السورة مكية ومضامينها تدل بوضوح على ذلك، فموضوعها اليـوم الآخر والقرآن الكريم والامم السالفة، والخطاب في بعض آياتها موجّه لمشركي مكة.
الحاقة ما الحاقة... (الحاقّة) اسم فاعل من حقّ الشيء اي ثبت، فتكون صفة لموصوف مقدّر كالحادثة او الواقعة. والمشهور بين المفسرين أنّ المراد بها يوم القيامة. عبّر بها عنه تأكيدا على أنّه حقيقة قطعية لا مناص عنها، او لأنّ كلّ ما يقع فيه هو الحق، فلا يبخس أحد حقّه ولا يعتدي أحد على أحد، وكل انسان يوضع موضعه الصحيح.
وقيل: إنّ المراد الامر الثابت وهو كما ينطبق على يوم القيامة ينطبق على العذاب الدنيوي. وربما يقال إن ذلك أنسب بما سيأتي من ذكر العذاب النازل على بعض الاقوام السابقة. وربما يؤيد ذلك تغيير التعبير الى القارعة، حيث إنّ المراد بها يوم القيامة ــ كما هو واضح ــ فالانسب أن يراد بالحاقة غيره.
ولكنّ الظاهر من التهويل الواضح من الآيات هو الاول وذلك بملاحظة اعتبار نفس الكلمة آية مستقلة ثم السؤال عنها وتكرار الكلمة ثلاث مرات ثم التعبير عنه بأنّه حقيقة لا يعرفها الانسان حيث قال تعالى (وما أدراك ما الحاقّة).
والأصل في هذا التركيب هو (الحاقّة ما هي؟) والسؤال للتعجيب. وابدل الضمير بالاسم الظاهر تأكيدا على كلمة الحاقّة المؤثرة بايقاعها وبلفظها الممدّد المشدّد فاريد تعميق التأثير بالتكرار، كما كررت ثالثة بقوله تعالى (وما أدراك ما الحاقّة) ولم يقل وما أدراك ما هي؟. ومثله قوله تعالى (القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة).
هذا هو التركيب الفني لمفتتح السورتين حسبما ذكره الادباء. ولكن يبقى الكلام في اعتبار هذه الكلمة آية مستقلة في مفتتح السورتين. ومثله مفتتح سورة الرحمن. وقلنا في تفسيرها إن في ذلك عناية خاصّة حيث يذكر الاسم الكريم وبهذه الصيغة الخاصة الدالة على المبالغة في الرحمة خصوصا مع انكار المشركين لهذا الاسم، فلعل اعتباره آية مستقلة ليتهيأ السامع بما يتعقبه من صفة او خبر.
وكذلك اعتبار الحاقة والقارعة آية مستقلة، وكأنّ الكلمة جملة كاملة يصح السكوت عليها. بل لا يبعد أن يقال إنّها كذلك واقعا اي يصحّ السكوت عليها وان لم تكن جملة، فالتنبيه على الكلمة المفردة كثيرا مّا يفيد ما لا تفيده الجملة التامّة. كما يلاحظ ذلك في الموارد الثلاث.
وما أدراك ما الحاقّة... الخطاب للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم او لكل سامع وتال للقرآن. و(ما) في الموضعين استفهامية. والسؤال هنا للانكار، وهو ايضا للتعجيب، بمعنى أنّ السؤال ينفي وجود أمر يُدري الانسان ما هي الحاقة، لانها من الغيب فلا يشعر بها الانسان بحواسه، وهذا النفي يقصد به التهويل والتعجيب من تلك الحقيقة الغائبة.
وحكي عن ابن عباس انه قال (كل ما في القرآن ما أدراك فقد أدراه، وكل ما فيه ما يُدريك فقد طُوي عنه). ولعله يقصد بذلك أنّه عقّب قوله (ما أدراك) في جميع موارده بما يبين حقيقة ذلك الأمر نوعا مّا، ولم يبيّن حقيقة الامر في تعقيب موارد قوله (ما يدريك).
ففي هذه السورة عقّب هذا السؤال بآيات تبيّن عاقبة المكذّبين بالحاقة ثم بيّن بعض احوال ذلك اليوم وأهوالها. وهكذا في سائر الموارد كقوله تعالى (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) المدثر: 27-29. وقوله تعالى (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) الانفطار: 17-19. وقوله تعالى (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) القدر: 2-3. وقوله تعالى (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) البلد: 12-14.
