يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية... الخطاب للناس جميعا. والعرض معناه بسط الشيء لملاحظة الآخرين كعرض المتاع والجيش والقوة البدنية ونحو ذلك. والخافية ما يقتضي بطبعه الخفاء. والمراد أن الاسرار تكون علنا ذلك اليوم فيتبين أهداف الانسان ومقاصده وما يخفي في نفسه من حب وبغض وغير ذلك. قال تعالى (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) الطارق: 9.
وليس المراد أنها لا تخفى على اللّه تعالى يومئذ فانه يعلم الغيب، ولا يعزب عن علمه شيء، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) آل عمران: 5، وانما المراد أنها تكون معلنة للجميع.
نعم ربما يتوهم ذلك من قوله تعالى (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللّه مِنْهُمْ شَيْءٌ..) غافر: 16. وقلنا في تفسيرها أن الانسان ربما يرى نفسه مستخفيا عن ربّه في بعض شؤونه، ويرى ذلك اليوم ويشعر أنه عارٍ عن كل ما يستره ويستر خباياه تماما.
وسرّ انكشاف كل شيء هو تحول في الانسان، فهو هنا محجور عليه، وإدراكه محدود بما يصل اليه عن طريق حواسه، ولا يمكنه إدراك شيء مباشرة الا نفسه، فانه يدركها مباشرة لاتحاد العاقل والمعقول. ولكنه يوم القيامة يخرج عن هذا المحبس، وتكون نفسه طليقة غير محبوسة في قفص الجسم، فيدرك كل الحقائق مباشرة. قال تعالى (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ق: 22.
فأما من اُوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه... الفاء للتفريع على العرض المذكور في الآية السابقة، و(أما) لتفصيل العرض. وإيتاء الكتاب باليمين كناية عن ايجابه للسعادة، فان العرب كانت تتفاءل باليمين وتتشاءم بالشمال. ومن هنا عدّ الناجون يوم القيامة ــ في سورة الواقعة ــ اصحاب اليمين، والهالكون اصحاب الشمال.
والمراد بالكتاب صحيفة عمل الانسان. والكتاب بمعنى المكتوب. وكتب اي جمع. فهو شيء جمع فيه كل اعمال الانسان، وكل ظروف عمله ونواياه وتبعاته. فربما يكون لعمل الانسان تبعة سيئة او حسنة تستمر قرونا. ولا يعلم أحد غيره تعالى ما هي حقيقة هذا الكتاب، وكيف يحتوي على كل ذلك، وكيف يبرزه لاهل المحشر. ولعلّ التعبير كناية عن ظهور أعماله للجميع كظهور غيرها من الحقائق.
و(هاؤم) اسم فعل بمعنى (خذوا) ومثله (هاكم). والتقدير هاؤم كتابي اقرأوا كتابي، فحذف المفعول في الجملة الاولى لدلالة الثاني عليه.
والهاء في (كتابيه) تسمى هاء السكت يؤتى بها في آخر الكلمة للوقف. وتحذف حين الوصل، ولكن القراءة على اثباتها حتى مع الوصل. ومن هنا قال في الكشاف: استحب الوقف لاثباتها.
والخطاب لأهل الموقف كما قيل، ولكن لا حاجة الى فرض مخاطب، فهذا تعبير يراد به فرحه وابتهاجه بما يجده في كتابه، وافتخاره بما عمل في الدنيا، وعدم تستّره من الناس في ذلك اليوم العصيب الذي يفتضح فيه الانسان، وتنكشف جميع عوراته، وكل ما حاول إخفاءه عن الناس، بل حتى عن نفسه في ما كان يقصده لاشعوريا، ويتحرّج من أن يكون كذلك في واقع الامر حتى لو لم يعلم به أحد.
ويبدو أنّ هذا انما يحدث بعد تكفير السيئات، كما قال تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ..) النساء 31، وغيرها من الآيات، وبعد تبديل السيئات الى حسنات، كما قال تعالى (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللّه سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ..) الفرقان: 70. والا فلا يبقى أحد مصداقا لذلك الا من عصمه اللّه تعالى.
