم من الظلمات الى النور ولا يذكر جهة الرسالة التي تستوجب ارتباطهم بالرسول كوليّ من قبله تعالى عليهم فان العبودية علاقة بين الانسان وربه فحسب واما الرسالة فهي علاقة بينه وبين ربه من جهة وبينه وبين الناس من جهة اخرى.
والظاهر أن المراد بالآيات القرآن الكريم لا المعجزات او ما يشملها لانها لا دخل لها في المقصود هنا وهو اخراجهم من الظلمات الى النور بحثّهم على الانفاق وانما المؤثر في ذلك هو آيات الكتاب العزيز، وهي آيات بيّنات اي واضحات وان كانت كثيرا ما تحتاج الى تفسير وتأويل لمعرفة دقائقها ولطائفها الا أن دورها في الهداية وتبديد ظلمات الكفر والجاهلية لا يتوقف على توضيح فبامكان أي فرد يتقن اللغة أن يستنير بالآيات الكريمة ويستعين بها في هذا السبيل.
ومن اللطيف ايضا التعبير في هذه الآية وغيرها من ايات الكتاب العزيز بالظلمات جمعا والنور مفردا فالظلمات كثيرة تشمل شح النفس وضعف الايمان وكل ما يوجب البعد عن الله تعالى وأما النور فهو واحد وهو الايمان الكامل بالله تعالى والركون اليه والاطمئنان بمواعيده فهذا هو الشيء الوحيد الذي يبدد ظلمات الجهل والجاهلية. ويتبين بما مرّ أن ضمير الفاعل في (ليخرجكم) يعود الى الله لا الى عبده.
وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ... هذه الجملة تدلّ بوضوح على السبب في الاهتمام بما مرّ ذكره من الانفاق في سبيل الله تعالى وأن تركه ينشأ من ضعف الايمان به. وهو أنه تعالى رؤوف بعباده يريد لهم الخير والكمال والا فلا حاجة له الى عبادتهم ولا الى ايمانهم فكيف بالاموال التي أودعهم اياها.
والرأفة والرحمة أمر واحد على ما في كثير من كتب اللغة. وفي تهذيب اللغة ان الرأفة أخص من الرحمة وأرق وفي الصحاح انها أشدّ الرحمة. وقيل ان الرحمة تصدق في ما اذا أضر الراحم بالمرحوم لمصلحته والرأفة لا تصدق في ذلك. وهذا صحيح حسب المتعارف من موارد الاستعمال فيصح ان يقال ان الطبيب قطع رجل المريض رحمة به لئلا ينتشر المرض ولا يقال رأفة به بل بالعكس يصح أن يقال في ما اذا لم يقطع رجله مع الحاجة الى قطعه انه انما ترك ذلك رأفة به وان لم تكن لمصلحته كما يلاحظ كثيرا في رأفة الابوين ولكن المراد بهما هنا امر واحد. ثم انه تعالى رؤوف ورحيم بجميع الناس لا بالمؤمنين خاصة وان كان الخطاب هنا لهم لقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ).[21]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا في سَبيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ ميراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ... الخطاب للمؤمنين في المدينة وهذه الآيات مدنية قطعا بمقتضى الجمل التالية حتى عند من ظنّ أن بعض آيات السورة مكّيّة وقد مرّ التنبيه على ذلك. والآية تحثّهم على الانفاق في سبيل الله تعالى بعد حثّهم على الايمان به وبرسوله صلى الله عليه واله وسلم في الآيات السابقة فالاستفهام للانكار التوبيخي اي ماذا حدث لكم حيث لا تنفقون في سبيل الله تعالى مع أن ميراث السماوات والارض له فقط وليس لغيره كما يفهم من تقديم الجار والمجرور. وهذه الجملة حالية.
