سورة الهمزة مكية بلا خلاف وسياقها ايضا يقتضي ذلك كما يقتضي ان يكون شأن نزولها التنديد بما كان يمارسه بعض المشركين من انتقاص المؤمنين.
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ...
الويل كلمة تطلق للتنديد والتقبيح تارة وللتهديد اخرى. وتفيد في بعض الموارد الدعاء على احد بان يصيبه الشر. وكل ذلك محتمل هنا.
والهمز واللمز والغمز في الاصل بمعنى الضغط على الشيء ويطلق كل منها على الانتقاص وذكر العيوب وهناك اختلاف شديد في كتب اللغة في الفرق بينها. وقيل انه لا فرق وفي الفروق نقلا عن المبرد ان اللمز أجهر من الهمز.
وصيغة الفُعَلة من صيغ المبالغة. وتدلّ على كون الصفة من عادة الشخص كالضُحَكة والاُكَلة. وهذه الآية بذاتها عامة وتندد بكل انسان جعل انتقاص الناس ديدنا له وعادة. وهذا ما نجده في كثير ممن حولنا فنرى بعضهم لا يواجه احدا الا ورأى فيه قبحا فهو لا يمتدح احدا وانما يندد بكل الناس. وهذه صفة قبيحة للغاية وتدل على نقص كامن في الانسان.
كما نجد العكس ايضا فهناك من الناس من يحاول توجيه كل افعال الآخرين وكانه لا يجد من غيره الا الصفات المستحبة وهذا من السذاجة بمكان.
ولكن الوصف التالي يدل على ان المراد جمع خاص اذ ليس كل عيّاب ذو مال بل لعل الامر بالعكس فان هذه شيمة المتفرغين. واصحاب المال لهم في العادة مشاغل تمنعهم من ذلك.
فيظهر من هذه الملاحظة ان القصد من الآية التنديد بقوم او اشخاص باعيانهم وانهم كانوا يعيبون المؤمنين بالرسول صلى الله عليه واله وسلم يقصدون بذلك ايذاءهم وتفريق الناس من حوله فان تعييب الاصحاب يوجب تضعيف شخصية القائد وهذا كان دأب المستكبرين في مواجهة الرسالات كما قال قوم نوح (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ).[1]
الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ...
وهذه صفة اخرى لهذا العيّاب وهو انه جمع المال وبالغ في عدّه والمبالغة تظهر من الاتيان به من باب التفعيل لان العدّ بنفسه يتعدّى الى الغير يقال عددت المال اي احصيته فاذا اورد من باب التفعيل افاد المبالغة وهذا الامر يدل على شدة حبه للمال ويحتمل ان يكون المراد تكثير عدده.
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ...
هذه الجملة بمنزلة التعليل للجملة السابقة يعني ان السبب في جمعه للمال انه يظن ان المال يُخلده فلا يموت او يبقى طويلا.
والخلود في اصل اللغة ليس بمعنى الابدية بل البقاء طويلا فان الانسان لا يتوهم البقاء الى الابد واصحاب المال يتوقعون طول العمر لانهم يرون ان الفقير لعدم تمكنه من تحصيل الغذاء المفيد والعلاج اللازم يعجل اليه الموت.
وهذا صحيح في الجملة ولكن اسباب الموت ليس كلها تحت السيطرة.
وقد زارني احد الاثرياء واستغرب من خبر موت صديق له ثريّ وقال كيف مات وهو ثريّ؟! فقلت له وهل الاثرياء لا يموتون؟ قال لا! ولماذا يموتون؟! انا اراجع المستشفى في السنة مرتين وكان يسكن في امريكا ويفحصون جسمي من شعر الراس الى اظفار القدم فان كان هناك ما يريب عالجوه فلماذا اموت؟!
ولم يبق بعد ذلك الا مدة قصيرة وتوفاه الله وهذا كان مؤمنا ملتزما فكيف بالكافر؟!
كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ...
(كلا) زجر لهذا التوقع الباطل فالله تعالى يخبره بانه يموت بل يلقى كقطعة من القمامة في جهنم. والنبذ الالقاء واكد ذلك باللام والنون. والحُطَمة مبالغة من الحطم اي الكسر فهي تهشّم كل ما يلقى فيه.كما قال تعالى (لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ).[2]
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ...
سؤال يتضمن التعجيب من أمر هذه النار التي تحطّم كل شيء اي انت لا تعلم حقيقة هذه النار. والخطاب للرسول صلى الله عليه واله وسلم من باب (إيّاك أعني واسمعي يا جارة) او لكل قارئ وسامع. والمراد أنها مما لا يدرك حقيقتها الانسان لانه يقارنها بما يراه من نار الدنيا. وهي ليست من هذا القبيل.
وقد مرّ مرارا أنّ كل ما ورد في القرآن (ما أدراك) فقد بيّن بعده بعض صفاته التي تبين حقيقته نوعا مّا. وهنا ايضا ذكر بعض صفاتها في الآيات التالية.
نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ...
الاضافة الى الله تعالى تبين لنا عظمة هذا المخلوق لان كل ما في الكون من الله ومضاف اليه وانما أضاف هذه النار خاصة ليبيّن لنا أنّها ليست كنار المخلوق لئلّا تقارن بهذه النيران.
والبشر غاية ما توصل اليه من تأجيج النار القنبلة الهيدروجينية ولو أردنا نموذجا من نار الله يكفي ان ننظر الى الشمس فهي ملايين الأضعاف من هذه القنبلة والشمس نجم متوسط فما بالك بالنجوم العملاقة وكل هذا ايضا نموذج دنيوي من قدرته تعالى واما نار جهنم فلا يمكن لنا تصويرها ولا يمكن لاحد توصيفها الابما وصفها به الله تعالى.
الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ...
الاطّلاع على الشيء الاشراف عليه من فوق. والمعنى انها تبلغ الأفئدة مسيطرة عليها. والفؤاد هو القلب ولا يراد به هنا هذا العضو الذي يعمل كمضخّة للدم بل هو ما يدرك الانسان به كل معلوماته اي نفسه الناطقة وروحه فنار جهنم لا تحرق الاجسام فحسب بل تحرق الارواح قبل الاجسام.
ولكن كيف يتحقق ذلك؟
هذا امر غريب على أذهاننا وهذا مما يؤكد أن حقيقة هذه النار مجهولة لنا وأنها لا تشبه ما تعودناه من النار الطبيعية.
إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ...
وَصْد الباب إغلاقه. والمراد انهم لا مفرّ لهم منها. وهذا كناية اذ لا حاجة الى غلق الباب فالبشر ليس حرا مختارا ذلك اليوم.
وقوله (في عمد) اي موثوقين في عمد وهو حال للضمير في (عليهم). والعمد جمع عمود. و(ممددة) اي طويلة يقصد بهذا الوصف انها تحبسهم ولا تبقي لهم مجالا للفرار كأنّ هذه العمد الممددة على جهنّم هي التي تمنعهم من الخروج.
والآية الكريمة تصوّر حالة المستكبرين يوم القيامة كيف يذلّهم الله تعالى ويخزيهم جزاءا لاستكبارهم واستعبادهم للناس واحتقارهم للضعفاء.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطاهرين.
[1] الشعراء : 111
[2] المدثر : 28