مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا... الآيات تشير الى حالة كثير من الناس قديما وحديثا ومورد الآية جمع من الاعراب أسلموا ومنّوا على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بذلك كما يمنّ به حتى الآن كثير من الناس على الله ورسوله ومن يلقونه من رجال الدين. وبالطبع فانه ليس موقف الاعراب كلهم لقوله تعالى (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ..)[1] وقد مر الكلام حول معنى الاعراب في تفسير سورة الفتح وقلنا انه جمع لا مفرد له وليس جمع العرب لانه اسم جنس وانما ينسب اليه المفرد فيقال (أعرابي) ويطلق على أهل البداوة من العرب الذين لم يتحضروا ويسكنوا المدن وقيل انه يطلق على غير العرب ايضا اذا كانوا اهل بداوة.

وقيل ان قوما من بني أسد أسلموا ثم قالوا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم آمنا بك ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فنزلت الآية. وقيل غير ذلك. ولا يهمنا شأن النزول فللآية شأن مستمر كسائر آيات الكتاب العزيز. والذي تركز عليه هذه الآية هو الفرق بين الاسلام والايمان. والمطلوب من الناس هو الايمان بالله تعالى ورسوله واما الاسلام باللسان والتسليم لسلطة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والانخراط في صفوف المسلمين بالشهادتين فلا يوجب الا حكما ظاهريا بحقن الدماء وصحة المناكح والمواريث وليس هو الهدف الاسمى من ارسال الرسل وانزال الكتب والشرائع. وليس معنى ذلك انه يحق للانسان أن يمنّ على الله ورسوله بايمانه بل الله يمن عليه بالهداية كما سيأتي.

ثم ان الاسلام ربما يطلق ويراد به معنى اخص من الايمان بالقلب وهو التسليم لامر الله تعالى وهو لا يحصل الا للمخلصين في ايمانهم والعارفين لله تعالى ومثل هؤلاء لا يمنون على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم بإسلامهم ولكن المراد به هنا كما ذكرنا هو اظهار الايمان والنطق بالشهادتين الذي يجتمع مع النفاق وابطان الكفر وكان هناك ممن أسلم ظاهرا من لا يقصد بذلك الا الشؤون المادية فبعضهم أسلم لِما رأى من قوة المسلمين وشوكتهم وبعضهم أسلم لِما سمعه من احبار اليهود والنصارى وغيرهم من ان لهذا الدين شأن ولعل بعض من أسلم في مكة ايضا لم يقصد باسلامه الا بلوغ المآرب الدنيوية وبعضهم علم انه حق ولكنه مع ذلك لم يؤمن بقلبه وقد ذكرنا في مواضع من هذا التفسير ان العلم لا يستلزم الايمان وكان كثير من المشركين يعلمون انه حق ولم يؤمنوا به كما قال موسى عليه السلام لفرعون حسبما ورد في قوله تعالى (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا)[2] وهذه الآية تدل بوضوح ان هناك ممن أسلم في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ورآه وعاصره من لم يؤمن به قلبا فلا بد من تجديد النظر في تعريف الصحابة ان قلنا بكونهم جميعا مؤمنين فضلا عن القول بعدالة الجميع الذي لا يستند الى اي دليل.

فقوله تعالى (قل لم تؤمنوا) تكذيب لهم حيث ادعوا الايمان وهو لا يكون الا في القلب ويظهر في العمل كما سيأتي فتكذيبهم اخبار عن الغيب وعما يختلج في نفوسهم. ولم يقل قل لا تقولوا آمنا لانه يتراءى منه النهي عن امر مطلوب وهو الايمان فاكتفى باخبارهم عما في قلوبهم وهو ابلغ من التكذيب الصريح ثم عرّض بهم في آية اخرى بقوله تعالى (اولئك هم الصادقون) مما يفيد الحصر اي اما انتم فكاذبون في دعواكم. ولم يقل لهم ايضا (ولكن اسلمتم) وانما عبر عن ذلك بالامر بالقول (قولوا اسلمنا) لئلا يتوهم منه الاعتداد باسلامهم على اساس انه مرحلة مما هو المطلوب اذ ليس كذلك واقعا وانما ينتفعون باسلامهم في الحياة الدنيا وظاهر الامر.

وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ... لا يتوهم ان هذا تكرار لنفي الايمان الذي سبق فان المعنى يختلف فالنفي الاول أفاد نفي تحققه سابقا مما يدل على كذبهم وهذه الجملة تنفيه حتى هذه اللحظة ولكن مع افادة التوقع في المستقبل فمعناها انه لم يتحقق حتى الآن ولكن ينبغي ان يتحقق والهدف التربوي منه واضح.

وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ... قال بعض المفسرين ان المراد بهذا الشرط الايمان بالقلب والعمل جريا عليه وترك النفاق ولكن الظاهر أن مورد هذه الجملة هو نفس الحالة المذكورة سابقا اي إظهار الاسلام مع عدم الايمان الواقعي فالغرض بيان أن الله تعالى لا ينقص من عملهم شيئا وان لم يؤمنوا بقلوبهم وعليه فالمراد باطاعة الله العمل بفرائضه انصياعا لامره تعالى وباطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم العمل بسننه الواجبة وباوامره الحكومية من باب اطاعة ولي الامر وان لم يكن مؤمنا بقلبه ايمانا كاملا كما سياتي بيانه في الآية التالية والناس بطبيعة الحال يختلفون في درجات الايمان ويؤثر ذلك في قبول العمل ودرجته ولكن الله تعالى لا يظلم احدا ويحسب لكل انسان عمله حسب طاقته.

و(يلتكم) مأخوذ من لات يليت ليتا اي نقصه او من ألت يألت بنفس المعنى ايضا وكذلك قوله تعالى (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)[3] فهو إما فعل ماض من ألت مجردا او من لات من باب الافعال. وقوله (ان الله غفور رحيم) تعليل لما وعده من عدم النقص من اعمالهم بسبب عدم ايمانهم واقعا. ولولا غفرانه تعالى ورحمته بالناس لما تقبل من اعمالهم الا القليل فانه قلما يكون العمل خالصا من الشوائب.

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ... تعليل لما مر من عدم ايمانهم واقعا بحصر الايمان في من يجتمع فيه عدة شروط وهي لم تكن محققة فيهم فلا يشملهم عنوان المؤمن كما لا يشمل كثيرا ممن أسلموا وان أظهروا الايمان وخدعوا البسطاء من الناس للوصول الى مآربهم الخاصة. و(انما) هنا تفيد الحصر حتى لو قلنا انها لا تفيده بحسب الوضع اللغوي وذلك للقرينة على ان السياق يريد منع كونهم مؤمنين.

وقد ذكر من الشروط اولا الايمان بالله ورسوله ثم عدم الارتياب ثم الجهاد بالنفس والمال. والتقييد بالايمان بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم يخرج كثيرا من الناس حيث كانت تبدر منهم في مناسبات خاصة ما يدل على عدم ايمانهم به ايمانا كاملا فهناك من المسلمين من شكك في عدله صلى الله عليه وآله وسلّم[4] وهناك من رفض الانصياع لبعض الاحكام كالذي امتنع من قبول متعة الحج بل هناك من النساء من قالت له (ما ارى ربك الا يسارع في هواك) وفي هذا الكلام تعريض به صلى الله عليه وآله وسلّم وبما نزل عليه من خصائصه بل في التعبير عن الله تعالى بانه ربه ما لا يخفى وهناك من اتهمه بالهجر والهذيان مما يسقط اعتبار كلامه صلى الله عليه وآله وسلّم وحجيته وذلك في آخر عهدهم به وغيرهم وغيرهم. والقرآن يؤكد على أن الايمان بالله تعالى غير كاف ما لم يؤمن العبد بالرسالة وينصاع لاوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).[5]

ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ... (ثم) للتراخي والوجه في الاتيان بها انه لا يكفي عدم الترديد حين الايمان بل يجب ان يستمر ذلك طيلة الحياة. والارتياب بمعنى الشك فالمؤمن واقعا لا يشك في ايمانه ولا تزلّ قدمه في هذا الصراط لانه لم يَبْنِ ايمانه على شعار او تأثر سريع بالمشاهد المثيرة للاندفاع او طلب لما يهواه او خوف مما يضره بل بناه على تأمل في الكون وتعمق في آيات الله تعالى. ولا بد لهذا الايمان من الثبات في كل موقف فالله تعالى يبتلي عباده بالخير والشر. والمؤمن الحقيقي لا يرتاب في ايمانه في كل تلك المواقف. اما الذي اسلم ظاهرا ولم يؤمن واقعا فان زلات لسانه تفضحه وهي تدل بوضوح على تزعزع ايمانه او عدم ايمانه أساسا.

ولا يكفي الايمان بالقلب ان لم يصدقه في مرحلة العمل ولم يذكر من العمل هنا الصلاة والعبادة والذكر والتسبيح فان المتظاهر ايضا لا يمتنع منها وضعفاء الايمان ايضا لا يمتنعون من العبادة والصلاة بل والزكاة ايضا ولكن الابتلاء الاقوى الذي يظهر به مدى ايمان العبد هو الجهاد بالاموال والانفس والجهاد بالاموال لا يكتفى فيه بدفع الزكاة الواجبة وان شق ذلك ايضا على كثير من المسلمين فالجهاد هو بذل غاية الطاقة وتحمّل المشاق والمصاعب كما نجده في الجهاد بالنفس في مقابلة العدو والجهاد بهذا المعنى اذا تعلق بالمال فلا يراد الا التخلي عن كل ما يملك او اكثره لو اقتضته الضرورة كما يحدث في بعض الحروب.