إنّي ظننت أنّي ملاق حسابيه... المعروف بين المفسرين أنّ الظن بمعنى اليقين. وانما ذكروا ذلك لأن المؤمن ينبغي أن يكون متيقنا بالآخرة.
ولكن الظاهر أنه ليس كذلك في اللغة واستعمالات العرب. فلعل المعنى في الاصل الاعتقاد غير المستند الى دليل، كالحاصل من الالقاءات والخطابات والارشاد الديني وان استوجب السكون والاطمئنان. ويقابله العلم، وهو الحاصل من الادراك المباشر، او الادلة القطعية التي لا تبقي مجالا لاحتمال الخلاف نهائيا.
ومن هنا فان المؤمن في الدنيا وان حصل له اليقين بملاقاة الحساب، الا أنه حيث كان مستندا الى متابعة النصوص، والايمان بما ورد في كتب السماء من دون أن يستند الى رؤية واحساس، بل حتى الى أدلة قطعية عقلية، عبّر عنه بالظن.
والمراد هنا أنّ المؤمن حيث كان معتقدا بالآخرة والحساب فانه لم يسترسل في اعماله ولم يتّبع أهواءه، ولذلك حسنت أعماله.
ويمكن أن يكون التعبير بالظنّ للاشارة الى كفاية ظنّ الحساب واللقاء في الالتزام والتقيّد بالدين اذ من المنطقي أن يدفع الانسان الضرر عن نفسه، وكلما كان الضرر أبلغ وأهم وأدوم كفى في لزوم دفعه أقل احتمال. ومن هنا فان الانسان الحكيم يوازن دائما بين أهمية المحتمل وقوة الاحتمال.
فهو في عيشة راضية... الفاء للتفريع، اي حيث كان هكذا عمله فهو في عيشة راضية. والعيشة مأخوذة من العيش، وهو الحياة كما قالوا. وفي المفردات أن العيش أخصّ من الحياة اذ لا يطلق على اللّه تعالى أنه عائش ويطلق الحيّ عليه تعالى. ولا يبعد من ملاحظة الاستعمالات أن يكون العيش بمعنى الاستمتاع بالحياة لا نفسها.
ومهما كان فالعيشة من حيث الصيغة كالجِلسة لبيان نوع خاص من التعيش، ولذلك لا تأتي هذه الصيغة الا موصوفة. و(راضية) صفة صاحبها اسند اليها مجازا. وقيل انها بمعنى مرضية. وقيل انها بمعنى ذات الرضا كاللابن والتامر لمن يبيعهما.
في جنة عالية... بدل عن الجملة السابقة وبيان للعيشة الراضية. قيل: المراد بعلوّها كونها في السماء. وهو بعيد. وقيل: المراد كونها على مكان مرتفع، كقوله تعالى في وصف جنة في الدنيا (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ..) البقرة: 265، والعلوّ صفة ممدوحة في الجنان. وقيل: المراد علوّ قدرها حيث إنّ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
قطوفها دانية... قطوف جمع قطف ــ بكسر القاف ــ اي ما يقطف من الثمار، ودنوّها بمعنى قربها من متناول ايدي اصحاب الجنّة. وفي الجمع بين العلوّ والدنوّ طباق.
كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الايام الخالية... خطاب لهم من اللّه تعالى بتقدير القول اي يقال لهم... او انه خطاب مفترض يحكي حالتهم، حيث انهم مشغولون فيها بالاكل والشرب فكأنهم خوطبوا به.
والهنيء صفة للاكل والشرب اي اكلا هنيئا وشربا هنيئا. والهنيء كل ما يأتيك بلا مشقة. ومنه الهِنء ــ بكسر الهاء ــ اي العطية. والهنيء من الطعام والشراب ما لا يتعقبه الم او مغص او نحو ذلك.
والإسلاف: العمل في ما سلف، اي مضى من الزمان. والخالية اي الماضية. يقال ذلك للزمان السابق باعتبار خلوّ الحال عنه، وهذه ايضا صفة لغير من هي له لأن الخلوّ صفة لهذا الزمان لا لتلك الازمنة.