مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا... الآية على ما ذكره المفسرون ووردت به روايات الخاصة والعامة نزلت في شأن الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأمه وكان من حديثه على ما قالوا ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعثه الى قوم لأخذ الزكاة منهم فرجع اليه وادعى أنهم منعوه الزكاة وأرادوا قتله واختلفوا في سرد القضية بما لا يؤثر في أصلها قالوا فأراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم غزوهم وأنه بعث اليهم خالد بن الوليد فتبين كذب الوليد فنزلت الآية. كذا في بعض الروايات وهي كثيرة ومختلفة.

وفي بعضها أن الحارث بن ضرار الخزاعي آمن على يد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فجعل له موعدا يبعث اليه رسولا لأخذ الزكاة منه ومن قومه فبعث اليه الوليد فرجع مع اتهامه لهم من دون ان يصل اليهم او وصل اليهم وخافهم على نفسه او لغرض في قلبه فلما رأى الحارث تأخر المبعوث ظن أنه لسخط من الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فأتى مع كبراء قومه الى المدينة ليستعلم الحال فسأله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عما أخبر به الوليد فأنكر ذلك وبيّن حقيقة الحال فنزلت الآية ويبدو أن هذا هو الصحيح فلم يبعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أحدا لغزوهم وليس من شأنه أن يستعجل في مثل ذلك ويشهد له أن الآية انما نزلت لتنبيه المؤمنين على عدم جواز الاعتماد على خبر الفاسق وليس فيه خطاب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والا لقال يا أيها النبي... اذ هو المناسب لو كان هو الذي قصد الغزو وفي الآية التالية شاهد واضح على ذلك.

وفي الآية تصريح بفسق الوليد ومع ذلك فان عثمان ولاه الكوفة بعد عزل سعد بن أبي وقاص فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعاً ثم قال: هل أزيدكم فعزله عثمان عنهم بعد هذه الفضيحة ولم يجر عليه الحد الى أن ثار الناس وشكوا أمره الى عائشة واعترضت عليه اعتراضا شديدا وكذا بعض الصحابة ويبدو من الروايات أنه شهد عليه رجلان احدهما شهد على شربه والآخر على تقيئه ولما كثر الاعتراض اضطر عثمان الى تحكيم امير المؤمنين عليه السلام ولعله توقع ان يردأ عنه الحد لاختلاف الشهادة فقبل عليه السلام الشهادة وقال: لم يتقيأه الا وقد شربه وأجرى عليه الحد ولذلك كان يسبّ أمير المؤمنين عليه السلام طول حياته حيث كان قاتل أبيه ايضا.

وفي الآية ايضا رد واضح على من ادعى عدالة جميع الصحابة حيث صرح بفسق الوليد وهو منهم مع أنه لا يحتاج الى دليل بعد ثبوت جرائم بعضهم التي يصغر عندها شرب الخمر كالخروج على الامام وقتل النفس المحترمة. والفسق في الأصل بمعنى الخروج عن الشيء يقال فسقت الرطبة اذا خرجت عن قشرتها وأطلق في القرآن على من خرج عن طاعة ربه وقيل انه لم يسبق في كلام العرب اطلاق الفاسق على انسان. والنبأ: الخبر. وقيل خصوص الخبر المهم الذي له شأن.

ويعلم من تنكير الفاسق والنبأ عموم الحكم لكل فاسق وكل نبأ او لكل نبأ وان لم يكن المخبر فاسقا بناءً على ما سيأتي من عدم دخالة الفسق في الحكم لئلا يتوهم اختصاص الحكم بمورد النزول او بمشابهاتها. والتبين من البين بمعنى الفصل والفراق ويستعمل في الوضوح والايضاح لانه بذلك ينفصل الحق عن الباطل ويستعمل لازما ومتعديا فاذا قلت تبين الامر اي اتّضح واذا قلت تبينتُ الامر اي بحثت عن الحق فيه حتى اتضح لي ومورد الاستعمال هنا هو الثاني فالمعنى ان جاءكم فاسق خارج عن الدين او عن طاعة ربه بخبر هام فتريّـثوا ولا تستعجلوا في قبوله بل تبينوا الامر حتى يتبين لكم الحق من الباطل.