ولم يرد (ما يدريك) الا في ثلاثة مواضع اثنتان في تحديد وقت الساعة ولا يعلم به أحد قال تعالى (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا) الاحزاب: 63، وقال ايضا (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) الشورى: 17. وواحدة لا يخاطب فيها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم بل من كان يمنعه من التوجّه الى الفقراء قال تعالى (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) عبس: 3. على ما سيأتي بيانه ان شاء اللّه تعالى.
ولعلّ منشأ الفرق بينهما هو أن نفي الدراية في الماضي لا ينافي الدراية في المستقبل، ولكن نفيها في المستقبل معناه أنّه ليس هناك شيء يدريك أبدا.
والحاصل أن هذه الجملة هنا تفيد تهويل أمر ذلك اليوم، وأنّ حقيقته مجهول للجميع، وأنّ كل ما يقال عنه ليس الا للتقريب الى الذهن، والتشبيه بما نجده هنا، والا فحقيقة ما يقع في ذلك اليوم غريب عن أذهاننا، لا نستطيع ادراكه على ما هو عليه. وهذه قرينة واضحة ــ كما ذكرنا ــ على أنّ المراد بالحاقة يوم القيامة.
كذّبت ثمود وعاد بالقارعة... الظاهر ــ كما أشرنا اليه آنفا ــ أن هذه الجملة وما تليها من بيان حال الأقوام البائدة بيان للحاقّة نوعا مّا. وكان مقتضى السياق أن يقال كذبت بها ثمود وعاد، ولكنه أبدل الضمير بالاسم الظاهر، واختار لفظا آخر ليكون فيه نوع تعريف بذلك اليوم ايضا، وهي أنه اليوم الذي تحدث فيه تلك الحادثة العظيمة.
والقرع: الضرب الشديد. وتطلق القارعة على النازلة والحادثة الشديدة قال تعالى (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ..) الرعد: 31.
والجملة بمنزلة ان يقال في توصيف الحاقة انها هي القارعة التي كذبت بها الامم السالفة فعذّبهم اللّه تعالى وأبادهم. والغرض منه تهديد المشركين بما هو شأن الاعتقاد بذلك اليوم، وأنّ اللّه تعالى يغضب على المكذّبين به.
وعاد وثمود قومان من الامم القديمة بقيت آثارهم الى ايام الرسالة المجيدة، فكان العرب يعرفون اخبارهم ويرون آثارهم، قال تعالى (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ) العنكبوت: 38. بل هي باقية الى الآن وانما غمرتها الرمال على ما يقال. ولذلك اهتم بهم القرآن الكريم ونبّه العرب على لزوم الاعتبار بشأنهم.
وقد اختلف في موضعهم، والوارد في القرآن الكريم أنّ عادا كانوا يعيشون في الاحقاف، وهي جمع حقف – بكسر الحاء – اي الكثيب الرملي المرتفع الذي فيه انحناء وتعاريج، وقلنا في تفسير سورة الاحقاف أن الظاهر أن توصيف المنطقة بذلك بلحاظ زمان نزول الآية لاستبعاد أن تكون تلك الحضارة العريقة في منطقة رملية.
وورد في القرآن ايضا انهم هم الذين بنوا مدينة ارم وانها كانت ذات أعمدة لم يخلق مثلها في البلاد. قال تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) الفجر: 6-8. وقد اكتشفت آثار مدينة قديمة بهذا الوصف في صحراء اليمن. وهناك شواهد لعلها تدل على انها هي التي سميت بارم في القرآن الكريم.
واما ثمود فهم اصحاب الحجر الوارد ذكرهم في قوله تعالى (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) الحجر: 80، وهي مدينة قديمة ورد ذكرها في اقدم التواريخ والآثار، ولعلها هي المعروفة بوادي القرى بين المدينة والشّام، وما يعرف اليوم باسم مدائن صالح على الطريق من خيبر إلى تبوك. واللّه العالم.
فاما ثمود فاهلكوا بالطاغية... من هنا يبدأ ببيان ما نزل عليهم من العذاب اجمالا نتيجة تكذيبهم للآخرة.
والطاغية صفة لما نزل بهم من العذاب ومعناها أن ما نزل لم يكن أمرا متعارفا، بل تجاوز الحد وطغى عليهم. وقد وصف عذابهم في القرآن الكريم تارة بالصاعقة كما في سورة فصلت/13، وتارة بالرجفة كما في سورة الاعراف/78 ، واخرى بأنه كان صيحة، والمعروف أنّها الصوت العالي والشديد كما في سورة هود/67.
