ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ... الشريعة هي الطريق الموصل الى الماء وهنا كناية عن الطريق الموصل الى المطلوب وهو رضا الله سبحانه والمراد بالامر امر الدين. و(ثم) للتراخي الزماني اي بعد ان انتهت مدة قيادة بني اسرائيل للمجتمع الديني بسبب اختلافهم وتمزّقهم اختارك الله تعالى لتقود البشرية الى الطريق الصحيح الموصل الى رضوان الله تعالى وجعل لك الشريعة الحقة النهائية المناسبة للانسان الى الابد.
فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ... هذا هو الحكم الفصل فالمقياس هو الشريعة ومتابعتها وكل من يخالف الشريعة ويرى رأيا يخالفها فهو جاهل بحقائق الامور وجاهل بالمصالح والمفاسد وانما يتكلم على هواه فلا يجوز اتّباعه. وهكذا يتحدّد واجب كل انسان وهو متابعة الشريعة فقط. انما الكلام في معرفة الشريعة بعد ان لعبت الاهواء دورها وقلّبت المقاييس وبغى الباغون وازالوا الشريعة عن مسارها الاصلي وغيروا حتى معالمها الاساسية فاللازم في هذا الحال معرفة الشريعة الواقعية ومتابعتها وربما يكون ذلك صعبا بعد ان اختلطت الطرق وتمكنت السلطة من اخفاء معالم الطريق الصحيح. والامر وان كان متوجها الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الا ان الحكم عام.
ويبدو ان الآية نزلت في مواجهة الاقتراحات المتكررة التي كان المشركون يقترحونها على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليتنازل عن بعض ما يدعو اليه مما لا يعجبهم ويخالف اهواءهم كشرط لاتمام الصلح بينهم وبينه. وما كان الرسول صلى لله عليه واله وسلم يتنازل قيد انملة ولكن الآيات الكريمة تدعمه وتقوي جانبه وتبعث في نفسه الطمأنينة وكذا في نفوس المؤمنين مضافا الى انه يقدّم له ولهم ذريعة وحجة في مقابل اصحاب الاقتراح حيث ان رفضهم للاقتراح يستند الى امر من الله تعالى لا تجوز لهم مخالفته ومن جهة اخرى تؤيس المشركين حتى لا يستمروا في ابداء المقترحات الفاسدة.
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا... كلام واضح لا غبار عليه ومن يغني احدا من الله تعالى؟! ومعنى الاغناء الكفاية فالكفاية من الله تعالى بمعنى ان احدا يقوم بالامر الذي يقوم به الله تعالى. وهذا واضح الاستحالة فان كل من يعمل شيئا ويؤثر اثرا في الكون مهما عظم شأنه فانما هو يعمل باذن من الله تعالى اذ لو لم يأذن لم يؤثر اي شيء اثره فلا النار تحرق ولا الماء يبرّد فكيف يمكن ان يغني احد او شيء من الله تعالى شيئا؟!
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ... الآية تزيد من تمسك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بدينهم وتقوّي عزيمتهم وتزيل تخوّفهم من الظالمين وعدوانهم وتهديداتهم حتى لا يهتموا بما يقترحونه كاساس للصلح ويظلوا صامدين في تمسكهم بما انزل الله تعالى من الشريعة وذلك لان الله يتولى امر المتقين وينصرهم ويهديهم لما يجب ان يعملوه او يتركوه وهو العالم بحقائق الامور وهو لا يتولى امر الظالمين ولا ينصرهم وانما يتولى بعضهم بعضا وهم لا يغنون ولا ينفعون شيئا فاين هذه الولاية من تلك؟!
ولم يعبر بالمؤمنين والكافرين بل بالظالمين والمتقين ومعنى ذلك ان الله لا يتولى امر كل من أسلم ظاهرا ولم يتّق الله في شؤونه وفي هذا تحذير للمسلمين ان لا يغترّوا بانفسهم ولا ينسبوا كل ما يحصلون عليه من فتح ظاهري وبسط للسلطة الى ولاية الله تعالى وتوفيقه فانهم ربما يدخلون في الفريق الآخر وهم الظالمون فيكون ما حصلوا عليه نتيجة تعاون الظالمين بعضهم مع بعض. ونجد اليوم أن كثيرا من المسلمين يتولون الكفار ويأتمرون باوامرهم ويركنون اليهم فهم جميعا ظالمون وبعضهم يتولى بعضا.