واستدل بالآية على قبول خبر العادل وحجيته وفي ذلك بحث طويل في كتب الاصول والصحيح عدم الدلالة وأن الظاهر من الآية عدم العناية بكونه فاسقا بل مصبّ الاهتمام فيها هو لزوم التثبت وعدم الاستعجال في قبول الخبر المهم وترتيب الآثار عليه خصوصا مثل هذا الاثر وهو الغزو والقتال حتى لو كان المخبر عادلا بل عادلين فليست الآية في مقام بيان ما هو الحجة من الاخبار بل في مقام المنع من الاستعجال في الحكم. ووصف (الفاسق) على ما يبدو ليس له دخل في الحكم وانما أتى به للتنديد بالمخبر الذي لا يهمّه ما يترتب على خبره من المفاسد بل يتبع في ذلك هواه على ما ذكروه من وجود عداوة بينه وبين القوم. والصحيح في باب حجية الخبر هو حجية ما يوجب الوثوق الشخصي فلا يجوز لاحد الاعتماد في ترتيب الآثار الشرعية وقبول الاحكام على خبر لا يثق بصدقه وان رواه العدول فضلا عن الثقاة نعم يعمل بشهادة العدلين في تشخيص بعض الموضوعات وهذا أمر آخر.

وأما ما قيل من أن بناء العقلاء على حجية خبر الثقة وهو من يوثق بنقله عادة فضلا عن العادل وأن امور الناس في حياتهم الاجتماعية لا تدور الا على ذلك فمردود بأنه دعوى لا يدعمها الاستقراء والناس عادة في امورهم المهمة لا يعتمدون على خبر الثقة ولا العادل الا اذا اقترن بما يؤكد صدقه. نعم ربما يعتمدون على خبر الفاسق وغير الثقة ايضا في مقام الاحتياط والتأكد فاذا جاء لأحدهم خبر عن خيانة وكيله مثلا حتى لو لم يكن مؤكدا وموجبا للوثوق بل حتى لو كان من فاسق فانه ربما يهتم به فيعزله ان لم يترتب على عزله ضرر وليس هذا معنى حجية الخبر بل هذا للاحتياط في الامور المهمة وهو مورد تأكيد الآية ولذلك استدل بعضهم بها على أن الفاسق أهل للشهادة والا لم يكن وجه للامر بالتبين بل كان المفروض أن يرفض من أساسه فالآية تدل على لزوم الاهتمام بخبر الفاسق ان كان مورده خبرا مهما ولكن لا يعتمد عليه.

واستدل بعضهم على حجية خبر الثقة بأن الاعتماد على ذلك أساس التاريخ وانه لو حذفنا خبر الثقة لبطل كثير من التراث العلمي والمعارف المتعلقة بالمجتمعات القديمة بل المعاصرة ايضا بل تتوقف عجلة الحياة!!!

أما التراث العلمي فهو كلام العلماء بانفسهم وآراؤهم التي ذكروها في كتبهم وليس خبرا عنهم نعم يمكن أن يعتبر الكتاب كله خبرا عن مؤلفه الا أنه اذا لم تتوفر القرائن المفيدة للعلم او الوثوق باستناد الكتاب الى مؤلفه فان القول لا يمكن اسناده اليه ولكنه لا يوجب حذف القول عن قائمة التراث العلمي فهو قول عالم مجهول الهوية. وان اريد بالتراث العلمي التاريخ فما أكذبه وما أظلمه قديما وحديثا وها نحن نجد في عصرنا مع توفر وسائل الاعلام وسرعة نقل المعلومات كثرة الاكاذيب والتفاسير الخاطئة المترتبة عليها فكيف بالتاريخ القديم؟! ونحن لا نعتمد على ما يرويه المؤرخون الا ما توفرت فيه قرائن الصدق او كان مما يحتج به على الخصماء لكونه مأخوذا من منابعهم. ومن هنا فان التاريخ بحاجة الى تحديث والى تمحيص. ومن المؤسف أن المؤرخين الجدد خصوصا في الكتب الدراسية التي تملأ بها أوعية الجيل الناشئ يتعمدون الكذب وتحريف التاريخ فيا حبذا لو كانوا يكتفون بما كذب اسلافهم.  

أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ... أي مخافة او كراهة ان تصيبوا قوما وهو مفعول لاجله اي يجب التبين حتى لا تقعوا في هذا المحذور وهو غزو المؤمنين. والجهالة بمعنى السفاهة والطيش والعمل من دون روية وحكمة. وليس المراد الجهل بمعنى عدم العلم اذ ليس كل تعامل مع الآخرين من دون علم موجبا للندامة كما لو كان العمل موافقا للاحتياط والحكمة. والباء تفيد الحال اي تصيبوهم حال كونكم جاهلين او للسببية اي بسبب جهالتكم وسفهكم. وتصبحوا بمعنى تصيروا. والندم هو الغم على ما فعله الانسان غما شديدا مستمرا. والمعنى واضح.

واستدل بهذا التعليل على عدم حجية الخبر مطلقا ما لم يوجب العلم او الوثوق لان التعليل يعمم ويخصص فصدر الآية وان كان خاصا بالفاسق الا أن التعليل يقتضي التعميم فالنتيجة انه لا يجوز الاعتماد على الخبر مطلقا حتى لو كان المخبر عادلا. والصحيح انها لو دلت على ذلك فانما تدل على عدم الحجية في خصوص ما يترتب عليه مثل هذا الاثر ويحتمل فيه تعقب الندامة ولكن الكلام في أصل حجية الخبر اذ لا موجب للحكم بحجيته ما لم يوجب وثوقا وعلما.

وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ... تعبير ينبئ عن لزوم الحذر والحيطة والقوم كانوا يعلمون أنه صلى الله عليه وآله وسلّم رسول الله ويشهدون به ومع ذلك فقد يغفل الانسان عن بعض الحقائق التي تحيط به وهو يشعر بها ليلا ونهارا. ولذلك لم يقل (واعلموا انه رسول الله) بل قال (ان فيكم رسول الله) فالحقيقة التي يغفل الانسان عنها هي هذه النعمة الجليلة التي لا تقدر بثمن وهي اعظم النعم على الاطلاق خص الله تعالى ذلك القوم بها وهي أن رسول الله بين أظهرهم فيا لها من سعادة!! والحاصل أن الآية تنبه المؤمنين على عظمة النعمة التي أنعم الله عليهم بها من جهة وعلى خطر المسؤولية تجاه هذه النعمة من جهة اخرى.

ولعل كل ما تقدم من لزوم عدم التقدم على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحكم والعمل في مجال التشريع الاساسي او الحكومي ولزوم المتابعة والتعبد المحض بأوامره صلى الله عليه وآله وسلم كما هو الحال في أوامر الله تعالى وما تقدم من لزوم رعاية الادب عند الحضور لديه صلى الله عليه وآله وسلم بالسكوت وخفض الصوت كل ذلك كان مقدمة للتنبيه على هذا الامر المهم فيثير فيهم بهذه الآية تنبها وحيطة أكثر فان الذي بين أظهرهم ليس بشرا كسائر الناس ولا زعيما سياسيا ولا قائدا عسكريا بل هو رسول الله وهذا مقام لا يصل اليه بشر الا بعناية خاصة. وقد مر في تفسير قوله تعالى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ..)[1] أن جمعا من المفسرين اعتبر الصفات المذكورة صفات للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والذين معه جميعا حيث شق عليهم ان يعتبروها خاصة بمن معه ونسوا أن توصيفه بالرسالة يغنيه عن كل توصيف.