ولا تنافي بين الآيات فالصيحة لو اريد بها الصوت فهو ملازم للصاعقة. ولكن في كتاب العين للخليل رحمه اللّه أن أحد معاني الصيحة التشقق وأحدها العذاب. والرجفة ربما يراد بها الاضطراب الحاصل من الصاعقة لا الزلزال، كما يمكن أن يحدث الامران معا فترجف الارض وتنزل الصواعق. ومهما كان من أمر فانه كان طاغيا متجاوزا الحد المألوف.
واقتصر في بيان حال ثمود بما ذكر ولم يفصّل كما فصّل في بيان ما نزل على قوم عاد. ولعل السبب هو التنوع فالاختصار يفيد سرعة الوقوع، فكأنه لم يحدث شيء في اشارة الى عدم اهتمامه تعالى بما ينزل على الطغاة من العذاب، كما قال في شأن ثمود بالذات (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) الشمس: 14-15. والتفصيل يفيد التهويل.
وأما عاد فاهلكوا بريح صرصر عاتية... الصرصر: الريح شديدة الهبوب. والاصل فيه الصَّر. وهو بمعنى الضجّة والصوت الشديد. قال تعالى (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ..) الذاريات: 29. والصرصر تكرر الصر والصوت الشديد الحاصل من شدة الريح.
وكل ما كان من هذا القبيل يدل على التكرار نحو دمدم تكرار دمّ بمعنى سوّى، ونحو زلزل تكرار زلّ اي انحرف عن مكانه، وكبكبوا تكرار كُبّ اي اسقط. وغير ذلك.
وقيل: الريح الصرصر شديدة البرد. فان كان بهذا المعنى فهو من باب الابدال نظير جفجف بمعنى جفّف، فانّ اصله الصِرّ وهو شدة البرد. قال تعالى (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ..) آل عمران: 117. والاول اولى.
والعاتية من العتوّ، والاصل فيه الاستكبار وتجاوز الحدّ. والمراد أن الريح كانت شديدة بالغة الشدة، او كانت شديدة البرد، ولم تكن كالعواصف الطبيعية.
وفي بعض روايات العامة والخاصة تفسير العتوّ بأنها خرجت عن أمر الملك الموكل وطغت عليه. وهو غير معقول فان الخروج عن أمر الملك هو الخروج عن ارادة اللّه تعالى وهو مستحيل، مع أن الآية التالية تصرّح بأنها كانت مسخّرة عليهم.
سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما... التسخير في الاصل بمعنى الإذلال، قال في معجم مقاييس اللغة (أصلٌ مطّرد مستقيم يدلُّ على احتقار واستذلال..) فيطلق على الاستهزاء من أحد وعلى إجبار الشخص او الشيء وإكراهه على فعل.
ولعل التعبير بالتسخير هنا لدفع توهّم أن عتوّ الريح كان استكبارا منها على أمر اللّه تعالى. والغريب أنه مع هذا التصريح راق لصنّاع الحديث أن يصنعوا ما يدل على خلاف ذلك كما مر. وقوله تعالى (عليهم) من جهة تضمين التسخير معنى التسليط.
و(حسوم) جمع حاسم بمعنى قاطع، اي كانت الايام واليالي حاسمة وقاطعة لأثرهم فلم يبق منهم أحد. او مصدر بمعنى القطع فيكون مفعولا لاجله، أي إن تسخير الريح عليهم هذه المدة كان لحسم دابرهم واستئصال شأفتهم.
وقيل: ان الحسوم بمعنى التتابع. وليس ذلك باعتبار أنه معنى اللفظ في اللغة بل باعتبار أن الكيّ الذي يستخدم للعلاج لا يؤثر الا اذا كان متتابعا، وحيث انه يوصف بالحسم من هذه الجهة، اي لا يكون حاسما وقاطعا للداء الا اذا تتابع، فاستعمل الحسم بمعنى التتابع. وحمل الآية عليه بعيد جدا.
وربما يستغرب بقاء العذاب عليهم هذه المدّة مع أنّ الله تعالى قادر على أن يبيدهم في لحظة. وربما يتصور أن هذا إمهال لهم لعلهم يرجعون!!
ولكن الامهال ينتهي بنزول العذاب. قال تعالى (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) هود: 8. وقال تعالى (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا..) الانعام: 158.
وقيل: إنّ التطويل من أجل زيادة التعذيب وأنهم لم يموتوا الا في اليوم الاخير. ولا دليل عليه من القرآن او الروايات المعتبرة.
