سورة الحجرات مدنية كما تشهد به مواضيعها وتشتمل على آداب في التعامل مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومع المجتمع الاسلامي ومع سائر الناس وتنتهي ببيان الفرق بين الاسلام والايمان.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ... تصدير الآية بهذا الخطاب ينبئ عن أن الالتزام بما يأتي من الحكم هو مقتضى الايمان فكأنه يقول ان كنتم مؤمنين فلا تقدموا.. وقد قرئت الآية بوجهين فالقراءة المشهورة (لا تُقَدِّموا) بضم التاء وكسر الدال من التقديم وقرئت بفتح التاء والدال من التقدّم اي لا تتقدموا فحذف احد التاءين والمعنى على القراءة الثانية واضح فان التقدم بمعنى السبق فيكون المراد (لا تسبقوا حكم الله تعالى والرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم في اي شيء) وأما بناءً على القراءة المشهورة فيحتمل ان يكون بنفس المعنى ففي تهذيب اللغة للازهري (ويقال قَدَّم فلان يقدّم, وتقدّم يتقدّم, وأقدم يقدم, واستقدم يستقدم بمعنى واحد قال الله جلّ وعزّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ..) ويحتمل أن يكون بمعنى جعل شيء قبل شيء كما قال تعالى (إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً..)[1] وهو تفعيل من قَدَم يقدُم اذا كان أمام القوم قال تعالى (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ..)[2] فاذا اتى من باب التفعيل كان معناه جعل شيء قُدّام شيء. و(بين اليدين) كناية عن الأمام باعتبار ان الأمام بالنسبة للانسان يقع بين يديه والاصل في التقديم أن يكون له مفعول فيمكن أن يكون حذفه هنا لافادة التعميم اي لا تقدّموا اي عمل على حكم الله ورسوله ويمكن ان يكون النهي عن فعل التقديم كقوله تعالى (يُحْيِي وَيُمِيتُ)[3] من دون ذكر المتعلق اي يفعل الحياة والموت كما في الكشاف.
ومهما كان فالمراد النهي عن التقدم عليهما فيما يخص امر الدين او الشؤون الاجتماعية اي لا تأمروا بأمر في هذا الباب ولا تعملوا عملا الا بعد ورود الامر من الله تعالى او من رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم. ولا يراد قطعا النهي عن اي عمل شخصي لم يرد فيه نهي من الشارع فيكون مخالفا لاجراء اصالة الاباحة وانما يراد النهي عن إصدار حكم شرعي قبل ورود الامر او النهي او التحليل من الله تعالى وذلك فيما هو من شؤون الدين وكذلك النهي عن اي عمل في مجال السياسة وادارة المجتمع في ذلك العهد قبل امر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم او نهيه فانه هو الحاكم المفترض الطاعة.
ويشمل هذا النهي كل اقتراح يتقدم به احد في مجال الحكم الشرعي وكذلك في شؤون ادارة المجتمع في ذلك العهد الا ممن يستشيره الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وما كان يستشير استفهاما فهو كان غنيا عنهم بفضل ربه ولكنه كان يستشيرهم عطفا ورحمة كما قال تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ).[4]
ومن الغريب بعد ذلك ومع هذا النهي الصريح ان يعتبر بعض ما كان يتقدم به بعض الصحابة من حكم شرعي قبل نزول الوحي فضيلة له ويُدّعى ان الله تعالى تبعه في اصدار الحكم وورد احاديث في صحاح القوم بهذا الشأن في موارد عديدة على لسان الرجل نفسه متباهيا بذلك وعلى لسان غيره!! وكأنه تعالى كان غافلا عن ان الوقت قد حان لاصدار هذا الحكم فنبهه عليه بشر ممن خلق وهذا غاية العجب والغلو.
ومما ذكرنا يتبين ان ذكر الله تعالى مع الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم من جهة ان بعض الامور لا يجوز التقدم فيها على الله تعالى لانه مجال الحكم الشرعي وبعضها يتوقف على امر او نهي من الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وذلك في مجال ادارة شؤون المجتمع في عهد ولايته العامة وليس السبب في ذكره تعالى هو تشريف الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وتعظيمه كما قيل.