كما أن قوله تعالى (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ)[2] ليس في مقام تنزيل مقام الرسالة الى مستوى البشر العادي كما يتوهم بل هو بيان للفارق الكبير بين الرسول وبين الناس.. فارق فاصل كالذي بين السماء والارض وهو الوحي فان غاية ما يمكن ان يصل اليه الانسان هو أن يكلمه الله تعالى او يوحي اليه فهو فوق الغاية التي من أجلها خلق البشر وهو ارتباط العبد بالله تعالى اي العبادة. وهناك فاصل كبير بين أن يرتبط العبد بربه وبين أن يرتبط الله تعالى بعبده. وأين هذا من ذاك مهما خلصت العبادة وجل محتواها؟!

ولذلك نحن نعتقد أن خلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليست كخلافة الملوك وما يسمى ولاية العهد وأن الذي ينتقل الى خليفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ليس الحكومة كما يتوهم بل هو مقام رباني ومنصب الهي لا يكون الا للمعصوم فتفترض طاعته من الله تعالى كما فرضت طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولذلك ايضا نقول ان اولي الامر في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ..)[3] ليس بمعنى كل من تولى امور الناس باي سبب كان كما يقولون بل حتى لو كان باختيار اهل الحل والعقد او اختيار كل المسلمين بل المراد بهم من جعلهم الله تعالى اولياء لامور المسلمين. ونعتقد ان الآية الكريمة تدل على أن اولي الامر يجب ان يكونوا معصومين والا لم يصح الامر المطلق بالاطاعة وأن المراد بهم خصوص الأئمة الطاهرين الاثني عشر الذين أخبر بهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في روايات كثيرة بعضها متفق عليها بين الفريقين وهي التي تذكر العدد فقط.

وعلى كل حال فمن الخطأ الفادح الذي ابتليت به الامة ان يعتبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مجرد حاكم نصبه الله تعالى للحكومة فيخلفه كل حاكم انما الفرق ان الحاكم بعده يختاره الناس بل ذهب بعض الكتاب الجدد وعشاق الديموقراطية الى ان شرعية حكومة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كانت ببيعة الناس ايضا!!!

لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ... هذا تفريع على الجملة السابقة ويبدو من الآية أن جمعا من المؤمنين كانوا يطالبون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بترتيب الاثر على نبأ الفاسق ومعاقبة بني المصطلق فنهاهم الله تعالى اولا عن متابعة خبر الفاسق من دون تثبت عن الامر ثم بين لهم أنه لا يجوز لهم أن يتوقعوا من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ان يطيعهم في كل ما يطلبون فانه لو أطاعهم في كثير منها لوقعوا في مشقة وضيق. والعنت: المشقة. والاتيان بالفعل المضارع للدلالة على الاستمرار اي لا تتوقعوا ذلك في المستقبل ابدا. والتعبير بالاطاعة للاشارة الى قبح ما يتوقعون فان المفروض أنه هو القائد المطاع فلا ينبغي ان يكون مطيعا وهو المؤيد من عند الله تعالى ولا يحتاج الى اقتراحكم ورايكم ومشورتكم والغرض تنبيههم على ان توقعكم يعود الى توقع الاطاعة منه. وانما قيده بالكثرة لان بعض ما يطالبون به صحيح وفي موضعه وهذا من أدب القرآن كما قلنا مرارا. والآية تدل على ما مر في تفسير الآية السابقة من أن الخطاب انما هو للمؤمنين وليس للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

ويبدو من الآية الكريمة ان التوقع العام فيهم كان هو تقبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منهم ما يرونه مناسبا ولعل السبب في هذا التوقع والانتظار هو اللين واللطف في خلقه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم كما قال تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)[4] مضافا الى ما ورد من الامر بالمشاورة معهم في الآية الا أنه لم يكن مأمورا بالقبول ولذلك عقب الامر بالمشاورة بقوله تعالى (فاذا عزمت فتوكل على الله..). وربما استدل بعض الناس بالآية الكريمة على اعتبار رأي العامة للامر بالتشاور معهم ولكن الصحيح أن المشاورة لم يؤمر بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كمنهج عملي بل لخفض الجناح للمؤمنين واحترامهم وتطييب نفوسهم ولذلك ورد الامر بالمشاورة بعد الامر بالعفو والاستغفار لهم.

