مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا... حكم عامّ يحدّد وظيفة المجتمع الاسلامي فيما اذا وقع اختلاف بين بعض الطوائف من المسلمين مما يمكن ان تؤدّي الى الاقتتال ولا يختص بزمان ومكان. والاقتتال والتقاتل بمعنى واحد وهو ظاهر في الحرب ومحاولة كل طائفة قتل الاخرى وقيل بتعميم الحكم لكل اختلاف وهو بعيد عن لفظ الآية نعم يمكن أن يقال بأن المراد إرادة الاقتتال او كونهما في معرضه فيشمل كل اختلاف شديد يحتمل فيه الانجرار الى المقاتلة. والاتيان بضمير الجمع بدلا عن التثنية بلحاظ أن المرجع جمع من جهة المعنى فان الطائفتين مجموعتان من الناس ولعل اعتبارهم جمعا حين القتال من جهة انه لا يكون الا مع الاجتماع.

والمراد بالاصلاح اصلاح الشأن بينهما فان كان النزاع لسوء تفاهم فالاصلاح يتم بتبيين الحق وان كان لمجرد تبادل كلام مشين بينهما فالاصلاح يتم بالعفو والاغماض وان كان لاعتداء من بعضهم على حق من حقوق الجانب الآخر فالاصلاح لا يتم الا باعادة الحق الى صاحبه وليس المراد بالآية الزام المظلوم بقبول الظلم وتنازله عن حقه مطلقا لأنه ظلم وليس اصلاحا بالعدل كما ورد في الآية. ولكن الظاهر ان الفرض الاخير خارج عن هذه الجملة وداخل في الجملة التالية.

فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ... البغي في الاصل مطلق الطلب ويستعمل كثيرا في طلب الانسان ما ليس له. والفيء هو الرجوع. والمراد بامر الله حكمه في القضية. وقيل المراد بالبغي رفض الصلح والمراد بامر الله الصلح. ولا يصح ذلك على اطلاقه فانه يقتضي أن يكون المطلوب من المتقاتلين قبول الصلح مهما كان فان طالب احدهما بحقه ورفض الصلح من دونه فهو باغ. وهذا ظلم لا يمكن ان يكون هو المقصود كما تبين آنفا. فالمراد بالبغي هنا طلب ما ليس له ظلما وعدوانا سواء كان هو الامر الذي تسبب للنزاع او غيره ولذلك أتى بالفعل المضارع الدال على الاستمرار.

والوارد في التفاسير أن مورد هذه الجملة هو نفس المورد الاول بمعنى ان الطائفتين اذا اقتتلا ورفض احدهما الصلح او بغى على الاخرى بعد الصلح فهي التي تقاتَل الى ان يقبل بالصلح ولكن الظاهر ان مورد هذه الجملة غير الاولى فمورد الاصلاح ما لم يكن هناك بغي واعتداء كما اذا كان الاختلاف لسوء تفاهم او خطأ من بعضهم واما اذا كانت احدى الطائفتين معتدية على الاخرى فالواجب اولا هو رفع الظلم واعادة الحق الى اهله فالامر بالقتال ليس على اطلاقه بل يجب القتال الى ان يتحقق الرجوع الى امر الله اي التسليم لحكم الشرع فالمطلوب اولا هو الانصياع لحكم الله تعالى فان رفضت الفئة الباغية تحارَب الى ان تنصاع وتطيع ثم يكون الاصلاح بعد ذلك.

وهناك فرق آخر بين الموردين وهو أن الامر بالاصلاح متوجه الى الجميع على نحو الكفاية فيجب ان يقوم به كل من يعلم بالامر ويستطيع الاصلاح والظاهر ان هذا الحكم لا يختص بنزاع الطائفتين بل يشمل كل اختلاف ونزاع خطير ولو بين فردين واذا قام بالواجب احد او مجموعة سقط التكليف عن الآخرين كما هو الشأن في كل واجب كفائي وأما الامر بالقتال في هذا الامر فلا يمكن ان يوجّه الى عامّة المؤمنين فانه يستلزم الفوضى واتساع رقعة الفساد بل المأمور به هو الامام كالامر باجراء الحدود.

فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ... وهذه الجملة تبين بوضوح أن المراد بالاصلاح ليس على اطلاقه بل المراد الاصلاح على اساس العدل وتطبيق الحق وارجاع حق كل أحد اليه. والقسط ــ بالكسر ــ هو السهم والنصيب و ــ بالفتح ــ هو الجور. والقاسط الذي يأخذ نصيب الآخرين ويجور قال تعالى (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)[1] والمُقسط: العادل كأن باب الافعال يفيد رفع القَسط اي الجور. والجملة الاخيرة تبين أن الهدف في هذه العملية يجب ان يكون هو التقرب الى الله تعالى بالعمل بما يحبه وهو يحب المقسطين الذين يجهدون لايصال الحق الى اهله.

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ... الآية في مقام التعليل للحكم السابق والحثّ عليه فتُبيّن أن العلاقة بين المؤمنين من أوثق العلاقات وهي علاقة الاخوة وهذه اخوة اعتبارية كما قال العلامة في الميزان وليس تشبيها وتمثيلا كما ذكره بعضهم فهناك اخوة حقيقية تنشأ من الاشتراك في النسب وهناك اخوة اعتبارية يعتبرها المشرّع ليرتب عليها احكاما خاصة وليس معنى ذلك ترتب كل احكام الاخوة الحقيقية التي منها الميراث وصلة الرحم بل المراد لزوم المحافظة على أواصر الود والسلام بوجه عام.

وقد وردت في الروايات حقوق للاخوة في الايمان بعضها واجب وبعضها مستحب فمن الحقوق الواجبة رد السلام وعدم الاغتياب بل ربما يقال بوجوب الدفاع عنه اذا اغتيب والنصيحة اذا استنصحه بل مطلقا وعدم الانتقاص والنيل منه واحترامه وعدم الاستهانة به وتجهيزه اذا مات فهو واجب كفائي وهذا لا يجب للكافر. ومن الحقوق المستحبة أن يسلم عليه ويغفر زلته ويعوده في مرضه ويشهد ميته ويجيب دعوته ويقبل هديته ويقضي حاجته وغير ذلك مما ورد في الروايات.

واللطيف في تعبير الآية انه يحث المؤمنين على اصلاح ذات البين باعتبار أن كليهما أخ لكم ومن الطبيعي أن الانسان حريص على الاصلاح بين أخويه لان كل ضرر يمسهما يعد ضررا له.

وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ... لعل الامر بالتقوى في هذا الموضع للتأكيد على أن الاصلاح يجب أن يكون مع مراعاة أحكام الله تعالى والمحافظة على حقوق المتنازعين ولعله اشارة الى ان محاولة الاصلاح بينهما بنفسه من شؤون التقوى. وهنا ايضا يؤكد على أن الهدف الاسمى يجب أن يكون هو التقرب الى الله تعالى ونيل رحمته لا تحقيق اهداف دنيوية فحسب. والتقوى سبب لنزول الرحمة لولا المانع فيمكنكم ان تتوقعوا الرحمة اذا اتقيتم وقلنا مرارا ان (لعل) و(عسى) ونحوهما تدل على ان الامر متوقع. ويمكن ان يكون المراد ترتب رحمة الله تعالى على التقوى في امتثال هذا الامر خاصة فان صيانة المجتمع من التفكك والتباغض سبب لنزول رحمة الله تعالى عليهم وهو أمر طبيعي كما لا يخفى.

 


[1] الجن: 15