والمراد بسبيل الله تعالى كل مورد يوصل الانسان الى رضاه وثوابه تعالى. ولكن المراد به هنا خاصة الانفاق للجهاد في سبيله تعالى وفي سبيل احياء الدين واعلاء كلمة الحق ونصرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. والدليل على ذلك الجملة التالية. والميراث اسم لما يورث وليس مصدرا لانه ليس من ابنية المصادر كما قال ابن سيدة، فالمراد أن كل ما في السماوات والارض ومنها اموالكم التي تبخلون بها لا تبقى لكم بل يرثها الله تعالى لانه يرث السماوات والارض وما فيهما قال تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)[22] فاضافة الميراث اضافة بيانية كما قاله العلامة رحمه الله.
والارث والورث في الاصل على ما في كتاب العين الابقاء على الشيء ومنه ما ورد في الدعاء (ومتّعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارثين مني)[23] اي ابقهما لي الى الموت. ومنه ايضا قولهم اورثته الحمى ضعفا اي بقي فيه الضعف حتى بعد زوال الحمى. وقيل اصله تحصيل مال او غيره بلا تعب او بلا محاسبة. وفي معجم مقاييس اللغة (هو أن يكون الشيء لقوم فيصير الى قوم آخرين ومنه الارث من الميت).
ولعل هذا الاخير هو الانسب بما يتحصل من ملاحظة موارد استعمال اللفظ في الكتاب العزيز كما يلاحظ ذلك في الآيات التالية: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ)[24] (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا)[25] (وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا)[26] (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)[27] (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ)[28] وان كان انطباق المعنى في بعض الموارد بنوع من التجوز كوراثة اهل الجنة لها.
ومهما كان فالمراد هنا التنبيه على أن الاموال التي بايديكم لا تبقى لكم وانما يرثها الله تعالى كما يرث الكون كله فاذا كانت هذه الملكية موقتة وكل ذلك الى الفناء فلماذا لا تنفقون اموالكم في ما هو الاصلح لكم وأبقى أثرا وهذا يخاطب به كل من له مال سواء كان قليلا او كثيرا وهو يحب ان يستمتع بماله بأحسن وجه فان احسن وجوه الاستمتاع هو صرفها فيما يبقى ويدوم ولذلك نجد من انفسنا الاهتمام بمستقبلنا في هذه الدنيا مع انه غير معلوم وقد لا نبقى الى امد بعيد ومع ذلك فانا نتعب انفسنا لضمان مستقبلنا ومستقبل اولادنا فان كان هذا امرا منطقيا فالاولى بنا ان نهتم بالمستقبل الدائم والحياة الخالدة حتى لو لم نؤمن بها ايمانا قاطعا ولم نتيقنها فان الامر المهم يكفي في تنجزه الاحتمال الضعيف وكلما زادت أهمية الامر قل ما يعتبر في تنجزه من قوة الاحتمال.
ولعل تكرار اسم الجلالة للتأكيد على انحصار الملكية الواقعية والبقاء والوراثة فيه تعالى وأضاف السماوات الى الارض مع أن ملكيتها ليست محط النظر هنا للاشارة الى السر في الامر وهو أن الوجود كله لله تعالى وكله الى الفناء ولا يبقى الا وجهه الكريم.
لا يَسْتَوي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ... اي لا يستوي هو ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل كما ورد ذكره في الجملة التالية فاكتفي بها عن ذكر العديل هنا. والظاهر أن المراد بالفتح فتح مكة وهذا يدل على تاريخ نزول الآيات تقريبا وأنه كان بعد الفتح وقيل المراد به صلح الحديبية كما عبر عنه بالفتح في قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)[29] ولكن الاول أقرب وذلك لان فتح مكة هو الحدث الفاصل الذي تسبب في استقرار امر الدين ودخول الناس فيه افواجا وخضوع العرب وجبابرته للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم.