والحكم والتشريع خاص بالله تعالى كما قال (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)[5] ولكن بمقتضى الروايات قد أذن الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك بالنسبة للتشريعات الاساسية مثل ما ورد في تشريع الصلاة ان الله تعالى فرضها ركعتين ثم سن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ركعة واضافها الى المغرب واضاف الى الظهرين والعشاء ركعتين.[6] وما ورد في تشريع الزكاة من انه تعالى فرضها والرسول صلى الله عليه وآله وسلم وضعها في تسعة اشياء وعفا عما سواهن[7] وغير ذلك. والوارد في روايات الباب أن الله تعالى فوّض ذلك الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ومع ذلك فقد أجاز الله تعالى حكمه ونفّذه.
ومن هنا انقسمت الاحكام او التقديرات الشرعية الى فرائض الله وسنن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ويقصد بها السنن الواجبة لا المستحبة. كما انه صلى الله عليه وآله وسلم يحق له التشريع في مجال ادارة نظام الحكم وهو المراد بقوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ..)[8] وغيره من الآيات وكذلك لولاة الامر المعصومين عليهم السلام بعده.
والحاصل ان المقصود بالآية النهي عن التقدم على تشريع الله وتشريع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم او حكمه الولائي بان يشرّع الانسان حكما تشريعيا من جانبه او يعمل عملا في المجال التشريعي او الولائي من دون ترخيص واذن من الولي الشرعي وهو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في عهده. والمراد بالتشريع أن يعتقد الانسان او يحكم بأنّ شيئا حرام او حلال وقد تكررت الآيات الكريمة في التنديد به واكثر هذه الآيات وان وردت في مخاطبة المشركين الا أن الحكم لا يختص بهم قال تعالى (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ).[9]
وليس معنى ذلك ان لا يعتبر الانسان شيئا مباحا حتى ينزل فيه الحكم الشرعي اذ قد يكون ما نستحله امر مستحدث لم يرد فيه حكم ولكن الحل الذي هو حكم شرعي غير الاباحة الاصلية التي تبتني على عدم وصول منع من الشريعة فالحل في الاصل حل العقدة كما قال تعالى (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي)[10] وفي الشرع عبارة عن حل عقدة الحظر كما افاده سيدنا الاستاد دام علاه[11] فان كان الشيء محرما قبل ذلك اما في هذا الشرع او في شرع سابق او في العرف الخاطئ الذي يحرم من عند نفسه او في القوانين الوضعية التي تحرم بغير حق او كان موردا لتوهم الحظر ثم احله الله تعالى فقد انحلت عقدته نظير قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ..)[12] وقوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ..)[13] وقوله تعالى (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً..).[14]
وهناك من الناس من يحرم ما لم يحرمه الله تعالى بدعوى انه محدث وكل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار!! وهو الذي يدخل النار بقوله هذا لانه يحرم ما لم يحرمه الله تعالى فهو المبتدع والمعتدي على التشريع الالهي واما من يرتكبه من دون ان يحكم بانه مما احله الله تعالى وانما يستحله لانه تعالى لم يحرمه وانه على اباحته الاصلية فهو متبع لشرع الله وليس مبتدعا. وهذا باب واسع يدخل فيه كثير مما يتسرع فيه الجهلة المتلبسون لباس الفقهاء بالحكم بالابتداع والضلالة. نعم لا يجوز ان يدخل في الدين ما ليس فيه فيحكم بان هذا واجب او حرام او حلال شرعا والشرع لم يحكم فيه بشيء. والطريف ان اكثر موارد التنديد في القرآن الكريم هو التحريم الجاهلي لا التحليل فكانوا يحرمون على انفسهم انواعا من الابل كالوصيلة والحامي والبحيرة والسائبة فانزل الله تعالى (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)[15]
والآيات التي تندد بالتحريم الجاهلي كثيرة وربما يتعجب الملاحظ من هذا الاهتمام والتأكيد وربما يتصور انه ليس بتلك المثابة من الاهمية ولكن الواقع أننا كثيرا ما نستخف بأمر وهو عند الله عظيم كما قال تعالى (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)[16] والتشريع شأن الهي لا يحق لأحد أن يتلبس به.