والظاهر أن عذاب الله تعالى على قسمين فهناك من العذاب ما يتبين عليه آثار الاعجاز وأنّه غير طبيعي كرمي الابابيل بالحجارة على رؤوس اصحاب الفيل ولعل منه عذاب قوم لوط عليه السلام حيث جعل الله عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل وبعض العذاب يبدو أمرا طبيعيا كطوفان نوح عليه السلام ولذلك اشتبه الامر على ابنه وكالعذاب الذي أنزله الله تعالى على كفار قريش حيث قتلوا بأيدي المؤمنين كما قال تعالى (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) التوبة: 14.
ومن هذا القبيل عذاب قوم عاد ولذلك اشتبه عليهم الامر ايضا قال تعالى (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ..) الاحقاف: 24- 25.
فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية... اي لو كنت شاهدا لرأيتهم صرعى أي مطروحين على الارض. وقوله (فيها) اي في تلك الليالي والايام. وشبّههم بأعجاز النخل ولعله لعظم أجسامهم. وعجز النخل آخره المتصل بعروقه. وخاوية اي خالية. والتوصيف بالخواء من جهة أن الاجسام وان كانت عظيمة كأعجاز النخل الا أنّها كانت خالية من الروح، فكأنها أعجاز نخل بقيت زمانا طويلا فاصبحت قشرا فارغا.
وفي سورة القمر تشبيههم بأعجاز نخل منقعر وقد مرّ تفسيره.
فهل ترى لهم من باقية... استفهام يفيد النفي. والباقية صفة بتقدير النفس اي لا ترى لهم نفسا باقية، او مصدر بمعنى البقاء، اي لا ترى لهم بقاءا فهو كقوله تعالى (وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى) النجم: 51. و(من) زائدة تفيد التأكيد.
والظاهر أنّ الخطاب هنا ايضا كالخطاب في الآية السابقة (فترى القوم فيها صرعى..) اي لو كنت حاضرا ما كنت ترى منهم أحدا باقيا ولا يراد عدم بقائهم الى زمان نزول الآية كما هو واضح فإنّ ذلك لا يستند الى العذاب لبعد الزمان.
وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة... بيان لحال بعض الاقوام السابقة المشاركين لعاد وثمود في التكذيب بيوم القيامة، وان لم يذكر هذه الصفة فيهم الا أنّ عطف قصتهم على قصة عاد وثمود يفيد ذلك.
وخصّ بالذكر فرعون ــ وهو فرعون موسى عليه السلام ــ لاهتمام العرب بشأنه، وكونه معروفا لديهم بالقدرة والقوة، ولاهتمام القرآن بشأن اليهود لقربهم من مقر اقامة العرب، وتأثرهم بثقافتهم وعلمهم، ولأن موسى عليه السلام تمكن من تشكيل سلطة رسالية كالرسول الاكرم صلى اللّه عليه وآله وسلّم.
وأشار في الآية الى امم اخرى قبل فرعون من دون ذكر اسمهم. والظاهر أنّ المراد بالمؤتفكات قوم لوط عليه السلام. وخصّهم بالذكر لأن العرب كانوا يعرفونهم ويعرفون قصّتهم ويرون آثارهم، قال تعالى (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا..) الفرقان: 40 وقال ايضا (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) الصافات: 137 – 138.
والمؤتفكات: المنقلبات، والافك هو الصرف والقلب، ومن هنا سمي الكذب افكا، وقد مرّ ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى) النجم: 53،. وقد قال تعالى بشأنهم: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) هود: 82، وهو كناية عن التدمير الكامل. ولعل الجمع هنا باعتبار انها كانت ثلاث قرى متقاربة كما قيل، والله العالم.
والخاطئة اما مصدر كالخطيئة اي الذنب، او صفة لمقدر اي الافعال الخاطئة او النفس الخاطئة. والغرض الاشارة الى أنهم أخطأوا الطريق الصحيح.
فعصوا رسول ربّهم فأخذهم أخذة رابية... الفاء لبيان الخطأ الذي اجمل ذكره في الآية السابقة. فخطؤهم جميعا هو عصيان الرسول الذي جاءهم من ربهم، والمراد جنس الرسول فلكل قوم رسوله، ومن هنا أتى باللفظ مفردا وللتنبيه على وحدة الرسالة.
والرابية من الربو بمعنى العلو والارتفاع. ومنه الربا بمعنى الزيادة. والغرض أن اللّه تعالى أخذهم ــ اي أهلكهم ــ أخذة تختلف عن الاخذ المتعارف، فان الاخذ بمعنى الاهلاك عام لكل البشر، ولكل المجتمعات، ولكن هؤلاء الاقوام لم يهلكوا بصورة طبيعية، بل كان هلاكهم مرتفعا ومتميزا عن هلاك عامة الناس بمعنى كونه غير طبيعي.