والحاصل أن الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم لخلقه العظيم ولأمر من الله تعالى كان يشاور المؤمنين فلعله تسبب في خلق جو من التوقع الباطل وهو لزوم العمل وفقا لآرائهم فنبههم الله تعالى بهذه الآية على خطئهم.

وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ... الكلام هنا في وجه هذا الاستدراك وانه استدراك من اي مضمون مما سبق والغالب في التفاسير أن المخاطب في هذه الجملة مجموعة اخرى من المؤمنين فالمعنى أنه ليس توقع الاطاعة صفة الكل بل ان منكم من حبب الله اليه الايمان.. وهو بعيد عن سياق الآية بل ظاهرها ان الخطاب في الموردين للجماعة وليس معناه بالطبع توجيهه لكل فرد بل الخطاب موجه الى المجموعة ففي المورد الاول اي قوله تعالى (لو يطيعكم..) كان التوقع المذكور حالة عامة في المجتمع المسلم واما في المورد الثاني اي التحبيب والتكريه فالظاهر انهما ايضا من الشؤون العامة فيهم على اختلاف مراتبهم في الايمان.

والذي يخطر بالبال انه استدراك عن التنديد بتوقعهم اطاعة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لهم ومعنى هذه الجملة: ولكنكم لا تتوقعون ذلك لانه ينافي الايمان بل يناسب الكفر والفسوق والعصيان وحيث حبب الله تعالى اليكم الايمان فأنتم لا تتوقعون ذلك مع أنهم كانوا يتوقعون فهو نظير الجملة الخبرية التي يراد بها الطلب فتقول مثلا تفعل كذا تريد ان تقول افعل كذا ولكنك تخبر انه سيفعله قطعا تأكيدا على وجوبه كأنك واثق منه أنه لا يتركه فالآية ايضا تريد ان تنهاهم عن هذا التوقع المشين فتنبههم بهذه الطريقة اللطيفة.

وفي الآية الكريمة اشارة الى التوفيق الالهي ولطفه الموجب لانجذاب المجتمع نحو الايمان. والواقع أن الذي حصل من الانجذاب في ذلك المجتمع البدوي الجاهل والغارق في الفساد الاخلاقي والاجتماعي كان في حد ذاته معجزة والآية تنبه على سر هذا الاعجاز وهو أن الله تعالى حبب اليهم الايمان بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وزينه في قلوبهم والانسان منجذب بالفطرة نحو الزينة والجمال بل كره اليهم ما كان مستقرا في قلوبهم وورثوه من آبائهم من الكفر والفسوق والعصيان. والكفر هو تغطية النعم بالجحود. والفسوق: الخروج عن الطاعة. والعصيان: التأبي يقال عِرقٌ عاصٍ اي يأبى التوقف من نزف الدم. والظاهر أن المراد بالفسوق والعصيان أمر واحد يعبر عنه تارة بالفسوق لانه خروج عن طاعة الرب وتارة بالعصيان لانه امتناع عن الطاعة والانقياد ويمكن أن يكون الفسوق أشد فيختص بالمعاصي الكبيرة والاصرار على المعصية والبعد فيها والعصيان يشمل كل مخالفة.