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ... الامر بالتقوى بعد الامر السابق يوحي الى المخاطب ان الامر بالغ الاهمية فلا يتوهم انه ليس عليه رقيب وان بامكانه ان يقول ما يقول ويفعل ما يفعل اذا كان وحده فالله تعالى معه ورقيب عليه يسمع اقواله ويعلم افعاله. وانما لم يقل بصير لان الفعل هنا ربما يكون قلبيا فان اتصاف الفعل بكونه تشريعا محرما امر قلبي وذلك لان اتصافه بذلك يتبع نيته بان هذا وارد في الشرع او مع نسبة التحريم او الايجاب الى الله تعالى وان كان ذات الفعل امرا مشهودا الا ان اتصافه بكونه تشريعا محرما يتبع نيته.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ... إعادة النداء تفيد الاهتمام بما بعده وتفيد التنبيه على أنه حكم خاص وليس من فروع الحكم السابق. وهذا حكم شرعي في باب مراعاة الادب عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويبدو ان بعض من كان يحضر عنده صلى الله عليه وآله وسلم من عرب البادية بل غيرهم ايضا ممن فيه جفوة الاعراب ما كانوا يراعون احترام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيرفعون اصواتهم عنده وكان هذا قلة ادب ومخالفا للتوقير ولعله كان ايضا يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنهى الله عنه وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثير الحياء تتأبى نفسه الزكية من مصارحتهم باحترامه وتوقيره وتنبيههم على ما هو مقتضى الادب ولكن الله تعالى لا يستحيي من الحق. وقوله (فوق صوت النبي) يبين حد الرفع الممنوع فالمعنى انهم حينما يتكلمون في محضره صلى الله عليه وآله وسلّم سواء كان صامتا او يكلمهم او يكلم غيرهم او يخطب فالواجب أن يكون صوتهم دون صوته لتكون له العلو والرفعة في الظاهر كما هو في الواقع وهذا واضح فيما لو كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم يتكلم اما اذا كان صامتا فيجب ان يكون الصوت خافتا جدا لا يسمعه الا المخاطب.
وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ... الفرق بينه وبين الحكم السابق ان الاول ليس في مقام المحادثة معه صلى الله عليه وآله وسلم كما تبين ولذلك استند اليه بعضهم في عدم جواز رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وآله وسلم ايضا وهذا الحكم خاص بمقام المحادثة لقوله تعالى (له) ففي المقام الاول يجب ان يكون الصوت اخفض من صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم اذا كان يتكلم سواء كان يخطب او يتكلم معه او مع غيره ويجب ان يكون خافتا اذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساكتا كما يفعله الناس بمحضر العظماء وليس في البشر أعظم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه حيث كان يعيش بينهم كأحدهم بل كأحد فقرائهم فما كان الجهلة يعرفون قدره وفي المقام الثاني وهو مقام المحادثة يجب الاخفات فلا يجهر بالقول كما يجهر مع غيره اجلالا له وتعظيما والجهر ربما يصدق على الصوت الذي لا يعتبر رفيعا فهناك فرق آخر بينهما فان الجهر يقابله الاخفات، ورفع الصوت يقابله خفضه وان كان جهرا والجهر بمعنى الاعلان. ويظهر من قوله (كجهر بعضكم لبعض) ان الجهر المتعارف المعتاد بين المتخاطبين ممنوع معه صلى الله عليه وآله وسلم.