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ... (هذا) اشارة الى القرآن الكريم والبصائر جمع بصيرة ومعناه العقل والفطنة وما يسمى برؤية القلب اي الادراك لا عن طريق الحواس الظاهرية واطلاق ذلك على القرآن باعتبار اشتماله على ما يوجب بصيرة الانسان ورؤيته لحقائق من المعارف الالهية ما كان يمكنه ادراكها لولا اخبار الوحي بها وأتى بالخبر جمعا باعتبار أن القرآن يشتمل على حقائق كثيرة متنوعة توجب البصيرة.
وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ... الهدى مصدر فحمله على القرآن من جهة انه يوجب الهداية فهو من باب المبالغة. وهو رحمة اي سبب لنزول الرحمة من الله تعالى على من يعمل بما فيه او انه نزل عليهم رحمة بمعنى انه نشأ من رحمته تعالى على الناس. والرحمة في الاصل رقة وعطف ولكنه حيث ينشأ منه الاحسان اطلق على نفس الاحسان. قيل وبهذا الاعتبار يسند الى الله تعالى اذ لا يصح اسناد المعنى الحقيقي وهو رقة القلب وهذا هو المشهور في توجيه اسناد بعض الصفات اليه تعالى كالرضا والغضب ولكنا ذكرنا مرارا ان الظاهر ان ما يسند من الاوصاف لا يمكن تفسيرها بلوازمها فان رضوان الله تعالى لا يقاس بسائر نعم الجنة كما ان غضبه وانتقامه وسخطه لا يقاس بالنار وعذابها والرحمة من الله تعالى نوع عطف وتوجّه وعناية وهي السبب في الاحسان الى الخلق.
والظاهر ان قوله تعالى (لقوم يوقنون) متعلق بالهدى والرحمة فالقرآن بصائر للناس جميعا ولكن انما يهتدي به الذين يوقنون فتكون رحمة عليهم. وقلنا سابقا انه لا يبعد ان يكون المراد بمثل هذا التعبير الذين يحصل لهم اليقين بمشاهدة آيات الله تعالى لا خصوص من حصل لهم اليقين بالفعل فان من يكون مضطرب النفس لا يحصل له اليقين بالغيب فلا يؤمن ولا يهتدي بهذا القرآن.
والقرآن انما هو كتاب رحمة لمن يهتدي به واما بالنسبة الى غيره فليس رحمة اي سببا للرحمة بل هو يزيدهم خسارا كما قال تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)[1] والسبب انه يتم الحجة عليهم وحيث لا يؤمنون به فيزيدهم خسرانا بل من جهة اخرى يزيدهم طغيانا وكفرا وحسدا كما حدث ذلك بالنسبة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فان القوم ما كانوا يعادونه لولا نزول القرآن والوحي عليه وكل ما اظهروه من عداوة خسارة ووبال عليهم. فالنتيجة انه ليس هدى ورحمة الا لقوم يوقنون.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ... (ام) منقطعة والاستفهام فيها للاستنكار وتقدير (بل) للاضراب عن الحديث السابق حيث خص الهداية والرحمة بقوم يوقنون او الحديث عن الفرق بين الظالمين والمتقين اي ولكن حسب الذين اجترحوا.. والاستنكار يدل على بطلان هذا الحسبان.
