مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وأما من اُوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم اُوت كتابيه... إيتاء الكتاب بالشمال كناية عن اعلامه بشقائه وبؤسه. وقد مر معنى الكتاب.

و(ليت) للتمني. والانسان يتمنى هناك ما لا يحصل له ، فهو مجرد تألّم واظهار للرغبة والميل الباطني. و(ياليت) اي يا قومي ليت.. وقيل: ان (يا) في مثل ذلك حرف تنبيه. والقول قد يكون لسان الحال من دون ان يصدر قول منهم.

وهكذا يتمنى الانسان البائس هناك لو لم يؤت كتاب عمله. وأحرى به أن يتمنى لو لم يكن عمل ما عمل، ولكن طبيعة الانسان تقتضي أن يحاول إخفاء قبائحه، ويبدو أنّ الكتاب يفضحه بين الناس، ومن هنا جاء استياؤه، والا لم يكن يهتمّ بما صدر منه من جرائم في الحياة الدنيا، بل لو اُعيد اليها لأعادها.

ولم أدر ما حسابيه... وايضا يتمنى أن لا يعلم حسابه، ولا يتمنى تركه لما يحاسب عليه. ولا يقول (ولم أدر ما عملي) لأنه يعلم عمله منذ عمل، ولكنه ما كان يعلم نتيجة عمله وكيفية محاسبته. وهناك يتبين للانسان فظاعة اعماله ونتائجه السيئة، فلربما يتصور الانسان في الدنيا أن كلمة قالها في محضر من الناس لا قيمة لها، ولا يترتب عليها محذور، ولا يعلم أنّ قرونا بعد ذلك يبقى أثر تلك الكلمة، كبعض ما قاله بعض الناس بمحضر من الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم مما منعه من كتابة الوصية، وبقي هذا الاختلاف والانقسام في الامة، وحرمانها من وصية رسولها الى يوم ظهور الامام المهدي عليه السلام.

ياليتها كانت القاضية... القضاء في الاصل يفيد القطع، ومنه القضاء في الحكم، اي الفصل وقطع النزاع. والمراد بالقاضية هنا المهلكة. ومنه ما في قوله تعالى (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ..) الزخرف: 77. والظاهر أن الضمير يعود الى الموتة الاولى المعلومة من السياق، فهو يتمنى لو كان موته قاضيا وقاطعا لا يبقي له اثرا. ومعنى ذلك استياؤه من الحياة بعد الموت.

ما أغنى عنّي ماليه * هلك عنّي سلطانيه... مما يظهر للانسان في تلك النشأة تبيّن خطئه في ما يوجب سعادته فهو كان يعقد الآمال بالمال والسلطة، والآن يتبيّن له أنّهما لا يغنيان عنه شيئا يوم حاجته الشديدة. فالمال يغني الانسان في الدنيا أياما قلائل، ولا ينفعه يوم شدّته وبؤسه في تلك الحياة الابدية. ولا سلطان هناك لأحد الا للّه الواحد القهار.

  وهلاك السلطة والقوة كناية عن ذهابهما بلا رجعة. ويحتمل ان تكون السلطة كناية عن الحجة والدليل، فيكون تحسّره من جهة أنّ بطلان حجّته ومنطقه أصبح واضحا.

خذوه فغلّوه ثم الجحيم صلّوه... أمر من اللّه تعالى للملائكة يوقف هذا الهذيان والاسترسال في التمنيات التي مضى وقتها واصبحت من المستحيل. و(غلّوه) اي اجعلوه في الاغلال. والغلّ: الجامعة التي يربط بها العنق باليد.

والجحيم: النار العظيمة الشديدة التأجّج والالتهاب. والتصلية اذاقته حرارة النار ووهجها.

ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه... وهذا بعد تغليله ووضع الجامعة في عنقه وتصليته النار. ومنه يعلم أن هذه السلسلة في الجحيم. والذرع: الطول. اطلق عليه لانهم كانوا في الغالب يقدّرون طول القماش ونحوه بالذراع. والذراع ما بين المرفق ورؤوس الاصابع. والسلسلة حلقات مترابطة بعضها في بعض. والإسلاك: الادخال. والمعنى وبعد ذلك أدخلوه في سلسلة طولها سبعون ذراعا.