ويمكن أن يكون الارتفاع كناية عن الشدة.
انا لمّا طغى الماء حملناكم في الجارية... إشارة لما حدث لقوم نوح عليه السلام من الطوفان والغرق، ولكن في صيغة امتنان على المجتمع البشري، حيث لم يقض الغضب الالهي على كل البشر، بل حمل بعضهم في الجارية ــ وهي السفينة ــ ليبقى النسل البشري منهم على مرّ الدهور.
وقوله (طغى الماء) اشارة الى ما أصاب القوم من الغرق بنزول المطر الشديد وفوران العيون بحيث غمر الماء كل مساكن البشر آنذاك.
وعبّر عن حمل الاسلاف بحمل المخاطبين فقال (حملناكم) لأنهم السبب في وجودهم ومثل ذلك قوله تعالى (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) يس: 41، على ما مر بيانه في تفسير السورة المباركة.
لنجعلها لكم تذكرة وتعيها اذن واعية... اللام للتعليل. والمراد بيان حكمة مترتبة على ما أشار اليه من حمل الاسلاف على السفينة، قال المفسرون: والحكمة أن يكون هذا الحمل تذكرة للانسان، فيتذكّر دائما أن اللّه تعالى أنعم عليه بالبقاء والاستمرار بهذا الحمل. وعلى ذلك فالتأنيث في الضمير ــ على ما قالوا ــ باعتبار رجوعه الى تلك الفعلة اي الحمل.
ولكنه بعيد عن ظاهر اللفظ. والظاهر أن الضمير يرجع الى الجارية، وهي السفينة فهي بذاتها تذكرة للانسان. وذلك باعتبار ما ورد في الآيات والاخبار والتاريخ المنقول اجمالا في التوراة وغيرها من الكتب القديمة أن البشر في ذلك التاريخ السحيق اُهلك بالطوفان ونجا قسم منهم بركوب السفينة فتكون السفينة بنفسها تذكرة للبشرية.
كما أنها تذكّر الانسان بنعمة اخرى من اللّه تعالى وهي صنع السفينة فانها كانت أول سفينة صنعها البشر بوحي من اللّه تعالى. والى ذلك أشار تعالى بقوله (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) يس: 42. على ما ذكرناه في تفسير الآية الكريمة.
وهي ايضا تذكرة بالواحها التي بقيت للاجيال المتأخرة آية وعلامة على ذلك الحدث العظيم. وقد مرّ بعض الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) القمر: 15.
وعلى ذلك فالضمير في قوله تعالى (وتعيها) يعود الى التذكرة. والوعي: الحفظ. ووعي الاذن كناية عن الحفظ في النفس وانما عبر عنه بوعي الاذن بعناية أنه أمر مسموع يحفظه السامع بكل شؤونه.
وأتى بالاذن مفردا نكرة مما يدلّ على الوحدة كأنّه يكتفي بأن تعيها اذن واحدة فقط، وفي ذلك إشعار بقلة من يعي ما يذكّر به الوحي. نظير قوله تعالى (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ..) الحشر: 18. اي نفس واحدة للاشارة الى أنه قليل بين الناس.
وقد ورد في أحاديث كثيرة من طرق العامة والخاصة تفسير الاذن الواعية بأمير المؤمنين عليه السلام. ففي اصول الكافي عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: (لما نزلت: "وتعيها اذن واعية" قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم: هي اذنك يا علي).[1] ولكن السند ضعيف.
وفي تفسير جوامع الجامع للطبرسي مرسلا عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم (انه قال لعلي عليه السلام عند نزول هذه الاية: سألت اللّه عز و جل ان يجعلها اذنك يا علي، قال: فما نسيت شيئا بعد، وما كان لي ان انسى).
وغير ذلك من الاحاديث المجموعة في تفسير نور الثقلين عن الشيعة وفي الدر المنثور عن العامة.
والحديث مهما كان محمول على أنّه عليه السلام كان أوعى الخلق وأحفظهم لما يلهم به من الله تعالى او يلقى اليه من العلوم الالهية عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم او يفهمه من القرآن المنزل، فإنّ الفاصل بينه عليه السلام وبين غيره من الصحابة كبير جدا بحيث لا يطمع أحد في اجتيازه فكأنّ الاذن الواعية حقّا في ذلك العصر اذنه فقط.
[1] الكافي ج1 ص624<