والاجتراح افتعال من الجرح وهو بمعناه. والظاهر من كلام اللغويين ان للجرح معنيين في اصل اللغة احدهما الاكتساب خيرا كان او شرا والثاني شق الجلد ولكن لا يبعد ان لا يكون له معنيان لان الظاهر من موارد الاستعمال انه لا يستعمل الا في موارد كسب الشر فلا يبعد ان يكون ايضا من الجرح بالمعنى الثاني والاطلاق بلحاظ أن الذي يكتسب الشر كأنّه بعمله يجرح ويخدش الضمير الاجتماعي والوجدان البشري ومن ذلك قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ..).[2]
واجتراح السيئات لا يختص بالكفار بل قد اطلقت السيئات في القرآن على صغار المعاصي فضلا عن الكبائر قال تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ..)[3] واطلقت على بعض الكبائر كقوله تعالى في قوم لوط عليه السلام (وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ..)[4] ولكن سياق الآية يقتضي الاختصاص بالكافر فان الذي يعتقد أنه لا فرق بين المؤمن وغيره في المحيا والممات وخصوصا في الممات لا يكون مؤمنا ولا اقل من انكاره للمعاد ويؤيده ايضا الآيات التالية فتكون الآية من جهة هذا التعبير مشابهة لقوله تعالى (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)[5] بناء على أن المراد بهم المشركون ومع ذلك فان اختيار هذا التعبير لا يبعد أن يكون للدلالة على تعميم الحكم للظلمة الطغاة ممن يدّعون الايمان بالله تعالى حيث يدل عملهم على انكارهم المعاد قلبا.
وقوله تعالى (ان نجعلهم..) يقتضي ان يكونوا مؤمنين بالله تعالى وبأنه خالق الكون بل رب العالمين لأن هذا الامر من شؤون الربوبية. ولكن يمكن توجيه هذا التعبير بأنه ليس جزءا من حسبانهم وانما هم يحسبون وحدة العاقبة والنتيجة من دون أن يسندوها الى الله تعالى الا أنه حيث كان على تقدير صحة الحسبان من شؤون الربوبية اُعتبروا كأنهم ينسبون ذلك الى الله تعالى.
وقوله (سواء..) اي متساوية محياهم ومماتهم. وهذا جزء من الحسبان الباطل اي ان الذين اجترحوا السيئات يحسبون أن محياهم كمحيا المؤمنين ومماتهم كمماتهم. والمحيا والممات يمكن ان يكونا مصدرين فالمراد انه لا تتساوى حياتهم ولا موتهم ويمكن ان يكونا اسمي زمان اي لا يتساوون في زماني حياتهم وموتهم والنتيجة واحدة.
وربما يقال ان محياهم متساو بالفعل بل لعل المفسدين والفاسقين احسن حالا في الحياة من جهة عدم المبالاة في كسب المال وفي بلوغ الاماني والشهوات فالفاسق يشعر بالحرية في كل افعاله واقواله والمؤمن ملجم وكالقابض على الجمر ولذلك أول بعضهم المحيا تارة بان المراد به الحياة في الآخرة وتارة بان المراد نفي المجموع لا كل واحد بمعنى انهم اذا تساووا في الحياة فهل نجعلهم يتساوون في الممات ايضا؟!
ولكن يجب ان يلاحظ أن الكفار والمنكرين للمعاد والظالمين الذين يرتكبون أفظع الجرائم دون اي مبالاة وخوف وتوقع للحساب والجزاء ماذا يحسبون وكيف يتصورون ليتبين المراد بالآية الكريمة؟ والملاحظ أنهم يرون أن لا ميزة للايمان والعمل الصالح لا في الحياة ولا في الممات اي في ما بعد الموت أما في الحياة فهم يرون أن السعادة والشقاء يدوران مدار عمل الانسان وجهده فلا فرق بين الكافر والمؤمن ونجد من كل فرقة اناسا سعداء في الحياة الدنيا واناسا يعيشون حياة البؤس والشقاء وأما في ما بعد الموت فهم ينكرون حياة بعده فلا فرق ايضا بين الفريقين وهذا كما يصرح به الكافر يعتقد به الظالم الذي لا يعبأ بما يفعل وما يرتكب من الجرائم وان كان يظهر الايمان بالله واليوم الآخر.