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ... مر الكلام في حبط الاعمال في سورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم[17] وقلنا في تفسير قوله تعالى (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)[18] ان هناك من المعاصي ما يحبط بعض الاعمال ومنها ما يحبط كلها. وذهب بعض المفسرين الى انه لا يحبط العمل الا الكفر وهذا من موارد نزاع الاشاعرة والمعتزلة ومن اصحابنا ايضا من قال به. قال في مجمع البيان (قال أصحابنا أن المعنى في قوله «أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ» أنه ينحبط ثواب ذلك العمل لأنهم لو أوقعوه على وجه تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وتوقيره لاستحقوا الثواب فلما فعلوه على خلاف ذلك الوجه استحقوا العقاب وفاتهم ذلك الثواب فانحبط عملهم فلا تعلق لأهل الوعيد بهذه الآية ولأنه تعالى علق الإحباط في هذه الآية بنفس العمل وهم يعلقونه بالمستحق على العمل وذلك خلاف الظاهر) ويقصد بقوله (اهل الوعيد) المعتزلة. ومن الواضح ان ما قاله ونسبه الى الاصحاب هو خلاف الظاهر فان اضافة الاعمال الى الضمير تدل على العموم ومعناه حبط جميع الاعمال مع ان هذا العمل لا ثواب فيه حتى لو لم يكن برفع الصوت والجهر بالقول فقد يكون القول في محضر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لامر دنيوي يعود نفعه الى المتكلم بل قد يكون بذاته محرما ايضا فضلا ان يكون عملا صالحا يثاب عليه كالغيبة والنميمة والبهتان وغيرها.
وقوله (وأنتم لا تشعرون) بمعنى أنهم ما كانوا يشعرون ان هذا العمل محبط للاعمال بل كانوا ما يتوقعون ذلك. والسر في كونه محبطا انه هتك لمقام الرسالة والظاهر ان من كانوا يرفعون اصواتهم يستهينون بمقامه صلى الله عليه وآله وسلم وان لم يصرحوا بذلك وقد وضعت احاديث لاثبات ان بعض الصحابة تغير موقفهم وعملهم في هذا المقام بعد نزول الآية وهذا بنفسه يدل على سلبية مواضعهم قبلها ولكن الواقع ان بعض الناس لم يغيروا موضعهم أساسا حتى آخر ايام حياته صلى الله عليه وآله وسلّم ولم يراعوا مرضه فضلا عن مقام الرسالة واتهموه بالهجر والهذيان فما أكذب هذه الاحاديث؟!
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ... تأكيد على أهمية الحكم واشارة الى أنه كما أن رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم موجب للحبط كذلك خفضه عنده موجب للمغفرة بل موجب لاجر عظيم ويكفيه عظمة ان الله تعالى يعده عظيما والتنكير ايضا يفيد التعظيم.
وغضّ الصوت: خفضه. والامتحان: الاختبار. ومنه قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ..)[19] وهناك محاولات في التفاسير وكتب اللغة لتأويل الامتحان هنا او البحث عن معان اخرى في الاستعمالات اللغوية لان الاختبار لا يدل بذاته على الفوز ولا يختص بمن حصل على مرتبة عالية فكل الناس معرّضون للامتحان للتقوى. فقيل ان معنى الآية أخلص الله قلوبهم للتقوى. وقيل بمعنى صفّاها. وقيل وسّعها. وقيل وضع الامتحان موضع المعرفة لانه سببها فكانه قال عرف انها لائقة للتقوى. وقيل غير ذلك.
ويمكن أن يكون المراد بهم من كانوا يغضون الصوت عنده صلى الله عليه وآله وسلّم قبل ان تنزل الآية أي إن الوعد بالمغفرة والأجر العظيم هنا لا يشمل من ائتمر بهذا الأمر بعد نزوله فغض صوته أمام الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بل خاص بمن كانوا يغضون الصوت عنده تلقائيا مما يدل على أنهم كانوا يعرفون مقام الرسالة وقدرها عند الله فهم بطبيعتهم كانوا يخضعون للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ويتواضعون ويتهيبون جلالة قدره فيغضون أصواتهم من دون ان يكون هناك امر وطلب وتنبيه فأراد الله تعالى ان يبين السبب في تنبه هؤلاء قبل نزول الامر وهو أنهم ممن تكرر امتحان قلوبهم للتقوى في مجالات كثيرة فتدربت نفوسهم عليه وتذللت. وعليه فلا حاجة الى تأويل.