قيل: ان التعبير بالسبعين للتهويل لانّهم يعبّرون بالسبع والسبعين عن الكثرة. ويمكن أن يكون إسلاكه في هذه السلسلة تعبيرا عن احاطة أعماله به من كل جانب.

انه كان لا يؤمن باللّه العظيم... تعليل لهذا العذاب العظيم. ولم يقل (انه لم يؤمن) مع أنه أخصر لأنّ هناك فرقا بين أن لا يؤمن وأن يكون لا يؤمن، فإنّ هذا التعبير يدل على الاصرار والاستمرار. اي مهما رأى آيات اللّه تعالى في الكون وفي نفسه، ومهما دعي الى الايمان به تعالى عن طريق الرسل والاولياء والدعاة، ومهما قرأ في الكتب ما يدعو الى الايمان باللّه أصرّ على كفره وانكاره.

ولعلّ توصيفه تعالى بالعظمة ليناسب عظمة العذاب الذي ذكر في الآيات السابقة.

ولا يحضّ على طعام المسكين... الحضّ هو الترغيب في الشيء بمختلف السبل. والطعام اسم لما يؤكل، فهنا تقدير اي لا يحضّ على بذل طعام المسكين. والمسكين مأخوذ من السكون، اي من أسكنه الفقر فلا يستطيع طلبا للرزق. ولذلك قيل: إنه أشدّ حالا من الفقير.

وعدم الحضّ على إطعام المسكين غاية في البخل وخلوّ القلب من الرحمة، لأنّه فضلا عن عدم اطعامه بنفسه لا يحضّ غيره ايضا على ذلك، ولأنّه يمتنع من بذل الطعام وهو أرخص شيء، وحاجة الانسان والحيوان اليه أشدّ من كل شيء، اذ به قوام حياته، ولأنّ الذي يمنع عنه الطعام من أشدّ الناس فقرا، حيث قد أقعده الفقر عن الحركة.

ويمكن أن يكون المراد بالتركيز على الحضّ كما في عدة من الآيات التأكيد على أنّ المطلوب أن يكون إطعام المسكين والاهتمام بشأن الفقراء ظاهرة اجتماعية يهتمّ به الناس بمختلف طبقاتهم، حتى الفقير نفسه يساعد من هو أفقر منه وأحوج. فالتعاون الاجتماعي هو الهدف الأسمى، لا مجرّد رفع الحاجة عن محتاج في مورد خاص.

ويمكن ايضا أن يكون المراد بيان أقلّ ما يعتبر اهمالا بأمر الفقراء وهو عدم حثّ الآخرين على إطعامهم، فهناك مراتب في الظلم على الفقراء والمساكين، أشدّها ظلما أخذ أموالهم بمختلف الأعذار، سواء ما يرتكبه الجبابرة الطغاة من سلبهم أموالهم، وقطاع الطرق، والذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، ويأتي بعده منعهم حقوقهم الواجبة كالزكاة والصدقات، ومن ذلك ما اذا رأى الانسان محتاجا جائعا وهو قادر على اطعامه فامتنع. ثم يأتي في النهاية من لا يحثّ الآخرين على الاطعام وان كان لا يرتكب شيئا مما مر.

فان كان هذا العذاب والعتاب لمن كان لا يحثّ فقط على طعام المسكين، فكيف بمن ظلمهم حقهم، او غصب اموالهم، او تسبب في انتشار الفقر والجوع في المجتمع؟!

ومن اللطيف أنه تعالى ذكر أمرين لاستحقاق الغلّ والسلسلة يوم القيامة، أحدهما يعود الى معتقده وهو الايمان بالله تعالى، فمن دونه ليس للانسان أي قيمة وأي حق. والآخر يعود الى شأن اجتماعي في غاية الاهمية، ليس هناك في العلاقات الاجتماعية أهم منه، مع أن الناس غالبا يغفلون عنه، وهو اهمال أمر الفقراء وخصوصا الجياع منهم.