فهذا هو الامر الذي نجده مما يحتسبه المنكرون للمعاد وهذه الآية ترد عليهم بأن هذا حسبان باطل وسيء وأن الله تعالى لا يجعل الفريقين متساويين في الحياة ولا في الممات. اما بعد الموت فالامر واضح لمن يعتقد بالآخرة وأما في هذه الحياة فالمؤمن الذي يعمل الصالحات ويتقرب بها الى ربه يشعر باجنحة الرحمة ترفرف عليه فيسعد بها وتطمئن نفسه ويحس برضا الرب حيث انه راض عن ربه فان المقياس كما في الروايات ان المؤمن اذا رضي بما آتاه ربه فالله راض عنه ولا شك ان الشعور برضا الرب يجعل الحياة الدنيا كجنة الخلد لانه اعظم نعمة في الجنة واما الذي يعرض عن ذكر ربه فهو كما قال تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا..)[6] اي له في الدنيا معيشة ضيقة والذي يجترح السيئات إمّا كافر معرض عن ذكر ربه او هو كالكافر او أسوأ حالا منه ولا يسعد بالشعور برضاه تعالى فيصعب عليه تحمّل مشاكل الحياة وتضيق به الدنيا على رُحبها وربما يلجأ الى الانتحار نتيجة للضيق الذي يشعر به وهو لا يرجو من موته الا الفناء والدمار ومع ذلك يلجأ اليه فرارا من مضائق الدنيا فتفاجئه مضائق أشد وأهوال أعظم فهو شقي في الحالتين.
سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ... (ما) مصدرية اي حكمهم بتساوي المؤمنين الصالحين والفساق الفجار حكم سيّء فالفارق بين الفريقين كبير وعظيم ويظهر من هذه الجملة ان الامر لم يكن مجرد حسبان في نفوسهم بل كانوا يحكمون به ويتبجحون.
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ... جملة استينافية تفيد معنى الحال للاستنكار السابق فكأنه قال كيف تحكمون بذلك وقد خلق الله السماوات والارض بالحق؟! اي لم يخلق الكون عبثا ولعبا. فهذه الآية بمنزلة الدليل للآية السابقة وذلك لان التساوي بين المفسد والمصلح انما يصح لو لم يكن لخلق السماوات والارض هدف وغاية فلا يختلف ان يكون الانسان مؤمنا صالحا او فاجرا طالحا ولا يهمه شيء الا ان يقضي عمره في سعادة ورفاهية ولكن اذا كان هناك هدف منشود لخلق الكون وهو ان يصل الانسان الى غاية كماله ويتقرب الى ربه فلا بد من التفريق بين فريق يسعى للوصول الى تلك الغاية وفريق يبتعد عنها مسرعا في سيره المعاكس.
وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ... الواو لعطف الجملة على قوله (بالحق) اي خلق الله السماوات والارض بالحق وخلقها لتجزى كل نفس فهذا هو بيان للغاية المنشودة من خلق الكون والانسان. وربما يظهر من الآيات ان جزاء الانسان هو نفس عمله وليس جزاء وضعيا يناسب العمل وعليه فتكون الباء للتعدية أما اذا كان الجزاء أمرا آخر فالباء للسببية. والآيات التي تدل بظاهرها على تجسم الاعمال وأنها بنفسها تقع جزاء للانسان كثيرة. ولعله لذلك عقبه بقوله (وهم لا يظلمون) اذ لو كان الجزاء امرا آخر أمكن ان يقال انه غير متناسب مع عمله ولكنه نفس عمله يتجلى بصورته الواقعية فليس ظلما.
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ... الفاء للتفريع والظاهر أن الآيات السابقة لما كانت في سياق تقسيم الناس الى الفريقين فهذه الآية تبيّن الوجه في إصرار الضالين على ضلالهم بحيث لا تنفعهم البصائر التي نزلت للهداية والرحمة. وقوله (اتّخذ) من الافعال الملحقة بأفعال القلوب والتي تدخل على المبتدأ والخبر فتجعلهما مفعولين.
وقيل في الاستفهام في مثل هذا المورد انه للتعجيب اي لايجاد التعجب في المخاطب فكأنه يقول انظر الى هذا كيف اتخذ الهه هواه؟! مع أن الاستفهام في مثله للتعجب الا انهم لم يعبروا به لعدم جواز اسناد التعجب الى الله تعالى ولكن الصحيح أنه لا مانع من اسناد انشاء التعجب الى الله وان لم يمكن اسناد التعجب اليه تعالى حقيقة لأن إنشاءه لا يدل على تحقق صفة التعجب له تعالى بل هو انشاء بداعي تفهيم أمر آخر كالاستفهام الانكاري.