وفي تغيير التعبير من النبي في الآية السابقة الى رسول الله اشارة الى أن تعظيمه واكرامه انما هو من اجل كونه رسول الله وتوقيره وتعظيمه توقير وتعظيم له تعالى كما أنّ هتكه وقلة الادب لديه يعدّ قلة أدب لدى الله تعالى شأنه.
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ... قيل ان شأن نزول الآية ان قوما من العرب أتوا الى المدينة فأخذوا حسب عادتهم في تعاملهم مع الآخرين ينادون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من وراء الجدار: يا محمد اخرج الينا. والحجرات جمع حجرة من الحَجْر اي المنع يطلق على المكان المحجور ببناء او نحوه ويقال ان حجراته صلى الله عليه وآله وسلم كانت من جريد النخل عليها من الخارج مسوح من الشعر الاسود وكانت حجراته تسع بعدد نسائه وبقيت الى عهد بني امية فادخلوها في المسجد وليس القصد توسعة المسجد بل ابادة آثار الرسالة لئلا يقيس الناس بينها وبين قصور من يدعون خلافته.
وقيل في قوله تعالى (اكثرهم لا يعقلون) انه بمعنى كلهم ولعلهم انما أولوا ذلك لانهم كلهم لا يعقلون. ولكن من المحتمل ان يكون التعبير بلحاظ ان بعضهم كان يتعمد ذلك هتكا او ايذاءً فلم يكن ذلك لغبائه او جفائه ويحتمل أن يكون ذلك من أدب القرآن الكريم لاحتمال كون بعضهم مكرهين او غافلين. ولا تظنن ان كلهم ترك هذه العادة السيئة وان وضع القوم في ذلك الاحاديث حتى قيل ان بعضهم كان اذا تكلم بعد ذلك في محضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يسمع كلامه فيستفهم وقيل ان قوله تعالى (ان الذين يغضون..) نزلت في الشيخين. ولمعرفة ما آل اليه الوضع بعد ذلك ننقل الحديث التالي عن صحيح مسلم حرفيا والقصة وقعت في آخر ايام حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال:
(وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ عَبْدٌ أَخْبَرَنَا وقَالَ ابْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّونَ بَعْدَهُ فَقَالَ عُمَرُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ فَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلَافَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُومُوا. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ).[20]
قوله ( لما حُضر..) اي حضرته الوفاة صلى اللّه عليه وآله وسلّم. واللغط: صوت وضجة لا يفهم معناه. ويظهر من الحديث بوضوح ان هؤلاء عِلْيَة الاصحاب وبطانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن لغطهم وصياحهم واختلافهم عن عادة سيئة فحسب بل ان بعضهم قصد بذلك إيذاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد بلغ من تأذيه وهو على فراش الموت أن أخرجهم من بيته ولم يكن ذلك من خلقه الكريم.
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ... ليس المراد بقوله (خيرا) التفضيل بل المراد انه هو الخير فحسب اذ أن ما فعلوه لم يكن فيه شيء من الخير بل هو شر كله. والتعقيب بالمغفرة والرحمة من غاية لطفه تعالى وعنايته بعباده المقصرين في حقه وحق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
[1] المجادلة: 12
[2] هود: 98
[3] الاعراف: 158
[4] الانعام: 159
[5] الانعام: 57 ويوسف 40 و67
[6] الكافي ج1 ص266 باب التفويض الى رسول الله ص
[7] الكافي ج3 ص509 باب ما وضع رسول الله ص الزكاة عليه
[8] النساء: 64
[9] النحل: 116
[10] طه: 27
[11] اي مرجع الامة وملاذها السيد السيستاني حفظه الله تعالى
[12] البقرة: 187
[13] المائدة: 96
[14] النساء: 24
[15] المائدة: 103
[16] النور: 15
[17] في تفسير الآيات 9 و28 و33
[18] سورة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم الآية 33
[19] الممتحنة: 10
[20] صحيح مسلم كتاب الوصية باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه ح3091<