ولو قيل: إنّ اللّه تعالى أنعم على كثير من الكفار في هذه الدنيا، لاهتمامهم بهذا الامر ومحاربتهم للفقر والجوع وشيوعهما لم يكن بعيدا.

وقد ورد التأكيد على هذا الامر في آيات كثيرة:

منها ما ورد فيه الحضّ ايضا كقوله تعالى (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) الماعون: 1-3، والدعّ: الدفع الشديد. والمراد الاستهانة باليتيم. ويلاحظ أن موضوع سورة الحاقة هو تكذيب يوم الدين الذي ابتدأ به في هذه السورة ايضا.

ومنها قوله تعالى (كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) الفجر: 17- 18، وهنا ايضا ذكر عدم اكرام اليتيم قبل الحضّ على طعام المسكين. وفي المحاضّة عناية زائدة وهي حضّ كل أحد غيره في طعام المسكين. والوجه في تخصيص هذه السورة بذلك أن موضوع الكلام هنا المجتمع لا الفرد، فسورة الفجر تندّد بمجتمع لا يُكرَم فيه اليتيم، ولا يُهتَمّ بطعام المسكين.

ومنها قوله تعالى (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) المدّثّر: 42-46، وفي هذه السورة ايضا ذكر السبب في دخول سقر عدم الصلاة وهو مساوق لعدم الايمان، ثم عدم اطعام المسكين، والتكذيب بيوم الدين.

الى غير ذلك من الآيات.

فليس له اليوم هاهنا حميم * ولا طعام الا من غسلين * لا يأكله الا الخاطئون... الحميم: الصديق او القريب المشفق، مأخوذ من الحَمَم بمعنى الحرارة. والغِسلين قيل إنه مأخوذ من الغَسل، وهو الغسالة، اي ما ينفصل عن الاجسام حين غسلها، ويشتمل على أوساخها وفضولاتها. وقيل إنه في القرآن بمعنى ما يخرج من اجسام اهل النار من الصديد.

ولكن لا يبعد أن يكون مصطلحا خاصا بالقرآن الكريم يرتبط بما يعود على أصحاب النار من نتائج أعمالهم فأهل الجنة ينالون الفواكه المتنوعة نتيجة عملهم الصالح، وأهل النار ليس لهم من عملهم الا ما تشمئزّ منه النفس ويستخبثه الطبع، وهو ليس أمرا ماديا حتى يفسر بالقيح والصديد، بل هو نتيجة الظلم والاعتداء على الناس. وحيث لا يوجد في اللغة ما يعبّر عنه اصطلح له القرآن كلمة صاغها من مفهوم مشابه مادّي.

ومثل ذلك السجين والعليين والاعراف والزقوم وغير ذلك.

ويبدو أنّ الجزاءين يرتبطان بما مرّ من عدم الايمان وعدم الاطعام بنحو اللفّ والنشر المرتّب. فهم حيث لم يؤمنوا بالله ترفضهم الكائنات بأجمعها، فليس لهم في ذلك اليوم وفي تلك النشأة حميم يبادلهم المودة، وحيث إنّهم لم يطعموا المساكين فلا طعام لهم هناك.

وربما يتوهم التنافي بين حصر الطعام في غسلين والحصر في قوله تعالى (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) الغاشية: 6، بل وقوله تعالى (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) الواقعة: 52.

وهناك محاولات لمنع التنافي، والصحيح عدم التنافي أساسا، لأنّ شيئا ممّا ذكر لا يعتبر طعاما واقعا. ولذلك قال تعالى في وصف الضريع (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) الغاشية: 7، ولا يمكن أن يعتبر الشيء طعاما اذا لم يغن من جوع، فالحصر في هذه الآية بمعنى نفي اي طعام يطعمونه. وهذا كقول النابغة الذبياني (وَلا عَيبَ فيهِم غَيرَ أنَّ سُيُوفَهُم * بِهِنَّ فُلُولٌ مِن قِراعِ الكَتايِبِ) فان ما ذكره مما يمتدح به وليس عيبا.

والخاطئ مرتكب الخطايا وليس بمعنى المخطئ اي غير المتعمد.<