والآية تدل على أن الله تعالى لا يجبر الانسان على الايمان او الكفر وانما يحبب اليه الايمان ويكره اليه الكفر والفسوق فهو يتبع ما تميل اليه نفسه. والتحبيب والتكريه قد يكونان بتأثير غيبي من دون استناد الى العوامل الطبيعية بحيث يلقي الله تعالى في قلب العبد حب الايمان والتقوى وكراهة الكفر والنفاق وقد يتحققان بايجاد الدواعي النفسية بصورة طبيعية من دون أن يكون هناك تأثير غيبي مباشر فمثلا اذا أراد الله تعالى بعبد خيرا لسبب أوجب استحقاقه فربما يوفّقه بلطف وبطريقة خفية للعيش في مجتمع يحبب اليه الايمان ويبعده عن الكفر كما يمكن أن يضله لاستحقاقه بالعناد فيمهّد له الطريق ليعيش في مجتمع يجره الى الكفر والفسوق والعصيان. ونحن نجد كثيرا من الناس اهتدوا الى الطريق الصحيح بعد ان كانوا ضالين لاسباب طارئة خارجة عن اختيارهم الزمتهم البقاء في ظروف جرتهم الى الهداية من حيث لا يشعرون فكأنهم كانوا على موعد ولم يكونوا كذلك كما نجد بالعكس اناسا كانوا على الصراط السوي فتغيرت وجهة معايشهم واضطروا الى السكنى في مجتمع سلبهم الايمان او جرّهم الى الفساد والانحلال وكأنهم ايضا كانوا على موعد والله لطيف لما يشاء.

ويوضح ذلك قوله تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)[5] وذيل هذه الآية يدفع اشكالا يختلج في الاذهان وهو انه تعالى لماذا يفرق بين عباده فيهدي بعضا ولو بالتوفيق لا الاجبار ويضل بعضا ولو بسلب التوفيق لا الاجبار ايضا؟! اليسوا كلهم عباده؟! وخصوصا في مورد الاضلال اذ الهداية وشرح الصدر نعمة يخص الله بها بعض عباده لحكمة ولكن الاضلال وجعل الصدر ضيقا حرجا ربما يعتبر ظلما ينزه الله تعالى عنه.

والجواب انه تعالى لا يجعل الرجس الا على الذين لا يؤمنون والمراد به انه تتم لهم رؤية الحق ومعرفته فلا يؤمنون به فيسلبون التوفيق كما قال تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)[6] والسبب في ذلك أنهم لا يمنعهم شيء من الايمان الا معاندة الحق. والعناد ينشأ اما من الكبر والغرور والعصبية الجاهلية واما من الحسد كما كان في كثير من صناديد قريش بالنسبة الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ... الرشد خلاف الغي بمعنى الاهتداء واصابة الطريق الصحيح والاشارة الى الذين حبب الله تعالى اليهم الايمان وكره اليهم الكفر والفسوق فهم الذين اهتدوا الى الحق والى الطريق المستقيم. ولعل تغيير التعبير عن الخطاب الى الغيبة للتنبيه على ان الامر لا يخص المخاطبين فكل من حبب الله اليه الايمان فاختاره فهو راشد كما أنه لا يعم جميع المخاطبين بل يخص من حبب الله اليه الايمان بالفعل ومن المخاطبين من لم يكن كذلك كالمنافقين والذين في قلوبهم مرض.

فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ... كل من (فضلا) و(نعمة) مفعول لاجله والعامل فيهما (حبب) و(كره) اي ان هذا التحبيب والتكريه كان لفضل منه تعالى عليكم وللانعام عليكم وهما شيء واحد يعبر عنه بالفضل لان كل ما انعم الله تعالى به فهو فضل منه تعالى وليس في مقابل حق لاحد عليه ولا لتوقع شيء من أحد ولا هو واجب عليه تعالى بموجب عقد وانما يؤتيه الله تعالى فضلا والفضل هو الزيادة ويعبر عنه ايضا بالنعمة لان الهداية اعظم نعمة من الله تعالى والنعمة كل ما ينعم به الانسان اي يعيش معه في نعومة ورخاء وقد قال تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)[7] والله عليم بمن يستحق الافضال والانعام، وحكيم لا ينعم بالهداية الا على من يستحقها.

 

 


[1] الفتح: 29

[2] الكهف: 110

[3] النساء: 59

[4] آل عمران: 159

[5] الانعام: 125

[6] الانعام: 110

[7] طه: 124<