ومهما كان فكون الاستفهام هنا للتعجب او التعجيب يبتني على تقسيم الآية الى شقين منفصلين في المعنى فالشق الاول تعجيب من هذا الانسان او تعجب منه والشق الثاني قوله (فمن يهديه من بعد الله..). ولكن الانسب أن تكون الجملتان بصدد معنى واحد فتكون هذه الجملة مع ما بعدها من الجمل لتحديد الموضوع ليرتب عليه قوله (فمن يهديه من بعد الله..). ومثل هذا يقال في قوله تعالى (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ..)[7] وقوله (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ)[8] ونظائرهما.
وقد وقع الخلاف في أن الترتيب في الآية على أصله فيكون (الهه) مفعولا أوّلا ام بالعكس فعلى الاول يكون المعنى أنه ينتخب الهه على هواه ولا يعبد من يستحق العبادة بل من يجد في عبادته ما يهواه ومن هنا فسرها بعض المفسرين القدامى بمن كان يتخذ له إلها من حجر فاذا رأى ما هو أحسن منه مظهرا أبدله به فقد روى الطبري عن بعضهم انه قال كانت قريش تعبد العزّى وهو حجر أبيض حينا من الدهر فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأول وعبدوا الآخر، فأنزل الله (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواه..).
ولكن هذا التفسير يتوقف على تقدير كأن يقدّر (اتخذ الهه موافقا لهواه) او ما يفيد ذلك. وقال في الميزان (المراد بقوله «اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» حيث قدم «إِلهَهُ» على «هَواهُ» أنه يعلم أن له إلها يجب أن يعبده ــ وهو الله سبحانه ــ لكنه يبدله من هواه ويجعل هواه مكانه فيعبده فهو كافر بالله سبحانه على علم منه، ولذلك عقبه بقوله: «وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ» أي أنه ضال عن السبيل وهو يعلم). وبناء عليه لا يجب التقدير الا أن ما ذكره قدس سره لا يفهم من الآية.
وأما اذا قلنا بأن (الهه) مفعول ثان مقدم فالمعنى (من جعل هواه الها له) اي معبودا بمعنى أنه يطيع هواه طاعة عمياء وهو حق العبادة. والوجه في تقديم المفعول الثاني هو افادة الحصر فالمعنى أنه لا يعبد الا هواه وعليه فالآية لا تشمل كل من يتبع هواه ولو جزئيا بل من يكون معبوده منحصرا في الهوى وقد يكون بظاهره مسلما يعبد الله تعالى ولكنه منافق لا يعبد الا هواه فاذا رأى أن الأنسب لما يقتضيه الهوى هو الدخول في سلك المؤمنين دخل وتبعهم في طقوسهم. وهذا المعنى هو الانسب. ومثل هذه الآية في كل ما ذكرنا قوله تعالى (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا).[9]
وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ... (على علم) اي مع كونه عالما. وغريب أمر هذا الانسان يضل الطريق وهو يعلم فلا يضل عن جهل وها نحن نجد كثيرا من الناس يرتكب ما لا ينفعه بل يضره اشد الضرر وهو ضرر محسوس في الدنيا ولكنه يتبع هواه فلا يمكنه الاقلاع عنه كالمدخن والمتعاطي للمخدرات وغيرهم ولا مبالغة ان قلنا أن هذه صفة أكثر الناس. وكذلك بالنسبة للعقاب الاخروي فهو امر متوقع على الاقل وهو خطر عظيم يكفي فيه اقل احتمال ولكن المتبع للهوى حتى لو علم به لا يترك ما يهواه فقد اضله الله على علم. ولكن بعض المفسرين اعتبر العلم من الله تعالى اي ان الله يعلم انه لا يهتدي فأضلّه وفسر بعضهم الاضلال باهماله وعدم اللطف به وعدم هدايته فهو يضل من نفسه ولكن الصحيح ان الله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولكنه لا يضل الا القوم الفاسقين فهناك اصرار من الانسان على عدم الايمان بالله او عدم امتثال أوامره فيستحق الانسان ان يضله الله وفي ما بعدها من الجمل يبين كيفية الاضلال.
وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً... ورد التعبير بالختم والطبع على السمع والقلب في موارد من القرآن ومعناه انه مغلق، وعلى الأغلاق ختم فلا يمكن فتحه. والختم من الله تعالى فمن يفتحه غيره؟! والمراد بالختم على السمع انه لا يتأثر بما يسمعه ولا يعيه ولا يحفظه ولا يفهمه وما اكثر من نجدهم بهذه الصفة.
والمراد بالقلب القوة الشاعرة وقوة الاحساس فربما يفهم الانسان شيئا ويعلم به علم اليقين ولكنه بقلبه لا يدركه ولا يحس به ولا يتنافى العلم مع عدم الاحساس بالقلب ولذلك تجد كثيرا من الناس لا يؤمن بالله مع انه رجل عالم بل ربما يكون عالم دين ايضا والايمان لا يلازم العلم ولذلك نجد اكثر الناس يخافون الميت ولا يبيتون عنده ويخافون الظلام ويخافون الدخول في المقابر ليلا لما حيك حولها من اساطير وهو يعلم انها اكاذيب ولكنه لا يؤمن ولا يطمئن قلبه وكذلك العكس فهناك من لا يعلم الادلة والبراهين ولكنه يؤمن أقوى الايمان بالله تعالى وكان منهم من قال عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (هذا عبد نوّر الله قلبه بالايمان).[10] وأما الغشاوة على البصر فانا نجد من يرى آيات الله تعالى ويرى العواقب السيئة للمفسدين ويرى الموت يحصد من حوله امثاله ولا يتعظ فعلى بصره غشاوة كأنه لا يرى شيئا. والغشاوة: الغطاء.
فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ... هذا الضلال نتيجة طبيعية حتمية لعناده حيث انه لم يؤمن بآيات الله تعالى مع انه علم بها قال تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)[11] فاذا أصرّ على كفره وعناده في اول رؤية للحق رؤية واضحة عاقبه الله تعالى بقلب القلب فهو لا يفهم بعد ذلك ولا يشعر حتى لو علم علم اليقين بل هو لا يبصر من الآيات الا ظاهرها. واذا اراد الله شيئا فلا يقاوم ارادته شيء فمن يهديه بعد أن اراد الله إضلاله؟! واذا ختم الله على غلق فمن يفتح قفله؟! وقوله (من بعد الله) بمعنى من بعد اضلال الله فالبعدية زمانية، او من دون الله تعالى اي غيره، فليست البعدية زمانية.
أَفَلَا تَذَكَّرُون... التذكر بعد النسيان والمراد هنا التنبه بعد الغفلة اي انتم تشاهدون حولكم كثيرا من هذه النماذج افلا يكفي ذلك لتنبهكم واجتنابكم الآثام وإنابتكم الى الله خوفا من ان ينجر الامر الى الختم على أسماعكم وقلوبكم؟!
[1] الاسراء: 82
[2] الانعام: 60
[3] النساء: 31
[4] هود: 78
[5] العنكبوت: 4
[6] طه: 124
[7] الكهف: 63
[8] الماعون: 1- 2
[9] الفرقان: 43
[10] روى الكليني بسند معتبر عن ابي عبدالله عليه السلام انه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفرا لونه، قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت يا رسول الله موقنا، فعجب رسول الله صلى الله عليه وآله من قوله وقال: إن لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟ فقال: إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم وكأني أنظر إلى أهل الجنة، يتنعمون في الجنة ويتعارفون وعلى الارائك متكئون وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرحون وكأني الآن أسمع زفير النار، يدور في مسامعي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لاصحابه: هذا عبد نور الله قلبه بالايمان، ثم قال له: الزم ما أنت عليه، فقال الشاب: ادع الله لي يا رسول الله أن ارزق الشهادة معك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي صلى الله عليه وآله فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر (الكافي ج2 ص53)
[11] الانعام: 110