سورة مدنية كما هو واضح من آياتها التي تتضمن قصة بني النضير من يهود المدينة وإجلائهم عنها وتبين طريقة تقسيم اموالهم ثم تتعرض لبعض هفوات المنافقين في نفس المجال وتنتهي بتمجيد الله تعالى وذكر اسمائه الحسنى.
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ... مر الكلام في نظيرة هذه الآية في تفسير سورة الحديد وانما الاختلاف بتكرار الموصول هنا في قوله (وما في الارض) وهذا مما يؤكد على تعميم الحكم لجميع أجزاء الكون. ولعل السر في الاختلاف هو أن التسبيح هناك ناظر الى جهة كونية ومقدمة لبيان صفات الله سبحانه وهنا الى جهة ارضية لكون الآية مقدمة لبيان أنه تعالى هو الذي أخرج اليهود من حصونهم وأنه هو الذي يواجههم ويردّ كيدهم فناسب هنا التأكيد على أن كل ما في الارض ايضا قد سبّح لله تعالى.
وتقديم التسبيح لعله للتنبيه على أن ما حدث من إجلاء اليهود انما كان من الله تعالى وبعنايته المباشرة كما يتبين من تفاصيل الآيات. وذكر الوصفين العزة والحكمة للتنبيه على غلبته تعالى وتحقق كل ما يريده لا محالة وأن حكمته هي التي تقتضي التأخير والامهال.
هُوَ الَّذي أَخْرَجَ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ... الآية الكريمة تؤكد ــ كما هو واضح ــ أن ما حدث من اجلاء اليهود كان من الله تعالى وينسب الامر اليه تعالى ابتداءا وبالمباشرة لا بتوسط الوسائط ولا بالتوفيق والتأييد بل يظهر من تقديم الضمير المنفصل الحصر وأن الاخراج لا ينسب الى غيره تعالى.
ولعل الغرض من ذلك تشديد النكير على اليهود ومن تولّوهم من المنافقين وتهديد غيرهم من أعداء الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بأنهم يعادون العزيز الحكيم مباشرة اذا أرادوا الاساءة اليه صلى الله عليه وآله وسلّم كما فعله اليهود. وظاهر التعبير حيث ابتدأ بالضمير بعد الآية السابقة مباشرة أنه من قبيل ذكر الشاهد على ما تضمنته الآية السابقة من التنزيه ومن العزة والحكمة.
والآيات نزلت في قصة بني النضير وهم المراد بالذين كفروا من أهل الكتاب حيث كفروا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم و(من) في قوله (من اهل الكتاب) بيانية لئلا يشتبه بالذين كفروا من العرب.
وهناك اختلاف شديد في الروايات حول قصتهم والسبب في مناجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لهم. وأقرب ما قيل فيه الى القبول أنه صلى الله عليه وآله وسلّم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يكونوا له ولا عليه فقبل ذلك منهم فلما وقعت غزوة بدر وظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم على المشركين قالوا والله انه للنبي الذي وجدنا نعته في التوراة لا تُردّ له راية ولما هُزم المسلمون في اُحد ارتابوا ونقضوا العهد فركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة فأتوا قريشا وحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ونزل جبرئيل فأخبره بما تعاقد عليه هو وأبو سفيان فكان ذلك سببا في امر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بقتل كعب بن الأشرف وبعد مقتله توجه اليهم لقتالهم او اخراجهم.
وقيل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم خرج إلى بني النضير يستعينهم في دية قتيلين من بني عامر قتلهما احد الصحابة وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يستعينهم في الدية قالوا نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت ثم خلا بعضهم ببعض فقال إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حالته هذه ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم جالس إلى جانب جدار من بيوتهم فقالوا من رجل يعلو على هذا البيت يلقي عليه صخرة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في نفر من أصحابه فأتاه الخبر من السماء بما أراد القوم فقام من مكانه ورجع الى المدينة ثم عاد اليهم لقتالهم.