ولا يكفي ذلك ايضا بل لا بد من الجهاد بالنفس وبذل الروح وركوب الاهوال في سبيل اقامة الدين اذا امر به الرسول او الامام او اقتضته ضرورة الدفاع عن الاسلام وهنا تظهر المروءات ويظهر الصدق والكذب ويتبين المؤمن الحقيقي عن الذين كانوا ينادون باعلى اصواتهم بالايمان ولم تظهر منهم طيلة ايام الجهاد الصعبة التي استشهد فيها جمع كثير من الصحابة الاخيار ضربة واحدة بالسيف او طعنة واحدة بالرمح او رمية واحدة بالنبل او حتى بحجر اللهم الا التبجح بضرب اعناق الاسرى حيث يعلمون ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يسمح بذلك ولو احتملوا اذنه لم يظهروا ذلك ايضا خوفا من معاداة اقوام الاسرى من المشركين فهم ما كانوا يضحّون في سبيل الدين حتى بمودة المشركين. وبهذا المقياس للايمان يُغَربَل المدّعون ولا يبقى من المسلمين الا القليل في جميع العصور.

أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ... الجملة واضحة في حصر الصادقين في من مر ذكره وهو تعريض بأن غيرهم يكذب في دعوى الايمان ولا يحقّ له ذلك وانما هو مسلم بالمعنى العام وبمعنى انه أسلم نفسه للمجتمع المسلم ولولي الامر ليحفظ بذلك دمه وماله وعرضه ويدخل فيما دخل فيه المسلمون من المصالح العامة والحماية والامن وليشمله توزيع الغنائم والزكوات ونحو ذلك.

وربما يقال ان الحصر هنا اضافي فمعنى قوله تعالى (انما المؤمنون..) وكذلك قوله (اولئك هم الصادقون) نفي الايمان عن اولئك الاعراب ولا يقصد به نفي الايمان عن كل من لم تكن فيه هذه الصفات لان المجاهدة في سبيل الله تعالى قد لا تتهيأ للمؤمن او قد يكون معذورا فلا يمكن نفي الايمان بمجرد ذلك.

وهذا كلام باطل وهو مخالف لصريح الآية الكريمة او ما هو كالصريح والحصر حقيقي ولكن المراد بالمجاهدة ان يكون المؤمن مستعدا للتضحية في سبيله تعالى اذا اقتضى الامر ومن لم يكن مستعدا لذلك فهو ليس بمؤمن الا باللفظ ولم يؤمن بقلبه. هذا مضافا الى ان المجاهدة في سبيل الله تعالى لها صور كثيرة ربما تتحقق بعضها لكثير من الناس حتى في ايام السلم فالذي يتحمل المشاق لتبليغ دين الله تعالى في ايام السلم ولا يهتم بالاخطار المحيطة به مجاهد في سبيله تعالى وربما لا يكون الخطر يهدد حياته ولكنه يهدد شؤونه الاجتماعية ويحط من كرامته عند الناس فلا يعتني بها في سبيل امتثال أوامر الله تعالى.

قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ... الاستفهام للانكار والمراد بالتعليم الاعلام ولذلك تعدى بالباء. قيل ان جمعا منهم بعد نزول الآيات السابقة أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحلفوا أنهم صادقون في ايمانهم وكأنهم أرادوا بذلك الرد على ما ورد من الوحي فيهم فأتاهم الجواب صاعقا وساخرا منهم ومن دعواهم. فمن المضحك أن يحاول الانسان ان يُعلم الله بامر وهو عالم الغيب ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الارض. والانسان لا يعلم ما في نفسه وكثيرا ما ينخدع بجهله هذا، وكثيرا ما يتصور الانسان انه مخلص في عمله ويتبين له يوم القيامة ما فيه من شوائب ويمكنه معرفة ذلك هنا اذا راجع ضميره.

وقيل ان هذه الرواية لا اساس لها وأن المراد باعلامهم دينهم هو نفس دعواهم الايمان ولكن الذي يبدو من الآية انها ردّ على أمر آخر غير دعواهم السابقة فانهم في تلك الدعوى لم يحاولوا اعلام ربهم بدينهم وانما ادعوا ذلك فحسب فسواء صح الخبر ام لم يصح لا بد من تقدير امر آخر غير الدعوى الاولى ليكون هذا ردا عليه وما ورد من الخبر يناسب مضمون الآية. وتؤيده اعادة الامر بقوله (قل..) مما يدل على انه محادثة اخرى غير ما سبق.

وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ... العليم صفة مشبهة تدل على الثبات والدوام فالعالم يمكن ان يكون علمه حادثا ويمكن ان يزول والله تعالى علمه بكل شيء ازلي وابدي لم يحدث ولن يزول فلا معنى لمحاولة اعلامه بشيء.

يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ... المنّ بمعنيين القطع والانعام ويقال لمن يعدّ نعمه على المنعم عليه ايذاءا له انه منّ عليه اما بمعنى انه قطع نعمته بذلك او بمعنى انه اعتبر ما أسداه اليه نعمة مع أنه لا ينبغي ان يعتبره نعمة منه فالمنعم في الحقيقة هو الله تعالى والمراد بالمنّ هنا هو هذا المعنى اي انهم اعتبروا اسلامهم نعمة منهم عليك والاتيان بفعل المضارع يدل على استمرارهم على ذلك او انه ثابت في سريرتهم لا يزول وهكذا كثير من الناس فانهم يمنون على الله تعالى وعلى رجال الدين بأنهم مؤمنون مسلمون وكأنّ ذلك نعمة يقدمونها الى الله تعالى والى الدين ورجاله والآية تعالج هذه المشكلة النفسية التي تمنع من نفوذ الايمان في القلوب.

والظاهر ان المراد به نفس ما ذكر اولا من قولهم آمنا ولكنه بدّل التعبير عنه بالاسلام  فلم يعتبره ايمانا لما مر من نفي الايمان عنهم. ثم نهاهم عن المنّ عليه بالاسلام لامرين احدهما ان الاسلام والايمان ليس مما يمنّ به على احد بل هو نعمة أنعمها الله عليكم والثاني انه صلى الله عليه وآله وسلم رسول من الله تعالى ووسيط فلو كانت لهم نعمة ومنة لكان ذلك على الله تعالى وهو لا يُمنّ ولا يُنعم عليه بل هو الذي يمنّ على من سواه وكل شيء منه، فقوله (لا تمنوا عليّ اسلامكم) يشير الى الامرين.

بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ... في هذه الجملة ايضا اشارتان فمن جهة منع أن يكون اسلام الناس او ايمانهم نعمة منهم على أحد بل هو نعمة من الله تعالى على الناس ومن جهة اخرى أبدل الاسلام بالايمان لأن الاسلام الظاهري ليس هو المقصود بالذات فهو لا يفيد في الآخرة شيئا والله تعالى يريد الآخرة وانما الذي يعتبر نعمة من الله تعالى وليس منكم هو هدايته لكم الى الايمان ان كنتم صادقين في قولكم الاول (آمنّا) وقد بيّن سابقا أنهم كاذبون فهذه الجملة مبنية على مجرد افتراض الصدق. ولا شك ان الايمان من أجلّ نعم الله تعالى بل هو أجلّها على الاطلاق لان النجاة لا تكون الا به وهو الهدف الاساس من الخلق.

إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... الغيب هو ما يغيب عن الابصار فلا يمكن ان يشاهد وهو تارة نسبي وتارة غيب على الاطلاق فالنسبي ما يكون غيبا لبعض دون بعض فكل من غاب عن الحادث اعتبر ذلك غيبا له لا يمكن له العلم به الا بواسطة والغيب المطلق ما لم يوجد بعد فلا تمكن مشاهدته للجميع والغيب بالمعنى الاول لا معنى له بالنسبة الى الله تعالى فانه محيط بالكون والكل حاضر لديه لا يغيب عنه شيء وهو عالم بالغيب المطلق اي ما لم يوجد بعد بل بعبارة ادق لا يغيب عنه المستقبل ايضا وعلى هذا المعنى فالمراد بالغيب ما يكون غيبا لغيره.

وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ... الظاهر انه تكميل للاستدلال فالله عالم بالغيب فكيف بما هو مبصر وحاضر وهو اعمالكم ومنها الاسلام والايمان وقد قلنا مرارا ان كونه تعالى بصيرا ليس بمعنى كونه عالما بالمبصرات بل بمعنى كونها حاضرة عنده فهو يبصرها ولا يغيب عنه شيء في السماوات والارض والحاصل ان الآية استدلال بوجه آخر لسفاهتهم حيث يحاولون اعلامه تعالى بدينهم.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الامين وآله الطيبين الطاهرين

 


[1] التوبة: 99

[2] الاسراء: 102

[3] الطور: 21

[4] في سنن النسائي ج7 ص286 عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، وَفِي ثَوْبِ بِلَالٍ فِضَّةٌ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبِضُ مِنْهَا وَيُعْطِي النَّاسَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ قَالَ: «وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ» فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ «دَعْنِي أَقْتَلُ هَذَا الْمُنَافِقَ» قَالَ مَعَاذَ اللهِ: أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ "

 

[5] النساء: 65