ومن هنا يبدو أن الفرق بين الانفاق والقتال قبل الفتح وبعده في خلوص النية لله تعالى فان من كان ينفق قبل الفتح ويقاتل لا يأمل من ذلك التوصل الى أهداف دنيوية حيث لم يكن الافق واضحا أمام الدين الجديد وأتباعه وأما بعد الفتح فاستقر الامر وانجلت الآفاق وقويت شوكة الدين وعزيمة المسلمين.
أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا... الدرجة: المرتبة والمنزلة. والمعنى ان منزلة قربهم لدى الله اعظم من الذين انفقوا بعد الفتح او قاتلوا بعده. والسبب واضح كما مرّ وخصوصا بالنسبة للجهاد والمقاتلة في سبيل الله تعالى فانه تضحية للنفس لا يقدم عليها الا ذوو الايمان القوي والعزيمة الراسخة خصوصا في ذلك العهد الذي كان الاسلام فيه ضعيفا ولم يكن للمسلمين عتاد كامل ولا عدد كاف من المقاتلين. ومن الواضح أن الآية عامة لكل من انفق وقاتل في سبيل الله قبل الفتح ولا يختص باحد ولو كانت خاصة باحد لاختص بامير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام الذي قام الاسلام بسيفه ومجاهدته لا يدانيه في ذلك احد. ومن الغريب أنّ بعضهم ادّعى أنّ الآية نزلت في شأن من لم يقاتل ولم يقتل أحدا من المشركين ولم يرم حجرا اليهم!!!
وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى... اي المثوبة الحسنى او الدرجة الحسنى يوم القيامة. اي وعد الله الحسنى كل واحد من السابقين على الفتح في جهادهم وانفاقهم والمتاخرين. والله تعالى لا يبخس أحدا عمله مهما كان صغيرا او كبيرا ولا شك في أن الانفاق في سبيله تعالى وبالاحرى القتال والتضحية في سبيله لا يمكن أن يسقط من أعمال الانسان بل لا يسقط منها اقل عمل عمله المؤمن حتى لو كان مجرد الرغبة والشوق الى كسب رضا الله تعالى والى الانفاق والجهاد في سبيله فكيف به اذا برز ذلك في عمله وان لم يكن بمثابة عمل السابقين.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبيرٌ... اي خبير بحقيقة ما تعملون فان حقائق الاعمال تختلف بالنيات والله يعلم ما تخفي الصدور من النوايا وهذا هو الذي يقصم الظهر فلربما يكون المقاتل مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ولا يحصل على شيء من الثواب لعدم الاخلاص في عمله بل ربما يقصد الوصول الى اهداف مادية فقد كان هناك في صفوف المؤمنين منافقون ايضا وربما يكون الانسان متاخرا في الجهاد والانفاق ولكنه متقدم على غيره في الاخلاص لله تعالى وربما يكون عبد صالح في غير عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ينفق ويقاتل وله ثواب من قاتل مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بل ربما يكون أعظم.
[1] راجع التحرير والتنوير في تفسير الآية
[2] الحجرات: 14
[3] النساء: 51
[4] النساء: 65
[5] النساء: 100
[6] الاحزاب: 57
[7] التوبة: 74
[8] النور: 48
[9] التوبة: 58
[10] الاحزاب: 50
[11] ورد ذلك في صحيحة معاوية بن عمار راجع الكافي ج4 ص246 باب حج النبي صلى الله عليه واله وسلم
[12] الحشر: 9
[13] البقرة: 30
[14] الاعراف: 69
[15] يونس: 14
[16] الاحزاب: 30
[17] مجمع البيان في تفسير الاية 30 من سورة الاحزاب
[18] البقرة: 30
[19] ال عمران: 101
[20] النساء: 77
[21] الحج: 65
[22] مريم: 40
[23] الكافي ج2 ص578
[24] الاعراف: 169
[25] مريم: 40
[26] مريم: 80
[27] الانبياء: 105
[28] المؤمنون: 10- 11
[29] الفتح: 1