وهناك استبعاد في صحة هذه الرواية من جهة ذهاب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بنفسه الى اليهود للاستعانة في دية قتيلين وهناك محاولات لتوجيهه ولا اراه وجيها وما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم محتاجا في مثل ذلك.
ومما يذكر في القصة أنهم أعلنوا استعدادهم للجلاء وسمح لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بأن يحملوا معهم ما شاءوا فبعث اليهم عبدالله بن ابي يعدهم بمساعدتهم وينصحهم بعدم الخروج كما سيأتي في الآيات فامتنعوا من الخروج ثم غدر بهم ولم ينجدهم وضاق عليهم الحصار فعادوا وطلبوا الخروج فضيّق عليهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ولم يسمح لهم الا ببعير واحد لثلاث بيوت يحملون عليه ما لا يستغنى عنه. وقد مرّ بعض الكلام حول يهود المدينة وسبب نزولهم هناك وما آل اليه امرهم في تفسير سورة الاحزاب.
واللام في قوله (لاول الحشر) بمعنى (في) وعبر عنها بعضهم بلام التوقيت كما في قوله تعالى (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ..)[1] والحشر هو الجمع مع سوق وبعث وقيل: الحشر: اخراج بازعاج. والمعروف في التفاسير أن المراد بأول الحشر الحشر الاول فهو من اضافة الصفة الى الموصوف وان المراد بالحشر هنا الاجلاء وأن هذا اول اجلاء لليهود.
ولكنه غير صحيح لان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أجلى بني قينقاع قبلهم. والظاهر أن المراد بالحشر خروج الناس من المدينة لقتالهم وكل تجمع للناس حشر والغرض من هذا التعبير التأكيد على أن إخراجهم كان من الله تعالى مباشرة اذ لم يحدث قتال بين الفريقين بل أخرجهم الله تعالى في اول تجمع للمسلمين حولهم.
ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ... هذه الجملة ايضا تؤكد كون الاخراج من فعله تعالى وأنه لا يستند الى وسائط ولذلك لم تعطف الجملة على التي قبلها لانها في مقام الاستشهاد لبيان أن اخراجهم كان منه تعالى وذلك لانهم من شدة بأسهم وتحصنهم ما كان المسلمون يتوقعون السيطرة عليهم وارغامهم بالخروج وما كانوا هم بأنفسهم يظنون أن تكون هناك قوة قاهرة ترغمهم على ذلك. والظن هو الاعتقاد الذي لا يستند الى دليل. ومن الغريب ظنهم أن الله تعالى لا يقدر عليهم اذا تحصنوا في حصونهم وهذا مما لا يمكن ان يحصل للمؤمن وهم كانوا يدعون الايمان بالله تعالى.
فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ... اي أتاهم عذابه وتدبيره ومكره. والاحتساب: الظن اي أتاهم مكر الله من طريق لم يتوقعوه وهو إلقاء الرعب. والقذف: الرمي. وقذف الرعب في قلوبهم يدل على أنهم كانوا مرعوبين من غير سبب ظاهر.
وهكذا يفعل الله بالمغفلين الذين يظنون أن لهم قدرة في مقابل قدرة الله تعالى فيتحصنون بحصونهم وقلاعهم ويظنون أن قدرة الله تعالى كقدرة خلقه تنحصر في العوامل والاسباب المتعارفة ولكن الله تعالى يأخذهم على غفلة منهم ومن جهة لم يتحصنوا منها ولم يمكنهم التحصن لانه ليس من الطرق المتعارفة وانما هو بتأثير غيبي في نفوسهم اي القاء الرعب. مع أنه تعالى لو أراد اتيانهم من جهة حصونهم ايضا ما كانت تتمنع من ارادته كما قال تعالى (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ).[2]
والقاء الرعب من الله تعالى في قلوب أعداء الاسلام مما تكرر في عدة مواقف منها ما حدث ليهود بني قريظة بعد نقضهم العهد وتحزّبهم مع الاحزاب كما قال تعالى (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا).[3]
ومنها ما حدث في غزوة احد بعد ما استأسد المشركون وأرادوا الهجوم على المسلمين لاستئصالهم بعد الهزيمة فالقى الله تعالى في قلوبهم الرعب وامتنعوا من ذلك قال تعالى(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا..).[4]
ومنها ما حدث في غزوة بدر قال تعالى(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)[5] وقد ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم قال (نُصرت بالرعب).[6]
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْديهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ... اما تخريبهم بيوتهم فلعله كان للدهشة التي اصيبوا بها او لئلا تقع في ايدي المؤمنين او لكي ينتفعوا ببعض مواد البناء كما قيل وعلى العموم فنحن نجد حتى اليوم أن اليهود مولعون بتخريب البيوت حتى اذا أرادوا الانسحاب من بلد ظافرين واما تخريبها بايدي المؤمنين فالظاهر أنه كان قبل الجلاء تخويفا لهم وحثا على الخروج واسناد التخريب الى اليهود حتى ما كان بايدي المؤمنين حيث قال (يخربون بيوتهم) من جهة انهم السبب.
والعبرة والعبور: التجاوز عن الشيء. والمراد بالاعتبار التجاوز عمّا يشاهد بالعين الى ما لا يشاهد من المستقبل وهو ما يحصل لمن يشاهد عاقبة اليمة لقوم فينتقل من ذلك الى امكان حصول نفس العاقبة له اذا مشى مشيهم. والتعبير باولي الابصار للتنبيه على أن الامر تكفي فيه المشاهدة.
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ... الغرض من هذه الآية وتاليتها التنبيه على استحقاق هؤلاء عذابا أكبر مما أصابهم فلا يتوهم أحد ممن يلاحظ الوضع أنهم مظلومون ولا يستحقون هذه المعاملة وربما كان لدى بعض المسلمين تعاطف نحوهم فان اليهود من عادتهم التظلم والشكوى لكسب التعاطف كما نجدهم اليوم حيث لا يتورعون عن اي جريمة اذا غلبوا ويظهرون انفسهم مظلومين باقل حديث يتحدث احد ضدهم.
ويبدو من السياق أن بعض المسلمين ايضا كانت لديه هذه الملاحظة في هذه الواقعة فلزم تنبيههم وأنهم يستحقون اكثر من ذلك لمشاقتهم ومعاداتهم للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وهي تعود في الواقع الى معاداة الله تعالى خصوصا مع علمهم بان هذا هو النبي الموعود.
والجلاء: الكشف الظاهر ويراد به خروجهم باجمعهم من بيوتهم. والمراد بكتابة ذلك عليهم أن الله تعالى قدّر لهم ذلك لمصلحة اخرى فلولا هذا التقدير لأنزل عليهم عذابا من السماء او بأيدي المؤمنين من القتل والسبي مضافا الى ما لهم من عذاب النار يوم القيامة فما نزل عليهم من الجلاء والاستيلاء على ارضهم وديارهم واموالهم دون ما يستحقونه.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَديدُ الْعِقابِ... المشاقّة مفاعلة من الشقّ وهي الخلاف والمعاداة. اي ان استحقاقهم لعذاب الاستئصال لا الجلاء انما هو من جهة عدائهم الشديد لله ورسوله فان معاداة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم معاداة لله تعالى وهم قد نقضوا العهد وتعاقدوا مع أعداء الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بل أرادوا الكيد به وقتله ــ على ما روي ــ لولا أن الله تعالى أنجاه منهم فهذا اعلان منهم لمعاداة الله تعالى.
وقوله (فان الله شديد العقاب) جملة سدت مسد الجزاء اي من يشاقّ الله فان الله تعالى يعاقبه عقابا شديدا لانه شديد العقاب فالجملة علة للجزاء. وسيأتي بعض الكلام حول كونه تعالى شديد العقاب في تفسير الآية 7 ان شاء الله.
[1] الانبياء: 47
[2] النحل: 26
[3] الاحزاب: 26
[4] آل عمران: 151
[5] الانفال: 12
[6] من لا يحضره الفقيه ج1 ص240<